سيسافران إذن، ولكنها تطلب إليه الإذن في أن ترى صاحبها، وتودعه لآخر مرة بعد أن تقسم له أن لم يكن بينها وبينه إثم، فيأذن على كره منه، ويمضي ليتهيأ للسفر، ويقبل ماريشال، فيكون بينه وبين صاحبته حديث قصير، ويتفقان على أن يلتقيا غدا في أورليان، أما هو فنفهم أنه يريد أن يتم خطته، وأما هي فضعيفة لا تستطيع المقاومة في هذه الأزمة العنيفة.
وقد سافر الزوجان، وإذا نحن نرى الناشر والفيلسوف ومعهما ماريشال ينبئهما أنه سيتبع هذه المرأة إلى أورليان، فيأبى عليه الناشر ذلك، ويحاول أن ينصرف عنه فلا يفلح، حتى إذا أحس منه الإصرار الذي ليس بعده رجع اتخذ أقرب الطرق إلى الإقناع، فأعلن إليه أن المجمع اللغوي سيمنحه الجائزة الكبرى، وأن المجمع اللغوي محافظ لا يمنح الجوائز لمن يعرف عنهم الإثم، فلا يكاد ينبئه بذلك حتى يتردد، ثم يعلن إيثاره للجائزة على الحب. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضى حين من الدهر على ما حدثتك به، وقد عاد الزوجان إلى باريس، وانصرف الكاتب عن الأدب، واستأنف عمله في وزارته، وانقطعت الصلة بينه وبين الأدباء والأندية الأدبية، وأصبح كما كان من قبل موظفا عاديا، ولم يبق من هذه القصة إلا ذكرى مؤلمة تنغص على الزوجين حياتهما، فهو واثق بأن امرأته لا تحبه، شاك فيما كان بينهما وبين ماريشال، وهي تكره منه هذا الشك، وتضيق به، وتعيش معه عيشه الممرضة مع المريض، وتحمل في نفسها آلاما خاصة لا تتحدث بها إلى أحد إلا الفيلسوف الذي احتفظ بما بينه وبينها من صلة، فهو يزورها من حين إلى حين.
وقد ساءت حالهما المالية سوءا شديدا، فكثر الدين، وألحف الدائنون، وأنذرت الخادم بترك العمل إن لم تؤد إليها أجرها. وجاء النذير بأن التليفون سيقطع، وهي تطلب إلى زوجها أن يقترض شيئا على مرتبه من الوزارة، فيجيبها بأنه قد فعل ذلك مرة، وليس له أن يعود، فتطلب إليه أن يلتمس عند الناشر قرضا، فيرفض في عزة وإباء، فتعلن إليه أنها ستبيع بعض حليها، وقد انصرف وبقيت وحدها، فتدعو الخادم وتأمرها إن جاء بعض الدائنين أن تنكر مكانها.
وقد دق الجرس وعادت الخادم تنبئ بأن ماريشال يستأذن، فتدهش جاكلين لمقدمه، وتهم أن ترفض استقباله، ثم يبدو لها فتأذن له، ويقبل ماريشال، وقد لعب الخيال برأس هذه المرأة، فأحيا في نفسها كل شيء، ورد الأزمة إلى حدتها الأولى، وإذا هي تعاتبه لزيارته.
وتنكر هذه الزيارة، وتعتذر إليه؛ لأنها أبرقت إليه ألا يتبعها في أورليان وقد خيل إليها أنه أقبل مستأنفا للحب والمودة، ولكنه لم يقبل لشيء من هذا، إنما أقبل يعرض عليها قصة صغيرة صور فيها تصويرا بديعا ما كان بينهما من الأمر، ولم يرد أن تنشر قبل أن تقرأها، بل قبل أن تكون أول من يقرؤها، فلا تسل عن وقع هذا النبأ على نفسها، فقد انهدم كل ما بناه الخيال، ونظرت فإذا قيمة حبها ومودتها وما احتملت في سبيلهما من ألم، وما تعرضت له من خطر، وهذه الحياة المنغصة، وهذا البؤس؛ قيمة هذا كله عند هذا الرجل أنه يصلح موضوعا لكتاب!
وهي تدفع إليه قصته، وتعتذر من قراءتها، فيخرج مغضبا محنقا؛ لأن هذه القصة خير ما كتب.
وقد دق الجرس وأقبل الفيلسوف، فرآها كئيبة محزونة، فيسألها، فتنبئه، فيغضب، فيخيل إليها أنه يغضب لما تغضب له، ولكن الفيلسوف لم يغضب لهذا إنما لأنه وضع من هذه الحادثة قصة تمثيلية ويسوءه أن يسبقه ماريشال إلى إذاعتها، فهو إذن كصاحبه! لم يكن صديقا ولا معزيا ولا وفيا، ولم يكن يتردد عليها، ويتصل بها إلا ليكون أشخاصه ويقومهم، وإذن فقد قضي عليها وعلى زوجها أن يألما ويشقيا ويحرما ليكتب ماريشال قصته، وليكتب بورجين تراجيديا أو كوميديا.
وقد أقبل الزوج فتدهش لمقدمه، فينبئ بأنه لم يذهب إلى الوزارة هذا اليوم، وينصرف الفيلسوف فإذا خلا الزوجان رأينا نفس المرأة قد تغيرت، فإذا هي ممتلئة حنانا ومودة لزوجها، وإذا هي تثوب إليه راضية مطمئنة، أليس هو الذي احتمل ما احتمل من ألم صامتا، فلم يستغل ولم يكتب، وهي تنبئه بنبأ ماريشال والفيلسوف؛ فيثور ويغضب وينذر، وهي تهدئه، وتهون عليه، وقد دنت منه فوضعت رأسها على كتفه راضية مطمئنة، مستأنفة حبها الأول.
ولكن الزوج يرد رأسها عن كتفه، ويظهر على وجهه الاضطراب والاستخذاء، فإذا سألته أنبأها بأنه هو أيضا قد كتب كتابا ... ثم فصل ذلك، فنفهم أنه كان يذهب إلى الوزارة فيتم عمله الرسمي في لحظات، ثم ينصرف إلى كتابه فيمضي فيه حتى كتب ما يبلغ مجلدين، فتسأله: أين ذلك؟ فيظهرها عليه، ثم يصفه فإذا هو راض به، بل معجب به أشد الإعجاب، واثق بأنه سيظفر برضا الجمهور وإعجابه، ولكنه لن ينشره؛ لأنه لم يكتبه للنشر إنما كتبه لنفسه، فإذا أظهرت الشك في ذلك أعلن إليها أنه سيمزقه ويحرقه.
Bilinmeyen sayfa