الإهداء
مقدمة
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: تسميته
ثالثا: حده
رابعا: موضوعه
خامسا: منهجه
سادسا: مرتبته
سابعا: وجوبه
الفصل الثاني: بناء العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: ظهور الموضوعات من خلال الفرق، وظهور الفرق من خلال الموضوعات
ثالثا: من المسائل إلى الموضوعات، ومن الموضوعات إلى الأصول
رابعا: من الأصول إلى البناء
خامسا: من بناء العلم إلى عقائد الإيمان
سادسا: المصنفات القديمة
الفصل الثالث: نظرية العلم
أولا: نشأة نظرية العلم وتطورها
ثانيا: تعريف العلم
ثالثا: أقسام العلم
رابعا: النظر يفيد العلم
خامسا: كيف يفيد النظر العلم؟
سادسا: وجوب النظر
سابعا: طرق النظر
ثامنا: مناهج الأدلة
الفصل الرابع: نظرية الوجود
أولا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
ثانيا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» (الواجب)
ثالثا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)
رابعا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)
الإهداء
مقدمة
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: تسميته
ثالثا: حده
رابعا: موضوعه
خامسا: منهجه
سادسا: مرتبته
سابعا: وجوبه
الفصل الثاني: بناء العلم
أولا: مقدمة
ثانيا: ظهور الموضوعات من خلال الفرق، وظهور الفرق من خلال الموضوعات
ثالثا: من المسائل إلى الموضوعات، ومن الموضوعات إلى الأصول
رابعا: من الأصول إلى البناء
خامسا: من بناء العلم إلى عقائد الإيمان
سادسا: المصنفات القديمة
الفصل الثالث: نظرية العلم
أولا: نشأة نظرية العلم وتطورها
ثانيا: تعريف العلم
ثالثا: أقسام العلم
رابعا: النظر يفيد العلم
خامسا: كيف يفيد النظر العلم؟
سادسا: وجوب النظر
سابعا: طرق النظر
ثامنا: مناهج الأدلة
الفصل الرابع: نظرية الوجود
أولا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
ثانيا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» (الواجب)
ثالثا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)
رابعا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)
من العقيدة إلى الثورة (1)
من العقيدة إلى الثورة (1)
المقدمات النظرية
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى علماء أصول الدين.
تحقيقا لمسئولية جيلنا.
حسن حنفي
مقدمة
من الدعاء للسلاطين إلى الدفاع عن الشعوب
تبدأ المقدمات التقليدية في علم أصول الدين بحمد الله، والصلاة والسلام على رسوله، وهي مقدمات إيمانية خالصة، تعبر عن إيمان ذاتي خالص، هو المطلوب إثباته ، والبرهنة عليه، ولكن العالم الأصولي القديم يعلن عنه، ويسلم به، وكأن مقدماته هي نتائجه، وأن ما بينهما إن هو إلا لهو ولعب وسد فراغ، كما يغيب الأسلوب البرهاني، وعرض الإشكال، وبيان الهدف كما فعلنا في معنى «التراث والتجديد»، عارضين للتراث القديم، قارئين فيه أزمة العصر، ومحللين أزمة العصر مكتشفين فيها بعد التراث القديم، إن التعبير عن مضمون الإيمان كإحدى المسلمات هو نقض للبرهان، وهدم للاستدلال، وضياع للعلم، خاصة ولو كان هذا المضمون هو المطلوب إثباته، إيماننا هو «التراث والتجديد»، وإمكانية حل أزمات العصر، وفك رموزه في التراث، وإمكانية إعادة بناء التراث لإعطاء العصر دفعة جديدة نحو التقدم، فالتراث - كما بينا - هو المخزون النفسي لدى الجماهير، وهو الأساس النظري لأبنية الواقع.
1
تبدأ المقدمات التقليدية بتنزيه الله تنزيها مطلقا، والإعلان عن أوصاف ذاته الكاملة، وصفاتها المطلقة، والتعبير عن هذا المطلب الذي هو غاية الإنسان بلغة العشق والهيام،
2
وأن تحقيقها صعب المنال، وإدراكها يند عن العقول، ويصعب على الخيال، وتجد الذات نفسها كلما أمعنت في التعبير عن هذا العالم اللانهائي، وأعلنت حيرتها أمامه، وضياعها فيه، أو لجأت إلى الفيض والإلهام، تجد فيه معرفة له، وحاولت الاتصال به كي تنهل منه أو رأت في الطبيعة الآثار عليه، واكتشفت في الكائنات مظاهر لوجوده، وشعرت في نفسها بالدلائل عليه أو أعلنت في النهاية عن حيرة العقول والأفهام، وعجزها عن تحقيق بغيتها، ضعف الطالب، وقوي المطلوب.
3
ومع ذلك فإن المقدمات الإيمانية تعلن عن هذا الوجود المطلق الأوحد باعتباره قدرة شاملة، وإرادة مسيطرة، فهو الذي يبدئ ويعيد، وهو الذي يبدأ ويقرر، وهو الذي يحيي ويميت، ويظل العالم الأصولي القديم يتغزل في هذه القوة المسيطرة لدرجة الفناء فيها، وكلما شعر بعجزه قوي مدحه، وكلما شعر بأن الكون لا يسير وفقا لما يحب تصور وكأن «الآخر» قد قام بدلا عنه بالسيطرة على هذا الكون المفقود، وبالتالي ينشأ السلطان؛ الديني أولا ثم السياسي ثانيا، ويصبح للعالم مركز سيطرة واحد لا يتزحزح، ويكون السلطان متفردا بسلطانه، لا ينازعه أحد، ولا يشاركه شريك ، ولا يعارضه معارض، ولا يقف بجواره ند. يملك كل شيء، ويقدر على كل شيء، لا معقب على قراراته وأوامره؛
4
ومن ثم كان من السهل الانتقال من السلطان الديني إلى السلطان السياسي، ومن الحمد لله إلى الحمد للسلطان، ومن الثناء على الله إلى الثناء على السلطان، ومن طلب العون والمغفرة من الله إلى طلبهما من السلطان؛ لأن التكوين النفسي للطالب واحد، وأحد البدائل يؤدي نفس الوظيفة التي يؤديها الآخر. من هذه القوة المركزية يستمد الإنسان كل شيء إن كان له فعل، أو تفعل هذه القوة بذاتها مستغنية عن الإنسان، فالله مدحض الأباطيل، وكاشف الحق، ودافع الباطل، ومعطي العلم، وواهب المعرفة، والمبرهن والمستدل والمنير الطريق، هو مصدر المعرفة وأساسها، ومعطي السعادة وواهبها، إن معرفة الحق والباطل، والصواب والخطأ، لا تأتي من عل، بل من تأمل في المعطيات الفكرية والواقعية، فالمعرفة النظرية لا تتم كهبة مسبقة، بل عن طريق التحليل العقلي الرصين للأفكار والوقائع، وباستقراء مجرى الحوادث، ذلك لا يمنع من وجود مقاييس للصدق، وأنماط مثالية للفكر، ولكن هذه المعطيات المسبقة تنبع من طبيعة العقل، ويدركها الشعور بحدسه، وليست فعلا لكائن خارجي مشخص، يفعل مباشرة أو بطريق غير مباشر من خلال الإنسان، ولا يمكن التسليم بشيء على أنه حق ما لم يعرض على العقل ويثبت في الواقع أنه كذلك.
5
والحقيقة أنه لا يحمي الإنسان المعاصر، ولا يحافظ على مصالح الجماعة إلا الوعي الفردي، وتجنيد الجماهير، وكلاهما لن يتم إلا بالثورة الفعلية. لن يتغير الواقع بفعل خارجي، قادر على دحض الباطل والدفاع عن الحق، بل بفعل الطليعة الواعية من المثقفين التي يتحول فيها الوعي الفرد إلى معبر عن وعي الجماعة، الجماهير هم الدرع الواقي، والطليعة هم رأس الحربة، لا تسليم هناك بشيء، بل لا يؤخذ شيء على أنه حق إن لم يعرض على العقل والواقع وإثبات أنه كذلك، لا يوجد صمام أمان إلا في وعي الإنسان بذاته وليس في «عقدة القبة السماوية»
6
التي تغطي الأرض، فلا وكالة إلا من الأنظمة الاجتماعية والعجز عن مراقبتها وعدم القدرة على مراجعتها. ليس المطلوب في هذا العصر أن يتوه الإنسان تحت هذا الخواء، وأن يضيع في هذه المتاهة، وأن يشعر بضآلته تحت هذا الشمول، بل المطلوب تأكيد ذاته، وإعمال عقله، وإحساسه بالمسئولية، وتحقيقه للرسالة، ووعيه بالجماهير، وإدراكه لحركة التاريخ. ليس مطلب العصر هو تبرئة «عقدة القبة السماوية» الحافظة للعالم من كل سوء، تشبيه أو تجسيم أو شرك، بل معرفة المسئول عما وصل إليه حالنا من احتلال وتخلف، وقهر وطغيان، وفقر وبؤس، وضنك وحرمان، وتشرذم وتبعثر، وذل وهوان. ليس مطلب العصر هو إبراء الذمة، ووضع الطهارة المجردة، افتراضا وأملا، هذه الطهارة التي لا تشوبها شائبة، وتخليصها من مآسي العصر، مع أنها قد تكون أحد مظاهره أو أسبابه، بل المطلب هو تحديد المسئولية عما وقع في حياتنا من مآس وأزمات، وهزائم ونكبات، وكيف يكون الخالص مسئولا عن الشائب؟ وكيف يكون البريء مسئولا عن ذنوب العصر ومظاهر البؤس والشقاء فيه؟ كيف يكون الغني مسئولا عن الفقر، والعادل عن الظلم، والقوي عن الضعف، والقيوم عن المحتل، والواحد عن المتجزئ؟ إن كل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نحن فيها ليست مفروضة علينا ولا مكتوبة من أحد، بل هي نتيجة للأوضاع ذاتها، ويخطئ القدماء عندما يجعلون العلة معلولا، ونخطئ معهم عندما نعلق مآسينا وهزائمنا على مشجب لم يره أحد ولم ينقذ أحدا، لا يعني ذلك رفض الشمول والعموم؛ فالشمول للأفكار وللمبادئ، وهي لا تعطي الإنسان أي ضمان أو أمان بل تعطيه فقط الأساس النظري للتطبيق والممارسة، وتصف له وسائل التحقيق، ولا يتوه فيها العقل، بل يدركها ويحصل منها على معرفة، ولا تضعف أمامها الإرادة بل تتمثلها وتتأكد حريتها، ولا تضمحل أمامها الذات وتفنى، بل تثبت ويتأكد وجودها.
في هذه المقدمات الإيمانية تتحدد علاقة الإنسان بالله، ليس فقط على مستوى المعرفة والنظر، بل أيضا على مستوى السلوك والعمل؛ فالإنسان يحمد الله على نعمه، ويشكره على فضله، مما يجعل العلاقة أحادية الطرف، من واهب إلى موهوب، ومن معط إلى معطى، وتجعل الإنسان مجرد وعاء للنعم، ومستقبل للعطايا، ومنتظر للجود والإحسان، قد يرفض الإنسان بطبيعته الكرم والفضل، وقد ينفر من الهبات والعطايا؛ لأنه يأبى أن تكون يده هي السفلى، ويد غيره هي العليا، وإن كثيرا من مآسي عصرنا لهو انتظار الكرم والجود، والتشوق إلى الهدايا والعطايا، والتزلف من أجل هبات السلطان حتى أصبح العصر كله عصر تعايش وارتزاق، بل إن سلبية الجماهير اليوم قد ترجع إلى أن معظم مظاهر التغير الاجتماعي في حياتها قد تمت أيضا بفعل الجود والكرم، وكأنها هبات من أعلى، وليست مكتسبات حصلت عليها الجماهير بعرقها وكفاحها، فإذا حصلت الجماهير على بعض حقوقها، فإن الحاكم لم يتفضل عليها بشيء، بل نالت حقها، وحقها ليس منة ولا فضلا عليها من أحد، وقد يكون هذا هو السبب في معاناة عصرنا من اعتبار كل حق منة أو فضلا من رئيس على مرءوس.
