هذا الجراب
1948
تنسيقات
آروم جاك مديري
أنا أعمدك سمكة
إقطاعية دستورية
هم هم!
جبة وقميص
في ذلك الزمان
دب سان جيمس
ذنب وأذناب
1950
أوراق خريف
ضمائر جديدة
ديش باره سي
بارازيت
لله درها
دبان
فطور ميلادي
صباحية الناخب
1951
لعينيك يا أختي
ألقاب
عصافير التين
على أونا
دنيا يا غرامي
امسح
في اللاذقية ضجة
بياع موتى
أمضي وتبقى صورتي
آخر حجر
إلى النائب
يساق
حول البكالوريا
نامت نواطير مصر
امسك بذنب الحمار
الشيطان والبيضة
راهبات بونا حنا
أدواء بلا دواء
سلوها لماذا
في المطار
حكاية بيضة
1952
لكم دينكم ولي ديني
أوتوماتيك
عيد الشعانين
الوجدان العام
لا أب ولا أم ولا عم
أخوت يحكي
الدماغ الإلكتروني والعقل الكرتوني
ويسألونك عن الساعة
المسيح حقا قام
ويسألونك عن القرية
أطرش
طناجر دير مار سمعان
عيبه في حواشيه
مركز حيفا أخذوه
أم 44
بعد عاصفة الشوف
شراويل عتيقة
كنت جئت إلى رومية
تلاميذ كبار
إلا وإذا
قص لحية عضو
عصر ورق!
1953
رستم يحكم على كيسه
قضاتك فتيان
الطاهي الأعظم
الحرباء والسنونو
مرض الكرسي
ونصف مليون!
تذكر ولا تعاد
اضرب ... علق الشر
من أمين الريحاني إلى كميل شمعون
تين القشارين
إميل البستاني
هذا الجراب
1948
تنسيقات
آروم جاك مديري
أنا أعمدك سمكة
إقطاعية دستورية
هم هم!
جبة وقميص
في ذلك الزمان
دب سان جيمس
ذنب وأذناب
1950
أوراق خريف
ضمائر جديدة
ديش باره سي
بارازيت
لله درها
دبان
فطور ميلادي
صباحية الناخب
1951
لعينيك يا أختي
ألقاب
عصافير التين
على أونا
دنيا يا غرامي
امسح
في اللاذقية ضجة
بياع موتى
أمضي وتبقى صورتي
آخر حجر
إلى النائب
يساق
حول البكالوريا
نامت نواطير مصر
امسك بذنب الحمار
الشيطان والبيضة
راهبات بونا حنا
أدواء بلا دواء
سلوها لماذا
في المطار
حكاية بيضة
1952
لكم دينكم ولي ديني
أوتوماتيك
عيد الشعانين
الوجدان العام
لا أب ولا أم ولا عم
أخوت يحكي
الدماغ الإلكتروني والعقل الكرتوني
ويسألونك عن الساعة
المسيح حقا قام
ويسألونك عن القرية
أطرش
طناجر دير مار سمعان
عيبه في حواشيه
مركز حيفا أخذوه
أم 44
بعد عاصفة الشوف
شراويل عتيقة
كنت جئت إلى رومية
تلاميذ كبار
إلا وإذا
قص لحية عضو
عصر ورق!
1953
رستم يحكم على كيسه
قضاتك فتيان
الطاهي الأعظم
الحرباء والسنونو
مرض الكرسي
ونصف مليون!
تذكر ولا تعاد
اضرب ... علق الشر
من أمين الريحاني إلى كميل شمعون
تين القشارين
إميل البستاني
من الجراب
من الجراب
تأليف
مارون عبود
هذا الجراب
«من الجراب» عنوان لا أغرك منه، فهو كمسماه فيه خبز كثير، منه المخمر ومنه الفطير.
كأني أراك تهز برأسك وتمط شفتيك! فإذا كنت من المتنطعين - في اللغة - فافتح لسان العرب، أو تاج العروس، وإن لم تصل يدك إلى هذين فلا بأس عليك إن تناولت «المنجد»، ألسنا في عصر السندويش؟!
يذكر المنجد أربعة معان للجراب: قراب السيف، وعاء من جلد، جوف البئر، أما المعنى الرابع الذي قدره المتنبي أسمى التقدير، حين نظر إلى كافور المخصي ... فنقر عنه أنت.
إذن الجراب كاسمه، ولهذا اختصه العوام عندنا بكنايات واستعارات شتى، فقالوا: جراب الكردي. ثم كنوا عن الرجل السليط اللسان بقولهم: فتح جرابه. وإذا ثرثر حتى شبع يقولون: فرغ جرابه. وكنوا عن الكلام المر بقولهم: من كعب الجراب. كما قالوا عن الكذاب: من يعوم على جرابه؟!
وإذا كنت رأيت الجمل، في شباط، وقد اندلق من بين فكيه ذلك الكيس الأحمر، المرصع بالحبب، تعرف لماذا قالوا: أرخى فلان جرابه. وأخيرا، لا تنس جواب أبي الفتح الإسكندري لصاحب المضيرة حين قال له: أتريد كنيفا يزري بربيعي الأمير، وخريفي الوزير ... يتمنى الضيف أن يأكل فيه؟!
أجابه: كل أنت من ذاك الجراب، لم يكن الكنيف في الحساب! لا ترع يا صاحبي، إن جرابي نظيف، ولو لم أكن مربي قرية أكلها القديد، كنت جعلت عنواني: من الكنانة، أو من الخريطة، أو من الحقيبة تيمنا بالوزارة ... لا تتعجب، وإذا كان غير صحيح، ففأل مليح ... فبعد ما رأيت، ممن رأيت من المستوزرين، أظنك تراني جديرا بها!
إن جراب الأمس - أعزك الله - هو حقيبة اليوم. رحم الله جراب جدي وجدك! كم كان أقل كلفة، وأخف مئونة، وأسلم عاقبة ...
إن صاحب الجراب مسكين يشمر راكضا خلف المدورات الثلاث التي تدور عليها الدنيا: الدينار، والدرهم، والرغيف.
ليس الجراب يا أخي صندوقا من صناديق «أصحاب الجمع والمنع»، إن هو إلا ملجأ للزاد، والزاد محدود كمعاش «المعلم» مثلا ...
أعطنا يا رب رزق يوم بيوم، لا تكثر لنا، ولا تدع جرابنا فارغا ...
15 / 5 / 53
1948
تنسيقات
قال القديس إيرونيموس عن قانون الإيمان: ينبغي لنا أن نحرر قانون إيماننا لا في قرطاس بل في صفحات قلوبنا. ولهذا أراني مضطرا إلى تجديد النذر، فأقر وأعترف بأنني كنت أول من ترجى عهد الاستقلال وأول من آمن به، وسأكون آخر من يموت ولا يرتد، ولكن هذا لا يحول دون الشكوى، وطلب الإصلاح. فعلى «الربان» أن يكون متيقظا.
إن الربان هو أول من يحس بالخطر فلا تذوق عينه النوم، أما «الركاب» فقد ينامون على سكين ظهورهم، ولا يسهرون ساعة واحدة، فاللهم قو رباننا وشدده.
إن بناء بيت عظيم أمر ممكن هين، أما تأثيثه ففيه مشقة. قد يستحسن «الخواجا» هذا الطراز أو ذاك القماش، وأما «الست» فقد تعارض فيبقى البيت غير مكسو ... نقول هذا بمناسبة التنسيقات التي يلغو بها الناس. وأغرب ما قرأت - حول هذا الموضوع - هو أنه طلب من موظفي بعض الدوائر أن يكونوا جميعا في مراكزهم، وعلى كراسيهم - إن كان لهم كراسي - ليتعرف عليهم المنسقون، وينظرون فيمن يستغنى عنه منهم.
عجبا! المعاز يعرف قطيعه مهما كثر، إنه يعرف الملحاء والسكاء والبرشاء والبلقاء حتى التي لا علامة فارقة في تذكرة هويتها ... إنه يعرف أخلاق ذاك الفحل وهذاك التني، ولا يخفى عليه أمر تيس ما، فكيف لا يعرف الرؤساء مرءوسيهم؟! اللهم وطد إيماننا، وكن في عون الرئيس، فهو من هذا في بلاء وجهد عظيمين.
وهب أننا عرفنا من يستغنى عنه وعن خدماته الجليلة! أبسهولة يستطاع قلع هذه الأضراس المسوسة التي سمت جسم الدولة؟
إن كثيرا من الموظفين كالتوتياء البحرية شوك كثير ومح قليل ... ما أشبه موظفي الدوائر المراد تنسيقها - بكبكاب الشوك - في الفصحى: شيهم، درام، حسيكة، مدجج ، دلدل؛ نق ما يعجبك، وترحم على الشدياق.
كلما حاولت لمس كبكاب الشوك انطوى على ذاته وصار كبكبة الغزل، مخفيا عنك مقاتله، إن مسسته شوكك، وإن تركته سعى ورعى ... فكلما مس موظف - ولو صغيرا - نعص من ورائه عشرون نائبا، وخمسون متزعما من رجال دين ودنيا، وهنا جهنم البكاء وصريف الأسنان لا جهنم الإنجيل.
إن شفاعة هؤلاء «القديسين» ترد غضب الله عن المبتهلين المصلين، فلا ينسق إلا «الفاترون» الذين هم عن صلاتهم ساهون ... والمثل يقول: من ليس له ظهر فهو مقطوع الظهر، فإذا بقي «العهد» على هذا العهد؛ يكون كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
بلى، سيبقى الأميون وأنصاف المتعلمين على الكراسي الرفيعة، أما أصحاب الكفاءات وذوو الشهادات المثقفون فعليهم أن ينتظروا، عليهم أن يظلوا «مهندسي شوارع» إلى أن يبلغ وارثو كل «العهود» الخمسة والستين ... وبعد الستين تصحح تذاكر وتصح أبدان وجيوب، هكذا يتم فينا قول دعبل:
بنات «زياد» في القصور مصونة
وآل رسول الله في الفلوات
16 / 7 / 48
آروم جاك مديري
أصغيت ليلة إلى إذاعة لندن، فسمعت بيانا صادرا عن مديرية الأسماك ... فقلت في نفسي: عجيب! كيف غفلنا عن إنشاء هذه المديرية وفي بحرنا ألف دلفين ومليون حوت ...!
وبعد فليست مديرية الأسماك الإنكليزية شيئا بالقياس إلى مديرية قص علي قصتها أحد «بكوات» لبنان في العهد الحميدي، عاد سعادته من الآستانة فائزا بالرتبة الأولى المتمايزة، فالتحى تشبها برجال الدولة، إلا أنه لم يدع لحيته تركب رأسها، فكان يلملم أذيالها ويهذبها على طراز لحى الصدور العظام، فيبدو أحرى برتبة «أبهتلو» من رتبة «سعادتلو».
كان - رحمه الله - مولعا بأخبار رحلته السطمبولية فلا يحتل صدر المجلس حتى يتحين الفرصة فيقص علينا قصصا طريفة تنبعث العبر من خلال مضحكاتها.
قال: عرفت رجال الدولة: أبا الهدى، عزت باشا العابد، تحسين بك، باشكاتب المابين الهمايوني، وصادقتهم فتغلبت بهم على أولاد الملحمة: حبيب ونجيب وفيليب، ويئست يوما فرحت أتسلى عن تعقد الأمور برؤية جامع آجيا صوفيا، فكنت كيفما التفت تقع عيني على رجل متأنق جدا في ملبسه، ضحوك السن، أراد الله خلقه ذكرا فجاء كالأنثى، كان يتنفش في صحن الجامع كالطاووس، ويتبختر في بذلة مقصبة، متقلدا سيفا مذهب القراب يمشي على طقطقته، فتهيبته، ثم «بكلت» أزراري، وأخذت أقترب منه بحذر، ونفسي تقول لي: تعرف عليه تتسهل أمورك. قل تعارفنا وارتفعت الكلفة فقلت له ذات يوم: باي أفندي، عندي عرضحال سري أتكتبه لي؟
فاستضحك وقال: صدقني إذا قلت لك إني لا أعرف من التركية أكثر من أربعين خمسين جملة.
فأشرت إلى بدلة رتبته متعجبا! فألقى يده على كتفي، وهز برأسه مستهزئا وهو يقول: إذا كنت تهجي تهجية وعندك من يدعمك صرت وزيرا، وإن كنت حائزا جميع المكارم وكنت فيلسوف دهرك وما لك ظهر تقضي عمرك باش بزق.
أنا صرت مديرا لأني شامي، وأخص عزت باشا، عرفته؟ خلق لي مديرية كما خلقه ربه.
فقلت: اسم مديرية سعادتكم؟
فاستيقظت عنجهية المديرية فيه، وتذكر في تلك الدقيقة أنه مدير تركي، وإن كان دمشقيا، فتفرعن وتلفظ باسمها الضخم مقطعا مقطعا: آروم جاك مديري.
فقلت: ترجمتها من فضل سعادتك؟
فقال: بالعربية: مدير العنكبوت في جامع آجيا صوفيا.
فقلت: مدير عنكبوت؟!
فأجاب وهو يكز: أي نعم.
وبعد هنيهة فتح فمه وقال وهو يشبر: معاش كبير ... ولقب سعادتلو أفندم حضرتلري، آتقبر القراءة والكتابة سيدي.
وكان البيك ينهي «السالفة» بضحكة عريضة ما زال وقعها في أذني. وها أنا أتذكرها اليوم وأقول بمناسبة تفصيل ثوب الدولة على القد: هذا كان في دولة تركيا يوم شيخت وجازت مدى الهرم، فما عذر دولتنا وهي بنت أمس، ولبنان علم الناس القراءة والكتابة ...
ما عذر لبنان بلد الإشعاع ليكون فيه مدراء عنكبوت، وأشباه مدير العنكبوت؟!
أليس من الاحتقار للثقافة والعلم؟! أليس من الاستهانة بالشعب أن يتربع في مناصب الدولة من لا يحملون على الأقل شهادة «سرتيفيكا»؟! أو يعون في صدورهم من العلم ما يعادل دروسها؟!
30 / 7 / 48
أنا أعمدك سمكة
دعي كاهن إلى تعميد طفل، وحفلة «العماد» لها ما بعدها من المآدب، وخصوصا إذا كان المولود جاء بعد جهد ... فيطبخ الأبوان أصنافا شهية خفيفة على المعدة ولا شيء أخف من الطير. فكانت شيخة سفرة المعمودية دجاجة سمينة، لو اشتم ابن الرومي رائحة أبزارها وسمنها؛ شت رياله وخلع الكفن.
بمثل هذه التجربة السخنة ابتلي المحترم حين قعد على المائدة قعدة فهد رأى دجاجة عظمت فكادت أن تكون أوزة ... تذكر أن «علم اللاهوت» يعد «الشراهة»، في مثل هذه الحالة، خطيئة مميتة، فتأسف، وتحالف عليه النظر والشم فاندحر هذا القوي أمام الضعيفين فاستسلم ولم يصادم، ونوى على الاعتراف في غد ... وما هم باقتحام الدجاجة حتى قالت أم الطفل المعمود: لا تؤاخذنا يا محترم، الخضرة نادرة في أيام الصوم، والطقس ما هو طقس سمك.
فرفع يده عن الدجاجة ونفسه تشتهيها وقال: كنا نسينا الصوم، ونهار الجمعة يا بنتي، والمثل يقول: عند البطون ضاعت العقول.
ورفع بصره إلى السماء نصف رفعة كمن يفتش عن حيلة يقهر بها اللاهوتيين وتنطسهم، فكفت الأيدي ووجم المدعوون وجوم مأمور استغني عن خدماته العزيزة، بينا كان ينتظر أن ينط درجات فيبلغ رأس السلم، فقال «العراب» وهو في المرتبة الثانية بعد الخوري في حفلة العماد: تفضل يا معلمي، فأجاب الشماس: اتركه يفكر، فالإنجيل قال: إنهم يحلون السبت ولا لوم عليهم ...
لقد خسرت حفلة العماد شيئا من رونق فرحتها تجاه هذه المعضلة التي لا يحلها إلا مجلس الأمن الدولي، فتقدمت الست، وأخذت يد الخوري بعنف اصطناعي، واللقمة فيها كمخلب النسر، وأخذت توجهها صوب الدجاجة، وقالت برخاوة حنك: بارك ... صرفنا.
فابتسم المحترم وقال: على مهل يا بنتي ... وفي تلك اللحظة حلت النعمة وهبط الوحي، فصب أبونا نقطة ماء في يده اليمنى، ثم نضح بها الدجاجة قائلا: أنا أعمدك سمكة.
هذا ما حصل حين نقل الأستاذ إدوار أبو جودة من مديرية الأمن العام إلى مديرية التربية الوطنية. قلت الأستاذ لأن السيد إدوار أستاذ في الحقوق، أبو جودة غير غريب عن أورشليم في الأدب، إلا أنه أصبح كالمختص بالأمن ومعضلاته، ومن عاش «ديكا» يطارد من يقتحم «الخراج» ويحرق ديكه ... لا يصح أن يعمد سمكة لنرضي شراهتنا ...
وبعد، فلعل لهم عذرا ونحن نلوم، ولعل وجود أبو جودة في التربية الوطنية يذلل - بعد نصف قرن - مصاعب كثيرة أمام الأمن العام، فمن يفتح مدرسة يغلق سجنا.
وبكلمة جدية واضحة نقول: إن «عهدنا» الجديد محتاج إلى الإخصاء، فإذا عجزنا عن إيجاد المختصين، فلندع المتمرنين حيث هم. إن هذا «التعميد» غير جائز لا دينيا ولا مدنيا.
2 / 8 / 48
إقطاعية دستورية
غريب أمرنا! تسأل أيا كان من موظفي جمهوريتنا، من الوزير والنائب إلى الكاتب والحاجب، فيجيبك: الحالة زفت ... الطاسة ضائعة ... وكل من هؤلاء يظن أنه مستثنى بإلا، فمن المسئول عن هذا يا ترى؟
والنائب المحترم - المير رئيف بللمع - الذي نجله إجلالا كبيرا، ونقدر أخلاقه وعلمه وأدبه يقول - والعهدة على الراوي: ليس في لبنان ديمقراطية سياسية بالمعنى المعروف عند الأمم والشعوب، بل هنالك إقطاعية سياسية مفروضة تتلبس بلباس ديمقراطي زائف هو المجلس النيابي، فالشعب اللبناني المؤلف من مليون وربع لا يأتي بأكثر من 15 نائبا إلى المجلس.
ويقول الراوي: إن الأمير قال: إنه منهمك الآن في تأليف كتاب عنوانه: كيف دخلت المجلس وكيف خرجت منه.
لست أشك بأن سيدنا المير غير ولهان بالنيابة، وقد قرأت له تصريحات عديدة فأعجبتني جدا كقروي جبلي، يريد أن يصل إلى بيته بالسلامة، ويريد أن يبل طرف لسانه بنقطة ماء صالحة في طرف أيلول المبلول ... ويريد أن يمشي على ضوء، ويريد أن يتصل بالعالم تليفونيا. فنحن القرويين الجبليين نرى سعادة المير نائب بيروت يفهم حاجاتنا كأنه يعيش بيننا، ولذلك نشكر له الآن ما صدر منه من أقوال وننتظر الأعمال.
أما كيف دخل المجلس فتلك قصة أظن أننا نعرفها ... أما كيف خرج فقصة لا تكون حتى تكتب، ولو استقال كل من يقول من النواب بتزوير الانتخاب لانحل المجلس من تلقاء نفسه؛ فليعلموا إن كانوا أولئك الرجال ... ولكن كل الخلاف على «اللحاف». وشعار المعارضة عندنا - الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين - قم حتى أقعد مطرحك، المعارضة سلاح الحردان منا.
ولو كلفتني يا دكتوري العزيز أن أضع مقدمة لكتاب «الدخول والخروج» الذي تؤلفه لاكتفيت ببيت زميلك في الطب «ابن سينا»:
دخولي باليقين كما تراه
وكل الشك في أمر الخروج
تقول: إن الشعب اللبناني يأتي بخمسة عشر نائبا من 55، وهذا أيضا فيه شك ... فلندعه الآن، لقد أقمت البرهان على الإقطاعية في مجلس النواب فما رأيك بالتوظيف كله؟
قرأت لأحمد فارس كلمة في كشف المخبأ «طبع الآستانة ص150» قال، والضمير يعود إلى إنكلترا: نعم إن المراتب هنا إنما تعطى غالبا بالمحاباة أو الاستحباب لا بالاستحقاق والاستيجاب، فإن الأمير إذا نوه بشخص من أقاربه ومعارفه عند ذي مرتبة وسعادة نفذت كلمته عنده، ولو أن شخصا متصفا بأحسن الأخلاق ومتحليا بالعلم والفضل حاول «بنفسه» أن ينال تلك الرتبة لم يلتفت إليه، إلا أن هذا الداء عام في جميع الممالك.
قلت: إلا عندنا، فلا حاجة إلى التنويه بأحد من الناس؛ لأن الوظائف تحتكرها بعض القبائل والبطون، والأفخاذ. فمن بيت واحد تجد خمسة وستة من الموظفين، فأين هذه الديمقراطية التي تفتش عنها في مجلس النواب يا سعادة المير؟!
كنا نسمع ونحن صبيان كلاما عن طول العمر، فيقولون أمامنا: في العيلة الفلانية من يقول: يا جدي رح كلم جدك.
وفي «عهدنا» الحاضر - زاده الله صلاحا - من تستطيع أن تسأله عن نصف دزينة من الموظفين فيجيبك: أخي، أخي، أخي، أخي، أخي.
أي أميري العزيز، ثق إننا ما زلنا في مثل الزمن الذي كان فيه جدودك يحكمون المتن ... فلنؤخر عقرب الساعة ... بل فلنحسم مائة من تاريخنا الميلادي.
15 / 8 / 48
هم هم!
وجه إلي الأستاذ حسن شقير بمناسبة يوبيلي هذه الكلمة:
يا صاحب اليوبيل:
جهاد ربع قرن في خدمة هذه الأمة وهذه اللغة وهذه الناشئة، ثائرا على الاستعمار، ثائرا على التقاليد، ثائرا على التفرقة، تصنع هذا الجيل، وتطبعه بالطابع الاستقلالي الاجتماعي، متحرر التفكير، رفيع الأهداف.
بالأمس كنت حربا على الاستعمار، وكان بين من يركبون كراسي اليوم ويتمتعون بخبرات هذا الاستقلال، وهذه السيادة من يساير الدخيل.
ما ذنب الشعب فيمن فرض وجودهم عليه بقوة الغريب؟
الشرق عدد 3027
يا عزيزي ويا تلميذي، تذكر ما كنت أردده على مسمعك في الصف من آيات التاج الأربع .
العدل يدوم وإن دام عمر، والظلم لا يدوم وإن دام دمر، السائل ذليل ولو أين السبيل، الدين ثقيل ولو درهما.
لا تأسف على أنه كان علينا طبع الاستقلال ولغيرنا الاستغلال، فالمهم إصلاح الحال، ولا تصلح الحال في الحال، فعمر الدول لا يقاس بالسنين. «العروبة»، بضاعة اليوم الدارجة، كنا لها يوم كان التلفظ بها جناية، وكذلك هذا الاستقلال الذي يدعي كل واحد أنه خلقه من العدم ... ليقولوا ما شاءوا، فأنتم تعلمون، وعلى علمكم المعول لا على ادعاء أكثر هؤلاء الفارغ، إنكم تعلمون أننا نحن كنا نصدر بضاعة العروبة في صناديق مكتوب عليها: سريعة الالتهاب. إن تلك الصناديق من لحم ودم، لا حديدية ولا فولاذية كالتي يحشوها أصحابنا بالذهب والورق ولا فرق عندهم، ثم لا يحسبون حسابنا بفضلة عشاهم ...
أما عرفت - يا عزيزي - تلك الصناديق؟ إنها صدور الشباب وأنت واحد منهم.
يقول المثل: إذا كذبت بعد شهودك، فالحمد لله أنكم أنتم تشهدون من تلقاء أنفسكم، وما تشهدون إلا بالحق.
قال السيد المسيح عندما سئل عمن يشهد له حين ادعى أنه ابن البشر: أنا أشهد لنفسي، وأبي الذي في السماء يشهد لي، وأنا أقول: أنا، علم الله، شهيد لنفسي، وتلاميذي يشهدون، وما عودتهم غير قول الحق، ووقوفهم أمامي بجسارة، على رغم ما في روح الأستاذ - وخصوصا إذا كان مديرا - من دكتاتورية.
لا تحزن على شيء مما تراه، ولا تحسد من يتمتعون بخيرات هذا الاستقلال، ولا تفرح لخيرات كهذه ... ولا تحترم من يدير «لفته» كل ساعة مع الهوى ...
وأنا - إن حزنت على شيء - فعلى هذا الاستئثار الذي يضر «بالعهد» فالعهد لا توطد أركانه بضع عشرة أسرة. العهد محتاج إلى أن يكون له في كل بيت نصير، وأن يكون له من كل شاب شهيد.
تذكر يا حسن، كيف دك عرش الأمير بشير الكبير، حين أصبح أعوانه بضعة عشر نفرا. ما عتم أن عرف بالمالطي بعد أن كان أبا سعدي المرهوب الحمية.
الناس يا عزيزي مع الواقف، ومتى تسنى لهم دفشه لا يقصرون.
أما أنا يا عزيزي، فعلي أن أعظ، وما وقفتي من الحوادث التي مرت على رأسي إلا كما قال المتنبي في ممدوحه العظيم:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
وليس لي أن أخاطب بهذا البيت إلا شخصا أو شخصين:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
سأظل وحدي، وما أنا وحدي إن كنتم معي.
29 / 8 / 48
جبة وقميص
أصحابنا قصدوا الصبوح بسحرة
وأتى رسولهم إلي خصيصا
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه
قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
هذا لسان حال الأدباء عندنا، إلا إذا كان الأستاذ المنذر وقع على كنز ونحن لم ندر بعد ... حكي عن أحد القسيسين أنه مر بفلاح يزرع، فرفع الفلاح يده عن محراثه ووقف فدانه، وهرع إلى دورقه المعلق بإحدى الأشجار، ثم أقبل به على المحترم وركع أمامه سائلا إياه بحرارة إيمان أن يصلي له لأن أرضه أجدبت.
وكان القس خبيثا خفيف الروح، فصلى بخشوع، ثم نفخ في الماء ورفع رأسه وقال، بعد ختام الصلاة: رش هذا الماء يا ابني، ولكن لا تنس أن ترش قبله أو بعده سمادا ...
جميل هو هذا التكريم المتعارف، ولكنه ليس بالنقد الرائج في السوق ... فهو لا يطبخ جبة وقميصا ولا يشتري رغيفا، «يوبيلات» أكثر من الهم على القلب، وما كان يوبيلي بأولها ولا آخرها، فالذي أقوله يشملني ويشمل غيري.
هذا ما نقوله عن «اليوبيلات» جميعها، أما ما نقوله عن يوبيل الشيخ المنذر فهو أن اللجنة تستحق أطيب الشكر، فبرئيسها الشيخ هنري الجميل، أطيب الثناء أجاد فيها الشعراء والخطباء، وكان أرصنهم شعرا، شاعر الفيحاء سابا زريق لولا القافية التي بنى عليها قصيدته، فهي غير مرنان. أما الخطباء فكان الشيخ سعيد تقي الدين أطرفهم وأظرفهم فتدفق كالسيل من عل غير ناس كارثة فلسطين، ثم ودع المنبر بنكتة لاذعة ... وكانت قصيدة الشاعر ميشال بشير رصينة، ولكنها أطول من يوم الجوع، بله إنها منشورة في ديوانه، فليته نظم لمعلمه قصيدة جديدة. أما الأستاذ أبو شرف فكان أخطبهم لهجة ولو اكتفى بما رواه عن الشيخ إبراهيم لكان خيرا وأبقى.
وكانت جولة الأستاذ النصولي موفقة، فكان في نثره شاعرا، بينا كان شاعر الكوخ الأخضر - رياض المعلوف - ناثرا، فما وفق لا في أصالته عن نفسه ولا في نيابته عن والده ... كأنه أراد أن يبز والده الجليل في مدح «العم» فمشى معه مشيا وئيدا. أما الخطباء الذين لم يحضروا، فكانوا أبلغ من حكى في هذا المهرجان ...
بقي صاحب الشعر الذي غنت به دنيا العروبة، أراد أن يتظرف فكان ثقيلا حين ذكر الشيخ إبراهيم قائلا:
هلا رجعت بنا إلى
زمن الشباب، إلى هناك ...
ثقيلة هذه الذكرى، وأثقل منها ابتسامة شاعرنا المصفرة التي عقبتها.
إن هذا الشاعر لا ينسانا أبدا، لا هو ولا غلمانه فقال بلسان أحدهم:
أوفى علي معاتبا:
ماذا جنيت على عداك
نشطوا ولم تحفل فلم
تبلغ سماؤهم ثراك
ومن أين لنا بلوغ ثرى مولانا وهو في سماء ما طاولتها سماء؟! أما وفاء بشارة لمن أحسنوا ويحسنون إليه فهو لا يحتاج إلى بيان، وقد عبر عنه هذه المرة ببيت واحد فقط حين أطرى نزاهة الشيخ إبراهيم:
وسواك ينعم بالقصور
وكان تحتك أو وراك
وبعد، فإنني أرى أكثر خطباء هذه الحفلات الأدبية ينهجون نهج النوائح في المآتم، يندبن من لهن، ويتفجعن عليه وهن فوق رأس غيره. إن هذا «العهد» لا يتأخر عن دعوة، ويجود بما يملك من تقدير للأدباء، فليس من التهذيب ولا اللياقة أن تغمز قناة رجاله في محفل تحت رئاستهم، فمثل هذه المقامات يجب أن تتنزه عن الغمز واللمز.
أما المحتفي به فما أعد - كعادته - كلمة طيبة، بل كان كعادته كريما جدا بالألقاب الأدبية. كان «يشقلب» وريقات على المنبر، وكان كالخوري حين يعدد - يذكر - الذين قدم ذبيحته من أجلهم، فما نسي أحدا حتى ذكر أن آل تقي الدين الذين كانوا يساعدونه في الانتخابات بدون «بدل» ... ومتى كانت الانتخابات ببدل يا شيخ ...؟!
نتمنى لصديقنا الشيخ أن يعيش ما لبقت الحياة به فهو أحد أولئك اللبنانيين الطيبين.
5 / 9 / 48
في ذلك الزمان
كان جورج بك زوين ابن الحرية الحديثة البكر، فقاتلنا حوله وربحنا المعركة. إن الرجل ما انفك شديد المراس، ما عرف أنفه الخزامة في جميع أطواره، ولا يزال قويا. انتخب عضوا عن قضاء كسروان في مجلس الإدارة على عهد مظفر باشا، رغم معارضة البطركية وتأييدها للشيخ يوسف حبيش، ففرض زوين إرادته على المنطقة واعشوشبت طريق بكركي، ثم كانت مشادة بين زوين وبين قائمقام كسروان أعرف أنا ويعرف زوين أسبابها، فانتهت بنقل القائمقام واستقرار جورج بك على كرسي القائمقامية مدة بالنيابة، فكان نائبا وقائمقاما في وقت واحد.
