57

وتنتهي القصة وهؤلاء الأبطال الثلاثة قد وصل كل واحد منهم إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه البطل، فأما الطبيب فقدم نفسه ضحية للعلم، والضمير، والعدل راضيا مختارا، وأما الفتاة فقدمت نفسها ضحية للإنسانية راضية مذعنة لحكم القضاء، وكل ما بينها وبين الطبيب من الفرق هو أنها تثق بعدل الله في الحياة الآخرة، وأن الطبيب يحاول أن يثق بهذا العدل، أو إن شئت فقل: يؤمن قلبه بهذا العدل، ويضطرب عقله في ذلك. وأما «لويز» فقد نسيت حريتها، وميولها، وأهواءها، وعواطفها، وحبها، وقدمت نفسها ضحية للواجب، وللواجب وحده، تتمنى أن يكون نصيبها كنصيب زوجها، وكنصيب هذه الفتاة البائسة، تتمنى لو تموت في سبيل الحب، وفي سبيل الواجب.

فأنت ترى إلى هؤلاء الأشخاص كيف أحسن الكاتب تصويرهم، وكيف بلغ بكل واحد منهم إلى أقصى مداه، ولكنك تستطيع أن تسأل عن «موريس»، هذا النابغة في علم النفس ما قيمته، وما خطره في القصة ؟ ليس له قيمة ولا خطر، وإنما هو وسيلة اتخذها الكاتب ليظهر أبطاله، فلولا «موريس» لما تكلمت «لويز»، ولما تكلم زوجها الطبيب، فهو إذن اختراع تمثيلي لا أكثر ولا أقل.

ولقد كنت أحب أن أظهرك بعد هذا التحليل الموجز على ما في القصة من جمال اللفظ، وحسن الأسلوب، ودقة الحوار، ولكن أين السبيل إلى ذلك والقصة مكتوبة بالفرنسية، وإظهار هذا الجمال كله يحتاج إلى ترجمة دقيقة طويلة، يضيق عنها وقتك ووقتي، وصحيفة السياسة.

نشوة الحكيم

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «فرانسوا دي كوريل»

حدثتك مرة عن الكاتب الفرنسي «فرنسوا دي كوريل»، وعن قصصه التمثيلية، ولعلك تذكر أنا رأينا لهذا الكاتب ميزتين؛ الأولى: أنه ممثل فيلسوف، فالجهاد الذي تشتمل عليه قصصه التمثيلية لا يقع بين أشخاص، بل لا يقع بين آراء عادية قد ألفها الناس، وإنما يقع عادة بين آراء فلسفية يمثلها أشخاص القصة تمثيلا صحيحا. الثانية: ميزة فنية خالصة، تذكرنا بكبار الشعراء الممثلين من اليونان، و«بايسكيلوس» منهم بنوع خاص، وتذكرنا أيضا بقواعد الفن في عصره اليوناني العظيم، وهي أن الكاتب لا يكاد يبدأ الفصل الأول من قصته حتى يعرض عليك موضوع هذه القصة، ويبين لك العقدة التي يجب أن يمضي جهاد الأشخاص والحوادث في حلها، فلعلك تذكر «أرض الجحيم»، وإنك لا تكاد تفرغ من الفصل الأول حتى ترى الجهاد قائما عنيفا بين هذه الخواطر الكثيرة المختلفة: بين الحب والواجب، بين الخوف والرغبة، إلى آخر ما تحدثت به إليك حين حللت هذه القصة. «فرنسوا دي كوريل» إذن ممثل حقا، وفيلسوف حقا، ولكن فلسفته - كما قلنا غير مرة - ليست فرحة ولا مبتهجة، وليست تقطر بشرا وسرورا، كما أنها ليست عابسة ولا محزونة، وليست تقطر أسى ويأسا، وإنما هي وسط بين الابتهاج وبين اليأس، وهي إلى الحزن أقرب منها إلى السرور، وإن شئت فقل إنها فلسفة تأخذ الناس على أنهم ناس، فلا ترفع قدرهم إلى حيث لا ينبغي، ولا تحطه إلى حيث لا ينبغي، وإنما تعرف للناس مكانتهم، وتقدر لهم حظهم من الخير والشر ، ونصيبهم من الفضيلة والنقيصة، ولا تحمد ولا تلوم، أو لا تسرف في الحمد واللوم، وإنما تسجل الأشياء كما هي، وتريد أن ترضى عنها كما هي. هذه فلسفة «فرنسوا دي كوريل»، تجدها واضحة جلية في أكثر قصصه التمثيلية، ولكني أريد أن أحدثك عن قصة لهذا الكاتب مثلت في بيت «موليير» آخر السنة الماضية وهي «نشوة الحكيم»، أريد أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني لا أدري كيف أحدثك عنها، وقد كان يخيل إلي أني قصرت وحدي عن فهمها، وقدرها، والحكم فيها، ولكني لم أكد أقرأ آراء النقاد الفرنسيين حتى رأيت أن الله لم يختصني بهذا القصور، وأن أكثر النقاد إن لم أقل جميع النقاد قد وقفوا من هذه القصة موقف الدهش الحائر الذي لا يدري ماذا أراد الكاتب أن يمثل، وماذا أراد الكاتب أن يعرض على الناس، رأى كل ناقد في القصة رأيا يخالف آراء النقاد الآخرين، ولم توفق القصة من الفوز إلى ما وفقت إليه القصص الأخرى، ولكنها لم تفشل، فما زالت، فما زالت تمثل الآن في «بيت موليير»، ولكن النقاد يختلفون في تأويل هذا الفوز القليل الذي نالته القصة، فيلقى بعضهم تبعته على الممثلين، وربما ألقى بعضهم تبعته على الجمهور، ومصدر هذا أن الكاتب لم يحدد موضوع القصة، ولم يبين الغرض الذي يسعى إليه، بيانا واضحا، ولم يحاول أثناء القصة أن يجلو هذا الغرض، أو يحدد هذا الموضوع، وأكبر ظني أنه لم يرد إلا أن يتحدث إلى الجمهور حديثا لذيذا ممتعا، مفيدا مضحكا من حين إلى حين، دون أن يكون قد قصد إلى خلق جهاد قوي عنيف بين فكرتين فلسفيتين، أو بين مؤثرين من هذه المؤثرات المختلفة التي تدبر الحياة، وإن زعم لنا ناشر القصة أن المؤلف سيضع لها مقدمة تفسيرية تبين أغراضها وموضوعها بيانا مريحا، فلنسجل منذ الآن أن هذه القصة قد اختلف النقاد في فهمها، وذهبوا في تأويلها المذاهب، ورضي عنها الجمهور، ولكنه لم يعجب بها إعجابا لا حد له، وأعلن المؤلف أن من أراد أن يتبين غرضها وموضوعها فلينظر المقدمة التي سيضيفها إليها يوم يقوم بنشرها مضافة إلى قصصه المختلفة، وليس هذا كله مما يحمل على الاعتقاد أن هذه القصة قد كانت آية من آيات الفن، أو أثرا خالدا من آثار هذا الكاتب العظيم.