فإذا كان القدماء قد حمدوا الله على الكفاية، فإننا نتجه بكل قوانا نحو الناقص ونتوجه إلى ما لم يتحقق بعد، اتجاهنا نحو الحاجة أقوى من نزوعنا نحو الحمد، والحمد على ما هو موجود فيه رضاء واستكانة، والثورة على ما هو مفقود فيه غضب ومطالبة بحق، حالنا لا يتطلب حمدا ولا ثناء على أحد، بل يقتضي رفضا واعتراضا، مطالبة وثورة، نحن لا نحمد بل نتضجر، ولا نرضى بل نغضب، ولا نثني بل ننقد، ولا نشكر، فلا شكر على واجب، بل نثور ونطالب، إن الإحساس بالحق المشخص يعطي الإنسان نوعا من الرضا، ويجعل نفسه طيبة طيعة حامدة شاكرة، وهذا على خلاف مقتضيات تكويننا النفسي المعاصر الذي يشوبه القلق والغليان، وتعتريه عواطف السخط والغضب، يئن تحت ضغوط العجز والحرمان،
7
فإذا طلب الإنسان شيئا فإنه يدعو كي يستجاب له، ويسأل كي يعطى له، فتكوينه النفسي قد تعود على السؤال والاستجداء، واعتاد على الشحاذة والتسول، ولن يتغير الواقع عن طريق الدعاء، ولن يطعم جائع بطريق الاستجداء، ولن ينصر مظلوم عن طريق البكاء! الدعاء تعبير عن أماني ورغبات وليس تحقيقا لها، هو حيلة العاجز، وفعل القاعد، وأسلوب القعيد، وطريق الخامل، وسبيل المستكين، وقد بدأنا تغيير الواقع بالدعاء منذ تراثنا القديم ولم يتوقف حتى عصرنا الحاضر،
8
والخطأ لا يتغير بالتوبة والاستغفار، بل بالتعلم والاستفادة منه، والعود من جديد إلى القيام بنفس الأفعال على أساس من المناعة ضد الخطأ والاكتساب النظري والعملي للصواب، لا يوجد ملجأ للإنسان إلا عمله، ولا نجاة له إلا بعمله المشترك مع الآخرين أي بالعمل الجماهيري الذي تؤيده حركة التاريخ، إن الحصول على القوة لا يأتي بالدعاء للقوي، وباستجداء واهب القوة بل يحصل عليها بالاستعداد، والحصول على القوة بالفعل.
ثم تنتقل المقدمات الإيمانية التقليدية من محورها الأول، وهو الله، إلى محورها الثاني، وهو الرسول، وهما المحوران اللذان دار حولهما علم أصول الدين في المرحلة العقائدية المتأخرة، وتشرع في الصلاة والتسليم عليه،
9
وفرق بين الصلاة والعلم، بين الترانيم الدينية والتحليلات العقلية، البحث العلمي ليس صلاة، والنظر العقلي ليس دعاء، وسلامة المنهج هو الضامن لليقين، ودقة التحليل هو السبيل إلى الصواب، والتركيز على الرسول بشخصه، وفضله، وكرمه، ومآثره، وفضائله، وسجاياه، تشخيص للرسالة، وتركيز في الوحي على المبلغ إليه، وخلط بين الرسالة والرسول، والنبوة والنبي، ومدح الوحي المشخص في النبي تشخيص للفكر مثل تشخيص الحق، والقدوة لا تعني التبعية لشخص والثناء عليه ومدحه، بل تعني تجربة تاريخية فريدة، وأن الفكر ممكن التحقيق، تجربة يستفاد منها ولكن لا يمتدح محققوها، الهدف هو التجربة، كيف يتحول الفكر إلى واقع، وليس الأشخاص.
ومن مآسي عصرنا تشخيص الأفكار، وعبادة الأشخاص، وقد قوى ذلك فينا الصوفية بنظرياتهم عن «الحقيقة المحمدية»، كما انتشر هذا التيار بيننا لأنه في غياب القدرة على فهم الأمور، وتصور الحقائق، والتعامل مع الأفكار، يستبدل بذلك كله الأشخاص الحسية، والجاهل بما لا يرى يستعيض عنه بما يرى، في حين أن الرسول ما هو إلا مبلغ للوحي، هو مجرد وسيلة لا غاية، فضله من الوحي، ومآثره من الرسالة، وعظمته في الجهاد، وقدوته في الأخلاق مثل أي قائد أو زعيم، فاختياره للرسالة ليس ميزة لشخصه، بل لأن الرسالة لا بد وأن تبلغ من خلال رسول تتوفر فيه شروط الأداء والتبليغ، والتركيز على الاختيار والاصطفاء ليس من الوحي في شيء، وهو أقرب إلى الاصطفاء اليهودي
Election . والوحي يرمي إلى ما بعد الاختيار، وهو التبليغ، وليس إلى اختيار الشخص ذاته، وإلا خلطنا بين الوسيلة والغاية.
10
وكثيرا ما نقف في حياتنا المعاصرة على الأشخاص ونترك أفكارهم، ونتمسك بالأفراد ونترك رسالاتهم؛ لذلك جعلنا الرسول شفيعا في اليوم الآخر، وجعلناه واسطة بين الله والخلق، واقتربنا من المسيحية فيما تقوله في المسيح، واعتبرناه قديما لم يخلق، وأبديا لا يفنى؛ ومن ثم شارك في صفات الألوهية في العقائد الشعبية المبنية على حب آل البيت، والخلود لا يكون للأشخاص بل للأعمال والأفكار.
11
ويستمر الفضل والاختيار ليس فقط للرسول، بل في آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
12
مع أن كل إنسان مسئول فردا، بعمله وليس بانتسابه إلى جماعة، ويحاول كل فريق منا أن يكون هو الوريث لهذه الجماعة الأولى، فكثر الادعاء، واطمأن كل فرد على حاله، ما دام ينتسب إلى العترة الطاهرة، والصحبة الخيرة، وقد يسمح لنفسه ما لا يسمح به لغيره، لأنه هو سليل الجماعة الأولى، مع أننا نعاني من الشللية، ونقاسي من الجماعات المغلقة، ثم يقل الفضل والاختيار حتى يمحي في عصرنا الذي يسوده الشر، ويعمه الضلال؛ ومن ثم يتدهور التاريخ، ويسير في انحطاط مستمر، ويظل التاريخ الأول قدوة للناس، يتقدمون بالرجوع إلى الوراء، ويسيرون إلى الأمام ووجههم إلى الخلف، وهو ما نحن عليه الآن، وكما يبدو في الحركات الإسلامية المعاصرة، وهذا لا يمنع الإنسان من الانتساب إلى جماعة عمل مثل الحزب أو الجمعية، ولكن هذه الجماعة توجد في أي وقت وفي أي مكان، وليست في زمان أو مكان معينين، والتجارب التاريخية التي يتحقق فيها الفكر عامة وليست محددة، قد تكون الجماعة الأولى أقرب إلينا لأنها هي التي تعمل في مخزوننا النفسي والتي يمكن اتخاذها قدوة ودليلا.
13
إن الصفوة المختارة ليست أسرة القائد ولا قبيلته ولا أصحابه، بل هي أية طليعة ثورية في أي مكان وفي أي زمان، تحاول توجيه الواقع بالفكر، فهي ليست جماعة تاريخية نسبية، بل هي جماعة فكرية لا مكان ولا زمان لها، هي كل جماعة حاولت تحرير الإنسان، وتغيير الواقع، ومناهضة الظلم، وأداء الرسالة، وإذا كان هناك وضوح في الرسالة، وإذا اشتمل الوحي على البرهان، فإن ذلك راجع إلى طبيعة الرسالة والوحي، وليس إلى فعل المبلغ، فالوحي بطبيعته واضح، والرسالة بطبيعتها عقلية، وكلاهما يشتملان على البرهان الداخلي، والوضوح النظري للإعلان والبلاغ؛ ومن ثم فالتصديق لا يحتاج إلى معجزة؛ لأن المعجزة برهان خارجي، في حين أن الوضوح النظري برهان داخلي، والقرآن ليس معجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة، بل بمعنى موضوعية الفكر، من ناحية المضمون وناحية الشكل، والتصديق بالفكر والإحساس بأسلوب التعبير، ورؤية المعنى والاتصال المباشر باللفظ.
14
وإن إثبات أن الرسول خاتم الأنبياء والمرسلين لا يعني أيضا تركيزا على فضائل شخص أو على مزايا فردية لأحد، بل يعني أن الوحي قد اكتمل، وأنه تطور منذ أول الأنبياء حتى آخرهم، وأن آخرهم يعني أن النبوة قد انتهت، وأن الإنسان قد استقل، وأن عقله قد استطاع أن يصل بنفسه إلى اليقين، وأن فعله بإمكانه أن يحقق رسالة الإنسان دون ما تدخل من أية إرادة خارجية عامة أو مشخصة.
15
كما يعني عموم الرسالة أنها أصبحت رسالة للبشر جميعا، وأن هناك حقيقة شاملة يمكن لكل الشعوب معرفتها والوصول إليها.
وبعدما تبدأ المقدمات الإيمانية التقليدية بالحمد لله والصلاة على رسوله، فإنها تشفعهما بالشهادتين، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وفي حقيقة الأمر، وطبقا لمقتضيات العصر، لا تعني الشهادة التلفظ بهما أو كتابتهما بل تعني الشهادة على العصر، وذلك ببيان المسافة بين نظام الواقع ومقتضى الفكر، وهي الشهادة النظرية ثم محاولة إلغاء هذه المسافة وتوجيه الواقع طبقا لمقتضيات الفكر، والتضحية في سبيل ذلك بكل شيء حتى بالنفس فتتحقق الشهادة، وهي الشهادة العملية، ويصبح الإنسان شهيدا بعد أن كان شاهدا، فالشاهد والشهيد كلاهما موقف شهادة، ليست الشهادتان إذن إعلانا لفظيا عن الألوهية والنبوة، بل الشهادة النظرية والشهادة العملية على قضايا العصر وحوادث التاريخ؛ فالتوحيد نوعان، توحيد قول وتوحيد عمل.
16
ولفظ الشهادة الأولى «لا إله إلا الله» يحتوي على قضيتين: الأولى سالبة «لا إله»، والثانية موجبة «إلا الله»؛ فالتوحيد فعلان: فعل سلبي يقوم فيه الشعور الفعلي العملي بنفي كل آلهة العصر المزيفة التي تصبح تصورات للعالم ودوافع للسلوك عند الناس، وفعل إيجابي يضع فيه الشعور مثلا أعلى مبدأ واحدا عاما وشاملا، بفعل النفي يتحرر الوجدان الإنساني من كل صنوف القهر والظلم والتسلط والطغيان، وبفعل الإيجاب يضع الإنسان مثلا أعلى ويعلن ولاءه للمبدأ الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع، الفعل السالب يحرر الشعور الإنساني من كل صور القهر، والفعل الموجب يضع الشعور حرا خالقا مبدعا؛ الأول يحرر الإنسان من التبعية للقيم السائدة في عصره وما به من تطلعات، والثاني يجعل الإنسان متمثلا لقيم جديدة ومرتبطا بمبدأ عام.