ألا ترى - كما أرى - أن اليوم صورة الأمس؟ وأن الشاعر صادق فيما قال:
إن اختفى ما في الزمان الآتي
فقس على الماضي من الأوقات
وفي غضون قائمقامية جورج بك بالنيابة جاءه خوري رعية من بلاد جبيل يشكو تأخر رعيته عن تأدية «المعلوم» المفروض منهم عليهم، فتحير القائمقام، بل قل - كما يعبر الفصحاء والبلغاء - أسقط في يده، ولكن جورج بك كان وما زال ممن ينفذون في المضيق، فراح يفكر بحل معضلة لا نظير لها فيقيس عليه، هو لا يريد أن يرد الخوري ولا أن يغيظ الشعب، والشعب عضده ونصيره. فشك غير طويل، فهبط الوحي والإلهام فأخذ «المعروض» ووقع في جبهته: مجانا أخذتم مجانا أعطوا.
قرأ الخوري وفهم، وهمهم ثم طوى العريضة وأولجها في جيب يسع ميناء جونيه بسفنها وقواربها، وودع وانصرف باسما شاكرا. تعجب سعادة القائمقام من رباطة جأش الخوري وصموده لضربة كان يظن أنها ستنقض عليه كالصاعقة، وشكر المولى على الاستراحة ...
وبعد أيام علت الصرخة وجاء أبناء رعية الخوري يتشكون ... أخذ الخوري بعض أوان مقدسة فضية وذهبية من الكنيسة وباعها وأنفق ثمنها على قضاء حوائجه، من ألبسة للعيال وخبز وملح.
فجد البيك في طلب المحترم، فقدم حضرته السراي كأنه مدعو إلى حفلة كوكتيل من كيس الدولة ... ما أعجب البيك اطمئنانه وخاله مكبرا رأسه متحديا سلطة صاحب السعادة، فقال له فور دخوله عليه: يا محترم، أيش تركت للعوام؟! تقش كل ما في الكنيسة من أوان مقدسة وتجيئني كأنك ما عملت شيئا؟!
فتضاحك الخوري وقال: يا سيدنا، كتبت لي عندما شكوتهم إليك: مجانا أخذتم مجانا أعطوا، فرحت أشكو أمري إلى ربي بعد أن ظلمني العبد، فألهمني: أن أقلب الورقة ينفك المشكل، فقلبتها فقرأت فيها: ابن المذبح من المذبح يعيش، وأنا ما تجاوزت المذبح. - صحتين يا محترم، وماذا ينفعنا القول: من أين لك هذا؟
15 / 9 / 48
دب سان جيمس
وما سان جيمس غير مقهى في عاليه مرقص فيه جوقة أنبغ أفرادها دب عبقري، دفعتني شهرة هذا الدب الطائر في دنيا الطرائف إلى تلبية دعوة زملاء وإخوان فانسقت إلى ذلك النادي، ما كان وكدي غير الدب ولكني أصبت عصفورين بحجر واحد وشهدت رقص حوريات، فاستحالت ليلتي النابغية إلى ليلة وليدية هارونية، فتذكرت طيش الشباب حين شممت روائح الجنة في الشباب.
طال انتظاري خطيب الحفلة - الدب - فإذا به آخر من يبرز كما هو المعتاد في حفلاتنا ...
قد أكون وحدي ممن ينتظر الدب ويمر بالرقص والراقصات مر الكرام، لا يعنيني ما يكشفن من عورات وأرداف وإليات، ولا تستهويني رشاقة وليونة كانت تبديها إحداهن فتؤكد صحة قول الشاعر:
كأن عظامها من خيزران
وأخيرا جاء الدب - دب عظيم - بل دب وكفى. قيل لي: إنه دب غربي، ولكنني ما رأيت فيه غير سحنة أدبابنا، لم أر منه أعجب مما أراه منهم إلا أنه يحسن ركوب الزفزافة - الموتوسيكل - ويدور عليها في المرقص دورات، ويعمل أعمالا تدل على أنه ربيب حضارة، والحيوان كالإنسان ابن المربي ...
لا فرق بينه وبين أدبابنا إلا أنه مسرح الشعر، مهفهف نظيف، يأكل الدربس والشوكولاتا ... أما الذكاء فواحد، لا يتفوق صاحبنا إلا بثقافة غربية، ويقعد على الكرسي ... بينما ثقافة مواطنينا بلدية ... ويقعون على الثرى.
كان هذا الدب - كلما لعب دورا - يسرع إلى الكرسي المنصوب له في صدر القاعة فيهرع إليه بعظمة، ويقعد بأبهة الموظف الحديث العهد. إن أبهة هذا الدب تجعل الرجل يحترم الذكاء والمقدرة، وتذكره ما جاء في المثل لا يخلو رأس من حكمة. فهذا الدب الجليل يحب «الكرسي» ويؤثر الجلوس عليها فيدفع نفسه دفعا ليصل إليها، أما إذا دعي إلى النهوض عنها وتركها فكأنه يقتلع اقتلاعا.
الله الله! الكرسي محبوب حتى من الدب.
وخير ما في هذا الدب أنه كما قال شاعرنا أيضا:
على جنبات الدست منه مهابة
أي إنه يملأ كرسيه أيما إملاء، بينا الكثيرون من البشر يغرقون في «كراسيهم» فلا يبين لأعين الناظرين إليهم غير آذانهم ... ومع ذلك فإنهم لا ينقلعون منها إلا كما يقلع الضرس المسوس ...
29 / 9 / 48
ذنب وأذناب
كتبت جريدة «كل شيء» في عددها الأسبق ما يلي: لا تفتأ الطبيعة تحاول أن تهين كبرياء الإنسان، فتأتي إلى هذا العالم، بعد الحين والحين بأطفال ذوي أذناب.
ذكرتني هذه الكلمة بحكاية السلطان عبد الحميد مع فؤاد باشا المعروف «بالدالي فؤاد» أي فؤاد المجنون.
كان السلطان يعجب بشعوذات يعملها أمامه أقرب أخصائه إليه. ففي ليلة سمر سلطانية أتى هذا المقرب بشعوذة غريبة إذ بلع السيف أمام السلطان، فاستغرب جلالته ذلك جدا، وما أصبح حتى قص الخبر على وزيره فؤاد باشا فقال له: فلان أفندي بلع السيف.
فضحك فؤاد باشا وقال لمولاه السلطان: لا تتعجب يا مولاي فوزير الحربية بلع الدارعة ...
فغضب السلطان؛ لأن الوزير الذي بلع الدارعة كان أطول أذناب جلالته ... وضرب وزيره على رأسه كفا بعج طربوشه. وثاني يوم كان فؤاد في درب المنفى إلى دمشق، وظل هناك حتى خلع السلطان ... ولما احتفلنا بفك أسره سنة 1908 كان يلبس ذلك الطربوش الأثري مبعوجا ...
استغربت «كل شيء» من ولادة طفل في لندن له ذنب طوله بوصتان، فيا ليت شعري ألا ترى صديقتنا «كل شيء» أن الأذناب عندنا لا تحصى؟! إنها تحتل الساحات والمنتديات والسرايات وكل مكان.
ألا ترى أن في دنيانا رجالا لهم ألف ذنب وذنب ... يزاحمون الرءوس في كل مكان حتى لا تجد هذه فسحة تلطي بها متقية تلك الأذناب؟
تعودنا في العهود التركية أن نرى للرجل ذنبا واحدا، أما اليوم فأصبحنا نرى مئات الأذناب، وهي سنة تخالف حتى النواميس الطبيعية والوهمية، يقولون: حية برأسين، وما قالوا حية بذنبين ...
وقالت «كل شيء»: إن مثل ذنب هذا الطفل يقطع قبل أن يبلغ الشهر السادس من عمره، وعندنا بدلا من أن تقطع الأذناب فإنها كالجرادة تفقص ألفا ومية وتقول: يا قلة الذرية ... حتى صارت الأذناب حولنا وحوالينا، وما يضايقنا غير هذه الأذناب.
كان العهد بالناس في الماضي أنهم يفتخرون بالرءوس، أما اليوم فصار الفخر الأعظم بالأذناب، فكلما كثرت أذناب الزعيم جل شأنه وزادت قيمته، وهكذا ضاعت القيم.
والأغرب من هذا: أن ترى للأذناب أذنابا طويلة، أطول من ذنب ذئب البحتري ... تسد عليك منافذ الطاقات ومنفرجات السبل، فلا تدري كيف تهرب من دربها حتى أصبحت خطرا على كل عابر سبيل، وكل هذه الأذناب تردد مع الجرادة قول الشاعر:
إنا على سفر لا بد من زاد
مع أن زادهم من معجن الدولة، وأجربة المتزعمين الذين يغترون بخبطهم وخلطهم.
ألهم اللهم، كل مسئول منا أن يعمل كما يعملون في مستشفى لندن، ويقطع أذنابه، وما عليه لو بقي بذنب واحد، ففي الحيوانات وحيد القرن ...
10 / 10 / 48
1950
أوراق خريف
- لماذا سميت كلماتك أوراق خريف؟ - احزر.
هذا ما سألنيه أحد أصحابي بعدما قرأ كلمتي الأولى في «المكشوف» اليومي، ولما أجبته: احزر، صاح كأنه اكتشف القنبلة الهيدروجينية: أظن أنك أخذته عن فيكتور هيغو.
فقلت: ما حزرت يا صاحب، فهز كتفيه ودلى شفته السفلى حتى خفت أن تقع ... وحاولت أن أستثير فضوله بسكوتي، ولكنه كان أصبر مني على الصمت، فتراجعت عن حصن صبره المنيع، ثم تضاحكت وقلت: احزر، فرد بامتعاض اليائس وهزة كتف.
فقلت: ما لك تتأله لتتحدث عن أتفه الأمور؟! سميت كلماتي أوراق خريف لأنها كورق الخريف تذهب. ويا ليت فيها ما في تلك من خير، تلك ربما سدت فراغا في بطن حيوان، أما هذه فلا تغذي من كانوا موتى الوجدان. هاتيك تستحيل سمادا يغذي التربة أما هذه فما تقع إلا على صخور ... صارت القلوب حجارة يا أخي مات الزمن الذي كانوا يقولون فيه:
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
قال زياد: كذبة المنبر بلقاء، فما قولك فيما نسمع اليوم من إخوان ابن أبيه؟! يكذبون على الله وعبيده ولا يبالون. صار الكلام شر السلاح، وجلود التماسيح لم يعد يؤثر بها غير المسلات ... فلولا يستعيض بها الكاتب عن قلمه لكان أوفر احتراما.
شغل كلام الناس بال يسوع الجليلي فسأل تلميذه: من يقول الناس إني أنا؟ ولما أنبأه تلميذه المتحمس أنه هو المسيح ابن الله الحي، مشى السيد إلى الجلجلة بقدم ثابتة.
ألا ترى أن الذي تعتقد مئات الملايين من البشر أنه الله متجسدا كان يحسب حسابا لكلام الناس؟ وأما نحن فصرنا لا يعنينا ما يقوله الناس فينا. «ماشي الحال ... لا جمل ولا جمال» هذا شعارنا، إذا امتلأ الصندوق والجيب فلا عار ولا عيب.
أأدركت الآن لماذا أكتب تحت عنوان «أوراق خريف»؟
فانتفض محدثي وقال: ما زلت تعرف أنك تنفخ في رماد، فلماذا تكلف نفسك؟!
فقلت: ما قولك في اتباع نهج أبي تمام؟
فقال: وكيف؟
قلت: قال أبو تمام: والحرب مشتقة المعنى من الحرب، فلتكن أوراق خريف مشتقة من الخرف ...
فقهقه وقال: عال، عال، عال.
فقلت: على الله شأنك، أنا ضمنت لك «مجنونا يحكي»، فهل تضمن لي أنت «عاقلا يفهم» ليصح في وفي أصحابك هذا المثل؟
7 / 4 / 50
ضمائر جديدة
خلق كشافي، وروح رياضي، ومبدأ أونسكي، وأخيرا ضمير روتاري، أثواب مختلفة الأسماء والطراز، ولكنها مقطوعة من قماش واحد.
جميلة جدا هذه المبادئ، ولكني أنا متشائم جدا جدا ... فلا أؤمن بنتائجها؛ لأنها في نظري من باب اقرأ تفرح، جرب تحزن.
إنها تذكرني بدون كيشوت ورفيقه سانشا بانشا المؤمنين برفعة الفروسية ونبلها ... هذا إذا لم أقل إنها تذكرني بحكاية الأعرابي وهره. مس أعرابيا الضر فلم ير عنده شيئا يبيعه غير الهر فحمله إلى السوق.
فقال له أول راغب: أتبيع هذا الهر بدرهم؟ فضحك الأعرابي ومشى. فقال له ثان: يا أعرابي، بكم هذا السنور؟ أتبيعه بنصف درهم؟ وما تزحزح من مكانه خطوات حتى قال له ثالث: أتعطي هذا القط بقيراط؟
فغضب الأعرابي، وضرب ببسه الأرض قائلا له: ما أكثر أسماءك، وأقل ثمنك!
لا أدري إذا كان يصح هذا في ما يطلع علينا من مبادئ جديدة لتهذيب البشرية. جميلة جدا هذه المبادئ ولكن تطبيقها أجمل منها.
أشهد أني لم أفهم ما هو «الروتاري» لولا قراءة بعض الخطب. فهمت من إحداها أن الروتاري يخاف «أن يطغى على عالم الأعمال نزعة إلى الربح دون التقيد بالقواعد الفاضلة، وتوخي السرعة والسهولة في الإثراء على حساب الأخلاق» ولذلك أنشئوا ما عبر عنه السيد جان فتال بالضمير الروتاري لمقاومة ذلك.
ثم قرأت كلمة أخرى مآلها أن الروتاري يرمي إلى «محو عدم الثقة الذي يباعد بين المخدوم والموظف، وإلى أن يوحي إلى «العمال» شعورا عميقا بأنهم ليسوا غرباء عن المهمة التي يقومون بها، وأن لهم في كل مشروع دورهم وفائدتهم.»
قرأت هذا ورحت أسائل نفسي: ألا يطبق هذا عندنا؟ وبعد ما استعرضت صور كثيرين وجدت أن هذه المساواة عندنا فاضلة على الكفاية.
رأيت الكثيرين من «صغار العمال» - بله الكبار - غارقين إلى آذانهم في أموال الدولة، وهم يشعرون شعورا ليس عميقا فقط، بل من أعمق الأعماق، إنهم ليسوا غرباء عن المهمة التي يقومون بها، وإن لهم في كل مشروع دورهم وفائدتهم ... فقلت في نفسي: وما حاجتنا إذن إلى هذه المبادئ الروتارية ما زالت تطبق عندنا «رسميا» ... إننا أحوج إلى روتاري من نوع آخر. إلى روتاري يفهم هؤلاء أن يقللوا من «الخوش بوش» بينهم وبين صناديق الدولة.
ألا يوجد إثراء عاجل على حساب الأخلاق إلا في التجارة!
مساكين التجار، قد يخسرون كل شيء حتى رأس المال، أما من كانت «أيديهم» رأس مالهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
4 / 5 / 50
ديش باره سي
إذا كنت من الذين يعومون على وجه «الجراب» فإني لست منك ولست مني، تعمق ولا تكن سطحيا فليس على الوجه غير الخبز اليابس.
من جراب اليوم حديث جرى - في ذلك الزمان - مع بيك سطمبولي أصيل، كتب على صلعته الواسعة «ضرب في القسطنطينية» كلفه اللقب والنيشان والرتبة الأولى المتمايزة نصف ثروته الضخمة، فرحل في سبيل ذلك، الرحلتين، رحلة الشتاء ورحلة الصيف.
كان يلذ لي حديث سعادته لما شيخ، فكنت أسهر عنده كلما استطعت ، وكان يعجبني منه رد التحية فيقع في قلبي بردا وسلاما، والتفت بمن لم يكن دار على لسانهم - بعد - لقبي الطازه لفتة معناها: سمعتم! تعلموا الذوق من صاحب الرتبة المتمايزة، فهو لا ينسى اللقب مثلكم.
تلك أيام يرحمها الله، كنت فيها حديث النعمة وكان البيك بروتوكوليا من الطراز الأول، كان - رحم الله عظامه - جميل الوجه، طلق المحيا واللسان، عرك السياسة وعركته، يهندم لحيته التي أطلق سبيلها بعد اللقب والرتبة على النسق التركي فتخاله صدرا أعظم أو وزيرا على الأقل. تخلع هامته الضخمة على محضره الأبهة والوقار فتندلق المهابة حوله وحواليه. أما حنجرته فعريضة وصوته جهوري لا بحة فيه مثل صوتي، فإذا ما سمعته قبل أن تراه تحسبه لصفاء صوته ببغاء تتكلم.
واجتمعنا مرة في أجر - مأتم في اللغة الفصحى - فهرعت إلى حضرة البيك حيث كان يشرب القهوة بعد الغداء والدفن، تلك عادة مقاطعتنا ولا تزال، فرحب بي ترحيبا جميلا - أي لم ينس اللقب - وبعد التأهيل ابتسم وقال: اشتقت إلى حكايات سطمبول؟ سماع، عندي اليوم واحدة تعجبك، تذكرتها عندما رأيت «المغلفات» توزع على المحترمين بعد الغداء.
قلت: أفندم! فكركر في الضحك، وقال: هذي كل بضاعتك من التركية. كان من تقاليد الصدور العظام والنظار - الوزراء - أن يدعوا مشايخ الآستانة العلية إلى إفطار في رمضان، فيركضوا إليها ركضا، ويقوموا بالواجب بهمة ونشاط، وعند الانصراف كان يدس الوزير في كف كل شيخ منهم إصبعا من الليرات الذهبية قائلا له: ديش باره سي، فيخرج من عنده شاكرا حامدا، ويبيت ليلته يبصر في نومه وزير الغد، موسم ينتظرونه من الحول إلى الحول.
ولما رآني لم أتحرك قال: ما فهمت معنى الديش باره سي، هذا تعبير تركي معناه: أجرة الأسنان، أرأيت «نزاكة» الأتراك؟ ولكن قل لي بحياتك: كم الذين قبضوا أجرة أسنانهم اليوم من تركة المرحوم؟
وكان حدي في المجلس واحد من رفقاء المدرسة وهو ممن حلت عليهم النعمة ولم تبارحهم مثلي، فكان ممن قبضوا أجرة الأسنان، فقال له البيك: لا تؤاخذنا يا محترم، هذي نكتة ...
ومات البيك ومرت سنون وإذا بي - منذ أيام - التقي بالرفيق فأنكرته لجلال الشيب والهرم، أما هو فعرفني وأخذنا نتذاكر أيام الصبا والشباب، وتذكرنا البيك والديش باره سي، فقال لي رفيقي الكاهن الجليل - وهو ينظر إلي نظرة المريض إلى وجوه العود: ترى لو قام البيك اليوم من قبره ورأى كيف تؤكل صناديق الدولة ماذا كان يقول؟
قلت: كان يقول: أنياب: أنياب باره سي ...
25 / 11 / 50
بارازيت
في مأتم - ببلاد جبيل - تجمع أكابر «القوالين» ليعددوا ميتا وجيها في قومه، ولسوء حظ أهل الفقيد جاءوهم برز بينه وبين السمن ما بين القيسي واليمني ... فكفوا أيديهم عنه ونسوا الفقيد الكريم وقاموا يندبون «الغدا» فكانت الردة - اللازمة:
والسمنات باللقلوق
والرزات عالمينا
وبين اللقلوق ومينا جبيل مسافة كان لا يقطعها «أوتو جدي» بأقل من تسع ساعات.
أليس هذا ما ينطبق على حالتنا اليوم؟ فالقدر تغلي على النار، الماء يفور حتى يكاد يطير الغطاء، أما الطابخون فما أعدوا - بعد - لا لحما، ولا رزا، ولا سمنا، ولا توابل، كلما أعد: مجلس مزور، مجلس 25 آيار.
هذي هي البرامج، وهذي هي المناهج! طبخة «بحص» لها على النار أربع سنوات إلا.
شيء مضى وراح، أفلا يحق لنا أن نتساءل اليوم: ترى أكل هذا المجلس هو كما قال النبي داود عن نفسه: بالآثام حبل بي، وبالخطايا ولدتني أمي! أليس فيه رجال ذوو كفاءات وجدارة، فلماذا نصوب على الجميع مدافعنا الرشاشة؟ لماذا وجدت أدوات الاستثناء؟ وفي أي بلد من بلاد الله ينزل المجلس كله من السماء بقفة!
وأغرب ما في أمر هذا المجلس أنك تسمع مثل هذا الطعن فيه من أفواه النواب أنفسهم، ويكون ذاك الطاعن مطعونا وهو يحسب أنه «خلاه ذم» كما قال المهلهل لأخيه كليب. فإذا كنا ننتظر أن يذهب هؤلاء جميعهم أو نصفهم نكون قصيري النظر، إنا للمجلس وإنا إليه راجعون. هذا لسان أكثرهم، وأخاله الواقع، فعلى من نووا خدمة الوطن خدمة نصوحا، لوجه الله الكريم، أن يأتوا الأمور من أبوابها، أي أن يرونا وجهوهم على ضوء البرامج، فكلمة 25 آيار باخت، صارت سلاحا صدئا لا يصلح للنضال في المعركة العتيدة الطاحنة.
يا ليت شعري! ماذا ننتظر من مجلس عاش عمره الكامل وما سمع قط كلمة تشجيع، حتى ولا حين رد مشروع «احتكار البحر»، ما سمع غير ذلك النعت محسنا ومسيئا، وهكذا سلق القمح.
نحن قوم آفتنا التعميم، إذا أساء إلينا رجل من قرية سببنا القرية كلها، وقلنا: ضيعة ما فيها آدمي. وما أظن أن ضيعة تخلو من الأوادم. عندما شهدت أول عرس عدت أقول لوالدي: الضيعة كلها عند العريس، والبيت محشوك ... فأجابني من فوره: أنت صبي خراط؛ كيف تكون الضيعة كلها عند العريس، وهذا جدك - وهو الذي يكلله - ما زال يصلي على المصطبة؟! وعمومتك وأولادهم وحريمهم، وأخوالك وجيراننا من نسوان ورجال كلهم في بيوتهم!
ودخل الناطور في تلك اللحظة فقال: أبو فارس، أهلا وسهلا، والتفت صوبي وقال لي مشيرا إليه: وهذا عمك طنوس والعصا والجفت والكلب قدام عينك، فكيف تكون الضيعة كلها عند العريس؟!
قلت: طيب، نصفها.
فغاظته مماحكتي فقال بنزق: تقلع، قلت لك، وأشار بمدراه، فتراجعت وناب عني المسند في استقبال كفه المفلطحة.
هذا نموذج من المبالغات التي نشأنا عليها فتعودناها حتى صارت سلاحنا في كل جبهة، وإنني أخاطر - منذ الآن - من يخاطرني على أن مجلس نيسان القادم - إن كان الانتخاب في نيسان - سيقال فيه ما قيل في هذا. فالذي يندحر سوف يقول: مجلس مزور ... والذي يفوز سيقول كذلك إذا فاز معه من لا يريد له الفوز، وهكذا يعاد «الموال» التقليدي ...
إن أكثر المرشحين الخاسرين أشبه بالمقصرين في دروسهم، فالتلاميذ الراسبون في الامتحان يلقون التبعة على المصححين والأسئلة، والمرشحون الخائبون يلقونها على الصندوقة الحبلى بلا دنس!
ما هذا عراكا، إن هذا إلا «بارازيت» يشوش ويعكر ويزعج، ولكنه لا يعوق الإذاعة ...
1 / 12 / 50
لله درها
تلك بقرتنا «عبيدة»، فابنها «الأزهر» أخي الرضعي، فلا تتعجب إذا ما قلت لك إن بيني وبين البقر قرابة ... والأستاذ - إن صح قول الشاعر - هو الأب المفضل لتلميذه؛ لأنه مربي الروح، والروح جوهر! وإذا صح قول من قال: إن محبة الآباء تتصل مع البنين، عرفت لماذا صار ابني الروحي «علي سعد» طبيبا للبقر، بعد أن أجيز ليكون «محاميا» عن البشر. سوف تأتيك قصة هذا التلميذ الطاهر، فاسمع قبل قصة معلمه.
إن حكاية هذه القرابة البقرية عريقة في القدم، يبتدئ تاريخها بعد ميلادي السعيد بثلاثة أيام. انقطع رزقي من يوم ولدت، فالمرحومة والدتي كانت غير حلوبة، ولو لم أكن طويل العمر رحت ضحية عناد والدي، لم يكن في الضيعة كلها غير مرضعة واحدة، والوالد لا يرضعني حليبها لأسباب مات ولم يصرح بها ... وبعد ائتمار يومين فضت المشكلة بقرتنا «عبيدة» فكانت مرضعي لله در درها ... وهكذا صرت وابنها الأزهر رضيعي لبان، كما كان الندى والمحلق عند الحطيئة.
وتوثقت عرى القرابة بيني وبين البقر، ولكن مصيبة جديدة مدت أذنيها في صبيحة حياتي فبعدت الشقة بيني وبين المثلث الرحمات جدي الخوري، كان يتلني صغيرا، ولما كبرت وعسيت صرت أركب رأسي ولا أبالي به، فيحمى علي ويقعد، يؤصلني ويفصلني قائلا: راضع حليب البقر كيف يكون! مخ فج، رأس يابس لا يتكسر بالقدوم، متى عرد رح من الدرب ثم لا يسكت حتى يفرغ ما في جرابه من تلك «الألفاظ الكتابية».
ويشاء القدر ومشيئته كائنة لا محالة، فأصير حجر شحذ، ويكون من تلاميذي الدكتور علي سعد. واغتظت مرة من الصف فقلت: اكتبوا موضوع إنشاء: قال الغزالي: رعاية البقر خير من سياسة البشر.
تمرمر الصف، وكان علي سعد من أقرب التلاميذ مني مقعدا فطفق يبربر ويكتب ... كان قزما يوم ذلك، جسديا، ولكنه كان جبارا، عقليا، فبيض وجهي عام جاءونا بلجنة فاحصة شامية لامتحان البكالوريا فكانت الأولية له، كنت أرجو أن يكون الأديب الأول، وكثيرا ما كنت أردد، عندما يذكر: هذا تلميذ يرفع الرأس. ولما زارني مودعا وأخبرني بعدوله عن المحاماة واعتزامه درس الطب البيطري قلت له: هيء يا علي، بدلت الرءوس بالأذناب ... هذا عمل «الموجه الأعظم» الذي حكى عنه الأستاذ نعيمة، لا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنذ مدة التقيت بذاك القزم فإذا به قد اخشوشن واستطال، فحوطته باسم الله من الجهات الأربع، وقلت يخزي العين! وأين أنت اليوم؟
فأجاب بابتسامته التقليدية: في الزريبة، أحقق كلمة الغزالي، فأجبته بالمثل العامي: وإن كان هلغزلي غزلتك حرير بدك تلبسي، فأجابني: حسب التلميذ أن يكون مثل معلمه.
ومنذ أسبوعين أو أكثر قرأت أن الدكتور علي مسافر إلى هولندة لجلب رأسين ثلاثة من البقر لتكون نواة لتحسين نسل القرايب.
فيا تلميذي عليا، ما أظن أنك نسيت - كالبعض - كم كنت أرعاك وأراعيك، وكأني بك مسخر من «الموجه الأعظم» لتسدد ما على معلمك من دين لذات القرنين، أفلا تكافيني أيضا بتحقيق أمنية؟
إننا - يا عزيزي - في حاجة إلى تحسين نسل آخر، فبحياتك، مر بالرجعة على قبرص ... فأكثر حميرنا صارت بلدية ...
8 / 12 / 50
دبان
وخلا الذباب بها فليس ببارح ... رحم الله عنترة العبسي. أما بدأنا نسمع ذبان الانتخابات يدندن في الأجواء؟ ألا تراه كيف يتحلق أكاليل غار حول أبواب الزعماء؟ جاء موسمهم، فانظر إليهم متنقلين من باب إلى باب، إن العز في النقل ... إنهم يفتشون عن قصعات يقعون عليها، وقديما قالوا: الذبان يعرف ذقن اللبان ... يخادعون المرشح وهو خادعهم، يسومون الناس كما تسام الغنم والبقر، وكل ذبانة من هذا الذبان الأزرق تزعم أنها تقود عسكرا جرارا.
أما الناخب فغدا أو بعد غد ميلاده، يحبل به خمسة وأربعين شهرا، ثم لا يعيش إلا ثلاثة أشهر، يلفظ الفقيد الغالي أنفاسه الطاهرة في الساعة الرابعة بعد ظهر يوم الاقتراع. ينتهي عمره ساعة يولج أصبعه في ذاك الشق ... شق الصندوقة، وعندها يلفظ الروح، كأنه النحلة تلسع وتموت.
يجاء به راكبا، ويرجع راجلا، إنه الخاسر في الحالين، أما هؤلاء الذبان فمضمون ربحهم، يأكلون حلاوته وأمه تقبره ...
غدا تتفتح الأبواب الدهرية، وترتفع القيم الإنسانية ويغلي سعر بني آدم إلى حين، يوم يستوي فيه الجبار وسائق الحمار.
الصوت، صوت، فلتحي الديمقراطية!
زارني مرشح أديب على عهد «المندوبين» - والمندوب كانت تنتخبه القرى ليبيعها في مركز المحافظة - فأقبل الأهالي مسلمين، فكان يصافحهم وعينه تائهة، يريد أن يعرف أيهم هو المندوب، فلما تصافحا يدا بيد قلت مازحا:
إذا عدت رجال العصر يوما «فهذا» واحد بمقام ألف
فصاح بلهفة: رحم الله اليازجي، ثم شد على يد المندوب بكلابتيه، ثم كانت أحاديث احترام، فغرام، فهيام، كذبها شهر الدبس ...
غدا تفتح أبواب المرشحين أشداقها، وتسيب المطابخ والمعاجن ... فلا يجاب الطارق: البيك ضهر ولا في الجبل، أهلا وسهلا، تفضل ... ما عليك حاجب ولا بواب ...
وتدوم هذه الحال إلى يوم الاحتضار والحشرجة، والموعد الساعة الرابعة، فينعى الناخب، ويغيب البيك، ويختفي وجه الأفندي ويضيق صدر الزعيم، فلا يعود يظفر «بالمواجهة» إلا من صلت له أمه ليلة القدر ...
يا أخي، يا صاحب الصوت، انتبه، انتق نائبك على عقلك، إن كان لك عقل.