على أني أتعجل فأثبت أنك لا تكاد تقرأ فصلا من هذه القصة حتى يتنازعك شيئان مختلفان؛ أحدهما: الإعجاب الشديد بجودة اللفظ، وبهذه الثروة الضخمة التي امتاز بها هذا الكاتب من الآراء الخصبة المغنية المغذية التي تجدها في كل حوار، بل في كل جزء من حوار، والآخر: هذه الحيرة التي تحملك على أن تسأل نفسك: ماذا يريد، وإلى أين يريد؟ فليس الجهاد قائما بين رأيين، وإنما هو قائم بين آراء، وليس هذا الجهاد عنيفا، ولا حادا بحيث يحملك على أن تتوقع الشر، وتستعد لهذه الهزات القوية التي تستأثر بك أمام كل جهاد عنيف، وليس هو من الفتور واللين بحيث يحملك على أن تستسلم للممثلين، وتستعد للضحك واللذة، هو بين بين، يحملك على أن تضحك، ويخيفك من أن تبكي، وهذه ميزة يجب أن تقدر، ميزة ترفع القصة عن الفتور، وإن لم تصل بها إلى الحدة والعنف اللذين يميزان كبار القصص التمثيلية. «بول سوترو» رجل غني، ضخم الثروة، له أرض واسعة، ومعامل كثيرة يعمل فيها كثيرون، تكاد تبلغ ثروته المليارات، وهو قد نشأ فقيرا معدما، فتعلم من الفقر الصبر، واحتمال المكروه، وتعلم من الفقر أيضا كيف يقدر الغنى، ويحسن القيام عليه، وتعلم من الفقر والغنى معا كيف ينظر إلى الأشياء كما هي فلا يزدريها، ولا يغلو فيها؛ فهو فيلسوف، قد بلغ الستين من عمره، ولكن حياته المنظمة التي لم يفسدها إفراط ولا تفريط قد حفظت له صحة موفورة، وقوة لا بأس بها، بلغ الستين ولكنه شاب، وله ابنة أخت فقدت أبويها طفلة، واضطر هو إلى أن يكفلها، فأنشأها فقيرة، أو خيل إليها أنها فقيرة، وأخفى عليها ثروته وغناه، وأخذها بما يأخذ به الفقراء أبناءهم من ضروب الشدة والقصد في غير تقتير ولا حرمان، وأخذ يطوف بها في أقطار فرنسا أثناء الإجازات المدرسية فلا ينزلها إلا في الفنادق المتوسطة، ولا يظهر لها قليلا أو كثيرا من الثروة التي لا تكاد تعدلها ثروة في فرنسا، فلما بلغت طور الفتاة، وأتمت تعليمها الثانوي أرسلها إلى باريس لتدرس في الجامعة، وأرسل معها مربية ترشدها، وتقوم منها مقام الأم، هذه الفتاة تسمى «هرتانس».