17
ولفظ الشهادة الثانية: «أن محمدا رسول الله» إنما تعني الإعلان عن اكتمال الوحي، ونهاية النبوة، وتحقق آخر مراحلها في نظام وتجسده في دولة، وأنه لا يمكن الرجوع إلى الوراء لمراحل سابقة منها، فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء، والتقدم جوهر الوعي الإنساني ومسار التاريخ وحركة التطور، فالإنسان بعقله المستقل وبإرادته الحرة قادر على أن يواصل حركة التاريخ وأن يستمر في تقدمه باجتهاده الخاص، فيرث النبوة وتراث الأنبياء، فالعلماء ورثة الأنبياء، والاجتهاد طريق الوحي، والعقل وريث النبوة.
18
ونظرا لفراغ المقدمات الإيمانية التقليدية من أي مضمون فكري أو واقعي، عقلي أو مصلحي، فإنها تعبر عن نفسها بأسلوب السجع المملوء بالتلاعب بالألفاظ التي لا تحمل وراءها إلا عواطف إيمانية، فالعاطفة تنشئ اللغة، واللغة تعبر عن العاطفة، ويغيب الفكر كما يغيب الواقع، تعتمد المقدمات على المحسنات البديعية وعلى الإنشاء الخالص دون فكر ودون رؤية أو تحليل لشيء، لا يكمن وراءها إلا بعض الانفعالات الإيمانية تبلغ أحيانا درجة التصوف، وكأن الإعلان عن العلم لا يتأتى إلا بالإغراق في المواجيد الصوفية، والتعبير عنها بالتراشق اللفظي.
19
يغيب الأسلوب البرهاني والتحليل العقلي والوصف الواقعي للظواهر، ويحل محله أسلوب إيماني خالص يعبر عن العشق والهيام لموضوع فارغ، ويكشف عن مواجيد النفس ولوعات الإيمان، وكأن علم أصول الدين كأحد علوم النظر قد تحول إلى علم التصوف كعلم للذوق، وإذا كانت «الأشعرية» قد ازدوجت بالتصوف في العقائد المتأخرة، فإن التصوف قد حل محل الأشعرية كلية في العقائد الإيمانية، حتى الشروح والملخصات فإنها لا تبين الغاية من الشرح أو التلخيص، بل تقوم بشرح المقدمة الإيمانية، فالحمد تعني الحمد، والله يعني الرحمن، والثناء يعني المدح! فاستعاضت عن الفكر بالسجع واللفظ وبلعبة المترادفات، أما في عصرنا فقد بلغت أزماته ومآسيه درجة أن الاعتناء بالمحسنات البديعية أصبح تعويضا عن الشقاء، وتعبيرا عن الخواء، ورغبة في الحصول على شيء حتى ولو كان رنين الصفائح أو قرع الطبول، وأن أول ما نذكره نحن هو الواقع، أزماته وتقلباته، حاله ومآله، حتى يعي الناس حالهم، فالرموز والصور والتشبيهات تكرار وسجع لفظي لا يكمن وراءه وعي، ولا يغير الواقع قيد أنملة.
وأحيانا تختلط المقدمات الإيمانية التقليدية بين الحمد لله والثناء عليه، وبين الدعوة للسلطة والتزلف إليها، فالحديث عن السلطان واحد، السلطان الديني أم السلطان السياسي، السلطان الإلهي أم السلطان البشري أو باختصار الله والسلطان، الأول يمثل السلطة الدينية في قمة الكون والثاني السلطة السياسية على رأس الدولة، وكلاهما يتم الكلام عنه بلغة الجبروت والعظمة، حتى إنه ليصعب الفصل بين السلطانين أو بين السلطتين أو بين الإلهين، إله السماء وإله الأرض، إله الدين وإله السياسة، وقد يكون ذكر اسم الله المطلق وأنه المسيطر على كل شيء تعبيرا عن وضع اجتماعي يتحد فيه الله بالسلطة، فلا فرق بين الثناء على الله والثناء على السلطان، كلاهما يصدران عن بناء نفسي واحد، وكل منهما يغذي الآخر ويدعمه، فالثناء على الله تدعيم للثناء على السلطان، والثناء على السلطان نابع من الثناء على الله،
20
وكلاهما قضاء على الذاتية، ذاتية الأفراد وذاتية الشعوب.
فإذا كان هذا هو حال السلطان، فإنه لا يختلف كثيرا في صفاته عن حال الله، كلاهما منعم، واهب، عادل، عالم، قادر ... إلخ، وتملق السلطان ومنافقته لا يختلف كثيرا عن مواقف الزلفى والنفاق لله ، بل إن الموقفين موقف نفسي واحد، مرة يتجه نحو الله ومرة أخرى نحو السلطان.
21
فإذا أتى الشارح فإنه يقوم بنفس الدعاء لله وللسلطان الجديد، فالله قائم والسلاطين تترى.
22
وما الفرق بين أسماء الله الحسنى وألقاب السلطان؟ بل إنه في كثير من الأحيان يوصف السلطان بصفات الله! في العقائد المتقدمة تقل المدائح لله فتختفي المدائح للسلطان في حين أنه في العقائد المتأخرة تكثر المدائح لله فتظهر المدائح للسلطان، وكأنه إذا ظهر العقل خف المديح، وإذا عم الإيمان كثر المديح!
وفي عصرنا الحالي، بدلا من الثناء على السلطة، والدعاء للممسكين بها، والقائمين عليها، والقيمين على الناس، مستنصرين لهم، ومؤيدين لخطاهم، فإننا نبين تواطؤ السلطة الدينية والسلطة السياسية، وكيف أن كلا منهما تعيش على الأخرى، وفي كلتا الحالتين، الجماهير هي الخاسرة، والشعوب هي الضائعة، حرية ورزقا، إن مدح خصال السلطان النظرية والعملية تقرب وتملق، مداهنة وتزلف، وصولية وانتهازية، نفاق وكذب وخداع، وهذا ليس دور الجماهير ولا مهمة طلائعها؛ فدورها الرقابة، ومهمتهم النقد، وليس في كليهما مدح أو تعظيم، علاقة الرعية بالسلطان في عالمنا المعاصر وبأوضاعه الحالية التي ينكشف بناؤها من خلال وجداننا القومي، وإحساساتنا الدفينة ليست علاقة طاعة وقبول بل علاقة ثورة ورفض، فكثيرا ما أدت طاعة السلطان إلى الضياع والتخلف والاحتلال، والخروج على السلطان والثورة ضده كان فيه إجبار له على العدل والشورى، والرقابة عليه.
23
والسلطان لا يهدي ولا يضل، ولا ينفع ولا يضر، لا تتبع الأفلاك هواه، ولا تتحرى الأقدار رضاه فتلك صفات الله وحده.
24
هو سلطة تنفيذية خالصة، والسلطتان التشريعية والقضائية للفكر الذي وعد السلطان بتنفيذه، وعلى أساس التزامه به تمت البيعة له والعقد عليه، واختياره من بين المسلمين؛ فالفكر هو مصدر السلطات، والسلطة الحقيقية الفعلية هما السلطتان التشريعية والقضائية، والسلطان ما هو إلا منفذ للأولى، مطيع للثانية، السلطان ليس ملكا، ولا صاحبا، ولا آمرا ولا ناهيا، ولا خالقا، ولا قادرا، بل هو منفذ لقانون الفكر، ومطيع لقضائه، ومستمع للمشورة، وقابل للنصح. ليس السلطان باستمرار مصدر الخير والصلاح، بل كثيرا ما يكون مصدرا للفساد والطلاح لنفسه ولشعبه، السلطة في غياب الرقابة الشعبية تفسد، وتعمل لمصلحة القائمين بها، تغنم وتثرى، تتجبر وتنفرد بها، ثم نجد من يعاونها في ذلك؛ تحقيقا لنفس الأغراض، الثراء والسلطة، المنصب والجاه، ثم تضع في الشعوب كل القيم التي تساعدها على تحقيق مآربها مثل الحرمان الجنسي بدعوى الفضيلة والتقوى ثم الإثارة الجنسية بدعوى المدنية وإدخال السرور على النفس حتى يتحول الشعب كله إلى فئتين؛ مثير جنسيا ومثار جنسيا، أو تلهي السلطة الشعب بقوته اليومي، حتى يظل الشعب لاهثا وراءه، تاركا السياسة، وغافلا عن السلطة، تاركا لها مجال السياسة العليا في الحرب والسلام، في الغنى والفقر، في الحرية والقهر، وفي الوحدة والتجزئة، أو تلوح بالمناصب حتى يتهافت عليها الناس، ويتسابق نحوها وزراء الغد، فتعطى لمن لا يستحق حتى يظل عبدا لها، حريصا عليها، يستمد منها قيمته كل من لا قيمة له، إن أزمة السلطة في عالمنا المعاصر أنها لم تأت عن طريق الشورى والبيعة، ولكنها أتت قفزا عليها، واستمرت بقوانين القهر وبحكم العسكر وبسيطرة أجهزة الأمن بعد أن أخذت شرعيتها أولا من الإنجازات الثورية أو الحركات الوطنية التي أدت إلى الاستقلال لا من البيعة والاختيار الحر، أخذت الشرعية من العمل ثم من القوة لا من النظر ثم البيعة، والثورية حتى في أحسن صورها واستمراريتها لا تكفي دون البيعة لتحقيق ذاتها ولاستمرارها ولالتفاف الجماهير حولها، وغالبا ما تنقلب الثورية ضد الشعب، أصل البيعة، ومصدر الشورى. قد تكون السلطة مصدرا للجهل لا للعلم، وقد يكون في مصلحتها نشر الأمية وليس محوها، والقضاء على الثقافة وليس تنميتها، فالسلطة تتأكد في شعب جاهل، وتقوى في جماعة مطيعة، فالجهل طاعة والعلم ثورة، وقد يكون المدح للدولة، لفكرها وعقيدتها، لحزبها ونظامها كما يحدث في عالمنا المعاصر من الدعوة للنظم السياسية وللثورات الوطنية، يكون التاريخ قبلها خواء وظلاما، ثم يحدث الملاء ويعم العدل في ظل النظام السائد، وبعد الثورات المباركة، وهو ما عاصرناه في جيلنا من جب لما قبل تاريخ ثوراتنا المعاصرة، وشجب لكل ماضينا ثم الازدهار المفاجئ والنهضة الشاملة في ظل النظام القائم وبعد الثورة، فنولد من جديد، ونحيا بعد عدم، ونملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتوجهنا عقائد الشيعة ونحن أهل سنة!
25
وهو ما يحدث أيضا في خطب المساجد من الدعوة إلى السلطان، وتأييد للنظام، ومدح للحكام، وهو ما يكثر في عصور الانحطاط كأحد مظاهره أو أسبابه، فالإمام يخشى السلطان فيمدحه، والسلطان يخشى الإمام فيوظفه في رعيته ويجعله تابعا له فقيها للسلطان، وبمدح الإمام تثبت شرعية السلطان في قلوب الناس والجهال، ولو أن الإمام فضح السلطان لما بقي السلطان، وشرعية الإمام في قلوب الناس أرسخ وأعمق من شرعية السلطان.
26
فإذا ما تغيرت السلطة بانقلاب أو بوفاة، انصب نفس المدح للسلطان القديم على السلطان الجديد الذي يعطي نفس الصفات، وتكون له نفس المحامد والآثار، وتوجه إليه نفس الدعوات والابتهالات، فمدح السلطان لا يقوم على خصائص موضوعية في السلطان، بل هو اتجاه نحو السلطة بالتملق والزلفى والنفاق، حتى ولو كان السلطان حيوانا! ولقد نشأ بيننا كتاب لهم هذه الوظيفة في مدح القائد الملهم، والزعيم الشجاع، وابن الشعب البار، والمجاهد الأعظم، والرئيس الأفخم، وصاحب القرار، وإذا استنفدت السلطة أحدهم أو ضاقت به أو خدمها بغباء، أو استعمل ذكاءه لحسابه الخاص أتى الآخر، ثم تطول قائمة الانتظار، يود الكل اللحاق بوظيفة مداح السلطان.