كش الذبان ... إذا شئت أن تنام نوما هنيئا.
15 / 12 / 50
فطور ميلادي
كان الميلاد عيد صلاة وخشوع يوم كانت القناديل السود تضيء عتمة الكنيسة بمقدار، فترسم على جدرانها الشهباء أشباحا يستيقظ الوجدان حين يراها. كان الميلاد يوم تجديد النفوس للأجداد، فصار عيد لعب للأحفاد ... ومذبحة دجاج عالمية.
وكنا في المدرسة ننتظر ذاك الفطور من الحول إلى الحول، فنصلي بحرارة إيمان تكاد تصور لنا الديوك تكرج في صحن الهيكل، نرتل جميعا بصوت واحد: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام. وكان صوت رفيقي عبد الله يقدح السقف، فما انتهينا من تنغيم «وعلى الأرض السلام» بكل ما فيها من تعويج، حتى ملت عليه وألقيت في أذنه: وعلى المائدة ديوك ومدام ...
فصرخ بي: سد بوزك، قالها وصوب رأسه نحوي كأنه يريد أن ينطحني، فاستكنت وأنا منه على مضض، وقلت أسترضيه خوف الفضيحة: كانت تعجبك النكتة! فنب وكاد يأكلني بعينيه وقاطعني قائلا: في الكنيسة يا كذا وكذا!
وخرجنا بعد الظهر للتنزه، فتحرشت به، وقلت له: الظاهر إنك عزمت على الكهنوت.
فأجاب: ومن أين عرفت؟ قلت: من غيرتك وهجمتك، نسيت؟
قال: هذا واجب، يا ويلك من الله!
قلت: ربما أهتدي - في المستقبل - إذا ذكرتني في قداسك. ظنها الجد فتنفش وقال: بيفرجها الله ...
وما قلت: ولكن ... حتى انتصبت أذناه، وأخذ حذره وقال: ولكن إيش؟
قلت: ولكن لا يصح القداس بدون حضور المسيح .
فقال بنزق: ومن قال لك إنه لا يحضر؟!
فقلت: وجهك الحلو ... وهربت. وقعد هو يسبني ويشتمني.
ومرت سنون وكانت الحرب الأولى، فصادف أن بت ليلة العيد في ضيعة رفيقي الذي صار الخوري عبد الله، فعزم علي حتى أفطر عنده، فقبلت وقلت في قلبي: ما أسرع ما تمحي إساءات المدرسة، فيلتقي الرفيقان وكأن لم يكن شيء مما كان. وما دخلنا البيت حتى قال كالعاتب المؤنب: ما سمعت القداس.
فسكت، فهز برأسه وقال: الطبخة الطيبة تعرف من العصر. ما تظن أني نسيتك، قلت: ولا أنا.
جئتني داعيا أو واعظا؟ فقال: وصيادا أيضا، أخاطر بالطعم حتى أصطاد السمكة، فقلت: أبشر، لقيت من يأكل الطعم و... فصاح: أوف! وأبدى إشارة من يسد أذنيه، ولكن الضربة لمن سبق ...
كانت شيخة السفرة - الدجاجة - محشوة بالبرغل، وكذلك الشوربا، وليس الذنب ذنب رفيقي الخوري عبد الله، فالرز اختفت آثاره في تلك الحرب، والسعيد من كان عنده برغل، ولكن خبز الخوري كان من الشعير، فوقف يصلي ويسارقني النظر، ولما رآني لم أحرك ساكنا قعد مغيظا محنقا، وقال كالهازل: صلب على الأقل، اذكر اسم الله حتى نعرف أنك بشري ...
فأجبته: الله أجل من أن يذكر على هذا الخبز، هات ملاعق ...
فصرخ كمن لدغته أفعى: ملاعق يا صبي ... أكل الطعم ... ألف صحة وعافية.
24 / 12 / 50
صباحية الناخب
من حقك أن تقول لي: وأين صباحيتي! ففي غرة العام الجديد يتهادى المحبون، ومن أحب إلى الكاتب من قرائه - إذا كان له قراء أذكياء مثلك - أما أنا يا صاحبي فكما قال المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
فإذا كنت ترضاها صباحية حكي فيا مرحبا بك، وخصوصا في سنة هي سنة حكي، أليست سنة انتخابات! فكم من حكي ستسمع. ستدخر في شهرين مئونة أربع سنوات، إذن أنت قادم على خير وافر من الكلام الأفيوني، وها أنا أهنئك منذ الآن: سنة مباركة ورزق جديد ... - إن شاء الله ...
قلت لك: إن هديتي حكي، وقد يستحيل الحكي مالا، كما يستحيل الناس نوابا ، والنواب وزراء، ولا عجب فللكيمياء فعل عجيب ... فاسمع إذن:
غدا تمس الحاجة إلى «الزلم» فلا تخفف رأسك، تذكر أنك «زلمي ملء الحبل» وإلا رحت رخيصا. كثيرون سيدفعون، وكثيرون سيقبضون حق «الزلم» فلا تبع نفسك ولا تدع أحدا من الناس يبيعك، فالحرة تموت ولا تأكل بثدييها. لا تنس أن اليد العليا خير من اليد السفلى فإياك ثم إياك، ثم إياك ...
لا تنس أنه لا يزال في الأرض بقوة أوادم تعرفهم أنت وأنا وكل إنسان فاختر نائبك منهم، ولا تسمع كلمة «السماسرة» الذين عرفتهم بلا سراويل، حتى إذا غطوا العيب وسافرت أيديهم ورجعت غانمة، جاءوا يغرونك ويخدعونك.
إذا خيرت بين مرشحين يدفعان فخذ من الأفضل ولو أقل كما فعل ذاك الأميركي، أخذ من الأفضل عشرة دولارات، ولم يأخذ العشرين من المرشح غير الصالح. أراك قد سقط ريالك حين سمعت بالريال! صحيح أن القطع النادر عزيز، ولكن الوطن أعز يا عزيز قلبي.
إياك أن ترحم من لم يرحمك حين وصل، أرى من الخير أن تغلق بوجهه بابك، وتقول له أنت من الداخل؛ لأنك لا تزال بلا خادمة، كما كان هو قبل أن صعد إلى العلية على أكتافك، قل له من الداخل، ولكن غير صوتك: أنا غير موجود الآن. وإذا سألك: هل ترجع بعد؟ قل له: نعم بنعمة الانتخاب تعال ارجع، تحجب مرة في حياتك لترى كيف هو طعم الحجاب، فهذه ساعتك.
سيقص عليك السماسرة قصة الوالي العثماني الذي قال للأهالي: أنا شبعت، وسيأتيكم واحد غيري جوعان فخير لكم أن أظل. لا تصدق من أكل مرة وشبع إلى الأبد إذا تغديت حتى انبشمت، أتنام بلا عشا؟ وإذا لم تتعش ألا تفطر؟ إذا كانت اللقمة مفتاح فم الشبعان، فكيف يكون فم الحوت!
لا تنتخب إلا النظيف الذي لا يبيع حقوقك ليشتري حقلا ويعمر بيتا، سيقولون لك: انتخب الشبعان، لا تصدق، ففي الدنيا نفوس شبعانة وعيون جوعانة. فرب فقير شبعان، ومليونير مصاب بداء الكلب، ومن يشفى من داء الكلب!
قف على سيقانك مرة أيها الناخب العزيز تتعود وتحترم، جربها مرة وخطيئتك في رقبتي، كسر «عكاكيز» المرشحين على ظهر من تريد، قل لهم: أنا موجود، أنا لا أبايع إلا مخلصين فلا حاجة إلى العكاكيز التي تتوكئون عليها لتصلوا إلى بيتي تعكزوا على صيتكم الطيب.
كأنني أسمعك تقول: نعم أنا الناخب، أنا أقود نفسي إلى صندوقة الانتخاب، حيدوا من الدرب.
هات، إذن، يدك لأهنئك، لأنك أريتني أنك رجل، ومشيت وحدك إلى الصندوقة.
هذه صباحيتك - مؤقتا - وسوف تأتيك مني صباحيات، فأنا كريم وأنت تستاهل، ولا عاش كل بخيل.
31 / 12 / 50
1951
لعينيك يا أختي
هل تعرفين يا سيدتي، من هو نصيرك الأول في الشرق كله؟ أما بلغك خبر ذلك الوكيل المسخر الذي طالب بحريتك منذ ثمانين عاما وأكثر؟ ومن أين يأتيك علم ذلك إذا كان المنهاج الذي درسته لا يذكره؟ ومنهاج عام 1954 أغفله أيضا لأن «جرذون المكاتب» طبخ هذا المنهاج في نافقائه، وتبله ببهار تعصبه الذميم فكانت لنا منه «أم الفلافل» ...
اقرئي، أرشدنا الله وذاك الجرذ الملفان، ما كتبه العلامة المنصف جورج زيدان عن قاسم أمين، تعلمي أن أحمد فارس الشدياق العشقوتي هو أول من دق الباب الذي تقرعينه اليوم بيدك الناعمة.
لا أشك في أنك تريدين كرما ومروءة، أن تحملي معنا أثقال ومسئولية الانتخاب، فيا هلا، وألف هلا! آجرك الرب من فوق، فما أعظم غيرتك وأكبر مروءتك! إني لواثق بأنك ستبرزين في هذا المضمار، وتسبقين سبعين بالمائة من الرجال في ذلك اليوم الحامي أتونه، اليوم الوحيد الذي تكون فيه الناس سواسية كأسنان المشط ... وتسقط أسوار أريحا الأرستقراطية، من الساعة الثامنة إلى الساعة الرابعة، ثم لا تغيب شمس ذلك النهار حتى تعود المياه إلى مجاريها، فيرجع امتياز الأمير إلى الأمير ويعود سائق الحمير سائق حمير.
عفوا، كلا الاثنين سائق حمير، الزعيم يسوق حميرا تنطق، وهذاك يسوق حميرا تنهق!
تراءت لي - يا أختي - تلك الساعة التي ترتفع فيها أسعار بني آدم دون بناته، فتخيلت زعيمة نهضتكن الآنسة ابتهاج قدورة جالسة على مكتبها في ذلك اليوم تتصفح نظم الجمعيات النسائية العالمية لتقتطف لكن أشهى ثمارها ، بينما يذهب جارها الفران وتلميذه ليتوليا عنها اختيار عبقريين يشاركون غدا في البحث عن أقرب الطرق إلى تعزيز استقلال الوطن.
وكأني أرى بعيني الواعية السيدة سلمى صائغ قابعة في بيتها تقلب أوراقها قديمة وجديدة، وجارها الأمي يركض لينتخب لنا بضعة رجال يركبون على ظهر الأمة ولا يتحلحلون، أربع سنوات فقط ...
وتمثلت السيدة إميلي فارس إبراهيم منزوية واجمة؛ همها في ذلك اليوم أن تعد محاضرة بليغة، موضوعها النساء اللواتي سسن العالم، بينما غلمان اللحام والبقال والسمان الذين ينقلون إليها كل صباح حوائج بيتها يتسابقون، وفي أيديهم الشهادات بالأمية، لينتخبوا للوطن نائبا لا يباع ولا يشرى.
وفي تلك الساعة المرة تكون الآنسة عفيفة صعب قعيدة غرفتها، وفلان يهرول إلى الصندوقة ليلقي فيها لائحة - عفوا، قائمة لحم - لم يقرأها لأنه لا يعرف الكوع من البوع.
أليس من المضحك المؤلم أن ينتخب المكاري والمعاز والبقار والحمار، والبغال، والعتال، وتحرم الدكتورات، والمحاميات، والكاتبات، والشاعرات، والمعلمات، والراهبات، حق الانتخاب! والسبب كما قال شيخنا الشدياق في ذلك الزمان - حين نادى مطالبا بحقك - لأنه الذكر وهي الأنثى، وهو أفضل منها قنسا، وأكرم جنسا.
فإذا كانوا في بعض دول العالم - إذا لم تخني الذاكرة - ينظرون إلى الرأس قبل غيره، فيميزون بين الرجال، فيكون رأس نابغتهم بعشرة رءوس، أفلا نساوي نحن في هذا - حق الانتخاب - بين الأنثى المثقفة والذكر الأبله! لأنه الذكر وهي الأنثى ...
تطلب المرأة أن تنتخب - بالكسر - وأنا أطلب أن تعطى هذا الحق بالفتح أيضا.
لقد جربنا رجالا كثيرين وما أفلحوا فما علينا لو جربنا النساء!
17 / 1 / 51
ألقاب
صرنا نخاف أن نخاطب الناس بيا سيد لئلا يغضبوا. فكل مرقعان يريد أن يكون أستاذا، وكل من قعد على كرسي يصبح بيكا، وإذا علت مرتبته وكثر ماله ركبوا له طرطورا، وجلاجل من الألقاب لا حد لها ولا طرف.
كان الشعب يقول لأميره «سعادتك» لأنه كان سعيدا ومسعدا، يأكل ويطعم. كان رغيفه في متناول الجميع، البيت مفتوح والمعجن مشاع للأتباع يستبيحونه متى شاءوا، أما سعادة هذه الأيام فتحيرني، فكيف تكون سعادة والموائد حصون لا تؤخذ، ودون الرغيف قلع الضرس؟
من طريف حكايات عشق الألقاب عندنا ما روي عن أحد المشايخ، صار «جناب» أحدهم معلما فخلع عنه حلاقه لقب الشيخ وصار يخاطبه بيا معلم؛ إما تقديرا لعلمه، وإما ظنا منه أن يرضيه أكثر. ولكن شيخنا العزيز كان يسمع كلمة يا معلم ويسب في قلبه ديك التعليم الذي أسقط عنه المشيخة. - أهلا بالمعلم حنا، قالها الحلاق وهو منكب على حلق ذقن كبير المشايخ «الشيخ رشيد الخازن»، فاقترب المعلم الشيخ من الحلاق وقال له: تهذب، تاني مرة قل يا شيخ حنا. فضحك الشيخ رشيد، وقال له: لا تؤاخذه يا عمي، حنا، مسكين، حسبك المعلم عبد الله البستاني.
إن كلمة المعلم التي أطلقت على أرسطو وسواه سقطت اليوم من عين الناس، فكل من يقرأ ويكتب هو أستاذ، وكل موظف، وكل آخر الأسماء الخمسة بيك وصاحب سعادة، وهكذا طما الخطب حتى نابت كلمة أستاذ وبيك عن كلمة «حبوب» التي راجت مدة ...
قعدت مرة أمسح بوطي - الحذاء - في الدكان المختص، فانغمست في مطالعة صحيفة، ولم أفق من سهوتي إلا على كلمة: يا أستاذ. فأجبت فورا: نعم، فقال لي ماسح الحذاء: لا غنى عنك، أقصد شريكي.
أخجلني، وحق من لا شريك له، ولعنت كل نكرة مقصودة بياء النداء، وأخذت حذري من تلك الساعة فصرت لا أرد على من لا يسميني قبل أن أتثبت.
لست أدري من أين غمرنا هذا الطوفان من الألقاب حتى أغرق جميع طبقاتنا، فإذا لم «تبيك» و«تسعد» من لك عنده مصلحة قطب وعبس وأجلك إلى أن يحسن الله تأديبك، وكيف نعمل ونحن لا نعرف البيك من السكيك!
عندما عين جلالة السلطان داود باشا أول متصرفي جبل لبنان عرف الشعب في الفرمان الشاهاني أن مراحمه السلطانية اختصت لبنان بالرجل الجدير «الحائز والحامل نيشان مجيدتي الهمايوني الرابع» كذا.
ولما شاخت السلطنة والمتصرفية صار المجيدي الرابع مبتذلا مثل «جناب الأجل الأمجد» بل قل مثل كلمة «الكبير» اليوم. أما شاركنا جميعنا ذا القرنين وقسطنطين وغيرهما في هذا اللقب : الأستاذ الكبير، والشاعر الكبير، والأديب الكبير، والمثري الكبير، إلخ، فكلنا: كبير في كبير في كبير.
قال واحد للسيد المسيح: أيها المعلم الصالح، فأجابه يسوع: لماذا تدعوني الصالح وليس الصالح إلا الله؟ أما نحن فنقبل كل ما يكال لنا بالمد من نعوت وألقاب، حتى إن بعضنا يستجديها ويفرضها علينا فرضا. فإذا قرعت بابا وسألت الخادمة قائلا: الأفندي أو السيد، أو الخواجا بالبيت؟ تجيبك حضرتها كما علموها: لا، البيك بالسوق ...
الله الله! كيف بطل عندنا الميزان، حتى صارت الألقاب من مال القبان ...
2 / 2 / 51
عصافير التين
رحم الله الصديق راشد طبارة، فقد عاش راشدا، ومضى لسبيله راشدا. كانت طلعته توحي إلي الوفاء، وها هي غيبته تلهمني موضوعا فيه العبرة والموعظة، امض بسلام يا أخي، فأنت اليوم أوعظ منك حيا!
قالت إحدى الصحف يوم مات هذا الفقيد العزيز: ومات ولم تدنسه الوظيفة، الله! الله! كيف تفسد ذبابة لونا من الطعام يكاد يؤكل بالعين، أما صارت الوظيفة دنسا لأن فينا من يسيء استخدامها؟ فإذا كان بعض الموظفين سمنوا فالأكثرون منهم مساكين لا يظفرون بالكفاف.
ما كانت الوظيفة قط في لبنان مورد ثراء، بل كانت واسطة لدك أساس البيوتات، وكنا إذا دخلت الوظيفة بيتك نقول: أخ، خرب البيت. زحل ... فما جرد الأسر اللبنانية من ممتلكاتها غير تهافتها على الوظائف وتصارعها حولها، كانت الوظيفة طمعا بالجاه والوجاهة، وما كانت قط نبعا يخر وضرعا يدر، واليوم أيضا لا يصح أن تسمى دنسا؛ لأن النظاف الأيدي كثيرون، وما القذرون إلا قلة والحمد لله، فيجب أن تقطع هذه الأصابع المتآكلة من أرجل الهيئة ليسلم الهيكل.
جميل وأكثر من جميل أن نقدر الرجل الطيب بعد موته، كما قدرت الحكومة هذا الموظف الأمين، ولكن المكافأة على الأمانة لا تؤدب أصحاب الجلود المتمسحة، والعيون الوقحة التي لا تستحي. فهؤلاء «الأمناء» يضحكون في سرهم من مثل هذه المكافأة، فليست العشرة آلاف ليرة تحسب شيئا مما يعدون ويحسبون ... فهم يكافئون أنفسهم كل يوم، بل كل ساعة، والذي يقبض المعجل لا يكترث بالمؤجل، فمن بعده الطوفان ...
إن مثل هذي المكافأة تحث نبلاء الموظفين - وحدهم - على المضي في شوطهم شوط العفة والنزاهة والأمانة، أما البق والدود العلق فلا يؤدبه غير قصاص بلا شفقة، ولكم في القصاص حياة.
إن الوزير مؤازر فعليه أن يسهر على من هم تحته إذا كان يريد تأييد من هم فوقه، عليه أن يكسح الجعل والخنافس التي يفسد منظرها القذر ورائحتها النتنة جو الثقة والإيمان.
على من يعنيهم الأمر أن ينظروا إلى «عصافير التين» ويسألوا: كيف جاءت أمس عجافا خفافا ... وصارت سمانا ثقالا؟
جاءت أول من أمس، وما فيها غير الروح والعظم والجلد؛ فكيف سمنت أولا بأول؟ يا بارك الله!
انثروا - سادتي - المطاعم حول الوكور، واصلوا الدبق تعلق الوراور وعصافير التين. أما يكفيها ما تأكله على الهينة حتى تطير على أعين الناس، وتغرد آمنة نكاية فيهم ...!
9 / 2 / 51
على أونا
إذا كنت لم تسمع - بعد - بوكيل يدفع لمن يوكله فاصبر قليلا، غدا - وما أقرب اليوم من غد - ستتعرف بكثيرين من الذوات الذين يدفعون لي ولك وله لينوبوا عنا ويمثلونا تحت قبة البرلمان تمثيلا كلي العفة والطهارة ... تلك خدمة نصوح يؤدونها لوجه الله تعالى ولا يبتغون منا أجرا ولا شكورا.
ضمائر من ورق في جسوم من كرتون، وكيف ترجو بقية حياء في وجوه بلا ماء؟ إذا كان الجفاف يستبشع في أديم الأرض فكيف تكون الوجوه متى قحلت ويبست فيها العيون؟ ولكن الناس يستغبي بعضهم بعضا متى التقوا، أما متى افترقوا فترفع القدور على المناصب ... وإلا فأي رأس فارغ يصدق أن ذلك المرشح الكريم يستهلك رأس المال جملة ليقبض فائدته تفاريق منجمة في أربع سنين - عدا السب والاتهام.
إذا قيل لك: إن ثمن «الصوت» بلغ الألف ليرة في انتخاب مختار فظن خيرا، وإذا سمعت أن واحدا طار من إفريقيا إلى لبنان ليرجح كفة الانتخاب، ليس إلا، فصدق أيضا ولا تظن شرا لأن المختار لا معاش له، وهب أن عينه بصيرة فيد المسكين قصيرة. أما إذا قالوا لك: إن فلانا يدفع عشرات الألوف من الليرات ليفوز بالنيابة ويخدم الشعب فلا تصدق أبدا. وخير الناس أن يستنيبوا شيطانا ولا يستنيبوا واحدا كهذا، والشعب الذي ينتخب رجلا لأنه أنفق وبذل لهو شعب يفهم الوطنية كما يفهم الكوسا والباذنجان في سوق النورية. أحر به أن لا يكون له نواب لأنه أحقر من أن يشهد عالي الأمر.
عجيب غريب! أذهب الحياء مرة واحدة حتى صرنا نتحدث عن ثروة المرشح كما نتحدث عن رأس مال شركة مغفلة. متى كانت النيابة صفقة تجارية؟ أتدفع لي حتى تنوب عني وتطالب بحقوقي، يا لها من شهامة ليس فوقها شهامة!
حقا إن الحب العذري ليس أسطورة كما كنا نظن، ولكن أي حمار يصدقك؟ إنك لتكونن تاجرا بل دلالا، ومن يدري إذا كنت لا تهتف في الجلسة بلا وعي: على أونا، على دوي ...
ربما اغتفر لحزب أو جماعة أو رجل أن يضحوا بشيء من المال ليفوز مرشحهم، أما إن شخصا يدفع هو، ليفوز هو، ثم يخدم الأمة بصدق ونزاهة فهذا ما أشك فيه ...
فإذا كان يعتقد أن الصيت الجيد خير من المال المجموع فها أنا أدله على صيت لا يموت. فليحبس هذه المائة ألف ليرة أو المائتين ويجعل ريعها لمشروع إنساني يحمل اسمه إلى الأبد، وله أن يكون إما نوبل الشرق وإما روكفلره، فدنيا البر والإحسان واسعة.
أما إذا زعم أنه يؤثر خدمة الأمة ثم أصر على هذا الهيام والغرام فقولوا له: أنت تاجر تدفع التسعة لتقبض العشرة ... وكل مشتر بياع.
16 / 2 / 51
دنيا يا غرامي
زعموا أن الضب يعيش بالنسيم، وأنا أزعم أن اللبناني يعيش بالسياسة وأن الحزبية عنده بنت عم الطعام والشراب والكساء، إن لم تكن ست الإخوة ... ففلان على «الغرض» هي الكلمة التي تدور على لساننا، الدالة على انقسامنا، إذ لا بد لنا - في كل شأن - من انقسام العرب عربين. ففي المدينة حيث الطوائف المختلفة تقوم الفتنة الكبرى بين الحيين، وفي القرية تكشر الحزبية عن أنيابها بين الحارتين، حتى تراهم في الكنائس حزب يسار وحزب يمين، وكل منهما يردد آمين ... وإذا كانت الضيعة عائلة واحدة فالمخاصمة واقعة - لا محالة - بين أبناء العم والإخوة.
يتلهون بالمختار ورئيس البلدية والناطور، ومتى حانت «زفة» النيابة تقف الحية على ذنبها، تلتف الأحزاب حول تلك العروس المكحولة العين، رجال تهدر كالجمال، وقرود تزمجر كالأسود، ولا تخلو المعمعة من أبطال يستحيلون حميرا يركب عليها بلا جلال ...
لا أتعجب من هذا، فكذلك كنا أيام «مجلس الإدارة»، كانوا يخطفون «مشايخ الصلح» كما يخطف الشباب العرائس، ويأخذون منهم «الأختام» عربون الخطبة، ثم يخفونهم في مكان ما حتى يوم الاقتراع، ومهما نسيت من ذيول حزبيتنا الهوجاء فلا أنسى معركة انتخابية انجلت عن مصرع ضابطين كبيرين فأطلقت الصحف على المنتخب اسم «العضو الأحمر».
كل هذا مر وحدث، أما الشيء الذي ما مر مثله على رأسي، فهو الاتهام بجريمة قبل وقوعها، فعلى هذا القياس لو استوزر وزير حربية الرب، الملاك ميخائيل، ونصب ذاك الميزان على عيني وعينك يا مرشح لا نعدم من يتهمه التزوير.
كان دعبل الخزاعي يتهم أبا تمام بسرقة شعره، فروى له محمد بن صابر الأزدي شعرا وقال له: كيف ترى هذا الشعر يا دعبل؟ فصاح دعبل: أحسن من عافية بعد يأس، فقال له الأزدي: هذا لأبي تمام، فأجاب دعبل: ولعله سرقه.
ما أصح قول الإنجيل في الوزارتين:
جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فقالوا فيه شيطان. وجاء يسوع يأكل ويشرب فقالوا: هو ذا إنسان أكول، شريب خمر، محب للخطأة والعشارين.
يقول المثل: امسك الجمل وخذ باجه، أما أن نشرب على ذكر «الحبيب» مدامة ونسكر بها من قبل أن تخلق الكرم، فهذا كثير ...
كثيرون هم المتعطشون لخدمة الشعب، ولكن بعضهم يخشون فوت هذا الأجر، فما عساه يعمل لتطمئن قلوب المغرمين الصابين إلى خلق جمهورية أفلاطونية؟!
أنا أقول: إن هذه الغيوم المسودة المتلبدة في آفاق الانتخابات هي من صنع الناخبين الذين يقولون لكل فريق: نحن معكم. فلو قطعت الطريق على هؤلاء الذين يلعبون على الحبلين، ثم لا يعلم أحد لأي «قديس» يصوتون، لعرفت كل عنزة قطيعها، وعرفنا القرعاء من أم القرون ...
22 / 2 / 51
امسح
أيها الناخب:
خذ حذرك فالتجارب كثيرة في هذه الأيام .
كانت تخبرني ستي أن «المسيح الدجال» - متى جاء - يحول الحجارة خبزا للجوعانين، ويصيرها ذهبا ليستميل البخلاء من الأغنياء، ويجعل منها نساء للذين لا يريدون خبزا أو ذهبا ... - وبعد ذلك يا ستي؟ - بعد ذلك ... كل شيء يرجع كما كان.
وهكذا يعمل كثير من المرشحين، فاحذر المسحاء الكذبة ... امسح أسماءهم.
كن شجاعا فما يكذب غير الجبان، انتخب القرود والعفاريت، شرط أن لا تقول لواحد: أنا معك، ثم تنتخب غيره، إنك تصير كالكثيرين من النواب إذا وعدت وكذبت.
يقول لك الرب في أولى وصاياه: أنا هو الرب إلهك لا يكن لك إله غيري، وهذا لسان حال وطنك فاعرف كيف تحبه وتعبده وتخدمه.
ويوصيك الله في إكرام أبيك وأمك ليطول عمرك على الأرض، فجير هذا المبلغ للوطن العزيز لتسعد فيه أنت وأولادك وأولاد أولادك.
يقول لك الله: لا تشته مقتنى غيرك، وأنا أقول لك: لا تشته فلوس المرشحين، فمن اشتراك أوقعك في الشراك.
يقول المثل: أطعم الفم تستح العين، فإياك أن ترتخي نفسك وتمد يدك ...
لا تغرك الألقاب على اختلاف أنواعها، ولا تخدعك الثرثرة الخطابية، فتش عن الشخصية المنيعة. الباطون يسلح بالحديد، أما الإنسان فيسلح بالوجدان، الضمير الحي إس هيكل الشخصية، توق أن توكل من يبيع «بيتك» بيعا باتا، بما فيه وله ويعزى إليه شرعا حتى العفش، فتصير يا مسكين أجيرا. قد يفتي العلم بالبيع، أما الوجدان فلا يئول ولا يجتهد ...
شلالات أماني ووعود ستصب فوق رأسك فلا تصدق، أنت تعرف حكاية من قال لصاحبه: قنطار مسك في ذقنك، فما ظن خيرا بهاتيك الكثرة ... رد قناطير مسك المرشحين إلى لحاهم ... فالزائد أخو الناقص.
الحذر الحذر. لا تقل لي: أصلحهم بالكلام، فالكلام والعواء صارا من وزن واحد عند أصحاب الجلود الغليظة.
النواب يا عزيزي، ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء، لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه، وطبقة كالداء، نجانا الله منه، فإذا لم تستطع أن تجعل قائمتك كلها غذاء، فعلى الأقل أبعد الداء ...
10 / 3 / 51
في اللاذقية ضجة
لا نسمع ولا نقرأ في معمعة الانتخابات إلا هذه الكلمات : إقطاعية وديمقراطية، أقزام وجبابرة، موالون ومعارضون، شيوخ وشباب، وجوه عتيقة ووجوه جديدة، دم جديد ودم عتيق، جامعيون وأميون، إلخ ...
عرف هذا البلد الإقطاعية منذ كان، واحتلت أسماء بعينها أسماع بنيه وأفواههم، رسخها التكرار في الأذهان حتى اعتقد أصحابها أن «المناصب» جاءتهم مع «ستهم» في الجهاز، وهي لم تخلق إلا لهم.
لست أجحد فضل البيوتات العتيقة؛ فاللبنانيون - وهم أعرق الشرقيين في الديمقراطية - كانوا ينتخبون أمراءهم منذ مئات السنين، ولما انقضى عهد هؤلاء أصبحوا ينتخبون مجلس الاثني عشر، ثاروا على الإقطاعية منذ قرن فأبادوها، ولكنها لم تقطع حتى فرخت، فكانت كالعليق الذي يصعب على البستاني استئصاله.
وبعد فليست الآفة في العروق القديمة، فما أكثر المخلصين الصالحين في كل طبقة، وليست مكارم الأخلاق وقفا على ناس دون آخرين بل الأصل عون متى صلحت النفوس، والمرء من حيث يوجد لا من حيث يولد.
قلت: إن العقلية اللبنانية مطبوعة على توقير الإقطاعية، وإليك البرهان: كان مشايخ صلح القرى ينتخبون أعضاء مجلس الإدارة الاثني عشر من الأقضية السبعة ليمثل كل عضو مقاطعته، وكان أحدهم الشيخ أسعد بو صعب، عضو بلاد البترون، شديد المعارضة للمتصرف فرنكو باشا، ويروى أنه أحوجه مرة إلى إبراز «فرمانه» في المجلس، وتساؤله في إحدى الجلسات إذا كان هو المتصرف أم أسعد بو صعب ...
