لا يشبه وجهها بالشمس المضيئة ولا بالنجوم الوضيئة؛ فليست من شمس النهار ولا نجوم الليل في شيء، لم تلق الشمس رداءها المشرق على وجهها كما ألقته على وجه تلك البدوية التي يقول فيها طرفة:
ووجه كأن الشمس ألقت رداءها
عليه نقي اللون لم يتخدد
ولم يلق القمر على وجهها غلالته الرقيقة الرشيقة المتألقة فتصبح أو تمسي كتلك الحضرية التي يقول فيها أبو نواس:
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاء
لا يشبه وجهها بضوء الشمس حين تملأ الأرض جمالا وجلالا، ولا بضوء البدر حين يملأ الأرض عذوبة وسحرا وفتونا، ولا تشبه بتلك الحسناء التي قال فيها ابن مياد:
فيهن بيضاء المعاصم طفلة
صفراء مثل غريضة التفاح
فليست من هذا كله في شيء، وإنما يشبه وجهها إذا لم يكن من تشبيه وجهها بد بهذا الغبش الذي يكون حين يختلط ضوء النهار المقبل بظلمة الليل المدبر، أو حين تختلط ظلمة الليل المقبل بضوء النهار المدبر؛ فعلى وجهها غشاء كدر قد استعار شيئا قليلا من بياض النهار وشيئا كثيرا من سواد الليل؛ لأنها مولدة قد منحها الحياة أبوان أحدهما من الجنس الأبيض والآخر من الجنس الأسود، فهي ابنة النهار المشرق والليل المظلم جميعا. ولكنها على ذلك لا تكاد ترفع صوتها بالغناء حتى تنشر من حولها ضياء باهرا وجمالا ساحرا وفتونا يختطف القلوب ويستهوي النفوس ويعبث بالألباب، قد جمع صوتها خصائص الضوء والظلمة، وخصائص الصحراء المحرقة والرياض التي يشيع فيها الروح والريحان والراحة والنعيم. فيه قوة تصور الشمس في عنفوانها، وقد استوت في أفق السماء ملكة على ما حولها من الكون، وفيه رقة عذبة ساحرة تصور ضوء القمر حين يترقرق على الطبيعة رقيقا رشيقا يدفع النفوس إلى الحلم، والعقول إلى التفكير، والقلوب إلى الغناء. وفيه مع ذلك قوة تصور هدير البحر حين يأخذه الغضب من جميع أقطاره فيغالب العاصفة القاصفة واثقا بأنه المنتصر مطمئنا إلى أنه سيبقى ويهدأ، وإلى أن العاصفة ستفنى وتتحلل وتزول. وفيه قوة معتدلة مقتصدة تصور انحدار النهر، وقد هم أن يغضب ثم بدا له فآثر الرزانة والرصانة واستمسك في غير استرخاء ولا انحلال، وفيه رقة رقيقة ولين يصوران الجدول حين يناجي الحصى وحين يداعب ما يقوم على شاطئيه من الشجر والنجم والأعشاب. وفيه همس خفي حفي يصور هفيف النسيم وحفيف الأغصان في الجنة المطمئنة اليقظة التي لا تريد أن تعنف بنفسها فتضطرب، ولا تريد أن تستسلم لأثقال الطبيعة فتنام، وإنما هي يقظة فرحة مرحة تبسم للحياة في دعة، وتبسم لها الحياة في دعة، تتناجى غصونها، وتتناغى أطيارها، وتتبادل أزهارها وأنهارها في يسر من الفكاهة والدعابة والعبث فنونا لا تشق عليها ولا تشق على من يلم بها من الناس.
Bilinmeyen sayfa