27
وقد يكون الدعاء لرئيس المصلحة، السلطان الأصغر، الذي بيده الخبز والعيش، الرئيس المباشر الذي بيده الترقية والدرجة، والتقرير والتوصية، والذي يراه الكاتب وجها لوجه؛ فالسؤال هنا مباشرة من شخص إلى شخص وليس إلى ذات مجردة أو لسلطان بعيد قد يسمع وقد لا يسمع، السؤال هنا لشخص حي، يصعد الدرج ويهرول، ويهبط تحفه البركات، ويصعد تنهال عليه الدعوات.
28
أما الإهداء فإنه يكون أيضا للحضرة العلية حتى يذكر اسم السلطان في فاتحة الكتاب بعد فاتحة القرآن أو قبلها، فكل الآراء تتوجه إلى السلطان كما أنها بدرت منه، وخرجت بتوجيهاته.
29
أما نحن فإهداؤنا «إلى علماء أصول الدين، تحقيقا لمسئولية جيلنا»، تكاتفا مع العلماء، وإبداء للنصح، وتحملا للمسئولية عن هذا العلم وأثره في الحياة العملية وعلى سلوك الجماهير وعلاقتها بالسلطة، فإذا كان هذا هو المحتوى الرئيسي للمقدمات الإيمانية التقليدية التي تدعو إلى الله وإلى السلطان معا، وتسبح بحمدهما معا خاصة في العقائد المتأخرة، عصر الشروح والملخصات، عصر الانحطاط وتلقي البركات، فإن عصرنا الحالي عصر إصلاح ونهضة، وجيلنا الحالي جيل تغيير وثورة، وكتابه لا يتملقون السلطان الإلهي أو السلطان السياسي، بل يدافعون عن مصالح الشعوب ضد جميع السلاطين، هذه هي مسئولية «من العقيدة إلى الثورة» ومقدمته الأولى.
وإذا كانت بعض المقدمات الإيمانية القديمة تبدأ فقط ب «اسم الله الرحمن الرحيم»، فإننا نبدأ «باسم الأمة»، فالله والأمة واجهتان لشيء واحد بنص القرآن.
30
فإذا كان الله قد تم الدفاع عنه عند القدماء وانتصروا في قضيتهم إثباتا للتنزيه، فإننا ندافع عن الأمة التي اعتراها التفتت، وأنهكها الضياع، وتوالت عليها الهزائم، وانتابها العجز، وعمها القعود، وإذا كان القدماء في دفاعهم عن التوحيد قد فتحوا البلدان، وغزوا في سبيل الله، وحرروا الوجدان البشري إعلاء لكلمة الله، فانتصروا في الفكر والشريعة، وحققوا النظر في العمل، فإننا اليوم ندعو الأمة إلى الجهاد وإلى تحرير البلدان، واستعادة الأراضي المغتصبة، وذلك عن طريق تفجير التوحيد لطاقات المسلمين، وعودتهم إلى الأرض، فإذا دافع القدماء عن الله نظرا لأنه كان مظان الخطر والهجوم، فإننا ندافع اليوم عن الأرض فهي المستهدفة، رقعة وثروة؛ فالله بنص القرآن إله السموات والأرض،
رب السماوات والأرض ،
وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله . فالتوحيد فتح وجهاد، تلك «الفريضة الغائبة»، وهذا الأصل من أصول الإسلام بل وعقيدته الأولى باسم التوحيد، لقد استبيحت حرمات المسلمين، واحتلت أراضيهم، ونهبت ثرواتهم، وانتهكت أعراضهم، وقتلت نساؤهم وأطفالهم، وذبح أبناؤهم، فإذا كان القدماء قد بدءوا مقدماتهم الإيمانية التقليدية «باسم الله»
31
فإننا نبدأها باسم الأرض المحتلة في مواجهة الاحتلال الأجنبي لأراضي المسلمين، وباسم حريات المسلمين في مواجهة صنوف القهر والطغيان، وباسم النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وباسم المساواة والعدالة الاجتماعية في مواجهة تجميع الثروات وتكديس الأموال لدى الأقلية المترفة أمام جماهير الأمة التي تموت جوعا وقحطا، بؤسا وعريا، وباسم الوحدة، وحدة الأمة بنص القرآن مرآة لوحدة الله في مواجهة التجزئة والتشرذم والتشتت والتبعثر بين ملوك الطوائف، وباسم التقدم في مواجهة التخلف، وباسم النهضة في مواجهة الانحطاط، وباسم الهوية ضد التغريب، باسم جماهير الأمة، وباسم الأغلبية الصامتة، وباسم عامة المسلمين يصدر «من العقيدة إلى الثورة» بناء على «العقل المصلحي» يجمع بين «علم أصول الدين» وبين «علم أصول الفقه» ليعيد وحدة «علم الأصول» بشقيه.
وفي مرحلة ثانية،
32
انتقلت المقدمات الإيمانية من مجرد التعبير عن عواطف الإيمان إلى التركيز على «التأصيل العقلي» للعلم خاصة، وأن علم التوحيد هو الذي يعطي التصورات ويقدم المسببات والأسباب.
33
ونستمر أيضا في التأصيل العقلي دون وقوع في أخطاء التجريد أو التشبيه.
34
ولكننا نزيد على «التأصيل العقلي» عند المتأخرين «التأصيل الواقعي» عند المعاصرين أسوة بالمصلحين المحدثين حتى يرتبط التوحيد من جديد بالعمل، والله بالأرض، والذات الإلهية بالذاتية الإنسانية، والصفات الإلهية بالقيم الإنسانية، والإرادة الإلهية بالحرية الإنسانية، والمشيئة الإلهية بحركة التاريخ، وإذا كان الدافع عند القدماء هو العلم، فقد كانوا منتصرين في الأرض فاتحين للبلدان، وارثين الإمبراطوريتين القديمتين، الفرس والروم، فإن الدافع لدينا هو العمل، فنحن مهزومون، محتلون، تتداعى علينا الأمم كما تتداعي الأكلة على قصعتها، تريد الدولتان العظميان اليوم، في الشرق والغرب، وراثتنا ماضيا وحاضرا ومستقبلا. ليس المهم لدينا هو فهم العالم كما كان عند القدماء بل تغييره وتطويره والسيطرة عليه، لقد عبرت المقدمات التقليدية الأولى عن واقع العلم والمناقشات النظرية في عصر كان الواقع الفعلي مستورا: البلاد مفتوحة، والجنود منتصرة، والدول قائمة مستقلة، وكان الخطر يتهدد العقائد النظرية الجديدة؛ أي التوحيد، ولقد تغير الوضع الآن فأصبح الخطر على الأرض بعد أن احتلت البلاد، واستعمرت الأوطان، واثاقل الناس إلى الأرض، وقعدوا عن الجهاد في حين أن التوحيد النظري قائم، وصفات الله ظاهرة، وهو واحد حي قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، يهدف التأصيل الواقعي إذن إلى إعادة بناء «علم أصول الدين» بحيث تتحول العقيدة إلى ثورة للدفاع عن البلاد، وإطلاق التوحيد من عقاله، وإيقاظه من سباته، وتحويله إلى فاعلية في الأرض، وحركة في التاريخ.
35
وإذا كانت المقدمات التقليدية بلا استثناء قد جعلت هدفها الدفاع عن العقيدة، فقد كان الدفاع في معظم الأحوال دفاعا عن عقائد فرقة معينة هي فرقة أهل السنة ضد أهل البدعة، ولكننا لا ندافع عن عقائد فرقة بعينها، بل نعيد تأصيل التوحيد كما ورثناه من القدماء وبعد عرضه على ظروف العصر دفاعا عن مصالح الأمة. ليس الغرض من التأصيل العقلي المصلحي هو الهجوم على «الملحدين»، والدفاع عن عقائد الدين، بل إيجاد البراهين على الصدق الداخلي للعقائد عن طريق التحليل العقلي للخبرات الشعورية الفردية والجماعية، وبيان طرق تحقيقها من أجل إثبات الصدق الخارجي لها وإمكانية تطبيقها في العالم،
36
فإذا كان هدف القدماء إثبات عقائد «الفرقة الناجية» ضد «الفرق الضالة»، فإن هدفنا هو الدفاع عن اجتهادات الأمة كلها، ووضع العقائد كلها على قدم المساواة ومعرفة كيف نشأت في ظروف العصر القديمة وكيف يمكن أن تحيا في ظروف العصر الجديدة، إذا كان هدف القدماء هو بيان «الفرق بين الفرق» فإن هدفنا هو «الجمع بين الفرق» في وقت الأمة فيه أحوج ما تكون إلى الوحدة الوطنية، إذا كان هدف القدماء بيان «مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين»، فإن هدفنا هو بيان «مقال المسلمين واتفاق المصلين»، إذا كان هدف القدماء عرض «اعتقادات فرق المسلمين والمشركين»، فإن هدفنا هو الكشف عن عقيدة الأمة وكيفية استعمالها من كافة قواها الاجتماعية والسياسية ولصالح من يتم تأويلها وفهمها واستخدامها.
37
وإذا كان القدماء قد اتبعوا نهج الالتزام بقواعد السلف، وبما قاله السابقون، ينقلون عنهم، ويهمشون عليهم، ويشرحون عقائدهم دون تجديد أو إضافة حتى أصبح علم أصول الدين لا يقص تاريخ الأمة، ولا يعكس صورة الأحداث فإن نهجنا هو عدم التأسي بأحد، قدماء أو محدثين، «هم رجال ونحن رجال، نتعلم منهم ولا نقتدي بهم»، وإذا كان القدماء قد آثروا الإتباع دون الإبداع فإننا نرى مأساتنا في الإتباع لا في الإبداع، وأن هناك فرقا بين الابتداع والإبداع؛ الأول خروج على النهج بلا أصول، والثاني تطوير للأصول وتجديد لها، الأول انقطاع بلا تواصل، والثاني تواصل بلا انقطاع. ليس السلف بأفضل من الخلف بالضرورة ولا الخلف أشر من السلف بالضرورة، ولكن لكل عصر اجتهاداته، ولكل جيل إبداعاته، ولكل زمن سلبياته وإيجابياته، ولكن رؤية الماضي كنموذج للإتباع ورؤية المستقبل كنموذج للإبداع كلاهما إسقاط للحاضر من الحساب، وفي ذلك إهدار للإمكانيات البشرية لجيلنا وكأن الحل يوجد خارج عصرنا إما في فردوس الماضي أو في حلم المستقبل، وكلاهما طريقان وهميان للخلاص، وذلك ضد حركة التاريخ ومساره، وتطوره على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل بفعل الأجيال، وطالما أن القدماء لهم الطول على المحدثين فإن الأمة لم تحسم بعد في حياتها معارك النهضة، ولم تحصل بعد على شروط التقدم، بل إن بعض القدماء يضع لفظ «السلف» أو «السنة» في العنوان إيثارا للسلامة، وتحقيقا للإتباع، سواء من المؤلفين أو من الناشرين، ونحن لا نعتمد إلا على البحث الحر، والإيمان بقدرات الأمة على الإبداع، وتطبيق العقل المصلحي في العقائد، فهي إيمان الجماهير والتي تعطيهم تصوراتهم للعالم ودوافعهم على السلوك، كما فضل بعض القدماء ذكر سند الرواية وكأن العقائد أحاديث تروى من شيخ إلى شيخ بالقراءة والإجازة والمناولة إلى آخر ما هو معروف من مناهج الرواية الكتابية القديمة.
38
فإذا كان القدماء قد جمعوا ما في الكتب السابقة المتفرقة وكان التأليف هو التجميع، فإننا نجتهد رأينا من واقع المسئولية، مسئولية الأصوليين الواضعين للعلم والمطورين له.