ومرت الأعوام وراح فرنكو وجاء متصرفون آخرون غيره، وكانت دورة انتخابية فانتخب شيخ قرية تحوم الشيخ أسعد بو صعب.
وبعد الاقتراع سأله أحد زملائه شيوخ الصلح: من انتخبت؟
فاستغرب شيخ تحوم ذلك السؤال وأجاب كالهازئ: من انتخبت! من أنتخب غير الشيخ أسعد بو صعب؟!
فضحك هذاك وقال له: تبقى حياتك، ما عرفت بعد أنه مات!
فأجابه بكل بساطة: وكيف يكون المجلس وما فيه واحد من بيت بو صعب!
لعل الكثيرين منا يعملون اليوم ما عمله شيخ تحوم في الأمس، إذا لم ينتخبوا أمواتا، انتخبوا أشباه الأموات. كنا نسمع في ذلك الزمان أن فلانا مرشح المنطقة الفلانية، أما اليوم فالقوائم قائمة قاعدة، اللوائح لعبة شطرنج تفرزن فيها البيادق، وتفرش للمرشحين ، حيث شاءوا، النمارق.
يقول المرشحون المعارضون عن المرشحين الآخرين: إنهم هم هم، وكأنهم لا يرون أنفسهم أيضا هم هم.
فلنفتش عن الصادقين، فالبلاد ما عقمت، إن حبل الانتخابات ملقى على الغارب، فهل يخرج الناخبون من الصيرة؟ هل عرفوا أن أسعد بو صعب مات!
24 / 3 / 51
بياع موتى
في ذلك الزمان كانت الجثث أشياء مكرسة لا تمس، يموت الرجل ويلحق به آخرون وأخريات ثم لا يعرف ما بهم ولا ما بهن. وكان الطب كالسياسة تدجيلا، فما يقوله «الحكيم» هو الصحيح وإن كان رأسه خاليا من الحكمة ...
وأنشئت في لبنان كليات طبية ذات مختبرات، ولكن المادة تعوزها. فالأرانب لا تسد مسد الجثث البشرية التي يتعلم عليها الطلاب، واللبناني يؤثر أن يرعى دود القبر جيفة فقيده على أن يجود بها لخدمة الإنسانية، هذا حرام وعيب!
وظل رئيس الكلية متحيرا في الأمر سنين، حتى جاءه قبضاي، أخو أخته فتمت بينهما الصفقة الدائمة، وجعل ثمن كل رأس - كبيرا كان أو صغيرا، ذكرا أو أنثى - خمس ليرات إنكليزية رنانة، وانصرف القبضاي إلى تجارته الرابحة فاستحال رجل «أجر» لا يتخلف عن دفن ميت في جيرته، كأنه أحد أعضاء جمعية طوبيا البار ... يؤاجر في حمله ليكسب الأجر مزدوجا ... حتى إذا جن الظلام واختلط عاد إليه ليحمله في عدل إلى بيروت حيث يسلم جيفة ويستلم ذهبا.
وبعد سنة فتحت خشخاشة لاستقبال ضيف جديد، فإذا بالجثة الأخيرة قد طارت، فزعم بعض المؤمنين أن المرحوم كان رجلا تقيا فانتقل بالروح والجسد إلى السماء ... ولكن وقوع مثل هذه الحادثة في القرى المجاورة زعزع الإيمان، فأقاموا نواطير لحراسة القبور الجديدة، فعزت الجثث وقل الرزق ففكر صاحبنا كثيرا ولكنه لم يهتد إلى حل، وأخيرا هم باستشارة صديق على شاكلته فدعاه إلى سكرة.
وبعد: هذا كأس محبتك، وكأس شواربك، وصحة وهنا، تمشت الخمرة في مفاصل هذا الصديق، ثم دبت في عظامه فأمسى كما قال الأخطل:
صريع مدام يرفع الشرب رأسه
ليحيا وقد ماتت عظام ومفصل
فهبط الإلهام على القبضاي فجأة، وللقبضايات آلهة وحي كالشعراء، فصاح بالساقي : عجل يا صبي، هات لنا عربة قبل أن يموت الرجل، ثم ألقى صديقه السكران في حضنها، وطار به إلى الكلية.
وعرف البواب عزرائيل المختبر حين أطل فهتف أهلا، أهلا، أهلا، من زمان هذا القمر ما بان!
فكشر القبضاي وهمس: عجل افتح بلا أكل ... الناس واعون.
وتمت البيعة بالتسلم والتسليم، كالعادة، فبشر رئيس الكلية تلاميذه بقدوم جثة «طازه» بعد الغيبة الطويلة، ونام الجميع على سرور. ولكنهم عند الصباح لم يحمدوا السرى، فما فتحوا الباب حتى رأوا الفقيد قاعدا يدخن. وبعد أن حلت عقدة الرواية أطلق الرئيس سراح الجثة ...
هذي هي حال بعض سماسرة الانتخابات اليوم، يبيعون البشر صحاة وسكارى، يقبعون في بيوتهم أربع سنوات ولا شغل لهم ولا عمل، يستدينون ويقترضون من هذا وهذاك على أمل الوفاء عند طلوع هذا الموسم ... فها هم ينتقلون من باب إلى باب، لا فرق عندهم بين دستوري ووطني، من أخذ أمي صار عمي ... وكل مكان ينبت «المال» طيب ...
يوم الأحد القادم ينبش الأخ وأخته قبور البيوت، ويحمل الأموات على ظهره إلى قاعة المختبر، عفوا بل يسوقهم أمواتا كالأحياء، وأنعاما إلا أنهم بشر.
إذا كنت قرويا مثلي ورأيت حركة سماسرة الانتخابات تذكرت جلابة البقر في أول الري ...
7 / 4 / 51
أمضي وتبقى صورتي
هذا البيت الذي كتبه الشيخ ناصيف اليازجي تحت رسمه سيكون غدا لسان حال من يتعثرون بأذيال الخيبة، ستبقى صورهم مصلوبة هنا وهناك لتجدد الأحزان وسوف تبقى حتى يأكل النور والهواء آخر خط من خطوطها، وهكذا تتلاشى نفسا في نفس، ستصير مجلبة للمرارة والآلام بعدما كانت للاعتداد والاعتزاز، سينظر إليها الأنصار والأصحاب نظرة الأم المفجوعة إلى ثياب ابنها الوحيد.
نزعت الحكومة اللافتات بعدما تردت ثياب الدعوة حمرا، أما الصورة فأبقتها عملا بقول ابن الرومي لصاحب تلك اللحية المبروكة:
أو فقصر منها، فحسبك منها
نصف شبر علامة التذكير
الانتخابات حرة، وهذا أمر لم يخامرني فيه ريب منذ قيام الساعة، ولكن هل عندنا الناخب الحر؟ وأين يكون هذا؟! هل أنا حر؟! أشك حتى في نفسي.
رحم الله الدكتور فانديك ، أما أكل خمس كبات في صيدا بعد الشبع، وكل واحدة شبر! أكل واحدة إكراما للبنت التي شفاها طبه وأقيمت المأدبة على شرفه وسلامتها، وأكل كبة ثانية لعيون أمها الناعستين، وثالثة إكراما لشوارب أبيها، ورابعة إكراما لأخيها، وخامسة إكراما للمدعوين.
ولما بدأ بطن الدكتور يتقدم عليه في المجلس خف إلى حيث حماره القبرصي، وركبه قبل أن يصير في الشهر التاسع ... ولكنه ما قطع بعض الطريق حتى أدركه المخاض فاستلقى تحت زيتونة، ولما أفاق وهم بالمسير عرض المكاري حماره على الماء فشرب حتى اكتفى، فتقدم منه الدكتور وهز رأسه قائلا له: «كرمال» البنت اشرب، «كرمال» أمها اشرب، فأبى الحمار، وكان في كل مرة يومئ برأسه أن لا، فصاح به فانديك عندئذ: أنت أذكى مني يا حمار!
هذي حالنا يا سادة، والوعي الذي تمجدون حديث خرافة ... عبثا نترجى انتخاب يبيض الوجه ما دام فينا أناس تشترى وتباع، وما دام هنالك أناس رءوسهم خفيفة يدورون مع أقل نسمة كدواليب الهواء.
أجل ما دام في لبنان أناس يبيعون نفوسهم، ونفوس غيرهم بجراية فلا ننتظر نتائج باهرة! بلى فلننتظر، فلننتظر أن يقال غدا: انتخابات مزورة.
الناخبون يكذبون مرة كل أربع سنوات على من يكذبون عليهم كل يوم مرة في أربع سنين ... ولكنها كذبة واحدة بألف.
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ، تلك هي حال الناخبين مع المرشحين، صدق الله العظيم.
14 / 4 / 51
آخر حجر
فرغ جراب الانتخابات، والحمد لله، فهذا آخر حجر نرمي به الجوزة.
يقولون: دم جديد، وجوه جديدة، وعي ولا وعي، وما أرى الواعين والغافين إلا متساوين بالعظمة والكرامة ... لقد أرتني الانتخابات أن ما يتغنون به من مبادئ وعقائد ليس إلا ألفاظا جوفاء.
وما مثله إلا كفارغ حمص
خلي من المعنى ولكن يفرقع
أراني شطرنج اللوائح الانتخابية أن المنصب هو الغاية، أما الواسطة فيبررها الوصول، حتى صح بالكثيرين قول الشاعر:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
وأما الوعي فعنعنات محلية تدركها اليقظة الكبرى في هذا اليوم العربيد، فتقذف النفوس الحقيرة حمم الضغن والحسد يخالها المرشح حماسة تقدمية لم تكن لولا سواد عينيه.
ليته يدري أن شعبا يطير شقاقا لأجل بطلين كدياب بن غانم والزناتي خليفة، ويتناقر حول ديكين، لا يتورع عن أن يتصارع حول رجلين يتنازعان ملاءة النيابة، إنه ليس أقل إيمانا بأعاجيب النواب منه بعجائب أبونا شربل!
أجل، ليس لرقي البلاد فارت قدور الناخبين بل لحزازات ملأت القلوب قيحا، وساعة الانتخابات أنسب فرصة لفقء الدمل وحك الجرب.
هكذا كانوا وما زالوا، وهكذا يظلون ما دامت العوامل والبواعث هي هي، طائفية عمياء، وحزبية صماء ومآرب خرساء.
كان الأمير مصطفى أرسلان ونسيب بك جنبلاط يتنازعان قائمقامية الشوف، وكان الناس حولهما حزبين، فتقوم الأرض وتقعد حين يولى أحدهما ويعزل الآخر. وبلغ الأمير مصطفى مرة أن أحد الناس في القرية الفلانية عمل ما لا يعمل يوم منح الأمير رتبة «عطوفتلو بالا»، فهزته أريحية ذلك الرجل فدعاه وقال له: يا فلان، بارك الله فيك، أفضلت وكثرت، أنا لا أذكر أنك قصدتني وقضيت لك غرضا.
فأجاب الرجل: لا تستح مني يا سيدنا المير، قل لي ما رأيت لك صورة وجه قبل الساعة، يشهد علي الله وعطوفتك إني ما قوصت ولا زينت إلا نكاية بابن عمي لأنه من حزب غيرك. القصة بيني وبين ابن عمي، وعطوفتك صاحب الفضل لا أنا؛ لأنك خلقت لي فرصة مواتية أفرك فيها أنفه ...
على هذا الناموس سار اللبنانيون أمس وسيسيرون إلى حين. إن أكثر ما أقيم من حفلات تأييد صارخة كان للنكاية والظهور لا لشد الظهور.
ما بيض وجه لبنان واستحق شكره إلا «الحكومة»، ليتنا نفكر بما يخلد ذكرى هذا الجميل.
28 / 4 / 51
إلى النائب
جاء دورك يا سيدي الكريم. القبة معدة لتجلس تحتها سعيدا، والعز لله، فلا تنس أنك خادم الشعب، هلل أنصارك وما زالوا يهللون، ولا أخالك تجهل ما تخبئ لك الأيام تحت التهاني الحارة والهتاف الحاد بحياتك وحياة المرحومين آبائك وجدودك!
غدا أو بعد غد تعود إلى أعتابك هذه الجماعات فرادى وثني، ولكل واحد مطلب ومأرب فلا تغلق بابك بوجوههم، ولا تكن حاتمي الوعود. احذر لفظة «تكرم» وعلى رأسي قبل عيني، سلم رأسك وعينك، ووقاك الله مصيبة كافور الذي جعله شاعره سخرية الأجيال.
أنت لبناني فلا تنس ما جاء في المثل: وعد بلا وفا عداوة بلا سبب، فما لك والوعود؟ احذرها لئلا تسمع الآية:
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين .
في الكلام المأثور: وعد الحر دين، فكن ذلك الرجل لئلا يشطب اسمك من جدولهم، وأنت أدرى بعواقب «الشطب» لأن طعمه ما زال تحت أضراسك ... قال الشاعر:
إذا قلت في شيء «نعم» فأتمه
لأن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل «لا» تسترح وترح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب
لا تحسبن الشعب مغفلا، أما امتدحت «وعيه» حين انتخبك فكيف تنسى! كثيرا ما سمعته يحدث بعضه بعضا: إذا كان فلان وعدك نم على صوف، أما إذا كان وعدك فلان انتظر يا كديش ... فلا تجعل الناخب ألعوبة تتلهى بها، لا تخرب بيته بوعودك الكمونية فخير من الأمل الكاذب يأس مريح. دعه يفتش عن رغيفه في غير معجنك.
ليتك تسمع مني وتعين موعدا لاستقبال الملتجئين إليك، ولا تقتلهم صبرا في قاعة الانتظار. إن صاحب الحاجة أرعن فافتح له بابك الآن ليفتح لك قلبه غدا، واصرفه بالتي هي أحسن إذا كنت غير مستطيع.
إياك والقول له: غدا، ارجع بعد جمعة. لا تقل له: القضية انتهت وهي لم تبتدئ بعد، فحبل الكذب قصير.
إني لأعذرك فيما أعنفك، بل أرثي لبلواك، فكل من ألقى ورقة في صندوقة يحسب أنه هو الذي أوصلك، فنصيحتي لك، وخصوصا متى صرت «صاحب معالي» أن تجعل همك المصلحة العامة؛ لأنك لا تستطيع إرضاء كل فرد، الظلم بالسوية عدل في الرعية.
كثيرون منا لا ترضيهم كلمة لا، يريدون أن تقول لهم: نعم، ولو كنت كاذبا، فعلمهم - وهذا خير ما تعمل - أن الكلام يكون إما نعم نعم، أو لا لا.
الوصول يا حضرة النائب هين، أما الإرضاء فمشكلة المشاكل.
أسأل الله لك العون على الأعوان وعدم «الحل » قبل الأوان!
4 / 5 / 51
يساق
إذا كان الانتظار يضيق الصدر في العراء فكيف به متى كان في غرفة لا تتجاوز خمسة أذرع طولا في أربعة عرضا، حركة بلا بركة، ياور يروح ويجيء تطربه خشخشة مهمازيه، وصلصلة سيفه؟!
كان يطل علي كل ربع ساعة ليرى كيف أنا ومفتاح الفرج، فأبتسم حين يظهر، فتموج البشاشة تحت جلدة وجهه السمراء ولا تجرؤ على الظهور، أما فمه فما كان يمثل لي أكثر من شق التينة، وغاب ثم آب فما شعرت إلا أني قلت له: من عند أفندينا؟ فحملق أولا ثم ثاب إلى حاله وأجاب: عنده ... عنده ... ثم عبس وتولى.
فأثبت في مستنقع الصبر أرجلي
وقلت لها من تحت أخمصك الحشر
وبينا أنا في حيرة الواقف عند مفرق الطرق لا يعرف أيتها يسلك، إذا بصوت عريض يملأ الرواق. واقترب فسمعت تلك الشخرة والنخرة، فقلت: هذا صوت البيك، إن صدق الظن، نعم هذا هو، أهلا بسعادة البيك!
وقعد سعادته وقال وهو يلهث: الدرج حرق ديك أنفاسي، فقلت: يا بارك الله عظامك حاملة فوق قدرتها.
وجاء القولاغاسي مسلما، فأشار البيك بيده نحو قاعة المتصرف مستفهما، فأجاب سعيد بك: يساق. وضحكا حتى انفلقا، أما أنا فضحكت على الريحة.
ولملمت موجة المرح أذيالها فقال لي البيك: رأيتك ضحكت معنا كأنك تعرف الحكاية. فأجبته: لا. قال: إذن سماع. ثم انشق فمه كعادته ساعة يقبل على القص، قال: يظهر أن عند الباشا واحدة حلوة فاسمع حكاية يساق كما سمعتها أنا في سطمبول.
دخلت على وزير الحربية في ديوانه أرملة أحد قواد الترك في حرب اليونان، ومعها صبي يدرج، فقال الوزير للحاجب: يساق، وأغلق الباب.
وأخذ أصحاب المصالح يتوافدون فما فازوا بغير كلمة يساق. وخلا للوزير الجو فراح يبيض ويصفر، كقبرة كليب، وراح الصبي يسرح ويمرح في الديوان. أعجبته أزرار النواقيس فراح يكبس عليها متنقلا من هذا إلى ذاك، وما درى الغر أنه يدعو الناس إلى حضور الرواية ...
جاء مدير ديوان الوزارة، ثم جاء الوكيل، ثم جاء وجاء الرؤساء وتكاثروا على الحاجب ولكنه ظل يقول : يساق.
وأخيرا أقبل أركان الحرب، وهم يحسبون أن ساعة النفير العام قد دنت، ولكنهم صعقوا حين رفس الباب ورأوا أنفسهم أمام صبي يلاعب الأزرار، ووزير يداعب ذات الإزار ... أما أصحاب المصالح ففي الانتظار! وقد قال الشاعر:
ليس الشفيع الذي يأتيك متزرا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
8 / 6 / 51
حول البكالوريا
إذا كنت لا تعرف كيف تحشى «المقانق» فاسأل من يعرفون يقولوا لك: إن لها قمعا تدك به، فتكون كقطائف ابن الرومي المحشوة حشو الموز ... وإذا كنت لم تفهم جيدا فما عليك إلا أن تدخل صف بكالوريا وتتسمع إلى ما يلقيه أستاذ الأدب العربي، أو يمليه ...
أسعدني الحظ منذ أيام، فقرأت بضع عشرة ورقة من موضوعات البكالوريا، فكانت ساعات ضحك قد لا يتيسر مثلها في رواية كشكشية. تلاميذ يهرفون بما سمعوا من معلميهم، فسودوا صفحات يزعمون أنها تبحث في «خصائص الشعر الجاهلي»، وما هي غير حكايات ملمومة من هنا وهناك وهنالك، اكتشفها أستاذهم الأثري في مجاهل الكتب وفيافيها وهكذا قالوا لنا كل شيء ما عدا خصائص الشعر الجاهلي.
استنتج أحد هؤلاء الطلاب النجباء أن البصل كان معروفا في الجاهلية؛ لأن امرأ القيس قال:
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
واستدل ثان على أنهم كانوا يعرفون الزيت والفتيل والسراج بدليل قوله أيضا:
أمال السليط بالذبال المفتل
وقال ثالث: يظهر أنه كان عندهم «سياخ شك» لأن النابغة قال:
سفود شرب نسوه عند مفتأد ...
وقال آخر: يظهر أنهم كانوا يأكلون اللحم بلا خبز، ولهذا لم يأت امرؤ القيس على ذكره في «علفة» دارة جلجل ... - اسأل معلمك يا بني، يظهر لي أنه من غير أكالي الخبز ...
وأخيرا قال طالب: فلنكمل استشارتنا، فضحكت وقلت لرفاقي المميزين: يظهر أنه ابن نائب مستوزر.
أما في موضوع أبي فراس فراح تلميذ يدافع عن «أيضا» في قول الشاعر:
الشعر عنوان الأدب
أيضا وديوان العرب
فزعم أنها دليل على عدم التكلف، لا كما زعمت أنا مرة، ثم قال: فهو لو أراد التنقيح لما فاته أن يقول: أبدا وديوان العرب، فتأمل ذوق معلمه الذي جاء بأبشع منها ...
أما من حيث سلامة التركيب فاحلف يمينا أنني ما قرأت صفحة خلت من أغلاط نحوية وصرفية ولغوية، أما البلاغة فما أخال أنهم سمعوا بها.
فمن الملوم يا ترى؟ أوزارة التربية أم المنهاج؟ لا هذا ولا تلك، المدارس وحدها، هي المسئولة، فعليها أن تختار معلمين عارفين بالأصول، وذوي حاسة شم وذوق ليشموا الأدب ويذوقوا طعمه.
أما المواضيع التي تطرح عليهم فأكثرها عام شامل لا يحوج الطالب إلى التفكير؛ ولهذا نراه يقذف إلى الميدان بجميع ما حشد في ذاكرته من جيوش معلومات دربه معلمه على قيادتها ليفتحا بها قلعة البكالوريا ...
ما أشبه طلاب اليوم بكباش «القورما»، وما أشبه المعلمين بالنساء اللواتي يعلفنها النخالة والكرسنة المجروشة لقما لقما، وكما تنتظر المرأة يوم الذبح لتنافس جاراتها بما أحرزت من شحم ولحم، كذلك ينتظر أرباب المعاهد يوم البكالوريا ليتنافسوا بالكم لا بالكيف ...
إن ثقافتنا لفي خطر، فلا حول ولا ...
كذب الله ظننا حتى لا نقول: إنا إلى الله.
25 / 6 / 51
نامت نواطير مصر
جاء في المثل: الذي لا يصيف لا يشتي، أما الحكومة فبعكس ما قيل، قد أعطيت الفرصة للعمل فوضعت يدها على المحراث، وما دامت همة رئيسها في صعود فنجمها في سعود.
إن فرصة الصيف مؤاتية يا دولة الرئيس، فالنواب يرفضون عنك، فيخلو لك الجو وتتغداهم قبل أن يتعشوك ...
غدا - على أبواب الخريف - يأتونك مساومين، وكأني أسمعك تقول لهم: السعر محدود، عمل بثقة، وكأن جوابهم يرن في أذني: إن تمض نمض، فتجيبهم: نمضي ولا نمضي!
إلى الأمام ولا تكن إلا عبد الله، استلهم ماضيك يشتد ساعد آتيك.
لقد بدأت بحصد الحشيش قبل إبانه، فمتى تأتي نوبة الطفيليات المعرشة على الجذوع؟
سألت الوزارات عن السيارات لتعرف من هم الذين يركبون على حساب الدولة، فليتك تقف ساعة من زمان في المحارم لترى المئات منها، إن زعانف كثيرين من المأمورين يركبون ونحن ندفع أجرة الخان ...
يقول المثل: المال السايب يعلم الناس الحرام، فكيف بمن خرجوا معلمين من بطون أمهاتهم؟! أمثل هؤلاء يؤتمنون على الأموال؟ أيوكل الهر بالجبن ؟! اقطع دابر هؤلاء، لقد مشيت فلا تقف، العتبة نصف الدرب.
إن آفة الدولة هذا الدود العلق، فالبراغيث تتخبأ في جيوب الأردان وتمتص، أما هؤلاء فوقاح ... يكرعون على عيني وعينك يا تاجر.
ويلمها خطة! صرنا في زمن يقول فيه الناس عن المأمور النظيف: مسكين! هذا إذا رحموه، وإلا فإنهم يقولون: أذنه شبر ونصف ... أما الذي يسرق الكحل من العين فيقال عنه: شاطر، ابن حرام، مقطع وموصل، ينزع الدبس عن الطحينة، فإذا شئت أن تسلم الخزينة فابعد أمثال هؤلاء عن وكورهم تسلم الدولة.
وأما وقد سألت عن الشرطة الذين يستخدمون في بيوت أكابر الموظفين، فليتك تسأل عن موظفين صغار يخدمون موظفين صغارا مثلهم. إن الصيد كثير! وكيفما اتجهت وتوجهت تفر من أمامك الطرائد، فارم ولا ترحم.
اسهر أيها الناطور، لا تنم فالثعالب والضباع كامنة تجس النبض ...
لقد عممت فخصص، قلت فافعل، فكل وجعنا من الحبر والورق.
9 / 7 / 51
امسك بذنب الحمار
لا أذكر أين قرأت هذه الحكاية التي تحث على مكافحة الجهل والأمية:
قعد صياد يستريح على مفرق طرق فإذا بمكار يسوق حمارا كهلا، ولما بلغ المفرق وقف متحيرا لا يدري كيف يتجه، فقال للصياد بذلة السائل: أية هي طريق البلدة الفلانية؟ فدله على الحجارة المنصوبة - الصوى - لتهدي الناس سواء السبيل.
فازداد المكاري حيرة وابتسم ابتسامة صفراء وقال للصياد: ولكنني أمي يا سيدي لا أقرأ ولا أكتب.
فأجابه الصياد ساخرا: امسك بذنب حمارك ولا تفلته، وهو يقودك.
نحن في لبنان لا نشكو هذه الأمية ولكننا صرنا نشكو «أمية الشهادات»، فهي لا تعبر عند الكثيرين من حامليها إلا عن أمية مركبة كحمار موسى الذي قال: لو أنصفوني كنت أركب، فأنا حمار بسيط وصاحبي جحش مركب.
إن هذه الشهادات لحمل ثقيل على أكتاف حامليها، فلا هي تطعمهم خبزا، ولا هي عتاد للكفاح؛ لأنهم يتعلمون لاجتياز الامتحان لا ما ينفعهم بنافعة، فإذا حملوا تلك الورقة بيمينهم رأوا أن في يدهم ورقة ليس غير، وإنهم كذلك الأمير الذي قال فيه الشاعر:
من آلة الدست ما عند الأمير سوى
تحريك لحيته في حال إيماء
وإذا سألت طالب عمل من هؤلاء الشباب: لماذا لا تبتغي غير الوظيفة، أجابك أنه حامل بكالوريا! وهل يليق بحامل البكالوريا غير الكرسي؟!
فآه وألف آه من الكراسي! فأي أفضل يا صاحبي، أأن تكون بائسا وعبئا ثقيلا على أبيك الذي أنفق كل ما يملك مترجيا أن تكون له عكازا لشيخوخته، أم أن تعمل عملا شريفا تستغني به عن إرغام أنفك.
حكي أن «شيخا» افتقر وباع ما ورث من عقارات حتى أثاث بيته والفرش، ولم يبق له غير بلاس ينام عليه هو والشيخة الجليلة، وأما اللحاف فمهلهل.
وفي ليلة باردة جدا قال الشيخ للشيخة وهو يوحوح ويقضقض كمن نفضته الحمى: إذا كانت هذه حال المشايخ؛ فكيف تكون حالة الفلاحين المساكين؟
هذه هي عقلية حامل البكالوريا في لبنان وغير لبنان، فليت الحكومات تشدد - بعد أن تعدل مناهجها وتجعلها مسايرة للحياة - لكيلا يجتاز الامتحان الصارم إلا الطويل العمر.
6 / 8 / 51
الشيطان والبيضة
حكي أن راهبا نفسه رخوة وبطنه عزيز عليه، فما استطاع أن يعيش سبعة أسابيع على الطعام القفار، كان يحب «الزفرة» حبا جنونيا، وكانت وظيفته «رئيس حقلة» في أملاك الديورة، ومن بروتوكول رئاسته تلك الإشراف على «قن» الدجاج وجمع البيض وادخاره ليوم الفصح المبارك.
وفي ذات ليلة من ليالي جمعة الآلام المقدسة هاجت قابليته وماجت، فكان نضال عنيف بين الأخ جراسيموس وشيطانه الذي يجر به، قالت له نفسه: كل ولا تخف، فأكل بيضة، أي خطية هو؟
فارتمى الأخ المكرم على فراشه وأجاب نفسه الأمارة بالسوء: اسكتي يا منافقة! أتشبعك بيضة؟! بعد غد كلي حتى تنبشمي.
ولكن الأخ لم يثبت في وجه عاصفة التجربة، فراح يفكر كيف يأكل البيض، فهو لا يعجبه نيئا. أيقليه؟ فالريحة تفضحه، أيسلقه؟ فلا إناء عنده ولا نار، وبينا هو يتبحر في حل هذه المعضلة الدولية إذا بها تنحل بغتة كالأنشوطة، فقام إلى البيض وانتقى إحدى العتاق الكبار لأن تقشير العتيقة أسهل، ثم راح يشويها على لهب الشمعة، وفيما كان يقلبها بعناية فائقة إذا برئيس الدير العائد من قضاء حاجته يشم قتار قشر بيض، فوضع عينيه على ثقب في الباب غفل الأخ جراسيموس عن سده فرآه على تلك الحال فقرع الباب وصاح: يا أخي جراسيموس، بأمر الطاعة افتح.
ففتح الباب وخر الراهب إلى ذقنه وقال بانكسار: اغفر لي يا محترم، من أجل المسيح.
فقال له الريس: كنت صبرت يومين يا خي جراسيموس، وربحت أجر صيامك.
فتمتم الراهب وقال: اغفر لي يا محترم، من شأن المسيح، الشيطان جر بني.
فصاح الشيطان القابع في الزاوية: لا تصدق يا محترم، أنا تعلمتها منه.
حقا إن ما نقرأ اليوم من مختلقات عشاق الكراسي من مستوزرين وغيرهم ليذكرنا بكلمة الشيطان لريس الدير فإخوة الأخ جراسيموس لا يمهلون حتى يجيء الفصح فيأكلوا حتى تنتفخ بطونهم، وإن كانوا لا يعرفون الشبع.
مصيبتنا كبيرة جدا في هذا البلد كلنا نشتهي أكل البيض يوم الجمعة الحزينة، فنلجأ إلى أخس وسائل الطهي ... ونأكل البيضة مشوية ولو حرقنا أصابعنا ...
إن ألسنة هؤلاء أشد إحراقا من لسان شمعة ريس الحقلة، ومع ذلك لا يعترفون مثله قائلين: جربنا الشيطان.
19 / 8 / 51
راهبات بونا حنا
كان الأب يوحنا مرشدا وقيما لراهبات دير في مكان قفر، يوم كان الرسول ينقل الأخبار والحوائج. كان المحترم يركب بغلة الدير مرتين كل جمعة ليتحوج من المدينة، ثم يعود مساء وقد أعيا ككل من اكتهل وشاخ، فتلتف حوله الراهبات ليتسقطن أخباره الطرية، فلا يكاد يجيب حضرته على سؤال حتى ترشقه الأخرى بآخر، فيرزح تحت أثقال ألسنتهن وتظل حرب الكلام قائمة على ساقها حتى تفرغ جعبهن، وهيهات ...