اختلفت «هرتانس» إلى السربون، واختلفت بنوع خاص إلى دروس أستاذ في الفلسفة قد بعد صيته، وكلف به الناس كلفا شديدا، فازدحمت غرفة درسه بالرجال والنساء وبالفتيان والفتيات على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، ولا سيما في هذه السنة؛ لأن موضوع الدرس كان غريبا، وكان من شأنه أن يشوق الناس جميعا، ولا سيما النساء، كان موضوع الدرس في هذه السنة! «لم نحب؟» واسم هذا الأستاذ الذي بلغ هذه المنزلة من بعد الصيت وهو بعد شاب لم يكتهل «روجيه برميلان».

اختلفت «هرتانس» إلى درس الأستاذ فكلفت بالدرس، وشغفت بالأستاذ، وحملها هذا الشغف وذلك الكلف على أن تلخص دروس الأستاذ، وتبعث بطائفة من هذه الدروس الملخصة إلى الأستاذ ليرى فيها رأيه، فأعجب الأستاذ بالتلخيص، وكتب إلى الفتاة يحدثها بإعجابه، ويحثها على المضي في العمل، ويطلب إليها أن تعرض عليه عملها من حين إلى حين، فكانت زيارات ومطالعات ومحاورات، ثم كان الحب ينمو ويبسط سلطانه أثناء هذا كله على نفس الفتاة حتى تملك نفسها في يوم من الأيام أن تنبئ أستاذها بما يملأ قلبها من حب وكلف به، فلم يتقبل الأستاذ هذا قبولا حسنا، بل أظهر لها شيئا من الجفاء أهانها وآلمها، فانصرفت مكلومة، ولكنها أزمعت أن تملك قلب الأستاذ، وإذ كان الأستاذ فيلسوفا، فليس من سبيل إلى امتلاكه إلا بالفلسفة وإذن فقد أخذت فتاتنا تضع كتابا في الفلسفة موضوعه: «الحب وأثره في الحياة»، ثم كانت الإجازة، ودعاها خالها إلى أن تلحق به في بيته، وكان بيته هذا قصرا فخما في غابة واسعة بعيدة الأرجاء، كان قصرا يلائم ثروته الضخمة، فدهشت الفتاة حين رأت هذا كله، وأنبأها خالها بما كان قد أخفى عليها، وأعلن إليها أنها ستنوب عنه منذ اليوم في تدبير ثروته الزراعية، وأنه سيفرغ لتدبير ثروته الصناعية، وعرف خالها ما كان بينها وبين الأستاذ؛ فدهش لأن هذا الأستاذ صديقه، ولأن هذا الأستاذ سيصل إلى القصر في اليوم نفسه، واعتزم أن ينظر في هذا الأمر، وإنهم لفي ذلك إذ أقبل جار ينازع خالها في حدود أرضيهما، وهذا الجار شاب قوي، جميل المنظر، حسن الخلق، منطلق المحيا، يعجب النساء، ويترك في نفوسهن آثارا حسانا، فكلف الخال ابنة أخته أن تناقش هذا الجار فيما بينهما من خلاف، وتركهما منفردين، وكان بين الفتاة والفتى حوار عادي، ولكنه يدل على أن هناك ميلا ممكنا قد يخلق بين هذين الفتيين صلة ما.

وكان الأستاذ قد وصل وتحدث إلى صديقه، وعرف منه هذا الصديق أنه يحب فتاة كانت تختلف إلى درسه، ولكن أسبابا مالية وفلسفية منعته أن يتقبل هذا الحب حين أعلنته الفتاة إليه، فسأله صديقه عما يصنع لو كانت هذه الفتاة غنية، فأنبأه بأنه يتردد في الاقتران بها؛ لأنه يخشى على فلسفته الفقر، ثم يخشى على فلسفته الغنى، يخشى الفقر الذي يحول بينه وبين التفكير، ويخشى الغنى الذي يشغله بتدبير الثروة عن مشاهدة الفلسفة، ثم يتركه صاحبه في هذا التردد، ويدخل الأستاذ على الفتاة والجار وهما يتحدثان، وهو لا يعلم مكانهما، فيدهشه أن يجد هنا تلميذته وحبيبته، ثم لا يلبث أن يعرف ثروتها، وأنها وارثة خالها، ثم يكون بينهما حوار في الحب والفلسفة، والثروة والغنى، وما يمكن أن يحدث الزواج في الفلسفة من أثر حسن أو سيئ. •••

Bilinmeyen sayfa