39
لذلك ارتبط «من العقيدة إلى الثورة» بالعقائد الإصلاحية فهي وحدها التي تركز على دور العقائد في تغيير حياة الناس، تصوراتهم وأساليب حياتهم من أجل تغيير الأنظمة الاجتماعية والسياسية وإعادة نظام التوحيد، بل لقد تأسست دول بأكملها ابتداء من إعادة بناء العقائد، وإن مظاهر الشرك في حياة الناس عديدة ليس فقط زيارة قبور الأولياء والأنبياء، والتبرك بالحجابة والتميمة وممارسة السحر، والرجم بالغيب، والوساطة والشفاعة، وهو الشرك في العبادات، بل أيضا الشرك في المعاملات ووجود مجتمع به أغنياء وفقراء، قاهرون ومقهورون، أصحاب سلطة ومتزلفون منافقون، أو أن يظن إنسان أن لإنسان آخر سلطانا عليه فيمدحه ويداهنه، أو يجبن ويخاف ويسكت على الحق حرصا على الدنيا وإيثار السلامة، ولا يكفي الشرك في العقائد النظرية ابتداء من الغزو الثقافي الحديث إثر حركة الترجمة الثانية وضرورة الرد عليها بالاعتماد على العقائد السلفية والرد على نتائج العلوم الطبيعية والإنسانية الحديثة؛ فذلك نسيان لهموم المسلمين العملية، وإبقاء على النظر دون العمل وإعطاء الأولوية للمستوى النظري القديم على المستوى العلمي الحديث.
40
وقد بدأنا بعلم أصول الدين كأول جزء من «التراث والتجديد»؛ لأنه هو العلم الذي يمد الجماهير بتصوراتها للعالم وببواعثها على السلوك، فهو البديل لأيديولوجياتها السياسية خاصة بعد فشل جميع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث،
41
فعقائد الإيمان هي التي حافظت على هوية الجماهير وعلى الشخصية الوطنية للبلاد إبان نضالها ضد الاستعمار، وعبارات الإيمان هي التي تخرج على اللسان في لحظات الحسم، مثل: «الله أكبر» أو «سبحان الله» أو «لا إله إلا الله» عند المصابين أو «الله، الله» في لحظات العجب والاستحسان، أو «لك يوم يا ظالم» في لحظات الإحساس بالقهر والعجز عن الظلم. فما سماه القدماء «أرفع العلوم وأعلاها» أو «أشرف العلوم وأسماها» هو عندنا أكثر العلوم فاعلية وأثرا في تصورات الناس وسلوكهم، فالشرف ليس من الموضوع كما قال القدماء، بل من الأثر والقدرة على تحريك الناس، وتجنيد الجماهير والدخول في حركة التاريخ.
42
وإذا كان القدماء قد وضعوا عقائدهم بناء على سؤال الأمراء والسلاطين، أو بعد رؤية صالحة للولي أو للنبي، أو بعد استخارة لله، فإننا وضعنا «من العقيدة إلى الثورة» دون سؤال من أحد أو رؤية أو استخارة، بل تحقيقا لمصلحة الأمة وحرصا على وحدتها الوطنية بعد أن أصبحت شيعا وفرقا في نضالها الوطني وتغيرها الاجتماعي، خاصة بين أنصار التراث وأنصار التجديد، بين الحركة السلفية والحركة العلمانية، وهما الاتجاهان الرئيسيان في جسد الأمة، بدلا من التكفير المتبادل، والصراع على السلطة، واستبعاد كل منهما الآخر؛ فعقائدنا هي حركة الوصل بين جناحي الأمة، والتي من خلالها يستطيع التراث السلفي أن يواجه قضايا العصر الرئيسية، كما يستطيع العلماني التقدمي (الليبرالي أو الاشتراكي أو القومي) أن يحقق أهدافه ابتداء من تراث الأمة وروحها، فيأمن الأول المحافظة والرجعية، ويأمن الثاني الوقوع في التغريب والعزلة عن الناس، يأمن الأول الخروج على المجتمع سرا أو علنا ومعاداة الأهل والوطن، ويأمن الثاني الانتهاء إلى الردة والوقوع في الثورة المضادة، وهذا ما يبرهن عليه واقعنا المعاصر، سواء في موقف الحركة الإسلامية منه أو في انتكاسة الثورة العربية وردتها.
43
والغالب على أسماء مؤلفات العقائد التقليدية إما أسماء العلم والتبيين أو أسماء الجدل والإرشاد، أو أسماء تدل على القدرة الشخصية الفائقة أو التواضع الشديد أو أسماء محايدة لتأصيل الدين وشرح أصوله أو أسماء تبين العقائد الناجية طبقا لتصور أصحابها، أو بعض الأسماء التي لا تدل على مسمياتها.
44
أما اسمنا فهو: «من العقيدة إلى الثورة»؛ فالعقيدة هي التراث والثورة هي التجديد، العقيدة هي إيمان الناس وروحهم، والثورة مطلب عصرهم، والسؤال هو: كيف يتم نقل الأمة على نحو طبيعي من الماضي إلى الحاضر؟ كيف تعود إلى التوحيد فاعليته في قلوب الناس ليعود نظاما سياسيا لمجتمعاتهم؟ كيف تصبح العقيدة باعثا ثوريا عند الجماهير وأساسا نظريا لفهمهم للعالم؟ كيف يتحول مسلمو اليوم إلى ثوار الغد بعد أن بدءوا ثوراتهم الوطنية العلمانية المحدثة والتي حققت أقل قدر ممكن من الاستقلال، وهو جلاء القوات الأجنبية، ولكن ما زالت الأرض محتلة، والثروات ضائعة، والاقتصاد تابعا، والأبنية متخلفة، والهوية مغتربة، والحريات مقهورة، والأمة مجزأة، والجماهير عاجزة؟ كيف يصبح التوحيد، وهو اسم فعل، تحريرا للوجدان البشري، وتحررا للمجتمعات البشرية وللإنسانية جمعاء؟
45
أما من حيث الألقاب التي تبارى فيها القدماء مدحا لأنفسهم أو تعظيما من الآخرين لهم، فلست الإمام، ولا القطب، ولا الشيخ، ولا القاضي، ولا الرئيس، ولا العالم العلامة، الحبر الفهامة، ولا الصاحب، ولا الحافظ، ولا المحدث، ولا المحقق، ولا العالم، ولا الأستاذ، ولا المرجع، ولا سيدنا ومولانا! كما أني لست إمام العالمين، ولا قدوة علماء المسلمين، ولا سيف الحق والدين، ولا نجم الملة والدين، ولا فخر الدين، ولا عضد الدين، ولا سيف الدين، ولا أفضل المتقدمين والمتأخرين، ولا سيف السنة، ولا لسان الأمة، ولا حجة الإسلام، ولا صدر الإسلام، ولا شيخ الإسلام، ولا لسان المتكلمين، حجة الناظرين مع فرق المبتدعين، ولا صاحب الفضيلة، ولست العبد الفقير إلى رحمة ربه، الحقير الراجي من الله غفران الوزر.
46
بل أنا فقيه من فقهاء المسلمين أجدد لهم دينهم وأرعى مصالح الناس. ليس لنا ألقاب، بل نحن من علماء الأمة، ورثة الأنبياء، والمحافظون على الشرع كما كان فقهاء الأمة من قبل، لا نريد مدحا ولا تعظيما كما فعل القدماء، فقد أعطي نفس اللقب لأكثر من عالم وإمام، وأعطي للإمام والعالم أكثر من لقب، وكثرت الألقاب قبل الاسم وبعده، يصحبه دعاء حتى اختلطت الوظائف بالألقاب، ويتساءل الإنسان: طالما أن في الأمة كل هؤلاء العلماء سيوف الدين، فلماذا احتلت الأرض، ونهبت الثروات، وقهرت الحريات، وتجزأت الأمة، وتخلفت الأبنية الاجتماعية، وتغربت الهوية، وسكنت الجماهير؟ ولا نريد أن نضيف إلى مئات الألقاب واحدا، إنما نحن أحد علماء الأمة وواحد من المجتهدين.
وكما يستعين القدماء بالله، فإننا نستعين بقدرة الإنسان على الفهم والفعل، على النظر والعمل بالاعتماد على النصوص القديمة وتجارب العصر، ولا عصمة لأحد، والخطأ خطئي وحدي، فلا يستطيع الباحث أن يعي كل شيء، وأن يعرف كل تحليل، وأن يكون على علم تام بمطالب العصر؛ ومن ثم فهي اجتهادات ومواقف محتملة، وكل التفسيرات ممكنة إذا كان فيها تلبية لمطالب العصر. فلا توجد صحة نظرية بقدر ما هناك من فائدة عملية.
47
وإذا كانت أخطاء القدماء تتغير بالتوبة والاستغفار، فإن أخطاءنا تتغير بالتعلم والاستفادة والمراجعة والنقد، ثم العود من جديد للقيام بنفس المهمة في تأصيل جديد عقلي مصلحي لعلم أصول الدين على أساس من اجتهاد العصر، والاكتساب النظري والعملي للصواب.
48
وإذا كان القدماء يريدون ثوابا في الجنة أو إنقاذا من النار، فإننا نريد صلاح الأمة؛ تحرير أراضيها، وإعادة توزيع ثرواتها بالعدل والمساواة، وإطلاق حرياتها في القول والعمل والاعتقاد، وتوحيد شتاتها، والقضاء على تخلفها ، وإعادتها إلى هويتها من غربتها، وتجنيد جماهيرها؛ نريد تحقيق الإصلاح في الأرض، ومقاومة الفساد فيها.
49
ولا أرجو مفازة، ولا أبغي جزاء، بل سير الحضارة بعد أن توقفت، ونقلها من طور إلى طور، من الطور الثاني (من القرن السابع حتى الرابع عشر) إلى الطور الثالث (ابتداء من القرن الخامس عشر)، مفازتي في تحمل المسئولية الوطنية والواجب الحضاري، رسالة العلماء وأمانة الجماهير، لا أطلب ثوابا أخرويا ولا جزاء دنيويا، بل تأدية الرسالة؛ فالرسالة تحتوي على جزائها في باطنها بتحقيقها، وتحول الإنسان من الفردية إلى حياة الحضارة الجماعية، فيتحول الفرد إلى تاريخ، والزمان إلى خلود.
50
ونادرا ما تصدر عقائد القدماء عن تجربة شخصية أصيلة، فإذا حدثت فإنها تجربة شروح وحواشي، فالمادة «الكلامية» محفوظة ومرصوصة، يتناقلها المصنفون أبا عن جد، وابنا عن أب، وتلميذا عن شيخ، فهم مصنفون وليسوا مؤلفين، يرتبون ويبوبون مادة صماء لا باعث فيها ولا هدف لها، وأقصى ما يوجد من تجارب شعورية وراء المؤلفات هي تجارب الشرح قبل فوات العمر!
51
أما «التراث والتجديد»، وأولى تطبيقاته هذه «من العقيدة إلى الثورة»، فإنه يمثل تجربة العمر دون ما تجريد في العرض أو ادعاء لعلم؛ فالعلم لا يأتي إلا من تجربة، فردية واجتماعية، تكشف عن تجربة جيل بأكمله، في عصر معين، في إحدى مراحل التاريخ، وموضوعية الفكر لا تنفي حياة المفكر، بل إن حياة المفكر وتجربته هي المحل الذي تنكشف فيه موضوعية العلم وشموله، وأرجو ألا تشغلنا زحمة الحياة، والخوض في تجارب العصر، وعيش أزماته عن إعادة بناء العلوم القديمة، وتأسيسها من جديد طبقا لمقتضيات العصر.
كانت تجارب القدماء في أغلبها صوفية، وفي أقلها علمية نظرية، وبالتالي خلت من أي مضمون اجتماعي، وكيف يهتز العالم كله من مجرد تجربة ذوقية شخصية تعتلج في صدر صاحبها، ويموج بها قلبه، ويهتز لها وجدانه؟ وقد يكون الإحساس بخلاص العالم على يد الشارح؛ تعويضا عن إفلاس علمي حقيقي، أو تغطية لا شعورية عن هزائم العصر، وانهيار الحضارة، أما تجاربنا نحن فهي اجتماعية بالأصالة، تجارب ذات مضمون، وضعناها في التراث، وقرأنا التراث من خلالها فتحولت إلى فكر، وتحول التراث إلى تجربة، وتلك هي مقدمتنا لهذا الجزء الأول من «التراث والتجديد» وهو «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة لإعادة بناء علم أصول الدين القديم.