اختلى الأب بصومعته وشرع يقلع ثيابه فسمع نفسه يقول بدون تفكير: صحيح أن لسان النسوان طويل! إذا كانت هذي حالة الراهبات فكيف تكون حال اللواتي لم يكن لي حظ مخالطتهن! ثم أرسلها زفرات حرى في إثر الشباب الذي راح!
وراح يفكر في حيلة تكفيه شر هؤلاء، فكان كلما خلع قطعة من ثيابه تقفز من تحتها فكرة، فيظهر الاستهجان بقول: هء، لأ. وأخيرا استلقى على فراشه، وتذكر صلاة المساء والليل فجثا يتلو فرضه على ضوء ذبال المصباح المفتل. وكانت تتخلل الصلاة أفكار وخيالات فيكشها بيده كما يكش الذبان، وانقضت الصلاة ونام الأب نوما قلقا، ولكنه ما عط هنيهة حتى استيقظ ضاحكا لما اهتدى إليه من حيلة يقطع بها ألسنة الراهبات.
فقالت له نفسه: ما لهؤلاء الزاهدات وأخبار العالم! فلولا قصد إبعادهن عن شئون العالم وشجونه ما بني لهن الدير على رأس هذا الجبل الأقرع.
وغل المحترم في فراشه وهو يقول: هي هاي يا بونا حنا ... وصلت ... هذه نكتة لو سمعها «سيدنا» لعملك مطران أبرشية ... وهناك تستريح وتغرق في نعيم وتخلص من هذا الأسكيم ...
وبعد مرور أسبوع من تاريخه عاد الأب يوحنا من المدينة كعادته، فما وقفت به البغلة على بوابة الدير حتى كانت الراهبات في الانتظار ... ولما رأين على وجهه ابتسامة مفلطحة استبشرن وهزجن كالصبيان: أهلا وسهلا، معك خبر مليح يا بونا حنا، هات ... عجل ... وانشق قمر بونا حنا ولاحت أسنانه الصفراء، وقال: يا قرود السود! أمهلوا حتى نتنفس. فصاحت إحداهن: عجل يا بونا حنا، ورددن جميعا هلق، هلق، هلق هلق ...
فصاح الأب يوحنا بعدما صلب على وجهه والتفت إلى السماء: طيب، اسمعوا: صدر أمر من سيدنا البابا أن كل راهبة بوزها صغير تحل من النذر وتتزوج.
فصرت الراهبات شفاههن وهتفن بصوت واحد: صحيح يا بونا حنو ... ثم سكتن كأن على رءوسهن الطير ...
وكانت الرحلة الثانية إلى المدينة والعودة، وكان الاستقبال والاستعلام عن الأخبار كالسابق فقال الأب حنا لأخواته بالرب: الخبر الماضي غلط، أما الصحيح فهو أن كل راهبة بوزها كبير تحل من النذر وتتزوج، فانفتحت أشداقهن كمغارة نهر الكلب، وصحن جميعا: صحيح يا بونا حناه.
تلك حالة أصحابنا الطامعين بالزواج من الدولة فهم يغلقون أفواههم ويفتحونها على مصراعيها كما توحي إليهم شياطينهم ... ولكنهم سيبقون في الدير؛ لأنه ليس من يطلب أيديهم.
فما أكثر المدعوين وأقل المنتخبين! وكم يؤدي حب الرئاسة إلى التنكر للكياسة ...
2 / 9 / 51
أدواء بلا دواء
في كل يوم نسمع نشيش مقلي الوزارة، فلا تسخن الكراسي حتى يحلم بها آخرون، ويحاولوا أن يزحزحوا الجالسين عليها، سواء أحسنوا أم أساءوا، فكأنما الوزارة في لبنان أشبه بلعبة: وسع وسع.
ولماذا لا يحلم كل واحد بالوزارة عندنا ما دامت النيابة آلة الدست.
حكي أن أحد كتاب ديوان المأمون قد جود خطه ونمق إنشاءه، ثم عرض الرسالة على الخليفة ليوقعها، فأعجبته صيغتها وصياغتها، فقال له: إنك تطمع بوزارة ... أما عندنا فما أكثر الذين يطمعون بها دون تجويد خط وتنميق إنشاء ...
أما الميزانية فحبل يمسك النواب بطرفيه، وكل فريق يشد صوب صدره، والنائب البطل، من أية جبهة كان - وكل الجبهات في هذا سواء - هو من يغنم الحصة الكبيرة، ويرضي بها من انتخبوه.
عندنا طريق، تخلع على زوارنا البرانس البيضاء، بلا ثمن، فلو كنت نائبا لما زفتها فقط بل كنت أخذت ثمن تيني وعنبي وثماري أضعاف ما هو، ولكني لست بنائب، ولهذا يصح بي قول الشاعر مع بعض تحريف:
المرء في زمن «التصويت» كالشجرة
والناس من حولها ما دامت الثمره
حتى إذا راح «يوم الانتخاب» مضوا
وخلفوها تقاسي الحر والغبره
أما مياه الشرب فشعار أصحاب الأمر والنهي: نسقيك بالوعد يا كمون.
فلتحي البئر، ولتحي السماء.
ما أحراني أن أقول مع بشار: أصبحت مولى ذي الجلال ... ولكنني أخاف ألا يكون لربنا في هذا البلد إلا ما كان له في حكايات مصرية.
حكي أن أربعة مختلفي الألوان كانوا يعربدون في الشوارع ليلا، فأدركهم العسس وعلقوا يسبونهم جملة. ثم عاد آمر الفصيلة إلى التفاريق فكز وكشر وسأل أحدهم: من رعايا من أنت؟
فتطاول هذا وأجاب: أنا إنكليزي.
فتوارت التكشيرة حالا، واقترب منه بلين، وبعد أن زوده بنصائح كأنها الاستعطاء أخلى سبيله.
وأقبل على الثاني يستجوبه فقال: فرنساوي، فوبخه بعنف ثم خلى سبيله. ومال على الثالث مستفهما، فقال الرجل: أخص القنصل الفلاني، فشتمه أعنف شتم حتى ذكر أمه، ولكنه أخيرا أخلى سبيله، فلحق برفاقه.
أما رابع الثلاثة - وهو مصري من أولاد البلد - فأعجبه أن يجيب: أنا من رعية ربنا.
فانهال عليه بالكرباج وقال سوقوه إلى الحبس، فصاح الرجل بينما كان السوط يلحس قفاه : دا زمان زفت، صار ربنا فيه أقل من قنصل.
أما أنا فسأظل مولى ذي الجلال - أي من رعية «ربنا» - ولا أطلب غير ملكوته وبره ...
29 / 9 / 51
سلوها لماذا
سلوها لماذا غير السقم حالها ...
مطلع قصيدة قالها الشاعر العربي الكبير عبد الحميد الرافعي، رنت هذه القصيدة وطنت حين أنشدها الفونوغراف، وما كان أعظم غبطتي حين تعرفت بقائلها في «سير»، مصيف الضنية المشهور.
لم أكن احترفت النقد بعد، يوم تلاقينا، فسألني - رحمه الله - إذا كنت قرأت أرق منها. فقلت: أما أرق منها فلا، أما في ميوعتها فنعم.
فأجاب بامتعاض كالغضب: تقول ميوعة؟! قلت: نعم، وأكثر ... فما قولك في من يقول: «لقبلت حتى بالعيون نعالها»؟
فوجم الشيخ وأغضى، ثم قال: إذن عدها من هفوات الشباب، فقلت عاطفا: وأرق شعر عربي لم يقل البحتري أصفى منه ديباجة.
فتبسط إهاب وجه الرافعي بعدما تغضن، وراح ينشدنا من روائعه.
أقسم لك يا قارئي العزيز، وليس لك علي يمين: إن بيت الرافعي المائع قد أصبح اليوم عسلا وسكرا ... إن قائله ذكر، والذكر عادة يكون أقل حياء وأكثر وقاحة من الأنثى، فما نسمعه - في أيامنا - من مثل هذه الأقوال التي تبث وتذاع، ليلا ونهارا، ليندى له وجه الفحول العتاق، فكيف بوجوه العوانس والنساء، والعذارى المراهقات. - أنا بحبك، أنا دايبة، متى تجي يا حبيب قلبي، رايحة أموت. - موتي، للقرد العمى في قلبك وفي قلب مين يصغي إليك، لا أقول في قلب من يرخصون لك بإنشاد مثل هذا الكلام؛ لأنه ليس لهؤلاء قلوب.
إن بلدا لا يعنيه إلا حديث البطن وما دون ... فليس بالبلد الذي سيكون بألف خير ... فارفقوا بصغارنا أيها الكبار العقول، وقبل أن تراقبوا السينما راقبوا ما يذاع ويسمع في قدس أقداس البيوت.
ستقولون: هذا ما يطلبه المستمعون، الحق معكم، فكم يسمعنا السواقون - غصبا عن رقبتنا - أمثال هذه الأغاني، وكم من مرة سمعت السائق حين يجيء دور حديث يصرخ: طق حنك، ويرد الباب على المحدث فلا يحدث إلا نفسه.
فما علينا - إذن - أن نفعل؟ وأما علينا رفع الجمهور - بوسائل عديدة - إلى مستوى حديث العقل والقلب معا؟ أما على الإذاعة اللبنانية أن تؤلف لجنة لتنتقي للمستمعين أحاديث طلية جذابة فتحولهم عن إيثار الكلام الرخيص، وعن سماع نساء وبنات يصرخن من أعماق الأعماق: أنا بحبك، تعال يا حبيبي، تعال يا روحي ... - تسلم روحك يا بنت خالتي! خلا لك الجو فبيضي واصفري.
الحياء في النظر ...
25 / 10 / 51
في المطار
من يحزر ماذا اشتهيت لما دخلت المطار، ورأيت لبنان يحدث دول الأرض كأنه وإياهم في سهرة عائلية؟
قلت يا ليتني أجلت مجيئي إلى الدنيا نصف قرن، أنا واثق أن أحفادي الذين لا يزالون في ظهر الليالي سوف يضحكون من تعجبي الآن، كما أضحك أنا من جدي الذي هبط إلى بيروت راكبا جحشا ابن أتان ليتفرج على القطار، ويرى بابور النار الذي لم يدر في خلده - تعالى - أن يوحي إلى نوح صنع فلك مثله.
كم كان يتضاحك المرحوم حين كان يقص علي حكاية أول قنديل كاز جاء الضيعة، ويصف لي كيف سهروا على ضوئه أول مرة ناظرين فيه آية العصر الكبرى! ثم يروح يقابل بينه وبين مصابيح الغاز التي رآها تضوي شوارع بيروت، ويقول: الفرق شتان ... وأخيرا ينتهي به التعجب إلى القول: ما عصي على ابن آدم غير الموت!
ليته يبعث اليوم ليعلم أن ابن آدم سلوقي عبقري الريح ... خبأت له الطبيعة المطامير وهاهت به، فراح ينبشها واحدة بعد واحدة.
لقد جرني هذا الفكر إلى التساؤل: ترى أيهما أقدر؟ أمن خلق المادة أم هذا الذي اكتشف خباياها؟!
ما أعظمك أيها العقل؟ لقد جعلت من صاحبك رب أرباب.
ما دخلت مطارنا الدولي وجلت فيه حتى سمعتني أقول لنفسي: بنى الأمير بشير دارا فاعتد بها لبنان، ترى ما عساه يقول بعد حين فيمن بنى هذا الأثر العالمي؟ هذا الأثر الذي يقف فيه لبنان الصغير في الأمم أمام دول الأرض جمعاء وقفة النظير أمام النظير.
أسفت جدا لأني بكرت في المجيء إلى الدنيا، ولكن هذا أمر وقع ... فما بقي إلا أن أتمنى أن ينساني الموت حينا لأسمع ما يقال ، وأبصر ما ينبشه السلوقي من جديد ...
كنا منذ بضع سنوات نتعب جدا لندل القارات الأرضية على مقامنا في المسكونة، أما اليوم فقد صار هذا «الملليمتر» من خريطة الكرة الأرضية دنيا واسعة الشهرة.
سوف يذهب مع الدوي كل ما قيل، وكل ما يقال وسيقال في المطار، فلا كتاب أبيض ولا أخضر، ما هناك إلا أثر باق ما دام عليها وفوقها من يطير ...
سوف يبقى مخبرا بأعمال يدي من أنشأه، ويلقي في آذان الشانئين:
وللدجاجة ريش
لكنها لا تطير
4 / 11 / 51
حكاية بيضة
أربعة نساك شعث غبر ضافوا أرملة، فحسبتهم أشباحا من غير هذا العالم، وما صدقت أنهم بشر حتى حيوها قائلين: السلام عليك يا أختنا بالرب.
فقالت في قلبها: أختنا بالرب! هذي لغة جديدة، ثم علمت أنها أبطأت في رد السلام، فوهلت وصاحت: أهلا وسهلا، وانحنت واضعة يدها على صدرها. - أعند أختنا مكان نسند إليه رأسنا؟ - حلت البركة.
وتلبدت الغيوم على قلة رأسها فقال كبير النساك: لا تقلقي، ولا تهتمي، ثم أشار إلى الصينية قائلا: هاتيك الكسرات من الخبز مع قبضة ملح في صحن ماء تكفينا عشاء.
فأجابت الأرملة بقلب منسحق وعين مكسورة: وفي البيت يا محترمين زيت وبصل وتوم، وفجل وتين ودبس، تفضلوا استريحوا.
ولما قعدوا على العشاء تذكرت المرأة أنها سلقت بيضة مع بضعة رءوس بطاطا لابنها الذي لم يعد بعد، فوضعتها أمامهم على الصينية، وقالت: أبد عذرك ولا ترم بخلك.
فصاحوا جميعا: هذا كثير كثير! وطفقوا يأكلون ويتهامسون، وراحت هي تحملق في أفواههم آملة أن تدرك بعينها ما فات أذنها، وأخيرا: صرحوا من بعد تهدار، فقال أحدهم: هي بيضة، ونحن أربعة، فلنقترع عليها.
فأجاب كبيرهم: الاقتراع نوع من القمار، فأليق بنا نحن الدراويش أن نأكلها على ذكر الله ... فالذي يقول منا أحسن آية تناسب المقام فهي له.
فما قال ذلك حتى استولى أحدهم على المبادرة، ففقس البيضة وقال وهو يقشرها: إني أعريك كما عري المسيح من ثيابه.
فمد إليها ثان يدا كالمدرى وقال: وهو يملحها: اقبلي ملح الحكمة.
فابتسمت المرأة وقالت : يه! كأنهم يعمدون البيضة قبل أكلها!
فأخذها الثالث، وهو يحسب أنه ربح المعركة، فقال وهو يهم بها: عريانا خرجت من بطن أمي، وعريانا أعود.
فكان الرابع أخف من النسيم، فنتشها من يده وقال: ادخلي فرح سيدك ...
فدخلت بأمان، بينا كانت المرأة تنظر إلى ضيوفها الأجلاء بعين الرضى والإعجاب.
إن أكل بيضة مسلوقة اقتضى - كما نرى - حك رأس وكد فكر، أما مضاعفة معاش نواب الأمة، فقيل لها بالإجماع: كوني فكانت ...
لقد صح في نوابنا - وفيهم من نحب، ومن نجل، ومن نحترم - ما جاء في المثل: من كان الدفتر في يده لا يكتب اسمه من الأشقياء.
صحة وعافية يا ذوات، صار معاشكم يكفيكم، فلا عذر لكم إن لم تفكروا بمعاش من انتخبوكم.
أطعموا البقرة لتدر ...
30 / 11 / 51
1952
لكم دينكم ولي ديني
قال سليمان بن داود: باطل الأباطيل وكل شيء باطل! ومع ذلك تقول لي الرسائل التي تكاثرت علي في مطلع هذا العام: تعال ... قف معنا، اكتب كذا وكذا لنصلح المجتمع.
أما قال هذا الحكيم: ما كان فهو ما يكون، والذي صنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد.
قال الله - ومن أصدق من الله قولا:
لكم دينكم ولي دين
فدعوني - إذن - وشأني.
أشهد أني أسفت جدا لأني وقعت بعد فوات الوقت على نصيحة الجامعة القائلة: افرح أيها الشاب في حداثتك، ولذلك أراني أخالفه، وأنا شيخ، في قوله الآخر: الحزن خير من الضحك.
لا يا سليمان، يا مكلم الحيوان، وقاهر المردة والجان. لقد فاتني يا سيدي ضحك كثير في حداثتي لأني كنت مضيعا ذاتي، وما اهتديت إليها إلا منذ أعوام، ومنكم أرجو يا أصحابي أن تسمحوا لي بالمناضلة ضاحكا. إن الضحك من المتكبرين المتجبرين كماء يصب في قدر تفور، فلا تحاولوا فثء غليها بالجد والترصن.
وقبل وبعد فما أظن أنكم قادرون على ما أقدر، كما أنني غير قادر على ما تقدرون، ولهذا أجيبكم: لكم طريقكم ولي طريقي.
وقال الحكيم أيضا: العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع، وإني أزيد عليه: والقلب قابل دائما للطمع. رأيت الناس لا يذكرون بالخير إلا من مضى وراح، يقولون: إن فاتك عام استبشر بغيره، أما عملا فهم لا يترحمون إلا على الماضي ...
إني لراض من الحياة أن تتهدد، فهي كريمة خيرة وإن توالت علي نكباتها وصواعقها، يكفيني منها أنها وهبتني روحا تضحك من ذاتها إذا لم تجد من تضحك منه وله وعليه ... إنها لنعمة عظيمة أن تضحك في المناحة، وتهزأ وأنت سائر في المواكب ... فكلتاهما مهزلتان فيهما العبر ... لا دواء أدوأ لهذه «النكبات» من أن تدوسها كما داس ديوجانوس كبرياء أرسطو.
أما كان ساكن البرميل فيلسوفا كساكن قصر الإسكندر! فاسمحوا لي أن أكون ديوجينيا، وكونوا أنتم أرسطاطاليين، وإذا لم نلتق الآن على صعيد واحد فسوف تجمعنا الأيام في دور آخر ...
دور يمضي، ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد. هكذا يقول سليمان، لكم طريقكم ولي طريقي، وكل الطرق تؤدي إلى الطاحون ...
10 / 1 / 52
أوتوماتيك
كيف نوجه بعثة إلى السويد لتتعلم الأوتوماتيك؟ والأوتوماتيك عندنا في كل مكان! أليست أكثر الأمور عندنا تسير أوتوماتيكيا؟
قالوا لي في حزيران الماضي: في آخر تموز تتصل بالعالم تليفونيا، فشكرت وخرجت.
وما انقضى تموز حتى راجعت فأجبت في آخر آب، وذكرت في أوائل أيلول فما نفعت الذكرى أيضا، وصح بتلك المواعد قول النابغة:
تمر بها رياح الصيف دوني
ولكن الغريق يتعلق بحبال الهوا، فبقيت أراجع أوتوماتيكيا - بدلا من دواليك - فقيل لي في آخر شباط: ينتهي كل شيء، ولكن شباط شبط ولبط، وشخر آذار وهدر، وما تفتح في أرضنا برعم من براعم التليفون.
أرأيت كيف تجري الأمور أوتوماتيكيا؟
قرأنا أننا تحدثنا مع باريس هاتفيا، فقلنا: عال. وقرأنا تصريحات معالي الوزير أمس بأن باريس سوف تصبح مدينة ترانزيت، فنتمكن من الاتصال بجميع عواصم أوروبا ومدنها، فقلنا: شيء عظيم، وقرأنا أن العاصمة ستتكلم أوتوماتيكيا عام 1953 فقلنا: عظيم جدا، كل هذا دليل على الرقي.
ولكن ألسنا كلنا أبناء دولة واحدة؟ أما لنا نحن بعض ما للعاصمة؟ نرضى أن يكون لنا من الجمل بعض شعرات من ذنبه لا أذنه كما يقولون ، ترضى القرية أن نلبس ثياب أختها العتاق ... لا نطلب إلا السترة ...
أنشكو نزوح القرى إلى المدن ثم لا نعمل للقرية شيئا؟!
ما أرى مثلهم إلا كمثل أب يلبس زوجته وبنته الكبرى أحدث الثياب وأغلاها، وأنفس الحلي وأبدعها؛ للصباح حلي وثياب، وللمساء حلي وثياب، أما أولاده وبناته الآخرون فليس لهم فستان شيت ولا طقم كاكي ... عوراتهم مكشوفة يمشون بالزلط يا واو ...
أمن العدل ألا يكلم ابن القرية طبيبه فيدركه قبل أن يفطس؟! أمن العدل أن نشقى ساعات مشيا على الأقدام لندعو طبيبا ونجلب دواء؟
يقولون: إننا في عصر السرعة ثم لا نشعر بها إلا في الوعود، فقبل أن تسأل تجاب: نعم نعم، بكرة، من كل بد.
أنعم الله عليكم يا سادة. لا نسألكم إلا أن تعملوا بقول الشاعر:
وإلا فقل «لا» تسترح وترح بها ...
أربعة وزراء توالوا، واحد قرر، وثلاثة وعدوا، ولكن تنفيذ «يوق» كل وزير يشد صوب صدره.
الوعد يمشي أوتوماتيكيا، أما العمل فمقعد، يعجز إنسان حتى «السيد» أن يقول له: احمل سريرك وامش ...
فليتهم وزعوا بعثة الأوتوماتيك على أكثر بعض الدوائر لتتعلم من وعودها كيف يكون الأوتوماتيك ...
2 / 3 / 52
عيد الشعانين
دخل الناصري أورشليم راكبا جحشا فصاحت الجماهير والتلاميذ: مبارك الملك الآتي باسم الرب، فما تراهم فعلوا لو دخلها راكبا حصانا؟!
فرشوا ثيابهم في الطريق لتطأها حوافر مطيته الذليلة، وعدوا أمامه صارخين: انفتحي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد ... وكروا خلفه والتهاليل ملء الأفواه، والابتهاج يطفر من العيون والرجاء يقفز من الصدور، ملئوا فضاء القدس: «أوصانا» لابن داود، فظن السيد أن وراءه رجالا.
ثم كان الخميس فتعشى مع «خاصته» وشرب نخب الجلجلة.
وكان صباح الجمعة فنسي «التلاميذ» الخبز، والملح، والخمر ...
نام السيد في الحبس، فإذا بالذين صاحوا أمس أوصانا يصرخون اليوم: دمه علينا وعلى أولادنا.
وإذا ببطرس الذي ابتهر «وتمرجل» كان أول الجاحدين.
ولكنه ما خرج من الباب إلا ليدخل من الطاقة، فلله باب التوبة ما أرحبه، وما أوسعه!
ما الفرق بين «أوصانا» وبين «يعيش»؟ أما هما شيء واحد؟
ركب المسيح جحشا ومشى على الثياب، واليوم يركبون على رقاب عليها ثياب ... حتى إذا ما مالت الشمس وتقلص الظل راحوا يفتشون عن «راكب» جديد ...
الجماهير هم هم، يخلعون مبادئهم كما يقلعون ثيابهم، يستبدلون بأوصانا يعيش، وبسعف النخل والزيتون المسدس والتوميغان.
ثياب للإعارة والتأجير، يكرون بها مع كل خيل مغيرة، يحملون الشموع الثخينة في موكب التدجيل والتبجيل، ويرشون العطور على موكب «الماشي»، ويحرقون البخور أمام المتكئين في صدور المجالس، ويكسرون الجرة خلف المولي.
حقا إن المولي ما له صاحب!
فيا عيد الشعانين، يا عيد التهليل والتعظيم، يا عيد الضعفاء والمستعبدين، والبؤساء والمجانين.
يا عيد المطبلين والمزمرين، ابصق في وجه اللابسين ثياب المرافع، المقنعين بوجوه «البرباره».
يا عيد الفيران، المتقاتلين على «كشك» الجيران، من لي بحذفك من التقويم، لتستقيم أخلاق أطفالنا! أما نحن فعسينا.
أرادت الغوغاء خبزا من القائل: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولما رأوا معجنه فاضيا هتفوا: اصلبوه، اصلبوه.
ما أشبه الليلة بالبارحة! فيا ذوي الأنوف التي لم تفقد الشمم والشم، إذا فرحتم بيوم الأحد فلا تنسوا يوم الجمعة ...
6 / 4 / 52
الوجدان العام
لا أحب الخوض وسط المعمعة، ولا أحب الأديب، كما يريد الجيل الطالع: هباط أودية، حمال ألوية، كصخر الخنساء، نحن ولدنا في الساحة وما زلنا فيها، ولكن كل فريق يريد أن نخوض ساحة بعينها، وهذه الساحات قد أمست لا تصلح لنا، وأمسينا لا نصلح لها ...
ما ينقصنا في هذا البلد إلا الوجدان العام، إننا لا نشعر كمجموع بل نحس كأفراد وأسراب، ولهذا ترانا بعداء عن لبنان، ولبنان بعيدا عنا، كل منا ينتسب إلى ضيعته، فمنطقته، وإلى ملته، فطائفته، أما البوتقة الكبرى فلا تصهر هذه المعادن المختلفة لتجعل منها مثالا واحدا؛ لأن النار المصوبة من الأنبوب لا تستطيع الصهر والتذويب، وبتشبيه آخر ليس لنا إلا بطارية غير مشحونة لا تضيء الطريق ولا تحرك السيارة.
فالنائب والوزير تهمهما منطقتهما بل لا يهمهما منها إلا تلك الشخوص التي توصلهما إلى كرسي النيابة فالوزارة ... ولهؤلاء دون سواهم يعملان ... وهذا أصدق دليل على ضعف الوجدان العام .
إن المؤسسة التي ليس لها وجدان عام لا تفلح، والإدارة التي ليس لها وجدان عام يسيرها لا تنجح، والشركة التي ليس لها وجدان عام تفلس وتصفي حسابها، والبيت الذي ليس له وجدان عام يخرب.
إن هذه الضوضاء التي تعلو وتخفت تحت قبة البرلمان لتذكرني بحكاية رواها لي صديقي المرحوم المنسنيور غناطيوس ضومط، قال: سافرنا في القطار من باريس وكان معنا الزعيم جوريس، فتجمهر العمال لوداعه. كان يلبس ثوب العمال في ساعة الوداع، وما توارى القطار عن الملوحين بقبعاتهم ومناديلهم حتى بدل المسيو ثوبه الكاكي، ولبس الفراك وبرنيطة كبرج إيفل ...
أجل يا سادة، إننا نريد ثوبا لا يخلع، نريد صخورا لا فقاقيع صابون تتلاشى فور خروجها من الباب. نريد وجدانا عاما لا وجدانا خاصا. الوجدان الخاص هو وجدان «الأنا»، أما الوجدان العام فهو وجدان «الغير» وهذا ما نحتاج إليه.
وبكلمة صريحة واضحة أقول: نريد أن نبني وطنا يكون لنا فيه بيت، لا أن نبني بيتا يكون لنا وطنا.
ومن له أذنان للسمع فليسمع.
17 / 4 / 52
لا أب ولا أم ولا عم
ما أظنني تجاوزت الحد في الجرابين الأخيرين: ما أرخص النفوس، والوجدان العام! ولست أحسبني قلت غير الحقيقة التي يزعمون أنها تجرح، قلت: لن نسمع صوت الهاتف حتى ينفخ في الصور، ويقوم من في القبور ... لأنني لن أمسي وزيرا أو نائبا لأعمل لقريتي.
فهل من يستغرب قولي بعدما قرأنا في جريدتي بيروت وتلغراف تصريحا لرئيس المجلس النيابي السابق يقول فيه: أنا شخصيا لن أرشح نفسي؛ لأن حقوقي مؤمنة بوجود عمي أحمد بك في هذا «المنصب»؟
ومن أين لعين كفاع رجل عظيم مثل أحمد بك ليؤمن لها بعض حقوقها، ويشتري النفوس المعرضة لخطر الموت؟
قلت للوزير: أنا رايح إلى عين كفاع، وخائف على نفسي، فكان ما خفت أن يكون. نفذ السهم في نسيب عزيز، فتى في الحادية عشرة، هو حكمت البر حداد، سقط على رأسه من عل، فأغمي عليه وبق الدم ولو لم تسق إلينا رحمة الله سيارة خاصة في تلك الهنيهة لرأينا بأعيننا ما يفتت القلوب. نعم كان نقله إلى جبيل خطرا وأي خطر! ولكننا اخترنا أهون الشرين، والحمد لله على أنه لا يزال في المستشفى حيا يرزق.
فإلى من نشتكي يا جماعة الخير؟! تعلل مدير التليفون السيد جلخ بقلة الأعمدة والفناجين، ولما أراد هو، وأراد غيرنا، وجدت الفناجين ومد خط إلى حيث يريدون!
أذكر أن الأمم المتحدة تريد أن تقضي على «الخوف» فهل من يبدد مخاوفنا لنسكن بيوتنا؟ أجل نحن خائفون على نفوسنا يا سادة، فأمنونا ... أمنونا لنحيا إلى الانتخاب العتيد ...
وبعد، فالحياة عزيزة يا معالي الوزير، ويا سعادة المدير، فنفذوا ما تقرر ولا تجعلونا مطية لغيرنا ...
رحم الله حافظ إبراهيم الذي قال:
إلى من نشتكي عنت الليالي
إلى العباس أم عبد الحميد
فهل يسمع «الراعي» صوت القرية ويرثي لحالها؟
لا نطلب الكهرباء لأن عندنا قناديل وفوانيس، ولا نطلب المياه لأن عندنا الآبار، ولا نطلب الطريق لأنها أصبحت صالحة بفضل «العهد»، ولسنا نطلب التليفون للتفكهة والتسلية والزنترة، بل لندق جرسه حين تدق النكبة جرسها ...
إن حقوقنا غير مؤمنة لأنه ليس لنا أب ولا أم، ولا أخ ولا عم ... كما تغني أسمهان، وأخيرا أقول لنفسي: فلنصبر، أليس الصبر مفتاح؟! فلو كانت المصيبة طويلة البال - تعد ولا تفي كمدير التليفون - لهان الأمر، ولكن المصائب تفعل ولا تقول، ليتها تتعلم من مديرية التليفون فنأخذ حذرنا - إذ ذاك - ونأمن شرها، ونستغني عن الاستغاثة بالتليفون.
25 / 4 / 52
أخوت يحكي
رآني أمشي في الرواق مشية المدل، أدخل وأخرج وعلى وجهي سيماء الواثق من نفسه، فأخذ يقترب مني بعين مكسورة، يد على الصدر، وأخرى على العكازة كأنه يخشى أن تفلت منه. ظننته أحد أولئك الذين يهاجمونك لينتحوا بك ويشحذوا بشرف فتهيأت لاستقبال النكبة، ما فتح فمه حتى حاولت أن أسده بقولي: لا تغرك مني عينك يا عم، الذي في الصندوق على الظهر ملزوق، لست عند ظنك ففتش عن غيري.
فتنهد المسكين وقال: أنا لست منهم يا سيدي، أنا رجل لي شغل هنا، أجيء كل يوم أطلب إنهاء قضيتي ولا أحد يرد علي ، حتى ولا السلام. أسمعت في زمانك أن أحدا لا يرد الصباح. لا أسمع منهم إلا كلمة: مشغول يا عم، تعال غدا، وأعود غدا، فلا أفوز بغير: تعال بعد يومين ثلاثة.
فقلت: وماذا تريد مني؟
قال: تتوسط لي عندهم ليفكوا أسري، والله العظيم ركبني الدين، صرت أستحي من العيال، الحالة ضيقة جدا. - قل ماذا تريد؟ - بارك الله فيك، تتوسط لي ليدفعوا ما يستحق لي عندهم. - والدفع يتطلب واسطة! هذي عادة قديمة فينا، إذا أراد الواحد منا أن ينصح ولده يتوسط ولده الآخر ... ادخل واطلب حقك يا عم، بعين مفتوحة.
فقال: وماذا ينفعني تفتيح عيني متى أغلقوا الباب بوجهي، فلنفرض أنهم كانوا مشغولين مثلما ادعوا، ألا ينتهي شغلهم؟! أراهم يوشوش بعضهم بعضا، ويشربون القهوة ويتحدثون، وحين ينظروني يصيحون: اتركنا في شغلنا ... ولا أراهم في شغل غير المسايرة.
ومر بنا في تلك الهنيهة السعيدة صديق من الموظفين، فأخذ بيدي وسرنا وهو يقول: تظن أنك تحكي مع رجل له عقل، هذا مجنون، يجئنا من وقت إلى آخر ليمثل هذه الكوميديا.
فقلت لصديقي: إذن صح فينا وفيه قول المثل: أخوت يحكي وعاقل يفهم.
فأجابني صديقي: لا أقول لك لا، ولكن أخاطبك كما خاطبتني بقول المثل: ليست أصابع يدك كلها سواء.
فقلت: ما أكثر الصالحين فينا، ولكن ذبانة تفسد خابية، في بلاد الناس صارت المكانس كهربائية، فهل أقل من أن يكون عندنا مكانس قش ... نكنس بها من يقتلون الناس صبرا ...
3 / 5 / 52
الدماغ الإلكتروني والعقل الكرتوني
قرأت منذ ثلاثين أربعين سنة خبر «الحصان الحاسب»؛ فتعجبت كيف أن بهيما يحسب! مع أن المثل يقول: لا يوجد رأس بلا حكمة.
واليوم قرأت خبر الدماغ الإلكتروني، الدماغ الذي يقولون: إنه يحسب أحسن من البشر، ويلعب الشطرنج ... ترى هل يصير هذا المخ في متناول الناس جميعا فيصيروا كلهم حملة ليسانس ودكتوراه!
ونحن في هذا البلد الذي يسمونه لبنان؛ أترانا محتاجين إلى أدمغة تحسب بلا إحساس؟ أم إلى أدمغة تحس ما تحسب؟! أي نفع لنا بأدمغة الإلكترون إذا كانت قلوبنا من الكرتون ؟!
ما نفع دماغ يحسب ما عند غيره ولا يحس بشيء مما عنده؟! بل ما نفع دماغ - مهما حسب - إذا لم يكن وراءه قلب يحاسب.
أينفعنا أن يكون لنا دماغ حسابه دقيق، وليس لنا قلب رقيق؟
أظن أن الإنسانية محتاجة إلى قلوب أكثر منها إلى أدمغة وجيوب.
وإذا كان عصر المادة يحتاج إلى دماغ يحسن الحساب؛ فالإنسانية التي تنشد الراحة والطمأنينة محتاجة إلى قلب يحس ويبكت كل مليم، لا إلى دماغ لا يفرط بسانتيم ولا مليم.
عجيب تمادي هذه البشرية وسعيها وراء كل ما يرفه عن الجسد، أما الروح فقلما يفكر بها أحد.
تخترع قنابر تفرق الذرات، وأدمغة أشد حسابا من يوم العرض، ولا تفكر بخلق قلوب نستبدل بها القلب الذي تنفش في الصدور، وتضخم من كثرة ما مر به من دماء استحالت قيحا وصديدا.
ليت جامعة كورنتو الكندية توصي المعامل البريطانية على صنع قلب يصدق في محبته صدق هذا الدماغ في حسابه.
وليت العلماء البريطانيين الذين يفكرون بتصغير الأدمغة الإلكترونية ليتسع نطاق استخدامها ويسهل الحصول عليها، ليتهم يفكرون بخلق قلوب تنوب عن قلوب الناس الكرتونية التي لا تهش ولا تنش.
ليتهم يفكرون بهذا فيقتني كل إنسان منا قلبا بدلا من أن يقتني خنجرا ومسدسا.
إننا لا نحتاج في لبنان إلى أدمغة بل إلى قلوب ... لنترنم مع داود: قلبا نقيا أخلق في يا الله، وروحا مستقيما جدد في أحشاي.
الدماغ كثير الالتواءات ولهذا يعقد الأمور، أما القلب فأملس يحل المشاكل.
فلنتفاهم بقلوبنا المتحابة لا بأدمغتنا الحاسبة، لسنا محتاجين إلى أدمغة تلعب الشطرنج، بل إلى قلوب لا نطمع أن تفرزن لتلهم البيادق ...
فيا خالقي الأدمغة، لا تنسوا الضمير.
15 / 5 / 52
ويسألونك عن الساعة
كان الشيخ سليم ناصر البيروتي إماما ظريفا، النكتة على طرف لسانه فلا تواتيه فرصة حتى يرسل أفاعيه ولا يبالي، وبلغ خبره والي بيروت فجعله إماما له.
وسقطت بينهما الكلفة فأخذا الوالي يمازح شيخه ويمالحه ليرى ما يخرج من رأسه، فيتبسط الشيخ ما استطاع.
ووعده الوالي يوما بساعة ذهبية، ولكنه ماطل ولم يبر بالوعد، وكان إذا ذكره الشيخ بها قال الوالي: الله مع الصابرين. وهكذا حال الحول، وظل الشيخ ناصر بلا ساعة، وأطل رمضان شهر الصلاة والصوم، فلزم الشيخ بيت الوالي، وابتدأت التراويح، وخيال الساعة يروح ويجيء أمام عيني الشيخ، فعزم على أن يقذف إلى الساحة بجميع ما عنده من قوى وعتاد.
ولكي تطيب لك النكتة يجب أن تعلم أن التروايح مفردها ترويحة، والترويحة اسم للجلسة التي تلي الأربع ركعات، والتراويح خمس جلسات، فيكون مجموعها عشرين ركعة، وعلى الشيخ أن يتلو آية من آيات كتاب الله العزيز في كل ترويحة.
قال الشيخ في الترويحة الأولى:
يسألونك عن الساعة أيان مرساها * فيم أنت من ذكراها * إلى ربك منتهاها .
وتلا في الترويحة الثانية:
إن الله عنده علم الساعة ،
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة .
ولما قال في الترويحة الثالثة:
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها ، تنبه الوالي وأدرك أن شيخه يعني ما يقول.
ثم قال في الترويحة الرابعة:
بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا .
فعبس الوالي عند سماعه كذبوا وسعيرا.
وكانت الترويحة الخامسة والأخيرة فقال الشيخ:
يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا .
وانفتل الشيخ سليم من صلاته لتقع عينه على الوالي يفك ساعته الثمينة من سلسلتها، فالتقفها الشيخ وهو يقول: أفندم، العصفور وخيطه.
فانتزع الوالي السلسلة الذهبية من عروة صديريته وهو يقول: عفارم خوجه ...
بلا تعليق.
25 / 5 / 52
المسيح حقا قام
ومن محطة إذاعة إسرائيل
الله، الله! ما أكثر غرائب هذا الزمان! إذا كان المثل يقول: عش رجبا تر عجبا، فكيف تكون حال من عاش ستين سبعين رجبا.
لم أصدق أذني أني أسمع إذاعة دينية مسيحية تنقلها محطة إذاعة إسرائيل، وزادت عجبي عجبا تلك الخطبة عن قيامة المخلص.
اعتاد اليهود أن يحاكموا يسوع كل بضع سنوات ويثبتوا الحكم الذي صدر منذ ألف وتسعمائة وتسعة عشر عاما، أما بعد أن سمعت بعد ظهر الأحد الواقع فيه 4 نوار هذه الإذاعة، فتبادر إلى ذهني أنهم نقضوا أحكام بيلاطس وقيافا ويوحانان ... وبالاختصار: آمنو أنه «أتى».
كان لنا رفيق يهودي في المدرسة كنا نمازحه، وحينا نوجعه ونؤلمه لنحمله على أن يقول «أتى» ولكنه كان لا يقولها مهما آلمناه، وهنا يحلو لي - كما يحلو لكل من تتقدم به السن - أن يرجع إلى ذكرياته يجترها.
ففي سنة 1907 ذهبت من بيروت إلى عين كفاع في فرصة عيد الفصح، ومعي ذاك الرفيق اليهودي، كنت أغشى بيتهم في المدينة فأحب أن يزورني في الجبل، وفي الربيع. فوصلنا عين كفاع، ليلة خميس جمعة الآلام، وأوغل صاحبي في التسامح، كما علمتنا مدرستنا في ذلك الزمان، فأحب أن يحضر الاحتفال بدفن المسيح فثنيته عن ذلك لئلا يسمع ما لا يحب من شتم لملته، وسب لجماعته.
قل قطعنا خط نار يوم الجمعة، ولكن صاحبي أراد أن يعمل بقول المثل: إن فاتك يوم استبشر بغيره، فأبى إلا أن يحضر قداس أحد القيامة، الشتم يوم الجمعة بالسريانية، أما السب يوم العيد فبالعربي المفلطح والقلم العريض، فصار علي أن أتدارك الأمر مع عمي جناديوس. ذهبت إليه بعد السهرة ليلة السبت فاستغرب قدومي في تلك الساعة بعد أن كان سهرانا عندي، فقلت له: جئتك في حاجة ولا أظن أنك ترجع ابن أخيك خائبا.
فأجاب مستغربا: قل، خير إن شاء الله.
قلت: الشاب الذي عندي يهودي، ويريد أن يحضر القداس فأرجو منك أن تحذف السب.
فصفق كفا على كف وصاح: أحذف السب! مارون، تطلب من عمك أن يحذف من خدمة القداس كلمات إكراما لسواد عيون يهوديك! حط عقلك برأسك ...
ورحت أداوره ولكن من يزحزح جبلا، كان - رحمه الله - تقيا يخاف الله، ولما تضايق هتف: مارون، تريد أن تخسرني ملكوت الله؟! نسيت يا صبي إيش قال يسوع: من يستحي بي قدام الناس أستحي به قدام أبي الذي في السما؟ فالج لا تعالج، وأومأ برأسه وهو يقول: لا لا لا.
قلت: طيب، مغمغها.
فتضاحك وقال: لا تقلل عقلك، أحسن لك أن تبقيه في البيت.
وبعد أخذ ورد خرجت من عنده ظانا أنه يدبرها بحكمته، ولكن الغد خيب ظني فراح العم يفخم ويضخم ويمطط ويترنم، ولما بلغ المحطة رجح رأسه كعادته وهتف ملتفتا صوبنا: وتنكس رأس قيافا واليهود الملاعين إلخ ...
فقلت لصاحبي اليهودي اقبض ... عرضت نفسك للبلا فاستهدف، وخرجنا أخيرا من الكنيسة بعد امتلاء أذني رفيقي سبا وشتما ولعنا باللغتين العربية والسريانية.
كم تمنيت أمس أن يكون المرحوم عمي جناديوس جالسا حدي ليسمع بأذني رأسه صلوات وعظة القيامة وتراتيلها تذاع من محطة يهودية هي محطة إسرائيل.
الله، الله، كم في السياسة من ضحك على اللحى والذقون، ولكن أكثر الناس ينخدعون.
لا أدري، والله، من هم أكثر بلاهة، المسيحيون الذين يذيعون صلوات القيامة من محطة إذاعة يهودية؟ أم اليهود الذين يذيعون ما يطعن معتقدهم في صميم قلبه؟!
حقا إن السياسة نفاق ورياء ودجل.
31 / 5 / 52
ويسألونك عن القرية
قل عليها الغرم وللزعماء الغنم.
قل منشقة شطرين يقتتلان ولا يعلمان لماذا.
غنم كلها صفروا لها هرولت، حتى إذا ما رغت وثغت زربت إلى حين الحاجة ...
القرية بضاعة معدة تعرض في الساحات والشوارع، ومتى قضوا منها وطرا أعادوها إلى زرائبها.
أنعام طيعة مروضة، لا تعض ولا تلبط ولا تحزن.
ميتة حية من قلة الموت، لا زرع ولا ضرع، ولا ضياء ولا ماء، ولا طبيب ولا دواء.
عاجزة حتى عن الاستغاثة حين يزورها عزرائيل.
بلهاء يتناحرون من أجل من لا يقيم لهم وزنا إلا ساعة تخف موازينه.
القرية عروس يتغزل بها المتزعمون ليتزوجوا سواها.
لا تنال القرية حقها إلا يوم يصير الموظفون العاملون من أبنائها، فيحسون بآلامها وبلاياها.
أما الموظف الذي عنده كل شيء: الماء جار في غرفته، والضوء تحت أصبعه، وسماعة التليفون حد مخدته، والسيارة قدام بابه، فكيف يحس بشقاء القرية؟!
لو قعد هؤلاء المنعمون محلنا يوما واحدا لأحسوا ما نحس من ضيق وضنك.
إنهم غرباء عن أورشليم، لا هم لهم غير حك جلدهم.
يقول هؤلاء: تخمت العاصمة وبشمت، وكادت القرى أن تمسي خاوية خالية.
ولماذا لا تخلو! فلولا ما فيها من هدوء وسكون ، وطيب هواء من كان يسكنها ساعة؟
إن أقصى الرعب أن يكون لك في القرية بيت ولا تستطيع سكناه خوفا من عارض مفاجئ.
الخوف والجهل والعوز ضيوف القرية الثقلاء، فهل بقي أمامنا غير الرحيل؟
2 / 6 / 52
أطرش
ما عرفته - رحمة الله عليه - إلا قبيل غروب شمسه بقليل، شيخ عليه مهابة، ذو أبهة ووقار، يتدافع كالحجل المدل متى مشى، كريم جواد، وهاب نهاب، بيته ويده مفتوحان.
ظل شيخ صلح الأسكلة أكثر من نصف قرن وما تحلحل عن منصبه إلا لينزل في حفرته.
طرش شيخ البلد فقال الناس: ارتاح من سماع السب والشتم، وقال آخرون: لو عمي كنا استرحنا منه وانتخبنا غيره.
وكان إذا ما مر في السوق بعد الطرش وسبه أحد، أجابه: يسعد صباحك، وإذا شتمه آخر رد عليه: الحمد لله، وكيف حالك أنت.
وهكذا دواليك.
وعاد مهاجر غني وأراد أن يشتري عقارا في المدينة، فاعتل عليه الشيخ، ولم يعطه «الكشف» وبقي الرجل شهورا يروح ويجيء بلا جدوى، ولما أعيا قال لي: فلان صاحبك، خذ لنا منه «النمرة» وهذه عشرون ليرة إنكليزية تدفعها له.
كنت أعرف جيدا أنه يعيش من ختم المشيخة، فأخذت العشرين ذهبا ورحت، وما قابلته حتى صحت بأعلى صوتي: يا شيخ، من بعد أمرك واجهني كلمة.
فالتفت بابنه مستفهما، فأشار إليه، ففهم ومشى أمامي إلى «الخلوة»، ولما خلونا أشار بيده وقال: خير إن شاء الله.
فصحت بأعلى صوتي: فلان بعث لك معي عشرين ليرة إنكليزية.
فهرع الشيخ إلي وسد بوزي بيده، وقال: احك بالسر، سمعي مليح، فتعجبت وقلت: سمعك مليح! - نعم نعم، أسمع مثل الخلد، ولما رآني غير مصدق قال: خفف صوتك قدر ما تريد تعرف إني أسمعك.
وقبل أن أنقده العشرين ليرة أحببت أن أعرف سر طرشه، فقال الكلمة التي تعجبني أسمعها، وهكذا استرحت عشرين سنة.
أليس الأجمل بنا في زمن المهاترة والذم بالحق وبالباطل أن نعمل كذاك الرجل، أظن إننا الآن في الزمن الذي قال فيه المتنبي:
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
27 / 6 / 52
طناجر دير مار سمعان
كانت هذه الممالك وهذه الجمهوريات والإمارات - في هذه البقعة المقدسة - تحت إمرة سلطان واحد لا غير، ثم صارت دولا كما نرى.
والذي عندنا هو عند جارنا، جيوش جرارة من الموظفين وميزانيات ضخمة يستهلكون معظمها، قد تكون إدارة الشئون في حاجة إلى كثيرين منهم، ولكنها ليست في حاجة إلى كثيرين أيضا، لقد صدق من سمى الراتب «معاشا».
كان يسوس لبنان شخص واثنا عشر نائبا، وإذا قيل «لبنان كبر» والشئون كثرت، قلنا: لا بأس في مضاعفة العدد، أما كثرة الطباخين فتشيط الطعام.
ضرب قدماؤنا المثل في ثلاثة أشياء وجودها وعدمها سواء، فقالوا: ركوات المطران جرجس، ومكتبة الخوري سركيس، وطناجر دير مار سمعان.
فركوات سيادته الاثنتا عشرة كانت مصفوفة فوق الموقد بالترتيب كما كنا نصطف يوم كنا تلاميذ، ولكنها ما مشت قط لاستقبال ضيف، ولم تر في حياتها وجه البن الأسود، لا سود الله لكم وجها، أما تلك الطناجر فقد كانت أسوأ حالا من قدر الرقاشي التي قال فيها النواسي:
تشكو إلى قدر جارات إذا التقيا
اليوم لي سنة ما مسني بلل
أما المكتبة - وهي برمتها طليانية - فظلت طول حياتها تدير قفاها للناس، ولم ير لكتبها أحد وجها، لأن صاحبها يجهل ذلك اللسان ...
ولماذا نبعد أفلا يزال عند الموارنة وغيرهم أساقفة يسامون على أبرشيات أمحت من الوجود؟!
فعلى هذا النسق يعينون اليوم في بعض الوزارات أشخاصا يسمونهم مستشارين، فيأكلون «الجراية» ولا يجرون مع الغاية، فيصح فيهم المثل المقول في العهد العثماني: معلوف موقوف مثل خيل الدولة.
كانت النصيحة بجمل، وصارت اليوم تعطى «بلاش»، فما حاجتنا إلى الطبيب ونحن أناس لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع؟!
15 / 9 / 52
عيبه في حواشيه
تعود أهل هذا البلد أن يشحذوا حقهم شحاذة، فمتى ولي واحد خطة من خطط الحكم، تضرب عليه عنكبوت الوسائط بنسجها، وتكثر السماسرة حوله، فكل من له دعوى عنده يسألك هذا السؤال: على يد من ينام؟ ومن يخص؟ منو مفتاحو؟
ويظلون يفتشون على المفتاح حتى يجدوا ولو مفتاحا صدئا لا يدخل الثقب ... وهكذا تجد حول كل ذي سلطة أقزاما يسمونهم «الزلم».
قال الشاعر:
وما آفة الأخبار إلا رواتها
وقال يسوع: أعداء الرجل أهل بيته، ونقول نحن: ما آفة الحكام إلا المقربون، فهم الذين يسودون صحائفهم ليبيضوا وجوههم، ويملئوا بطونهم وجيوبهم.
حكي أن نساجا عجميا أنفق معظم عمره في عمل بساط رائع، رسم عليه صورا عديدة منها الواقعي ومنها الرمزي، فجاء البساط آية لم تر مثلها بلاد فارس.
وفكر الرجل فيمن يهديه إليه فلم ير رجلا أحق به من جلالة الشاه فحمله إليه، وحلت الهدية في عيني ملك الزمان ولكنه رأى أن يستشير حاشيته، فأجل الرجل إلى الغد.
وكذب الغد ظن المسكين، ترجى جائزة تقبر الفقر فإذا بالشاه يقول له: بساطك معيوب، لا يليق بقصور الملوك.
زفر المسكين زفرة كادت تطير البساط، وانحنى يقلبه على جميع وجوهه وهو يقول: يعيش رأسك يا ملك الزمان، أين العيب!
فصمت الملك وأفاض الرجل في حديثه، ولكنه لم يسمع جوابا، فدار حول بساطه دورة من فجع بعزيز، ولما أعياه الأمر عليه قال للملك بمرارة: إذا أمرتني يا مولاي أدلك أنا على العيب.
فأومأ الشاه برأسه أن نعم.
فابتسم الرجل ابتسامة مرة وقال: بساطي فيه فرد عيب يا مولاي، حواشيه رديئة ... آه من حواشيه!
فابتسم الملك لتلك الغمزة وقال له: رح مع الخازن خذ الجائزة، وسننظر في إصلاح الحواشي.
لا خوف على المسئول صغيرا كان أو كبيرا إلا من هؤلاء، إنهم يبعدون المخلصين، ويقربون المنافقين، وهكذا يخلق لنا الحكم أصدقاء مؤقتين وأعداء دائمين ...
2 / 11 / 52
مركز حيفا أخذوه
حب الوظيفة داء متأصل فينا ولا يبرئنا منه علاج. أذكر - وما أكثر ما أذكر! إنه كان إذا ما فرغ كرسي في زمن الدولة العثمانية تقدمت المئات لكي تملأه. وكان للتوظيف سماسرة، وكان لكل وظيفة ثمن ذهبا رنانا، نقدا وعدا، وبالمئات ...
وفرغ مركز قاض في حيفا، فلجأ أحدهم إلى السيد حسن شقيق أبي الهدى، سمير السلطان عبد الحميد ونجيه، فوعده به لقاء مائتين من الذهبات العثمانية.
واشتد الصراع حول هذا المنصب الشاغر، وشاع أنه أخذ، فطار عقل الرجل وهرع إلى بيت الشيخ حسن فقيل له تجده الساعة الثالثة في «الزاوية» الفلانية يعقد مع المشايخ حلقة الذكر، فهرول إلى ذلك المكان وزج نفسه في الحلقة.
رأى الشيخ حسن الصيادي يطوف على المتحلقين واحدا واحدا، ينتصب أمام كل واحد منهم ويصفق كفا على كف ويهتف: الله هو، الله هو، الله الله الله هو.
فيردد الشيخ والمشايخ معا: الله، الله، الله هو.
وحميت الحديدة واشتد الصخب والتبست الأصوات. وكانت دهشة الشيخ حسن الصيادي شديدة إذ وجد نفسه بغتة أمام رجله الموعود بالمنصب، ولكنه ما تضعضع بل صاح به: الله الله الله هو.
فمد الرجل رقبته نحو الشيخ وأجاب: مركز حيفا أخذوه! فصفق الشيخ حسن صفقة ارتجت لها الزاوية وأجاب على الفور: فشروا، فشروا، الله الله الله هو.
فصرخ الرجل من فرحته: الله، الله، الله هو.
وكان أن فشروا حقا وعين الرجل قاضيا بعد أيام، ولا عجب فكل من كان له «صيادي» في ذلك الزمان، كان يصطاد حتى الدلافين والحيتان ...
كانت وسيلة الأمس ذهبية أما وسائط اليوم فعملتها طائفية، نفوذية برلمانية. كان الوسطاء اثنين ثلاثة، أما اليوم فعشرات ومئات، وكان الله في عون الحكومة.
فالنواب والزعماء والمتزعمون يريدون أن تبقى «زلمهم» حيث هم، والشعب قد كره الوجوه العتيقة التي لا تحول ولا تزول، حجارة داما نتلهى بنقلها من هنا إلى هناك بعد تفكير عميق وألف حساب، والشعب يطلب من الحكومة التطهير، أن تطلع داما وتقش الحجارة قشا ...
وتصفها صفا جديدا لا يبقي ولا يذر إلا الصالح والنظيف، فهل تلعب الحكومة هذه اللعبة الخطرة.
فلنقدم قد يفيد تغيير المناخ مسلولا في الدرجة الأولى، أما أصحاب الدرجة الثالثة فما يريحهم، ولا يريح الناس منهم إلا القبر، فاقبروا هؤلاء الأحياء الأموات ...
9 / 11 / 52
أم 44
الكيان اللبناني - في نظر محترفي السياسة اللبنانية - وظائف توزع كالجرايات على بيوتات ورجالات بعينهم. كذلك كانوا في عهود الأمراء، وعلى ذلك ظلوا في زمن المتصرفين وما زالوا هكذا حتى اليوم، ومتى عرفنا هذا فهل نستغرب هذه الصيحة الكبرى حول إنقاص عدد النواب !
ما حاجتنا إلى أكثر من أربعة وأربعين، ومجلس لبنان - قبلما شب وكبر - كان مؤلفا من اثني عشر.
ولكن كيف تكفي الأربعة والأربعون مقعدا بلدا يحلم كباره وصغاره بالكراسي؟
فكل من يرمي ورقة في صندوقه إنما يرميها على أمل الفوز بوظيفة.
وكل من يهتف فليسقط زيد وليحي عمرو إنما يسقط ويحيي على هذا الرجاء.
ومن يكتب حرفا ويطير برقية، ويوقع عريضة فإنما يفعل ذلك وهو يتخيل الوظيفة فاتحه ذراعيها لتضمه إلى صدرها.
كانوا منذ نصف قرن يقفون على أبواب القناصل عند تعيين كل متصرف جديد، مترقبين دوران رحى العزل والتعيين، أما الشيخ رشيد - وكان من الأقطاب في ذلك العصر - فكان يعتمد على السفير الفرنسي في إستنبول ويلزم بيته.
ووصل المتصرف وتحركت ركاب الشيخ للسلام على «الباشا» وجس النبض، ولما عرفه المتصرف قال له: طمن بالك يا شيخ، أنت هنا.
قال المتصرف هذا ودق على قفاه دقات فهم منها الشيخ أن توصية السفير في جيب المتصرف الخلفاني، فرجع إلى بيته ونام على صوف ...
وبعد شهر قابل الشيخ المتصرف فإذا به يرى نفسه حيث كان، وكانت الدقات الثانية أزخم من الأولى ... فضحك وانصرف لينتظر أسابيع أخر.
وجاء عيد الجلوس الهمايوني فانتهز الشيخ الفرصة، وأعد لها عدة خازنية، فبعد تقديم التهاني ورفع الأدعية الحارة بطول بقاء الذات الشاهانية دق المتصرف للشيخ تلك الدقة عند الانصراف، فأخرج الشيخ من جيبه ورقة ملفوفة بشكل أصبع وقدمها له، فعبس دولته إذ رآها ظانا أنها من أصابع الرشوة الصفراء ... ولكنه تناولها منه وهو يقول: ما هذي يا شيخ رشيد؟!
فأجاب الشيخ: شربة ملح إنكليزي تساعدنا على الخروج من هذاك المطرح ...
وترجم للباشا ما قال فضحك وأمر بكتابة «البيلوردي».
ترى إلى كم قنطار ملح إنكليزي نحتاج اليوم إذا أردنا تحقيق جميع المآرب!
15 / 11 / 52
بعد عاصفة الشوف
إذا رأى غريب عاصفة الانتخاب في الشوف ظن أنها الأولى من نوعها في لبنان، أما المخضرم مثلي فيراها صورة لما كان يجري، وعما يجري عند كل انتخاب، حتى انتخابات المختارين والبلديات وانتقاء النواطير .
إنها بضاعة لبنانية ذات ماركة مسجلة، أما هذه الحركة فتمتاز بشيء واحد وهو تحقيقها لقول السيد المسيح: ما جئت لألقي سلاما بل حربا، جئت لأفصل الأخ عن أخيه، والابن عن أبيه، والمرأة عن زوجها ...
قد رأينا - لأننا شهدناها عن كثب - أن الأخ يعارض أخاه والابن أباه والكثير من البيوت انقسمت على بعضها، إن مثل هذا أيضا كان يحدث في لبنان في أيام طغيان الإقطاعية السوداء، ولكن ذلك كان يحدث تقية أما اليوم فأظنه عقيدة، وإذا لم تكن قد تبلورت بعد فسوف تتبلور.
حدثني عمي - حين كان يبرر موقفه من البطرك إلياس الذي كان غاضبا علي لإلحادي وكفري - قال: مثلك ومثلي يشبه حكاية ذاك العم وابن أخيه في عهد الأميرين يوسف وبشير، انقسما فكان العم من حزب المير يوسف، وكان ابن أخيه من حزب المير بشير، فكان إذا حكم الأمير بشير وأراد الانتقام من العم صاح ابن أخيه: والو يا سيدنا المير! أيش تقول عني الناس؟ ألا يقولون شب طويل عريض ما قدر يحمي شيبة عمه، وهو شيخ جليل؟!
فضحك الأمير بشير على خلاف عادته، وقال للشاب: وهبتك هذا الشيخ ولكن بدون «جليل» ... لأنه قليل الهيبة.
ثم دارت الأيام وحكم المير يوسف وعزم على قتل الشاب، فتقدم منه العم وقال: ماذا تقول عني الناس، لحية طويلة عريضة لا تحمي ابن أخيها؟!
فالتفت إليه المير يوسف وقال: قالوا إن اللحية سياج ترد عن صاحبها مسبات كثيرة ... ولكنهم لم يقولوا إنها ترد القتل عن غيره، ومع ذلك إكراما لخاطر جنابك يا شيخ لا نمسه.
أتمنى أن يكون هذا الانقسام الذي رأيته في الشوف انقسام مبادئ وعقائد لا انقساما طائفيا، أو حفظ خط الرجعة، ومسك الحبل على الطرفين ...
لقد حان أن نترك عنعناتنا تلك ونتمسك بالمبادئ التي رسخناها على صخرة ميثاقنا الوطني! ...
21 / 11 / 52
شراويل عتيقة
قال لي أحد شيوخ القرية: كان لرجل بقرة وليس عنده من يرعاها، فكان يفك خناقها عند كل شروق شمس ويحوطها باسم قديس ذلك النهار - ولكل يوم قديس عند النصارى - فكانت تروح ترعى وتجيء. ولما جاء يوم عيد جميع القديسين كبر قلب الرجل واطمأن حين أطلقها بحراستهم جميعا، ولكن البقرة راحت وما رجعت.
إن هذه الحكاية تؤيد - في نظري وحدي على الأقل - حكمة تقليل النواب؛ لأن كثرتهم - وما أستثني إلا بعضهم - ضرت الكثيرين وما نفعت إلا القليلين من المحاسيب والأنصار، أما قال المثل: كثرة الطباخين تشيط الطعام، وبيت الثنتين خرب من سنتين.