يعبر مشروع «التراث والتجديد» عن تجربة العصر من خلال جيلنا على الأقل، وهو جيل يكشف عن مسار التاريخ المعاصر في أحد مراحله الرئيسية، كما يعكس الصراع الدامي الذي حدث بين «الإخوان المسلمين» التي كانت تمثل الحركة الإسلامية المعاصرة وريثة الإصلاح الديني القديم من الأفغاني إلى محمد عبده إلى رشيد رضا إلى حسن البنا إلى سيد قطب ثم إلي، وبين «الثورة المصرية» منذ «عرابي» حتى «عبد الناصر»، كان أول وعيي بالعالم الحرب «العالمية» الثانية (إذ إني من مواليد 1935م) وكانت عواطفنا ونحن صغار مع دول المحور؛ لأنها كانت ضد بريطانيا التي تستعمرنا، ولم نكن ندري وقتها ماذا تعني النازية أو العنصرية، وكان وعيي الثاني إبان حرب فلسطين 1948م عندما ذهبنا للتطوع في جمعية «الشبان المسلمين» فطلبوا تحويلنا إلى حزب آخر «مصر الفتاة»، ويومها عجبت للفرقة المذهبية في قضية وطنية، ثم دخلت «الإخوان المسلمين» في نفس العام الذي اندلعت فيه الثورة المصرية في عام 1952م، طالبت أن يكون شعار الإسلام مصحفا ومدفعين وليس مصحفا وسيفين، إعلانا للتحديث وتأكيدا على المعاصرة، وكنا مع الثورة في صف «محمد نجيب» الذي دعا في جامعة القاهرة إلى الوحدة الإسلامية، ثم اشتعلنا بثورة محمد مصدق بإيران وتأميم البترول، وهرب الشاه، وكانت أول صدمة تراخى الإخوان في تأييدها، بل وتأييد الكاشاني! ثم حدثت أزمة مارس بين الإخوان والثورة، وكان مشروع المعاهدة المصرية البريطانية أقل مما كانت تطالب به الحركة الوطنية المصرية، كما انضممنا إلى الحركة الوطنية المصرية العامة التي كانت تطالب بالحريات وبالدستور، ثم اشتعلنا من جديد بالثورة المصرية بعد تأميم قناة السويس في يوليو 1956م، وظهر «عبد الناصر» ليس فقط كمناضل ضد الاستعمار، بل كرمز لحركات التحرر في العالم الثالث كله.
بدأت الأفكار الأولى لمشروع «التراث والتجديد» إذن من أتون الصراع بين «الإخوان » و«الضباط الأحرار»؛ أي بين «الإسلام» و«الثورة» أو بين «القديم» و«الجديد» أو بين «الماضي» و«الحاضر»، خلال أربع سنوات حياتي الجامعية من 1952-1956م، واكتشاف توجيه الفكر للواقع، والطاقة والحركة والتغير والجدة والحياة، حتى لقد حسبني أحد الأساتذة كانط أو برجسون، ومنه سمعت لأول مرة تكوين الشعور والإحالة المتبادلة أو القصدية، وأنه يمكن لتجارب الشعور (الدينية الصوفية عندي في ذلك الوقت) أن تتحول إلى علم.
Les methodes d’Exégèse P. V-VI . وفي فرنسا في أواخر 1956م تمت صياغة «المنهاج الإسلامي العام» الذي يتكون من صورتين: الأولى ثابتة تصور ونظام والثانية حركية طاقة وحركة مما انتهى بعد تعديلات طويلة، وتطور في وعي المنهج برسالتي الأولى «مناهج التفسير في علم أصول الفقه» (بالفرنسية)، أولى محاولات التراث والتجديد التطبيقية، وبعد عودتي من فرنسا في صيف 1966م شرعت في كتابة المقدمات النظرية «أزمة الدراسات الإسلامية، التراث والتجديد، ص75-122»، ثم وقعت هزيمة يونيو 1967م، وهنا تحولت من باحث نظري «أكاديمي» إلى باحث اجتماعي، وانتقلت من «الوعي الفردي» الغالب على الرسالة الأولى إلى «الوعي الاجتماعي» من أجل التصدي للهزيمة كمفكر وباحث وعالم (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (1): في فكرنا المعاصر»، و«قضايا معاصرة (2): في الفكر الغربي المعاصر») لمدة ثلاثة أعوام، بعدها غادرت البلاد رغبة في الهدوء والنسيان، وتهدئة الخواطر مع السلطات الجامعية والسياسية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (1971-1975م) جمعت مادة «من العقيدة إلى الثورة» لأول مرة، ثم كتبت «التراث والتجديد» في 1976م كمقدمة عامة بعد أن نضجت في ذهني أزمة التغير الاجتماعي، ولكن حدثت في 1977م الردة الثانية، وانقلاب الثورة المصرية إلى ثورة مضادة مما جعلني أتحول مرة أخرى من باحث ومفكر وعالم إلى «حارس للمدينة» حرصا على الثورة، وحماية لمكتسباتها، ودفاعا عن مشروعها، وظل ذلك على مدى أربع سنوات أخرى في هذه المهام العاجلة والشهادات المستمرة على أحداث العصر (وكانت حصيلة ذلك: «قضايا معاصرة (3): في الثقافة الوطنية»، و«قضايا معاصرة (4): في اليسار الديني»). ثم جاءت مذبحة سبتمبر 1981م، وخروج اضطراري من الجامعة مما أعطاني عاما كاملا لكتابة «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثانية، وبعد خلاص مصر من أسوأ عقد في تاريخها؛ وهو عقد السبعينيات كتبت «من العقيدة إلى الثورة» للمرة الثالثة في فاس بالمغرب الأقصى خلال عام 1983م بعد أن برزت الحركة السلفية في المشرق كوريث للحركة الإصلاحية الدينية وكبديل للثورات العربية وللحركة العلمانية التقدمية بوجه عام، وبعد رصيدها في تخليص مصر، وعلى هذا النحو يكون «من العقيدة إلى الثورة» قد استغرق عشرة أعوام مثل رسالتنا الأولى عن «مناهج التفسير»، وكم في العمر من عشرات الأعوام؟ لذلك أرجو أن تتوالى أجزاء «التراث والتجديد» تباعا، بعد أن شهدنا على أحداث العصر بما فيه الكفاية، الهدف الآن تنظيرها وإحكامها وتحويلها إلى علم محكم، ويكفي «اليسار الإسلامي» كمنبر عام لبيان كيفية الانتقال «من العقيدة إلى الثورة» ⋆
قد أشفعها جميعا بسيرة ذاتية وقد أترك «التراث والتجديد» يحكي قصة حياتي. ⋆
انظر أيضا باقي الظروف في: التراث والتجديد، ص216.
الباب الأول: المقدمات النظرية
الفصل الأول: تعريف العلم
أولا: مقدمة
لا تحتوي كل المصنفات القديمة على هذه المقدمة العامة للعلم التي يتحدد فيها تسميته، وحده، وموضوعه، ومسائله، ومنهجه، ومرتبته، وفائدته، ووجوبه. أسقطتها كتب العقائد من الحساب إذ لا يهمها الحديث عن العلم بقدر ما يهمها فرض ما يجب على المسلم الاعتقاد به بصرف النظر عن أسس هذا الاعتقاد ومبادئه النظرية، مع أن تحديد العلم جزء من تأسيس العلم.
1
كما تغيب عن كتب «عقائد السلف» التي يهمها أيضا صياغة العقائد السلفية باعتبارها عقائد الفرقة الناجية.
2
كما أنها لم تظهر في المصنفات الكلامية الأولى قبل القرن الخامس الذي اكتمل فيه بناء العلم، وقبل أن يأخذ نفسه موضوعا.
3
ظهرت بعض موضوعات المقدمة مثل وجوب العلم ومنهجه، وأصبح لها مكان الصدارة على باقي الموضوعات كلها.
4
كما ظهرت مرتبة العلم في ثنايا المقدمات الإيمانية الأولى،
5
ولكن ظهرت المقدمات كلها ابتداء من القرنين السابع والثامن، مرورا بالحركة الإصلاحية، واستمر الحال على هذا النحو حتى الكتب المدرسية المتأخرة،
6
فإذا ظهرت في المتن فإنها تظهر أيضا في شروحه وحواشيه،
7
وقد لا تظهر في المتن ولكنها تظهر في الشروح والحواشي كنوع من التطويل وجمع المعلومات.
8
وبالرغم من أهمية هذه المقدمة فقد اعتبرها بعض القدماء عارية عن العلم، ولا يوجد علم بلا تحديد، وقد يكون أحد العلوم القديمة بلا موضوع ولا منهج وضارا على الفرد والمجتمع، وهذا هو حال «علم الكلام»، فإنه من أكثر العلوم في تراثنا القديم عرضة للهجوم والتحريم، ولا يوجد علم كثر حوله النزاع، واشتد الخلاف مثل هذا العلم، وقد يكون هذا الغياب أو الحضور العشوائي لتعريف العلم وتحديد موضوعه واختيار منهجه هو ما ترسب في عقليتنا المعاصرة من الحديث عن موضوعات لا وجود لها أو الصمت عن موضوعات موجودة، وقد نتحدث عن أشياء دون حدها، فتظل فضفاضة يستعملها الكثيرون بمعان مختلفة، وقد نستعمل أسماء دون أن يكون لها مسميات، وبالتالي نتعامل مع حدود فارغة بلا مضمون.
9
ثانيا: تسميته
اختلفت آراء القدماء حول تسمية هذا العلم، هل هو «علم الكلام» أو «علم التوحيد» أو «علم الذات والصفات» أو العلم الذي يدور حول «الله والرسول» كما هو واضح في الشهادتين، أو «علم أصول الدين» أو «علم العقائد» أو «الفقه الأكبر»؟ وقد كانت لكل تسمية ظروفها وبواعثها وربما أهدافها، لم ينتشر الاسمان الأخيران كثيرا؛ «فالفقه الأكبر» كان تسمية القرن الثاني حتى قبل أن يبدأ العلم كبناء نظري وليس كمجرد نظريات متفرقة في بعض موضوعاته المتناثرة طبقا للظروف والأحداث، و«علم العقائد» تسمية متأخرة متضمنة في «علم التوحيد»، أما الأسماء الثلاثة الأولى فهي الأسماء الأكثر شيوعا. (1) علم الكلام
بلغت أهمية موضوع «الكلام» الإلهي درجة أنه أصبح الموضوع الأول للعلم، ولكون صفة الكلام من أكثر الصفات المتنازع عليها.
1
والحقيقة أن اعتبار «الكلام» موضوعا للعلم تجاوز عن موضوع العلم ذاته، فالكلام أحد موضوعات العلم وليس موضوعه الأوحد، ولا يمكن أخذ أحد أجزائه واعتباره موضوع العلم كله وهو التوحيد أو العقائد أو الدين، كما أن «الكلام» ذاته موضوع جزئي من موضوع أشمل وأعم وهو موضوع الصفات، فهو الصفة السادسة من صفات الذات السبع (العلم، القدرة، الحياة، السمع، البصر، الكلام، الإرادة )، أما السؤال الذي من أجله تطايرت الرقاب وقضي على الحريات، وقاسى المفكرون بسببه أشنع أنواع الاضطهاد وهو: هل الكلام قديم أم حادث؟ فإنه ينطبق على سائر الصفات. لم يحدث النزاع في الكلام فقط حتى يكون الكلام هو موضوع العلم بل حدث أيضا في الصفات وفي الأفعال، بل وفي الإلهيات وفي السمعيات كلها بابي العلم الرئيسيين، كما وصل الخلاف إلى حد القتال وشق الأمة إلى فرق متنازعة متحاربة في موضوع الإمامة، آخر موضوع في السمعيات؛ فاعتبار «الكلام» موضوعا للعلم ليس بأولى من اعتبار الموضوعات الأخرى من موضوعات العلم كذلك؛ فهي ليست أقل أهمية سواء من الناحية النظرية أو من الناحية العملية.