أظن أن الإقلال من النواب سيؤدي حتما إلى الإقلال من غيرهم. إذا قلت لك: إن بيوتا برمتها تعمل في مأوى الدولة أخشى أن لا تصدق، بلى صدق، كما صدقت أنا من روى لي هذه الحكاية، قال: دخلت مرة إحدى الدوائر فرأيت الأب فيها رئيس ديوان، وابنه الأكبر رئيس قلم وزوجته ضاربة على الآلة الكاتبة، وابنه الآخر حاجبا، فقلت له: جحا وأهل بيته عرس! من بقي في البيت من غير شر؟ فهز رأسه وقال: نفقنا والجبر على الله.
فلو شاءت الدولة - اليوم - ففي استطاعتها أن توزع الميزانية توزيعا عادلا على جميع اللبنانيين فلا يخلو بيت من نعمة الوظيفة ...
أذكر أنه صدر في زمن الانتداب مرسوم يمنع أن يكون في الجمهورية اللبنانية موظفان درجة قرابتهما ثالثة، وإذا وجد فللحكومة الحق أن تصرف من تشاء منهما، فيا ليت شعري! ماذا يصير لو شئنا تنفيذ هذا المرسوم!
ما أظرف انتقاد الشيخ سعيد تقي الدين لهذه الحالة في رائعته التمثيلية «حفنة ريح». اقرأ أول الصفحة 31 واذكر هذا المسرحي الموهوب بالخير. لقد ندد باحتكار البيوت اللبنانية للوظائف بأسلوبه التهكمي الساخر، فخلق في مسرحيته تلك أمتع الأجواء الفنية الانتقادية.
أنا لا أدعو إلى التدقيق الذي ذكرت، ولكني أرى أن تبدأ الحكومة بالأميين وأشباه الأميين، والذين لا عمل لهم إلا قبض المرتب، وغير المرتب ... وخصوصا الطوال الأيدي الذين التهموا البراني والجواني ... وهكذا يختصر جهاز الموظفين كما اختصر جهاز النواب ويصير توب الدولة مفصلا على القد.
كانت المرأة اللبنانية، حين تعتق شراويل زوجها، تعمل الاثنين أو الثلاثة واحدا، وفي إمكان الحكومة أن تعمل اليوم مثلها وأكثر، فتجعل الأربعة والخمسة واحدا، أما عندها شراويل كثيرة بالية ... وقذرة ريحتها طالعة؟!
28 / 11 / 52
كنت جئت إلى رومية
كثيرا ما تمسي خزائن دوائر الدولة قبورا لمصالح العباد، فلا بعث ولا نشور ولا نفخت فوق رءوس «الأمناء» في بوق رافائيل ...
أعرف «قضايا» عمرت أكثر من زهير وما سئم أصحابها تكاليف الحكومة ... ولكن ما لنا ولهذه فأتفه قضية تقتضي صاحبها عاما وعامين، فينفق ما في كيسه حتى يحصل على لا شيء، ويأسف على حق دفع ثمنه غاليا، نقدا وعدا، وإضاعة شهور وأعوام، وهكذا يترك حقه كل من يؤثر الراحة ويأبى أن يهون، وكيف يطلب ذاك الحق عند من يحجبه ساعات ثم يقول له: ارجع بعد جمعة، ثم عد بعد شهر، ثم وثم ...
إن هذا المسلك ليس من خصائصنا وحدنا، ولكنه وباء انتشر في جميع العصور وما وقي الناس منه إلا قوانين صارمة تسهر على تنفيذها حكومات لا تراعي في المنام خليلا.
روي أن أحد مشاهير أحبار الكنيسة الرومانية استدعي إلى الفاتيكان، فطار إلى رومة تاركا على الله شئون الأبرشية، ظن سيادته أنه مدعو للترقية، فقيل له حين وصل: عليك دعوى وسينظر بأمرك.
وقعد سيادته ينتظر، وبعد عام سئل وأجاب، وقعد ينتظر ... ومرت شهور ولم يسأل، ثم عينت جلسة لمحاكمته بعد أشهر، وأقبلت جمعة الآلام فتعطلت أعمال المجمع، وأجلت جلسة محاكمته فنفذ صبره.
كان سيادته من خطباء الكنيسة المشاهير فكلفوه بخطبة يوم «الجمعة الحزينة» فما أحجم، وقام خطيبا في الأب الأقدس وكرادلة وأساقفة الفاتيكان جميعا، ولما بلغ مناجاة المصلوب مد ذراعيه نحوه وهتف: يا سيدنا يسوع المسيح، لحسن حظ أبينا آدم ومن معه في الجحيم كانت محاكمتك في أورشليم، فحوكمت وصلبت ومت وقمت في ثلاثة أيام ... فلو كنت جئت إلى رومة لكنت حتى اليوم قيد المحاكمة.
فتماوجت رءوس الأحبار في كنيسة القديس بطرس، وسأل البابا عن قضية المطران فأخبر فأمر، وقضي الأمر وعاد الأسقف إلى كرسيه مكرما.
ذكرني بهذه الحكاية ما قرأته في مرسومين جمهوريين، أولهما مرسوم ديوان المحاسبة، وقد جعلت فيه مدة التدقيق اثني عشر يوما لا غير، ومرسوم قانون المعلمين وجعلت فيه مدة النظر شهرين.
جميلة جدا جدا هذه السرعة، وأجمل منها أن لا تظل حبرا على ورق ... فالموظف الذي يترك ومروءته قد يسترخي ولا يقوم بحمله، فلا بد له - مهما كان نشيطا - من تحذير وتقدير ... أما الذي لا يستنهضه ثناء ولا يؤثر به تقريع، فما دواؤه إلا القلع لأنه ضرس مسوس.
وكيفما دارت الحال فلا بد من أن يظل «البابا» متيقظا ...
5 / 12 / 52
تلاميذ كبار
- تفضل اقرأ يا أستاذ!
قلت: خير إن شاء الله! وتناولت الصحيفة من يد أحد تلاميذي لأقرأ فيها ما معناه: ووقف النائب فلان ليدافع عن اقتراحه فأغرق النواب المعارضون صوته في عاصفة من الصفير والطقطقة والتصفيق باليدين والرجلين، إلخ.
وفيما أنا ماض في قراءتي إذا بالطالب يقول: ما لك تهز برأسك؟ ليس لهؤلاء من يعطيهم الإنذار الأول، أو الثاني لأنهم نواب ... أما نحن؛ لأننا تلاميذ، فكنت وما زلت تستبد بنا وتوبخنا إذا ضججنا قليلا في الجمعية.
قلت: لا يا ابني، إذا أخطأ أحد من الناس، ولو كان البابا المعصوم فلا يصبح الخطأ جائزا، الخطأ خطأ، نحن كلنا تلاميذ، أنتم تلاميذ صغار، ونحن تلاميذ كبار.
إن للندوة النيابية نظما وآدابا، ومن يفعل مثل ما فعل النواب يتجاوز حدود الكياسة. ولو كان لرئيسهم ما لي عليكم من سلطان؛ لأنزل بهم ما كنت أنزله بكم من قصاص ... طبعا لا يمنعهم من الخروج يوم الأحد كما أفعل، ولكن الشارع وضع لهم قانونا يبعدهم عن الشارع ...
قيل: من يعجز عن البرهان يستعمل يده، وبعض نوابنا الكرام لم يستعملوا أيديهم فقط بل استعملوا أيديهم وأرجلهم وجميع جوارحهم، ولم يتذكروا أن للندوة النيابية قدسية الهيكل وأبهته، ولكن متى كانت الغاية التهشيم فالأنظمة قش وهشيم ... - إذا كان التصفيق محرما على النظارة في الندوة؛ فهل يجوز للنواب أن يفعلوا ما فعلوا؟! - لا يا بني، يجب أن يعاقبوا، أهكذا تريد؟ ولكن إذا غض النظر فأنت تعلم كم كنت أتغاضى عن زلاتكم ... الحق أقول لك: إني ما كنت أعاقبكم انتقاما، بل لأروضكم وأرسلكم إلى «الندوة» حيث لي من رفاقكم سبعة اليوم، ولا أحسب أن أحدا منهم شارك في هذه الهيصة «الكشكشية»، أؤكد لك أنك متى صرت نائبا سوف تعرف واجباتك وتحقق الكلمة المأثورة: لولا المربي ما عرفت ربي.
النواب رمز الشعب، وكثيرا ما تسمعهم يتكلمون باسمه، ويظهرون غيرة عليه، فمن الخير لهم ولنا أن يحترموا الندوة كما يحترم الوافه - السكرستاني - القربان، فهو لا يمر أمامه مرة ما لم يركع نصف ركعة على الأقل ...
لقد ضجوا يا ولدي - كما كنتم تضجون - فسامحهم هذه المرة، ولست أشك في أنهم ندموا وسوف لا يعودون إلى مثلها، وحياة رأسك، ورأس النظام البرلماني والديمقراطية ...
15 / 12 / 52
إلا وإذا
ميزانية المنافع العامة وما أشبهها، حبل يشد به كل نائب صوب صدره، وما أهلك الناس إلا تلك الإقطاعية النيابية، أطلقوا يد النائب في مخصصات منطقته فكان يبذرها حيث تنبت له زلما وأذنابا ... أما الإنشاءات الحيوية الهامة فلا يعنيه أمرها، يهمه أن يبيض وجهه لدى أناس دون غيرهم، لدى من ينامون عند عتبة بابه، ليصبحوا جنابه متى أفاق وتمطى، ويقبلوا يده النظيفة على الريق ...
هكذا كانت تقايض الحكومات النواب بمخصصات المناطق وتأخذ منهم الثقة الغالية رأسا برأس ... أما ثقة الشعب فأي قليل عقل يسأل عنها؟! من يسأل عن «ثقة» لا تشيل ولا تحط ولا تقدم ولا تؤخر. كان النائب حاكما بأمره يأمر بنقل الأموال من بند إلى بند، ويأخذ مال قرية لينفقه في أخرى، وما على صاحب المعالي إلا أن يبتسم ويقول: طيب! فليكن.
منذ سنوات خصصوا لجر مياه نبع قطرة - بلاد جبيل - مبلغ 300 ألف ليرة، ثم رسموا الخرائط ودفعوا ثمن المياه وخططوا «السبل» في كل قرية، وقعدنا ننتظر الورود لنكسر عطشنا، ولكن الأيام مرت وظل النبع يسقي الصخور والأرض البور، والثلثماية ألف ليرة لم نعلم كيف طارت ولا في أي بطن هي؟
دفعت في هذا الصيف زهاء مائتي ليرة ثمن مياه نقلتها من الضبية ونبع القطين إلى عين كفاع، أما من لم يستطع فكان يشرب من مياه الآبار الآسنة، ما جرني إلى تفريغ هذا الجراب إلا ما قرأته في الصحف عن المشروع الإنشائي، وقد أعجبتني من قانونه المادة الثالثة، وهي: لا يجوز نقل أي مبلغ من مشروع إلى آخر في الجدول الملحق بهذا القانون، إلا بقانون خاص.
إن هذا البند جعل أملنا بالشرب كبيرا، ولكن كلمة «إلا بقانون خاص» تخوفني، فليت الحكومة تستغني في قوانينها عن «إلا وإذا» ليطمئن قلبنا إلى مواعيدها ... يجب أن تكتب الميزانية بأصبع الرب، ويجب أن ينفق كل رقم منها في المكان المعين له، ويجب أن يبقى لأصحابه وإن أقوى وطال عليه سالف الأمد.
في ذلك الزمان قدموا للجنرال ويغان ميزانية جديدة ليمضيها، وبعد التدقيق رأى فيها مبلغ مائتي ألف ليرة باقيا من عام أول. ولما سأل لماذا بقي أجابوه: وفرناه، فانتفض، وقال: ليست ميزانية الحكومة دكان أبازير
Epicerie ، أنفقوه على ما خصص له حتى أصدق لكم.
فليت الحكومة تقطع ذنب المادة الثالثة - إلا بقانون خاص - فيبقى لكل ذي حق حقه، وهكذا نتقي شر من لا يهمهم من النيابة غير أخذ مال هؤلاء وإعطائه أولئك.
17 / 12 / 52
قص لحية عضو
البقية الباقية من ألسنة النواب تحاول إلغاء الطائفية، والطائفية مرجة خضراء فيها كل طيب مري لمن يحبون أن يؤتوا أكلهم على الهينة.
كان لي صديق صيرته طائفيته محافظا، وكانت تعجبه هذه الوظيفة ويحمدها كثيرا لأنها سيمفونية تطرب لها آذان إقطاعيته المعتقة، قال لي مرة: تريد مني يا مارون أن أتعرى من طائفيتي، وأنا لولاها ما صرت محافظا! أما على المحافظ أن يكون محافظا؟ هب الطائفية ألغيت اليوم فبعد غد أقعد في بيتي للعزاء ... قالوا: من قلة الرجال سموا الديك أبا قاسم، ولك أنت أن تقول: لولا الطائفية ما صار «أخوك» ما صار.
صدق صاحبي، إذا نظرنا إلى الطائفية بمنظاره هذا فهيهات أن نقبرها ولو أنتنت وأفسدت جو البلاد، فوظائف الدولة في لبنان شركة كولكتيف معقودة بين أهله منذ القدم، احتاجوا في زمن المتصرفية إلى عضو محكمة من طائفة ما، فما وجدوا إلا رجلا أميا ولكنه صاحب ضمير، فعملوه عضوا - مستشارا - في محكمة بداية كسروان. وتطبيقا لما جاء في المثل: أرسل نبيها ولا توصه، جعل مولانا القاضي علامة بينه وبين الباشكاتب، فإذا أشار هذا إلى ظفر إبهامه كان على العضو أن يختم بختمه الصغير، وإذا ثني الباشكاتب سبابته ودورها لتتصل برأس إبهامه ختم بختم المحكمة الكبير، وهكذا كانت حياة قاضينا الفاضل طوع إبهام الباشكاتب وسبابته ...
وحكاية ك.ع. مشهورة يعرفها بعض اللبنانيين المخضرمين انتخب هذا الشيخ المعظم عضوا عن طائفته لمجلس الإدارة اللبناني، وما كان عنده من آلة الوظيفة سوى لحية طويلة يحركها، وشاء أعضاء مجلس الإدارة الاثنا عشر أن يتسلوا فكتبوا مضبطة وقدموها له فمهرها كعادته بختمه الشريف، وشد ما كان غضبه حين عرف أنها تتضمن «التوصية» بقص لحيته، كما أوصى النواب أمس بإلغاء الطائفية ...
وبلغ الخبر داود باشا فمات من الضحك وقال: هكذا يصير متى وزعت الوظائف على الطوائف كالجرايات.
وأعرف قائمقام كان داهية في تصريف الشئون وتدبير الأمور عن ظهر قلب، أما الحبر والورق فلا خبز له فيهما. اضطر سعادته مرة أن «يحول» بخط يده عريضة قدمتها له في بيته فكتب رحمه الله: للفص عن هذه المسألة، أي للفحص عن هذه المسألة.
وأخذت هذه العريضة لضابط كسروان وهو يوزباشي، فإذا شهاب الدين ... من أخيه: لا يفك الحرف، فقرأتها له فلبى الأوامر وأرسل «ضابطيته» للفص عن هذه المسألة ... التي تحتاج إليها جلودهم ...
هذا بعض ثمرات الطائفية الزكية، فحرام علينا أن نجهز على هذه الفأرة العمياء التي تعيش في النافقاء ... يؤذيها النور، ولا تقرض غير الجذور ...
25 / 12 / 52
عصر ورق!
كل شيء في هذه الدنيا صار حبرا على ورق: النقد حبر على ورق، والقوانين حبر على ورق، والشهادات حبر على ورق، وأقدس المبادئ أمست حبرا على ورق.
فلله أمك وأبوك أيها الورق! ما أوسع دولتك، وما أقوى شوكتك!
التراب في فم من يقول: ما أض... من الحبر إلا الورق.
كانوا فيما غبر يكتفون بكلمة: قلنا، خلص، أما اليوم فأشداق سجلاتنا تسمع الدنيا وما فيها، ثم لا يخلص شيء.
نظل حيث كنا لأن الورق لا يقابله شيء من ذهب القيم، فكيف تطلب أن يكون ذا قيمة!
سألوا كليمنصو عن رأيه في المعاهدات، فأجاب المعاهدات حبر على ورق، يجب أن يكون قبالة كل كلمة دارعة، وقبالة كل بند من بنود المعاهدة أسطول لكي تنفذ.
تعنى معاهد لبنان اليوم بمعادلة بعض شهاداتها. الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية فريق أول والعلم والحكومة فريق ثان. أما الذي يتأمل ويقيس الأشياء على أشباهها ونظائرها فيرى شبها عظيما بين الشهادات الجامعية والنيابية، يزيدون في معادلاتهما كما زاد النواب المحترمون راتبهم، وأما «النصاب» فيظل مفقودا ... إن أكثر شهادات هذا العصر مثل دنانيره، كل أربعين بواحد ...!
كان في قريتنا «فلاح» يلقبونه الحداد، وكان الحداد مشهورا بحراثته السطحية، فلا يلجأ إلى سكته وفدانه إلا المضطر. استأجره مرة رجل اسمه بركات رزق، فما كان الصباح حتى التقيا في بستان الزيتون. وقف الحداد قبل الشروع بالحرث ينفخ في يديه الثنتين ويلقي خطاب العرش: عمي بركات، الكبة بالصينية لها فلاحة، والفاصوليا مع الرز لها فلاحة، والمجدرة لها فلاحة، والبطا...
فصاح بركات: بس، بس، وحق مار شليطا مزرعتنا، لو غديتك سمكة مقلية، وعشيتك دجاجة محمرة فلاحتك هي هي، فلاحة حدادية ... سق يا عمي سق ...
أفلا تظن مثلي أن معظم شهادات اليوم مثل فلاحة الحداد؟ أوليست إذا عدلت أو لم تعدل، تظل هي إياها؟
أليس علينا، أولا أن نسلح الشباب فلا نحملهم بندقيات فارغة!
عجيب أمرنا! كيف صرنا من حبر وورق، بعدما كنا من لحم ودم.
أو كلما انفتح باب في الدولة نسده بلوح كرتون!
فتشوا يا جماعة الخير عن الحديد والفولاذ، وأقل شيء عن خشب ... وإلا تركتم بيوتكم عورة ...
للشهادات حسنات وسيئات، ولكنها - وأنا خبير بذلك - قد نزلت المعرفة ثمانين بالمائة.
إنهم يكتبون اليوم على تذكرة الهوية: يقرأ ويكتب، أما بعد حين فأخشى أن يكتب حامل شهادة ...
31 / 12 / 52
1953
رستم يحكم على كيسه
على ذكر التشكيلات القضائية، أو استقلال القضاء أو تطهيره - كما تعنون الصحف أخبارها المحلية - قال لي أحد الأصحاب: أما في جرابك شيء من أخبار قضاة أيامكم؟
فضحكت وقلت له: أتظن أني من مواليد طسم وجديس! ألا تعلم أني ابن اليوم! ومع ذلك قل لي: أي زمان تعني؟
قال: أعني أيام المتصرفية.
قلت: إذن اسمع هذه الحكاية: كان رستم باشا، متصرف لبنان الثالث، يحب النسوان حبا جما، وجسر الباشا وجنينته المشهورة باسمه أحدثها هذا المتصرف إكراما لعيني صاحبته ... وهناك في ذلك المنخفض الذي يذكر من يراه بالعهود الرومانية كان يسرح ويمرح معها.
وعرف الناس في رستم باشا هذا الميل فكانوا يدعون السيدات الأنيقات لتناول الطعام معه في المآدب التي تقام على شرفه، وفي إحدى زياراته للجنوب أعجبته سيدة كيسة كان يجلسها قبالته على كل مائدة، حتى ظن الناس أن أم شهدان استولت عليه، وصارت صاحبة الكلمة النافذة عنده وكذلك ظنت السيدة.
وحدث بعض مضي شهرين ثلاثة على زيارة أفندينا، أن طعن أخو الست أم شهدان شابا من أقرانه طعنة نجلاء، فاستاقوه إلى بتدين ودك في الحبس، فتزوقت أخته وتطوست وركبت الزرقاء قاصدة بتدين، فاستقبلها صاحب الدولة استقبالا حارا وأنزلها عنده ضيفة، وغالى الباشا في الاحتفاء بها، فطمعت به وسألته أن يعفو عن أخيها ويخرجه من الحبس.
فهز رستم باشا رأسه وقال لها: يا أم شهدان، على «الشالوف» كيف وبسط، أما في سراي بتدين فعدل وإنصاف، هذي مائتا ليرة عثمانية مصروف أخيك، ليأكل ما يشاء، ويشرب ما طاب له، ومتى نفدت تقدم له غيرها، أما العفو عنه فهذا فوق قدرتي يا أم شهدان. - يه، يه، يه، تقبر العملة يا أفندينا، القصة قصة نفوذ ونفوس لا قصة فلوس. - لا نفوذ ولا نفوس على حساب القانون يا أم شهدان، اعذريني، والله لا أقدر.
فقالت الست بغنج ودلال: أما أنت الذي عينت القاضي؟! - نعم يا ست، ولكني عينته ليحكم باسم مولانا السلطان لا باسم رستم متصرف لبنان، أرجوك يا سيدتي، أن تساعديني على قتل «الخاطرشن» في بلدكم، بلدكم جميل، وأجمل البلدان ما زينها عدل الإنسان.
وأبت أم شهدان إلا المساومة، فأخذها الباشا بذراعها، وقال: قومي، السفرة ممدودة، الأكل غير العدل يا أم شهدان ، وفيما كان يدق كأسه بكأسها قال لها: رستم يحكم على كيسه لا على القاضي ...
والتفت إلى صاحبي فرأيت شفتيه مندلقتين، وأخيرا نطق قائلا: رزق الله على أيامهم!
فقلت: وفي أيامنا أيضا يوجد قضاة نظاف، مستقلون، مثل قضاة رستم باشا، فلا تيأس من رحمة الله.
7 / 1 / 53
قضاتك فتيان
عندما جاءنا مظفر باشا متصرفا فكر بأشياء كثيرة لا عهد للبنان بها من قبل، منها أن يلبس القضاة ثيابا خاصة، ومنها أن يكون «روب» رئيس وأعضاء محكمة الجنايات أحمر، وأن يتقعنوا بلحى مستعارة ... فاستغرب الناس اقتراح الباشا لأن القضاة في ذلك الزمان كانوا يقعدون للمظالم بشراويلهم وغنابيزهم، وعلى رءوسهم عمائمهم وطرابيشهم.
ذكرتني باقتراح مظفر باشا المادة 32 من قانون القضاة الجديد التي جاء فيها: يعين بمرسوم شكل ثوب القضاة.
أما المادة الخامسة التي تقول: يعين رئيس محكمة التمييز، ونائبها العام، ومفتش العدلية العام، من ... ومن ... أو من المحامين الذين مارسوا المهنة عشرين سنة على الأقل.
فاستنتجت منها أن يكون من حق القاضي المميز أن يقول:
أخو خمسين مجتمع اشدي
وتنجدني مداورة الشئون
وقد ذكرتني هذه المادة أيضا بما وقع للجنرال غورو مع المارشال ديزسبيره، جاء ذاك المارشال زائرا الشرق الأوسط، ونزل ضيفا على الجنرال غورو في قصر الصنوبر، فأحب الجنرال أن يزيره قصر العدل، ولما دخلا رأى المارشال أن كبار القضاة ما زالوا في ريعان العمر فالتفت إلى الجنرال وقال له: قضاتك صغار العمر جدا
Vos juges sont trop jeunes .
فكم كنت أتمنى على من وضعوا قانون القضاة الجديد أن يجعلوا الحد الأدنى لعمر القاضي ثلاثين سنة بدلا من خمس وعشرين، وإن كنت لا أقيم للعمر وزنا كبيرا، وأرى المتنبي صادقا في قوله:
قد يوجد الحلم في الشبان والشيب
ومع ذلك أظن أن لجلال العمر وقعا في نفوس المتقاضين.
والعوام يقدرون سمت القاضي وأبهته وجلاله أكثر مما يقدرون ما يعرفه من اجتهادت دللوزية وغير دللوزية ...
مر كاهن على فلاح يحرث أرضا لم تعد تعطي، فاستوقفه الفلاح قائلا له: أرجوك يا أبانا أن تصلي لي على الماء، فأرضي عقيم، فأبدى المحترم اهتماما وصلى طويلا، ولكنه قال له بعد الصلاة: يستحسن أيضا أن ترش مع الماء شيئا من السماد ...
وأنا أرى أن يضاف إلى النجاح في الامتحان أكبر كمية ممكنة من العمر، ليتهم جعلوه ثلاثين، حتى إذا ما تمرن القاضي المحدث واستقل بالكرسي حق له أن يقول:
وماذا تبتغي «الشعراء» مني
وقد جاوزت حد الأربعين
14 / 1 / 53
الطاهي الأعظم
قال كليمنصو: المعاهدات حبر على ورق، وإذا أردنا تنفيذ بنودها فليكن لنا قبالة كل كلمة دارعة.
وعلى هذا القياس يمكننا القول: عمل الملاكات للدولة مليح جدا، وأملح منه أن نضع فيها رجالا صحاح النفوس والضمائر، ثم نسهر على تطبيقها، فالسهر والتفتيش خير من عمل الملاكات والتطنيش. فتأديب موظف واحد ينفع في الملاك روحيا محييا، وإلا فإنه يظل جثة بل جيفة.
إذا لم تفتح الدولة عينيها الثنتين فعبثا تتنوق في رصف العبارات وتنشد المثل الأعلى من الألفاظ، فالخريطة غير البناء.
لا ينقص الإسلام والمسيحية دستور ليعودا سيرتهما الأولى، لا ينقصها إلا رجال مؤمنون يعملون بيقين ورجاء وسماحة. الدساتير كلها جيدة، ولهذا قال المثل العامي: اقرأ تفرح جرب تحزن.
في ساعة غضب فار رستم باشا متصرف لبنان وضرب سائق عجلته كرباجين ثلاثة، ولما هدأ أدرك أنه توحش فأمر السائق أن يشكوه إلى المحكمة، وتحير القاضي كيف يسمع دعوى عربجي على سيد البلاد وأراد لفلفتها ... واستبطأ الباشا مذكرة الجلب فدعا القاضي وقال له: إن لم تمش الدعوى تمش أنت إلى بيتك.
وبعد أسبوع صدر الحكم بحبس المتصرف أربعا وعشرين ساعة، واستبدل القصاص بدينار جزاء نقديا؛ لأن ماضي «أفندينا» نظيف فدفع دولته لسائقه الدينار مع الاعتذار، وطار الخبر في الجبل فهاب الناس رستم باشا وأجلوا حكومته.
إن عملا كهذا يقر العدالة أكثر من ألف ملاك. نحن لسنا في حاجة إلى طباخ ماهر، ولكننا محتاجون إلى مواد تصدير متى طبخت طعاما شهيا.
منذ ثمانين سنة تقريبا زار رئيس مدرسة عينطورة تلاميذه - في عمشيت - فحل ضيفا في بيوت كبيرة كريمة، وأعدت له مآدب غنية بكل طيب شهي، وشاء كبير القوم أن يتواضع ويعتذر، فقال لابنه الذي يحسن الفرنسية: قل للبادري رئيسك إنه شرفنا على غير ميعاد، فما أحضرنا «عشي» يعمل له الأكل، نرجو منه عدم المؤاخذة.
فضحك الأب الرئيس وأجابه: خواجه جبرائيل، الرز الجنوي، واللحم الضاني، والسمن الحموي، والسمك والدجاج كل واحد منها عشي كبير! ألف ممنون.
ونحن نقول: رجال نفوسهم شبعانة، وأيديهم نظيفة، وأخلاقهم شريفة يغنون عن دستور مؤلف من ألف مادة ومادة، فالرجال هم الحصانة لا الملاكات، الحبر ينصل ويمحي والورق يرث ويتمزق، أما أخلاق الرجال الفاضلة فكالساعة التي في يدي لا يخترقها الماء ... ولا تؤثر بها الصدمات ... ولا يعرقل سيرها مغنطيس ...
Anti-magnetic, Waterproof, Anti-shock .
22 / 1 / 53
الحرباء والسنونو
كان لأمير قصر منيف تطوقه حدائق وجنات، للزحافات في نخاريبها أحجار وللطير في شجرها أوكار. وكانت هذه المخلوقات الدنيا تعيش في جيرة الأمير آمنة لا تمتد إليها يد أحد بسوء؛ لأن رب القصر كان ممن عرفوا بالبديهة شرع الرفق بالحيوان.
ورأى الأمير في إحدى نزهاته الصباحية حرباء تتشمس، والغلمان من حولها يعبثون بها، فأومأ الأمير إليهم وقال: هذا حيوان لا يضر فلا تؤذوه، فتركوا الحرباء تنعم بالدفء وتتلون كما تشاء.
وتوغل الأمير في حدائقه الواسعة فرأى أفواج السنونو تعلو وتسفل صائحة متهللة كأنها ترحب بمقدم الربيع، ورأى صغار عبيده وجواريه يحصبونها فقال لهم: إنها طيور مظهرها خير من مخبرها فما لكم ولها!
وفهم خدم القصر وحشمه أن مولاهم لا يطيق أن يؤذي حيوانا تحرم بجواره، فتركوا السنونو تحلق وتسف، ومشت الحرباء الهوينى آمنة تتسلق الأشجار وتتعلق بالجدار، تحمر وتخضر وتصفر، وتنفخ في وجوه العابرين فيمرون بها مر الكرام امتثالا لأوامر سيد القصر.
وكانت غارة شنها إقطاعي آخر على سيد القصر فقهره، وبعدما سلب ذخائره، أضرم النار في قصره، وهبت الحاشية لمكافحة النار ولكنهم لم يقدروا عليها.
وكان شيخ من رجال الأمير يشاهد الكارثة العظمى بحسرة وتفجع، إلا أن مشهدا آخر لفت نظره فأنساه هو النكبة، رأى السنونو تطير إلى بحيرة قريبة من القصر، ثم تصدر عنها وفي مناقيرها نقطة ماء تصبها فوق اللهيب، ثم تعود أدراجها جادة في عملها كالواثق من نجاح مجهوده، وظلت تلك الطيور تروح وتجيء حتى شلت أجنحتها وسقطت في النار فالتهمتها.
فأسف الشيخ لمصرعها ورفع يديه نحو السماء وصاح: أين أنت يا رب؟ من غيرك يا الله لمساعدة فاعل الخير؟
ولكن مشهدا آخر أنساه مصيبته، رأى الحرباء، وقد جرت وراءها أسرتها الكريمة، تجد في النفخ محاولة من كل عقلها إضرام النار.
فقال الشيخ في نفسه؟ الله الله، أما أحسن الأمير إليها مثلما أحسن إلى السنونو؟
قال هذا وتناول حجرا، وما هم برميها حتى رأى يدا تمسكه وسمع صوتا يقول له: أما نهانا الأمير عن الإضرار بها.
فأجابه الشيخ: أما رأيت هذه الملعونة يا ابني! تأمل كيف تنفخ بالنار.
فصاح الفتى: اسأل ربك الستر يا جداه، فلا الحرباء تضرمها، ولا السنونو تخمدها، ولكنها الطباع ...
28 / 1 / 53
مرض الكرسي
أكبر هم الوجيه اللبناني أن يقعد ولو على آخر كرسي في دوائر الحكومة، لقد استبطننا هذا الداء فعشش وباض وفرخ في رءوسنا، فبتنا لا نؤثر على الوظيفة عملا وأصبح الكرسي أقصى أمانينا. فهذا ناشئنا في المدارس يدرس بإحدى مقلتيه ويتطلع بالثانية إلى الكرسي العتيد الذي يحلم به. وهؤلاء أعياننا ووجوهنا، فجل ما يتمنون، أن يقعدوا ولو على كرسي مخلع، وأن يجلس عليه أولادهم وأحفادهم.
تعجب الناس عندنا حين قرءوا أن جمعية أصحاب المطاعم الليلية في نيويورك عرضت على المستر ترومن إدارتها بمرتب قدره خمسة وسبعون ألف دولار. - يه! يه! يه! من رئاسة جمهورية أميركا! من القصر الأبيض إلى مكتب جمعية أصحاب مطاعم! يا عيب الشوم.
هكذا سمعتهم يقولون: ترى لماذا استغرب هؤلاء ما رآه ترومن والأميركان شيئا عاديا؟! إنهم لبنانيون، ولا عز ولا مجد عند اللبنانيين إلا على الكراسي، لا تنسوا يا سادة: أن أخلاق الأميركان ليست بنت الساعة، لهم عقليتهم ولكم عقليتكم، الوظيفة عندهم خدمة، وهي عندكم تأمر وسيادة ولو على الرعاع، لم ير ترومن في كرسي أكبر رئاسة في العالم غير كرسي عمل من الأعمال، جلس عدة سنوات على كرسي جورج واشنطن، وما كان جورج واشنطن غير خادم لأمته، كان يهمه أن يكون شعبا لا أن يجلس على كرسي.
كلنا يعلم سيرة الخلفاء الراشدين وماذا عملوا، فكانوا قدوة للشعب، وخلقوا أمة مثلى. أما جورج واشنطن فهاكم ما فعل:
كان في الشارع فرأى شابا طويلا عريضا يفتش عن عتال يحمل له بقجة صغيرة، فاقترب منه جورج واشنطن على أنه عتال، وأخذها من يده ومشى بها إلى البيت. قال لأم الشاب حين سلمها إياها مع ما قبضه منه أجرة: قولي لولدك عتالك جورج واشنطن يرجو منه أن لا تعود لمثلها.
إن أمة يفعل رئيسها هكذا لا يستغرب أن تتقدم فيها جمعية مطاعم ليلية بعرض إدارتها على الذي كانت كلمته أمس تقيم الدنيا وتقعدها.
لا رقي لنا نحن الشرقيين عموما - واللبنانيين خصوصا - ما لم نخلع ثيابنا القديمة المزركشة، ونلبس الطقم الكاكي. ولا حياة لنا بين أمم الأرض ما لم نقبل بالعمل الشريف مهما كان نوعه.
في ساعة جدال قال أحد لوردات الإنكليز لأحد النواب: أتعلم أن والدك كان يمسح بوط أبي؟ فأجابه النائب بالبرودة المشهورة: نعم، ولكنه كان يمسحه جيدا.
إن المدارس مسئولة عن غرس هذه الأخلاق في نفوس رجال الغد، والموظفون أنفسهم هم خير المعلمين، متى تواضعوا واستقاموا، وفهموا أنهم أجراء الأمة لا أمراؤها.
14 / 2 / 53
ونصف مليون!
تعب نابليون من النظر والتفكير في خرائطه وخططه الحربية، فتحول إلى جناح الحبيبة الأولى، إلى مقصورة جوزفين. كان الإمبراطور يرى في فلك ذلك الوجه الذي أحبه حبا جما طوالع سعده، ولكنه غاب عنها غيبة غير قصيرة فمشت الألسن في عرضها كما مشت الغيرة في قلب الكابورال الصغير الذي كان اسمه يرعب الدنيا.
وراح الإمبراطور يداعب الزوجة الحبيبة، مستعملا دهاءه الحربي في فتح قلب جوزفين على مصراعيه ليعلم إن كان احتله أحد غيره. ثم استطرد ودار الحديث حول الأمانة الزوجية فقال الإمبراطور: الرجل والمرأة في هذا الأمر سيان فقلما يكتفي الواحد منهما بفرد حبيب، فلم يفت ذكاء المرأة ما يعنيه زوجها الإمبراطور، فقالت: المرأة متى أحبت تقف نفسها على من تهوى .
فقال نابليون: ولكن في الدنيا يا سيدتي مغريات يجب أن تحسبي لها حسابا.
فانتفضت جوزفين وقالت هازئة: أية مغريات؟! ماذا تفعل المغريات إذا كان هنالك حب صحيح؟
فتضاحك نابليون وقال: فلننظر يا جوزفين إذا اعترض طريقها الجمال الفتان فماذا يصير بأمانتها؟
فقالت: إذا كانت تحب حقا فلا ترى جمالا إلا فيمن تحب.
فقال: طيب، وإذا لمعت الحلي والجواهر، وبرقت الليرات، ألا ترتخي النفس؟
فأجابت: المال زبالة في نظر المحبين، فصاح بونابرت: لا تبالغي يا سيدتي، المال فكاك المشاكل.
فاشمأزت وقالت: لا، لا يا سيدي الإمبراطور، ربما كان ذلك في الحرب أما في الحب ...
فقال بونابرت إذ ذاك: إذا قال واحد: هذه ألف نابليون! فابتسمت جوزفين ساخرة، وأومأت برأسها أن لا.
فقال: ولو قال عشرة آلاف! قالت: لا يصير شيء.
وجمع إذ ذاك نابليون كل ما في ذلك الوجه العبقري من قوى تستولي على المبادرة وقال: ونص مليون! فصاحت جوزفين: بلا خلط من يدفع نصف مليون؟! فقهقه نابليون، ونكست جوزفين رأسها كحمامة سقطت في الشرك ...
ذكرتني بهذه الحكاية كلمة كتبها الكاتب الطيب إسكندر الرياشي خاتما بها مقاله الصريح حول «قانون الإثراء غير المشروع»، فبعد أن قال ما يشبه: من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ... رمى الإنسانية جمعاء بهذه الكلمة: أي رجل لا يكون سارقا إذا عرف أنه إذا سرق لا ينفضح؟
أظن أن هذا كثير، هذا سهم مراش يا رياشي. أما فينا من لا يسرق لأن السرقة عيب وبس؟
8 / 3 / 53
تذكر ولا تعاد
دخلت على رياض طه فرأيته ملفف الرأس كأنه مهراجا أو مطعوم نجاص ... دخلت، فإذا به - رغم ما به - لا يتخلى عن ابتسامته التقليدية. وبعد السلام والاطمئنان، قال لي مدير مال الأحد وأنباء الشرق: هل في جرابك شيء يشبه حالنا اليوم؟
قلت: ما صار شيء إلا صار مثله، وسيأتيك الخبر.
وبعد استراحة وجيزة عدت إلى قواعدي في عاليه سالما، ورحت أتذكر ماضي السعيد فتراقصت أمام عيني أشباح من حاولوا الاعتداء علي، وكان كل بطل منهم يقول: خبر عني أنا .
أخيرا وقع اختياري على معركتين لا غير، الأولى كانت في صيف 1908، والثانية كانت في ربيع عام 1912.
أعلن الدستور وقطعت الأقلام أرسانها فابتدأنا بمولانا السلطان وانتهينا بآخر باشكاتب في دواوين المتصرفية، وقعدت أتعشى ذات ليلة في مطعم المسكوبي على البرج وأنثر أحاديثي على الملتفين حولي، ممن أعجبهم مقالي: بين حانا ومانا ضاعت لحانا، في جريدة النصير التي كنت أحررها يومئذ، فشغل بالي جلف قبع في الزاوية وكان يزأرني كأنه يريد أن يأكلني بعينيه. فقلت في قلبي: هذا رجل في وجهه شر، يفتل شاربين كقرني التيس ولكنه لا يكاد يقيمهما حتى يناما، يحط دبوسه ويشيله بلا شعور، يتحلحل ثم يجمد، ولما قمت قام، ومشينا فكان يقف إذا وقفت، ويمشي إذا مشيت كأنه ينتظر الخلوة حتى يبوح لي بعواطفه ... فقلت في نفسي: الأوفق أن نفقأ الدمل على عيون الناس، فلا أقل من أن يتقدم واحد من أصحاب المروءة فيرده عني، وأعجبني رأيي فعدت إليه فجأة وقلت لأستولي على المبادرة: ماذا تريد مني؟ قل.
وحرك يده فهبط قلبي في بطني، ولكنه ما حركها إلا ليقول لي: «بدي» فك رقبتك، إذا كتبت بعد كلمة واحدة عن سيدنا الشيخ.
فقلت: وإذا لم أكتب.
قال: يسلم جلدك عليك.
فقلت في نفسي إذا كان فك الرقبة بعد حين فالقضية محلولة وعلى هذا تفارقنا، وهكذا كان. وبعد أسبوعين توجهنا إلى بتدين، وهتفنا بسقوط الكثيرين فأسقطهم المتصرف موقتا ...
هذه واحدة، أما الثانية فكانت في جبيل، كتبت مقالا عن كاهن عنونته: عوافي يا عم - عمبزرع عدس، تاكل وجع - أنا وخيي سليمان.
فغاظ المقال أهل بلدته فنزل إلى عمشيت منها سبعون رجلا بالسلاح الكامل، أما أنا فكنت في جبيل بمدرسة الفرير، فحماني العلم المثلث الألوان، واليوزباشي جرجس غسطين الذي جعلني أنتقل في الإسكلة كالمتصرف، جنديان خلفي، وجنديان قدامي، فأعجبتني هذه الأبهة ولكنها لم تدم، ما دام إلا رسائل الوعيد التي كانت تنهال علي فتحرمني النوم، وصار محسوبكم: إذا رأى غير شيء ظنه رجلا ...
وهون الله أخيرا، والتقيت في سراي جونيه بالقبضاي الذي كان يتهددني، فجاء صوبي وعرفني بذاته الكريمة، وأخذ يهد ويقد، فناجاه ابن عم لي على طرازه، وكان «المحترم» في السراي فجاء على الصوت، ودخل - رحمه الله - في الدعوى شخصا رابعا، وتصالحنا باسم من قال: من ضربك على خدك الأيمن ...
قد يقول القارئ: جرت كل هذه الحوادث يا عنترة، وما أكلت كفا! - لا يا مولاي، خليها مستورة، الماضي مضى ... لم يكن القتل دارجا في زماننا ... ومن يقتل رجلا بمقالة!
إن ضرب الصحفي وسام كبير وإعلان ثمين شهير يعطاهما مجانا ...
19 / 3 / 53
اضرب ... علق الشر
الطائفية نار ونور، نار في الشارع ونور في الكنيسة والجامع، فإذا صلى كل منا على نبيه ولم يضمر لأحد بغضا كانت الخطام والزمام والعهد والذمام، فهي تعلم المسلم:
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، والمسيحي: أحبوا أعداءكم، وأي نور يضيء سبل هذا الشرق أكثر من هاتين المنارتين.
عجيب أمرنا والله، نعيش في جحيم الضغن والشحناء لنحتكر فيما بعد السماء ولا نعطي أحدا فيها مكانا يسند إليه رأسه، ومسيحنا يقول في بيت أبي منازل كثيرة، والرسول قال: «لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى». إني أكره الطائفية والتحدث عنها، وقصتي معها أطول من مصيبتنا فيها، فها قد كاد العمر ينصرم وأنا أعالج سرطانها حتى وجدتها أخيرا كما قال الأخطل: «والطائفية» تلقاها وإن قدمت
كالعر يكمن حينا ثم ينتشر
نعم إنها جرب روحاني، ولو كان جسدانيا لهان الأمر، وقلنا مع المتنبي:
يهون علينا أن تصاب جسومنا
إن شر الأمراض ما كان داء دفينا ينتشر كل ما وافقه المناخ، وهذا ما يصيب هذه الديار من موجات الطائفية العارمة، ومتى ظهرت أعراضها في الجماعات قلب كل منهم الترانشكوت وأربدت الأجواء وأنذرت بالصواعق وأجفل القوم كقطعان الغنم، حتى إذا ما نودي بالأمان عادت إلى مرابضها ترعى وتجتر.
إنها ضوضاء نعارة قد ألفناها، ومتى رفعت صوتها أجبناها، وإذا سكتت نسيناها أو تناسيناها، فمتى تفطس ونقيم لها المآتم والنياحات؟
يظهر أنه لا بد للبشر من التخاصم، فإذا لم نتخاصم دولا تخاصمنا مللا، وإذا لم نتشاحن أقطارا تضاغنا أمصارا، وإذا لم يكن لنا هذا ولا ذاك، تعادينا قرى وضياعا، ألسنا من القوم الذين قال فيهم شاعرهم:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
كان في لبنان بلدتان متعاديتان؛ فلا يلتقي شبابهما في مجمع حتى تسكت الألسن وتتكلم العصي، وتزغرد المسدسات، وتتبسم الخناجر، وفي أحد الأعياد - والعيد في لبنان، وخصوصا صيفا، ملتقى الثنيان والجذعان - التقى الجمعان فكان طرب وغناء وشرب، وفي هذه الحومة تذكر شاب صديقا له من أهل القرية فراح يبحث عنه ظانا أن الجلسة سلام واطمئنان حتى مطلع الفجر. وأخيرا هون الله ولقي ذاك الصديق فراح يقبل وجنتيه وشاربيه وصلعته بقرم ونهم ... وبينما كان يعانقه عناقا جنونيا وقعت عيناه على جماعته فرآهم يقتتلون مع جماعة صديقه، فراح هو يخبط صاحبه بدبوسه ويصيح به: اضرب ولاه ... علق الشر.
تلك هي حالتنا الطائفية، يتنكر بعضنا لبعض دون ما سبب غير هذه النعرة الملعونة، وعلينا أن نضرب من نقبل، ونقول له: اضرب ولاه ... علقوا.
قال القديس إفرام: كنا وعائلة يهودية نسكن بيتا واحدا، فولدت أنا مسيحيا وولد صديقي يهوديا، ولم يكن لنا أن نختار.
لقد تعودنا في هذا الشرق أن لا نتكلم إلا بلغة الدين، فإذا ساومنا بائع مانيفاتورة على قماش نريده سألناه عن دين الخام الذي عنده ... وإذا تكلمنا عن رجل قاس قلنا: ما له دين. وإذا أعجبنا برجل قلنا له: يحرز دين البطن الذي حملك! أما سب الدين فملء أفواه الكبار والصغار.
فما قولك في امرأة أكل الثعلب دجاجتها فسبت دين نوح الذي وضع جده في السفينة؟!
كل هذا يعمل عمله في عقولنا فلنقلع عنه.وإذا شئنا أن نميت الطائفية فلنحذفها من أقوالنا.
26 / 3 / 53
من أمين الريحاني إلى كميل شمعون
يا كميل، مر «أعوانك» أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلبا سرورا وخلق الله له من ذلك السرور لطفا، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الإبل.
علي بن أبي طالب
حضرة الرئيس:
لا تؤاخذنا على رفع الكلفة؛ فنحن في هذه الدنيا الثانية غيرنا في الأولى، فلا «بروتوكول» ولا تشريفات، ولا مواعيد مقابلة، نطل عليه تعالى بلا استئذان، ونجتمع بحاشيته من ملائكة وقديسين ساعة نشاء. الحالة هنا كما تحاول أن تجعلها أنت: «خوش بوش».
وقبل وبعد؛ فأنا ربيب الأميركان وعشير ملوك العرب كهلا، ومن كان هكذا لا تعنيه الألقاب، وهل يلجأ إليها إلا المدجلون؟!
دع العرض وخذ مني الجوهر، إنني أباركك من هذه الأعالي، وإذا لم تكن بركتي «رسولية» فهي إنسانية يستحقها من كان إنسانا مثلك، لا تتعجب إن كتب إليك من لم يتعود مراسلة الرؤساء والحكام، فما خاطبتك إلا لأنك ذو رسالة، ولأن رسالتك هي رسالتي.
كمل يا كميل، والله معك، لا تؤمن بقول العاجزين: الكمال لله، لا يا أخي، والكمال أيضا للإنسان، وهو لهذا خلق. أما سمعت المسيح يقول: كونوا كاملين لأن أباكم السماوي كامل.
الإنسان الطيب نصف إله بل هو الإله، والقلب النقي الطيب يعاين الله، وهذه هي الصوفية المسيحية، فليكن «صليبك» على كتفك، «والهلال» ينير طريقك، وإلى الأمام.
أنت تطير يا كميل، أما أخوك أمين فكان ينزل عن ظهر فرس ليقتعد غارب بعير، أما قرأت ملوك العرب؟!
أرجو منك أن تعيد قراءته، وتقرأ أيضا تاريخ نجد الحديث، وفيصل، وقلب العراق، ولا تنس «المغرب الأقصى» فالدعوى من أخينا فرانكو آتية ولا بد.
والآن قل لي: كيف رأيت «الطويل العمر» أما هو كما قلت عنه؟ يقولون: إن من الكلام لسحرا، والحق إن من الكلام لنبوة، فهذا الرجل حقق كل أمالي، وقد انجلى لي مستقبله حين رأيته فكأنه كان طليعة عيني.
لا تسأل عن فرحنا هنا حين رأينا فيصلا الثاني يقلدك وشاح الرافدين وتقلده وشاح الجبل، لقد تهللنا جميعا، أنا وجده فيصل كنا نضحك ونصفق، وقد قال لي فيصل: كنت تسعى يا أمين لتوحد ملوك العرب وتجمع شملهم، فانظر بعينك ما تمناه قلبك وزرعته يدك.
يا أخي كميل، كم سعيت لأحطم تلك «الأخشاب » التي تفصل القلوب والنفوس، فالحمد لله على أنها تتهاوى أمامك واحدة إثر واحدة.
كمل يا كميل.
إخواننا العرب جماعة طيبون، كرماء أجاويد، والكريم الجواد تستطيع أن تتفق معه. من لا يهمه «الجمع» لا يختلف معه على «القسمة»، أظنك آمنت مثلي بالكرم العربي وطيب قلب العربي، بعدما شهدت ما شهدت عند «الطويل العمر» وعند حفيد صاحبي فيصل، في بلاد ألف ليلة وليلة.
ساعة كنت تخترق دجلة كنا نحن: الشميل والشدياق وأنا نخترق نهرا عظيما يسمونه بلغة دنيانا نهر التوهو بوهو، فرأيناكم مغتبطين وندهناكم مرارا ولكنكم لم تسمعونا، فقال الشميل: إنهم سامعون بقلوبهم فلنبارك عملهم ليثبتوا.
أما الشيخ أحمد فارس فزفر زفرة حرى كاد أن ينشق لها صدره، فصحنا به يا مالك يا شيخ! فقال: وصلني مكتوب من صديق لا أعرفه يقول فيه: إن قنافذ الطائفية تهدج حول البيوت اللبنانية.
فقلنا له لا تخف يا شيخ، ألا ترى ما نرى؟!
فقال: ولولا هذا كنت فطست ... لقد ذقت «المغراية» وخربت بيتنا التعصبات الطائفية ومع ذلك يا جماعة الخير، أرى أننا كنا في ذلك الزمان خيرا من جماعتنا اليوم، المسلم والمسيحي كانا صريحين، أما اليوم فلا أدري ما أقول عنهم.
فقلت له: ما دام الرؤساء متفقين وما دام كميل يؤدي الرسالة على حقها، بصفاء قلب وخلوص نية، فلم يبق من عمر الطائفية والتعصب الديني إلا القليل.
وهنا تنهد الشميل وقال: ما بقي من العمر أكثر ما مضى.
وسمعنا حس قادم فتطلعنا وإذا «أبو علي» مقبل علينا، ومعه الكبش والضب، فقلت له: أما زلت تؤمن أن السياسة أعقد من ذنبه كما كنت تقول؟
فأومأ برأسه أن نعم، ثم همس: اللهم وحد العرب واحفظهم، ولا تجعلهم أضحية كهذا الكبش.
ولما ركبت الطائرة لترجع إلى لبنان حاولت أنا أن أركب عربة مارالياس وألحق بك، ولكن خفت أن ألدغ من الجحر مرتين ... كانت الأولى لدغة الدراجة فحرمتني المكوث عندكم بضع عشرة سنة، ولا أدري ما يصيبني إذا مت ثاني مرة، ولذلك عدلت.
لقد توجت كتابي بكلمة من كلام الإمام علي، إلى سميك كميل بن زياد النخعي، وأحب أن أختمه بكلمة ثانية له، وهي إلى كميل أيضا:
يا كميل: إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عني ما أقول لك.
أستودعك الله الآن، ولا أقول لك «إلى اللقاء» لأني أرجو لك عمرا طويلا، لتحقق ما تنويه من خير للأمة ووطنك.
حاشية: السر بيني وبينك: الجنة هنا مشاع للجميع. قل لهم لا تختلفوا عليها، الله أب عام، لا فرق عنده بين أولاده، طمنهم جميعا، الميراث بيننا بالسوية، وإياك أن تراعي في المنام خليلا ...
ضع الفأس على أصول الأشجار، إلخ ... الآن هذا كاف، وسأكتب إليك عند الحاجة، امش على ما قدر الله.
4 / 4 / 53
تين القشارين
أبو عساف قروي متقدم في العمر، طلي الحديث، حلو الكلام، يصلح أن يكون مضحكا لملك. تستبشعه جدا إذا رأيته أول مرة، ولكنك تنسى كل ما في وجهه من أغلاط إملائية متى قعد يحدثك وابتدأ يقص عليك أخبارا وحكايات منها المنقول والمسموع، ومنها المروي والمصنوع.
كان الشيخ أبو عساف في أول عهده بالنوادر راوية ينقل ما يسمع، ثم وفق إلى الوضع فصار مؤلفا بارعا يصعب على سامعه أن يميز ما ينقله مما تبتدعه مخيلته.
تعود أن يزورني صيفا في وقت قيلولة بقراته، وكنت أجيئه عند الدغيشة بعد فراغه من أشغاله، فنقعد أمام عرزاله على البيدر، فراشنا القش المدروس، ومسندنا تلك الحجارة المنصوبة لصيانة الحصاد، قهوتنا النوادر ونقلنا حكايات الفلاحين والأكارين ومن أشبههم من هذه السلالة المباركة.
كانت علامة ابتداء القص أن أقول: نعم يا عمي بو عساف، فيترك عمله ويقرفص أمامي، ثم يزحف الكلام بخيله ورجله. - هات ما عندك اليوم. - اليوم عندي حكاية تعجبك، إذا رتبتها حسب ذوقك يطلع منها شيء يسر خاطرك. - عجيب، ما تعودت أن تعمل مقدمات، فما جد عندك حتى غيرت خطتك.
فضحك وقال لي: الحكي يحسن البضاعة، ولو كان الشاري فهيما مثلك.
فقلت: هذا من لطفك، شوقتني إلى حكايتك. - إذن سلمت أن الكلام يقدم ويؤخر.
فأجبته: سلمت، وألقيت سلاحي فلا تشوقني أكثر.
فتنحنح وقال : كانوا في هذاك الزمان يمونون الفعلة من حصادين وحراثين وفلاحين، وفي عز الصيف - كما تعرف - يقل الشغل، ولكنهم في أيلول كانوا يقشرون الأرض البور من الشوك وغيره ليزرعوها في أول الري، كانوا يأخذون للقشارين مع الغداء سلة تين أخضر، فيأكلون الجيد الجيد، ويبقون الرديء إلى العصر ليأكلوه متى جاعوا. وفي ذات يوم كان أكثر تين السلة رديئا، فنقوا الجيد وأكلوه، وكبوا الرديء على الأرض، ومرغوه بالتراب، نكاية بصاحب الأرض.
وبعد هرج ومرج قاموا إلى التقشير فصالوا وجالوا في الأرض، وظلوا كذلك حتى دنت استراحة العصر فقعدوا يلفون سيكارة. المساكين جاعوا ولكنهم ما وجدوا قدامهم شيئا غير التينات، فراحوا ينظرون إليهم بعيون جوعانة، وبدءوا يقلبونهم ويقولون: هذا نظيف، هذا ما عليه شي. وظلوا يقولون هذا عليه، وهذا ما عليه حتى أكلوا الكل إلا أربع خمس تينات ...
فقلت: أهم عميان وإلا كيف؟!
قال: لا، ولكن الجوع الكافر، ما له دين.
قلت: وعلى أي شيء تنطبق هذه الحكاية اليوم.
فقال: احفظها إلى وقت العوز.
فحفظتها كما أوصاني، وأظن أن اليوم وقتها.
إنها كأس مرة شربناها على ذكر «التطهيرات» الحكومية.
16 / 4 / 53
إميل البستاني
اليوم أعبي جرابي من عند تلميذي، فهو ومحاضرته «لبنان والعالم العربي» موضوع هذا الأسبوع.
إميل البستاني طاقة لا تنفد، أبدا تتوالد فيها عناصر الإرادة والجرأة والإقدام، أراد مذ كان صبيا أن يكون رجلا فكان إنسانا جامعا، أطلق القدماء على أبي الفتح محمود بن الحسين أحد أدباء العصور العباسية لقب «كشاجم»، وقد نحتوا هذا اللقب من أوائل حروف هذه الكلمات التي كان يوصف بها: كاتب، شاعر، أديب، جميل، مغن، وهذا الاسم ينطبق على العصامي العبقري إميل البستاني إذا بدلنا الكلمة الأخيرة وقلنا: كاتب، شاعر، أديب، جميل، مليونير.
أظن أن كلمة مثر أو مليونير لا تقل شأنا عن كلمة مغن ...!
ما أقل عقل المعلم! كنت أرى إميل فأقول: ترى كيف يتجه هذا الشاب؟ إلى الأدب، إلى الشعر، إلى الكتابة، ما خطر ببالي قط أنه سيولي وجهه صوب الحساب، وأن من الأفراد القليلين الذين اعتدلت كفتا الأدب والرياضيات في ميزان مواهبهم.
أعطيتهم كعادتي كل أسبوع موضوعا لينظموه شعرا، ورددت الباب خلفي ورحت لأعود في نهاية الوقت أجمع تلك الخرابيش، فوقع نظري على ورقة إميل، وكان الموضوع وصف جرو كلب على وزن قصيدة المهلهل وقافيتها؛ فإذا بإميل يبدأ كليب يزعج الدنيا ومن فيها ... إلخ.
فقلت له: مكسور يا ابني.
قال: لا يا معلمي ألا ترى الشدة؟!
فضحكت وقلت: أما هو جرو كلب! أتصغر المصغر؟ أتطحن الطحين!
فأجابني الفتى بإصرار وعناد: نطحنه إذا كان خشنا يحتمل الطحن ...
كان هذا الفتى فلتة، إرادة حديدية، وعبقرية فذة، وطلعة ميمونة، علقت عليه آمالا كبارا، ولكن صح في وفيه قول الشاعر:
أريها السهى وتريني القمر
لا تسل عن غبطتي حين سمعته في الندوة اللبنانية يدعو الكلمات فتلبي مطيعة، لم تنسه الثروة العارمة بيانه، ولم تطغ السياسة الحادة على أدبه، وما أخذت لغة التجارة شيئا من أسلوبه المطبوع الناصع.
قال أحد من علق على محاضرته: إنه كان خطيبا لا محاضرا، وهذا حق. الخطابة هي إحدى صفات إميل البارزة، فوقفته العادية وقفة خطيب، ونظراته النافذة نظرات خطيب، وحركته المألوفة حركة خطيب، فهو حركة دائمة، هكذا كان منذ كان، أبقى له الله رداء الشباب.
وإميل ناري الشعور، ولكنه في أقصى انفعالاته لا يتخلى عن تلك الابتسامة، والخبير بها مثلي، يعرفها من لونها ... يأبى الركود والاستقرار، ولو تخلى كمال بك جنبلاط عن حملاته لاستولى إميل على المبادرة ... غضب إميل فاستأذن وغاب عن الجلسات الأخيرة، وتلك عادته عندما كان يفور في «جمعية الثمرة» عندنا. وكان يغضب جنبلاط فيضب على أوراقه ويخرج، وهذا هو الفرق بينه وبين زميله في الجبهة الاشتراكية، فكلاهما صلب العود لا يغمز.
إميل اليوم - ملء سمع دنيا العرب وبصرها - متصل برجالات الغرب، سياسيين واقتصاديين، ولكن هذا النفوذ لم يمح خطا واحدا من طلاقة المحيا التي عرفتها منذ ربع قرن، ويوم كان إميل البستاني تلميذا في الجامعة الوطنية قد لا يملك ما يقوته ويكسوه. المرح الدائم، والعمل المستمر هما قوام هذا الرجل.
ما وقف يتكلم أمس حتى قلت: إنه هو. وما توغل في موضوعه حتى بدت لي الروح التي نشأ عليها، كذلك كان لبنانيا عربيا قحا يقدس اللسان ويؤمن بحيوية الجنس، وضرورة الاتحاد، ويقدس المثل اللبناني القائل: جارك القريب خير من أخيك البعيد.
عرفنا إميل في محاضرته بنار الحضارة التي علقت بأذيال الصحراء حيث حلت الطائرات والسيارات محل قوافل النياق.
مساكين الجمال! ولت أيامهم، ولكل عصر رجال.
نحن المعلمين تعجبنا القراءة البريئة من اللحن، والعبارة الصحيحة السليمة، وهذا ما سرني من تلميذي. تكلم ساعة وما وقف إلا ريثما جاءت الشمعة، فعاد الشلال إلى تهداره، أعصاب حديدية تشهد لها بالمتانة والليونة وقفاته المشهورة تحت قبة البرلمان.
وضع إميل في محاضراته خطوطا رئيسية لاتصال لبنان بالعالم العربي؛ خطوطا ثقافية وصناعية وتجارية، ثم راح يعللها تعليل أستاذ خبير، وقد أصاب جدا حين أوصى من يعنيهم الأمر أن يهتموا بالطلاب العرب المنتشرين في مدارس لبنان وجامعاته.
حقا إن هذا الإهمال غريب! لي ثلاثون سنة في مدرسة هي أحفل المدارس بالطلاب العرب من جميع الأقطار، وفي هذا العمر من الحياة المدرسية ما جاء واحد قط من قبل الحكومة يسألنا عن هؤلاء الشباب كيف حالهم؟ ولا قال لهم أحد: كيف حالكم عن معرفة؟ اللهم إلا ورقات كنا نملؤها في زمن الانتداب لندل على عددهم وطوائفهم، وما زالت هذه الأوراق الموروثة تأتينا فنعبئها، وهذا كل شيء.
Bilinmeyen sayfa