2
ويحتوي «الكلام» على التباس: هل هو صفة الله، قديمة أم حادثة، أم هو كلام الله الذي أوحى به إلى الرسول، وهو القرآن الكريم؟ والأول لا علم لنا به إلا من خلال الثاني، وبالتالي يكون الوحي من حيث هو كلام أي قرآن هو موضوع العلم كما هو الحال في العلوم الإسلامية الأخرى، خاصة علوم القرآن والتفسير، أو حتى العلوم النقلية العقلية مثل علم أصول الفقه وعلوم الحكمة أو علوم التصوف أو العلوم الإنسانية مثل علوم اللغة والأدب، علم الكلام إذن هو علم «وضعي» يدرس ما هو كائن، وهو القرآن، كتاب محسوس وملموس، ويخرج من هذا الالتباس الأول التباس ثان، وهو أن هذا الكلام هل هو «كلام الله» باعتباره مصدر الوحي أو «كلام الإنسان» باعتباره متلقي الوحي وقارئه بصوته، فاهمه بعقله، مدركه بتجربته، محققه بإرادته؟ الكلام الأول لا يمكن معرفته معرفة مباشرة إلا من خلال الكلام الثاني؛ وبالتالي يكون «كلام الإنسان» حديثا عن «كلام الله» في عقله وقلبه وبلسانه وصوته، يكون حديثا عن الله
Discours sur Dieu
وليس حديثا من الله
Discours de Dieu ، وفي هذه الحالة يمكن للكلام باعتباره الوحي الموجود أمامنا المقروء بصوتنا، المتلو بلساننا، المكتوب بأيدينا، المرئي بأعيننا، المحفوظ في صدورنا، المفهوم بعقولنا والمؤثر في حياتنا، وليس الكلام كصفة لذات مشخصة بل كموضوع موجود بالفعل في وحي؛ أي في معطى تاريخي مدون وملموس، محدود ومتعين - يمكن لهذا الكلام أن يكون موضوعا للعلم بل لعدة علوم منها: علم النقد التاريخي، وهو العلم الذي يدرس صحة الكلام في التاريخ، طرق ضبطه، ووسائل نقله، شفاهيا كما حدث في علم الحديث أو كتابة كما حدث في علوم القرآن.
3
علم القراءات واللهجات، وهو العلم الذي يدرس كيفية قراءة القرآن وضمان عدم وقوع اللحن فيه، وهو ما قد يكون أولى مراحل التحريف عمدا أو عن غير عمد.
4
علوم اللغة من أجل ضبط الكلام ومعرفة التركيب اللغوي لعبارات الوحي حتى يمكن فهم معناه؛ فاللغة أحد وسائل الفهم، وإليها تنضم علوم البلاغة للتعرف على النواحي الجمالية في أسلوب الوحي وتعبيراته، صوره وخيالاته.
5
علوم التفسير، وهي العلوم التي تحاول فهم النصوص والعثور على المعاني، إما بالرجوع إلى اللغة أو إلى أسباب النزول أو إلى حوادث التاريخ أو إلى تاريخ الأديان والعقائد السابقة ... إلخ؛ لذلك تكون التفسيرات لغوية أو أخلاقية أو فقهية أو فلسفية أو عقائدية أو صوفية أو تاريخية أو علمية أو أدبية أو اجتماعية، كل ذلك يتوقف على غاية المفسر ومنهجه واحتياجات عصره.
6
وإذا كان القدماء قد قاموا قدر طاقتهم وطبقا لظروفهم بجعل «الكلام» موضوعا للعلوم القديمة المرتبطة باللغة، فإننا قد نكون أقدر على جعله موضوعا للعلوم الإنسانية الحديثة، فباستطاعة علم النفس البحث عن الأسس النفسية التي يقوم عليها الكلام، صياغة أو فهما أو تأثيرا في سلوك الأفراد والجماعات، ويمكن لعلم الاجتماع البحث عن الأسس الاجتماعية التي عليها قام «علم الكلام» ومعرفة الظروف الاجتماعية التي كانت وراء نشأته كما هو معروف في «علم اجتماع المعرفة»،
7
ويمكن لعلم السياسة البحث عن نشأة علم الكلام في ظروف سياسية خاصة، واستعمال الوحي لإفراز إما تراث للسلطة أو تراث للمعارضة كما هو واضح في أدبيات الفرق، ومدى استمرار ذلك حتى الآن في علاقة السلطة بالمعارضة واعتماد كل منهما، خاصة السلطة، على الموروث العقائدي القديم، وقد يجد كثير من المشاكل الكلامية حلوله في مثل هذه العلوم الإنسانية، فهي موضوعات إنسانية، دراستها في العلوم الإنسانية وبمناهجها، وليست موضوعات «لاهوتية » مقدسة تنبع من مصدر قبلي وهو النص الديني أو ترتبط بذات مشخصة خارج الزمان والمكان ، وقد يكون تاريخ «الإلهيات» وتاريخ التفسير مرآة تعكس الإنسانية عليه ظروف كل عصر تمر به أو مشجبا تعلق عليه آمالها واحتياجاتها وطموحاتها التي تحققت أو التي لم تتحقق؛ فهي جزء من «تاريخ الأفكار»، وتاريخ الأفكار جزء من التاريخ الاجتماعي.
8
وقد يعني «الكلام» المنهج وليس الموضوع، منهج التفكير أو منهج الحوار أو منهج التأثير أو أسلوب التعبير، فعلم الكلام عند القدماء يورث القدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، فالكلام بالنسبة للدين كالمنطق بالنسبة إلى الفلسفة.
9
وذلك قد يكون صحيحا، فالكلام منطق الدين، وفي هذه الحالة تكون تسمية «علم أصول الدين» أفضل لأنها تشير إلى البحث عن أصول العقائد؛ أي الأسس النظرية التي تقوم عليها، ويبقى «علم الكلام» تاريخا لعلم أصول الدين، أي اجتهادات الأصوليين في إيجاد صياغات عصرية للعقائد تعبر عن احتياجات كل عصر؛ فإذا كان «علم الكلام» هو تاريخ العقائد، فإن «علم أصول الدين» يكون هو الجانب النظري فيه، إذا كان الأول أقرب إلى الوقائع يكون الثاني أقرب إلى الماهيات، وقد تشتق التسمية خاصة من منهج الحوار، فالعلم «يتحقق بالمباحثة وإدارة الكلام، وغيره يتحقق بالتأمل ومطالعة الكتب»، صحيح أن المنهج الغالب على العلم هو الحوار والمناقشة، ولكن مادة الحوار مستقاة من الكتب، سواء القرآن أو كتب المنطق والفلسفة، وكتب الحكماء الأولين بالإضافة إلى المنبهات الخارجية من الوقائع الاجتماعية وحوادث التاريخ، كما أن الحوار أحد مظاهر الفكر وليس كل نشاطاته؛ إذ تسبقه التجربة الحية، وصياغاتها الفكرية، ويتلوه التأثير على السامعين ومحاولات فهمه، وقد تكون التسمية من شدة منهج الحوار، فأصبح علم الكلام «أكثر العلوم خلافا ونزاعا، فيشتد افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والرد عليهم»، وفي هذه الحالة يتحول الحوار إلى نقاش، والنقاش إلى خلاف، وهو صحيح أيضا إلا أن الحوار أيضا أحد مظاهر نشاط أعم وهو الفكر الحي الذي يقوم على تجارب وتفسير نصوص، وتحركه بواعث وأهداف ومصالح، كما قد ترجع التسمية إلى قوة الأدلة حتى صار «هو الكلام دون ما عداه من العلوم كما يقال للأقوى من الكلامين هو الكلام»، وهذا غير صحيح لأن معظم أدلته ضعيفة يسهل الرد عليه ومناقضتها بأدلة أقوى منها، وبالتالي فهو علم «لا يقنع الذكي، ولا ينتفع به البليد»، ما أسهل نقد أدلة المتكلمين، بعضها بالبعض الآخر حتى تتكافأ الأدلة حتى لقد أصبح من السهل إثبات الشيء ونقيضه من متكلم واحد أو من متكلمين مختلفين طبقا للمزاج أو للمهارة أو للمصلحة، وقد ترجع التسمية إلى اعتماد الأدلة العقلية على الأدلة السمعية وتأثيرها في القلب وقدرتها على الإقناع الحسي التخييلي، فسمي بالكلام المشتق من «الكلم» وهو الجرح، وهذا صحيح فقط في حالة توافر الإيمان، وافتراض الإيمان سلفا بموضوع البرهان، ولكنه غير صحيح مع البرهان العقلي الخالص الذي لا يبدأ بالإيمان بل بالعقل وحده والذي لا يعتمد على الحس والتخييل بل على الحجة والدليل، وقد تكون التسمية لأنه «أول ما يجب من العلوم التي إنما تتعلم وتتعلم بالكلام، ثم خص به ولم يطلق على غيره تمييزا»، والحقيقة أن كل العلوم تتعلق بالكلام موضوعا وحوارا وتعبيرا، ولا يوجد دافع خاص على التخصيص، بل إن علوم اللغة قد تكون أولى بالتسمية لأنها هي التي أخذت الكلام موضوعا لها، وقد تكون التسمية «لأن عنوان مباحثه كان قولهم الكلام في كذا وكذا ...» والحقيقة أن هذا هو أسلوب القدماء في تبويب الفصول، سواء في علم الكلام أو في غيره من العلوم، كما أنها عادة لا يتبعها كل مصنفي العلم.
10
وأخيرا يصعب قبول هذه التسمية، «علم الكلام»، في حياتنا المعاصرة نظرا لسيادة الكلام على مستوى الشعوب والقيادات، بل وربما التاريخ المعاصر كله، وهي «العنتريات التي ما قتلت ذبابة»، حروب الإذاعات، وصحف المعارضة، ورفع الشعارات، والواقع كما هو لم يتغير قيد أنملة حتى ليؤرخ لحياتنا المعاصرة بتاريخ الخطب السياسية والبيانات الحزبية والبرامج السياسية باستثناء بعض مظاهر المقاومة للمحتل في الأرض، مقاومة بطولية، كشهادات في التاريخ، وكقدوة فعلية للجماهير والنظم، وكبلورة ممكنة لنضال أوسع، وكمؤشر حاضر على أن عشرات البيانات عن حقوق الإنسان والتصريحات عن استنكار الضمير العالمي، وإعلانات لجان التحقيق لن تمنع طفلا أو امرأة أو شيخا من أن يموت ذبحا، وما زلنا منذ فجر النهضة الحديثة نصرخ: «ما أكثر القول وأقل العمل».
11
ونتهكم على شعوب الكلام، وثقافات اللغة، ومعلقات العصر الحديث على أستار القدس! (2) علم أصول الدين
وتشير هذه التسمية الثانية إلى أن مهمة العلم هو البحث عن «أصول الدين»، وهي عند القدماء أصول عقلية يتم الحصول عليها عن طريق تأسيس العقائد في العقل، أصل الدين في العقائد، وأصل العقائد في العقل، والعقل عند القدماء أيضا يشمل كل شيء؛ الحس والعقل، الحدس والاستدلال، الاستنباط والاستقراء، المعرفة العقلية والمعرفة التجريبية، المعارف النقلية وشهادات التاريخ.
12
لذلك يقرن «علم أصول الدين» بعلم آخر هو «علم أصول الفقه»، والعنصر المشترك بينهما هو «الأصل»، وبلغتنا المعاصرة التأصيل، وهو البحث عن الأسس النظرية التي يقوم عليها العلم، وفي نفس الوقت تكون هذه الأسس هي بناء الواقع ذاته وإلا كانت مجرد افتراضات نظرية لا أساس لها في العقل أو في الواقع، التأصيل هو البحث عن المبادئ الأولى للعلم
Axiomatique
وهي في نفس الوقت القوانين التي تتحكم في بناء العلم، والعلاقة بين العلمين عند القدماء، علاقة أصول النظر بأصول العمل؛ فأصول النظر موضوع «علم أصول الدين»، في حين أن أصول العمل موضوع «علم أصول الفقه»، ولما كان الهدف من تأصيل النظر توجيه السلوك يكون علم أصول الدين نظرية السلوك، ويكون علم أصول الفقه معيار السلوك، علم أصول الدين يحدد التصورات للعالم، ويحدد رسالة الإنسان في الحياة، موقفه من العالم، وعلاقاته بالآخرين، بينما علم أصول الفقه يعطيه مقاييس السلوك، ويصف له كيفية تحقق الأفعال في مواقف معينة، فهو إذن علم معياري عملي في حين أن علم أصول الدين علم نظري خالص، يكون نظرية المعيار وأساس القياس.
ويكون التقابل أحيانا بين «علم أصول الدين» و«علم الفقه» دون توسط علم أصول الفقه، وفي هذه الحالة تكون مهمة علم أصول الدين النظر ومهمة علم الفقه العمل، فإذا كان الفقه هو العلم العملي الخالص الذي يصف أفعال الناس، ويقنن سلوكهم، وكان علم أصول الفقه هو العلم «النظري العملي» الذي يعطينا نظرية العمل ومنطق السلوك ومناهج الفعل، فإن علم أصول الدين هو العلم النظري الخالص الذي يضع الأساس النظري للسلوك، هو إذن نظرية «النظرية العملية» أو علم «العلم العملي»، وبتعبير أبسط يكشف التقابل بين علم أصول الدين وعلم الفقه عن أن علاقة التوحيد بالشريعة هي علاقة النظر بالعمل، ولما كان النظر أصل العمل، فعلم أصول الدين أصل علم الفقه.
13
لذلك تقسم الفرق إلى أهل الأصول وأهل الفروع؛ وبالتالي يكون علم أصول الدين هو علم الفرق في الأصول، وعلم الفقه هو علم الاختلاف في الفروع، والأول أخطر من الثاني وأهم.
14
وكان نتيجة فصل العلمين عند القدماء إلى علم للأصول وعلم للفروع أن لم يحدث أن تبين أحد كيف تخرج العلوم العملية من الأصول النظرية، بل قد تحول التوحيد إلى عقائد نظرية مغلقة على نفسها، وكأنها حقائق مستقلة بذاتها وليست أيضا دوافع للسلوك وبواعث على العمل، كما تحول الفقه إلى مجرد طاعة للأوامر واجتناب للنواهي على نحو عملي خالص يصل إلى حد العادات والأعراف، مع أن المهم في التأصيل أيضا هو كيفية خروج العمل من النظر، وتحقق النظر في العمل خاصة وأن كليهما «علم الأصول»؛ ومن ثم تكون تفرقة القدماء بين الاعتقاديات باسم التوحيد والعمليات باسم الفقه قد أدت إلى جعل الاعتقاديات مجرد إيمانيات منفصلة عن العمليات دون أن يكون لها أي أسس عقلية، كما تجعل العمليات مجرد عبادات وشعائر تتم ممارستها بالعادة والتكرار، وكيف تكون العقائد كلها نظرا لا صلة لها بالعمل، ويكون الفقه وحده هو العمل لا صلة له بالنظر؟ وبالرغم من محاولة القدماء الربط بين الاثنين عن طريق الصلة بين اليقين والظن، وهي صلة نظرية منطقية خالصة؛ فالأصول يقينية يمكن الاستدلال عليها والبرهنة على صدقها، والفروع ظنية لأنها مجرد اجتهادات عملية لتحقيق مصالح الناس إلا أن الصلة ظلت أيضا مبهمة، فكيف يخرج الظن من اليقين؟ وإذا كانت الأصول النظرية يقينية لأنها الأسس التي تعتمد على اتساق العقل وقوانين المنطق، وكانت التطبيقات العملية ظنية لأنها الفروع التي تقوم على المصلحة التي قد تختلف من فرد إلى فرد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن مكان إلى مكان، ومن عصر إلى عصر، فكيف يكون أساس العمل يقينا ويصدر عنه عمل ظني؟ كيف يمكن من هذه الأسس النظرية الواحدة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تختلف باختلاف الشعوب والأوطان استخراج عمليات تختلف باختلاف الزمان والمكان، وباختلاف الشعوب والأوطان؟
15
إن أهمية «الأصل» هو في البحث عن الأساس، والأساس في «العقل المصلحي» الذي يجتمع فيه علم أصول الدين وعلم أصول الفقه أو علم الفقه، العقل المصلحي هو الذي يجمع بين العقل النظري والعقل العملي، لقد أدى الفصل بين العلمين في حياتنا المعاصرة إلى الفصل بين العقيدة والاستدلال؛ وبالتالي غياب التأصيل في العقل وتحول العقائد إلى عواطف إيمانية خالصة تعوضنا عن نقص العمل وانزوائها في دائرة الوجدان، وانغلاقها وتحولها إلى شيء بدلا من انفتاحها على العالم كبواعث للسلوك، ومقاصد للفعل، كما أدى إلى توقف الاجتهاد في العقيدة وحصره في الشريعة وحدها، واعتبار أن العقائد لها أسس واحدة ثابتة لا تتغير مما أدى إلى ضمورها وقدمها وعدم تعبيرها عن واقع الأمة وظروفها الراهنة، ثم حدث الفصل بين العقيدة والمصلحة، وتحولت العقائد إلى بدائل عن المصالح، وضاعت مصالح الناس ولم ترعها إلا الحركة العلمانية التي نشأت أساسا بسببها وكرد فعل على العقائد الإيمانية اللاعقلية الفارغة من أي مضمون، وقد أدى ذلك كله في النهاية إلى فصل النظر عن العمل، وبقاء العقيدة دون شريعة فضاعت الشريعة، ولم تغن عنها العقيدة شيئا، وما دامت العقائد مقدسة من الله والشريعة لصالح الإنسان فقد انتشر في عقليتنا الفكر «اللاهوتي» وغاب الفكر الإنساني المصلحي، فتأكدت محورية الله وهامشية الإنسان. (3) علم التوحيد
وتشير هذه التسمية إلى أول عقيدة وأشهرها، وهي عقيدة التوحيد، وحينئذ يكون السؤال: هل التوحيد نظر أم عمل؟ هل هو عدد الآلهة وأنها واحد، أم أنه تحقيق لتصور الوحدانية في العالم؟ الحقيقة أن التوحيد قد يكون علما وقد يكون عملا، وعلم التوحيد هو الأساس النظري للعمل، وعمل التوحيد هو توحيد الشعور ثم توحيد المجتمع ثم توحيد العالم في نظام واحد هو نظام الوحي؛ فالعالم هو نظام العالم، التوحيد فعل من أفعال الشعور يضع ذاته من حيث هو شعور متوحد ومهيئ إلى تصور وحداني للعالم، التوحيد إذن ليس عقيدة بمعنى أنه ليس تصورا نظريا فحسب، بل هو «عملية توحيد»، والاسم نفسه «توحيد» اسم فعل وليس اسما مجردا فارغا أو حسيا يشير إلى شيء، يدل على عملية ولا يدل على جوهر ثابت كما هو الحال في «واحد» من «فاعل»، التوحيد فعل من أفعال الشعور تتوحد فيه قواه وأبعاده ومستوياته نحو ماهية واحدة مطلقة وشاملة، عامة ومجردة، خالصة ومنزهة، وقد حاولت معظم الحركات الإصلاحية الحديثة من قبل إعطاء الأولوية للتوحيد العملي على التوحيد النظري، وتحويل التوحيد إلى طاقة فعالة لتوحيد الشعور الفردي ولجمع شتات الأمة.
16
ويقرن باسم «التوحيد» أحيانا اسم «الصفات» فيكون اسم العلم هو «علم التوحيد والصفات»؛ لأن هذا الموضوع أشرف موضوعات العلم، ولأن الصفات هي لب عقيدة التوحيد. والحقيقة أن موضوع الذات والصفات عند القدماء هو لب التوحيد ووصف الذات الكاملة وأوصافها المطلقة، ولكن خطأهم وقوعهم في التشخيص والتثبيت والتحجير والتشيؤ والصنمية والسكون والوثنية في حين أن الذات تكشف عن الوعي الخالص والصفات عن المثل العليا التي يحاول الإنسان تحقيقها في حياته العملية؛ ومن ثم فالذات والصفات تشير إلى الأسس النظرية للسلوك؛ أي الأيديولوجية التي جاء بها الوحي من أجل تطبيقها في الحياة العملية والتي يجد فيها العالم نفسه في نظامه الأمثل المطابق للعقل والطبيعة، وكان نتيجة تشخيص القدماء للذات والصفات وخروجها من الوعي الخالص وقيم السلوك أن ظهر التناقض الصارخ بين التوحيد النظري والسلوك العملي للأمة أفرادا وجماعات؛ الذي يغلب عليه التشتت والتجزيء والتشرذم؛ ففي حياة الإنسان الفردية انفصم الفكر عن الوجدان عن القول عن العمل فحدث النفاق والجبن وأصبح الفرد مزدوج الشخصية، وبدت مظاهر الازدواجية في حياتنا الثقافية بين الثقافة الدينية والثقافة العلمانية، وفي الحضارة بين التقليد والتجديد، وفي السياسة بين الشرق والغرب، وفي الاجتماع بين المحافظة والتقدمية، وفي الاقتصاد بين الرأسمالية والاشتراكية.
17 (4) الفقه الأكبر
وهي تسمية لم ترد كثيرا إلا في نشأة العلم ولم تستمر طويلا بعد تطوره واكتماله، وتشير إلى العقائد باعتبارها الفقه الأكبر في مقابل الفقه الأصغر وهي العمليات، وهي توحي بأن النظر أكبر من العمل وأن العمل أصغر من النظر، صحيح أن لفظ الفقه يشير إلى الفهم ولكن لفظ الأكبر يشير إلى أن العلم نظري في حين أن الفقه الأصغر علم عملي وذلك يوحي إما بانفصال النظر عن العمل أو بأن النظر أعلى من العمل، كما أن التسمية ما زالت مرتبطة بالفقه ولا تشير إلى استقلال العلم عن باقي العلوم، وكأن الفقهاء هم واضعوه كفرع من علم الفقه، بل إن مضمونها لم يعش في عقليتنا المعاصرة كما لم يعش كتسمية فقد توارى الفقه؛ أي الفهم والعقل، فتوقف الاجتهاد، وعم التقليد، وتحولت العقيدة إلى إيمان خالص مكتف بذاته، فالأكبر لا يحتاج إلى الأصغر في شيء.
18
تبقى إذن ميزة تسمية «علم أصول الدين» لأن به لفظ علم والتركيز على أننا بصدد العلم وليس الإيمان، كما أن به لفظ «أصل» للدلالة على أننا بصدد تأصيل العلم وتأسيسه وليس مجرد القبول والتسليم بالعقائد. (5) علم العقائد
وهو أقل التسميات ذيوعا، ولا توجد إلا في المعاهد الدينية التي تقوم على مناهج التسليم والقبول والتي أسقطت النظر من الحساب، لم يستبقها التراث كما استبقى علم الكلام وعلم أصول الدين.
19
والحقيقة أن أهم ما يميز الوحي في آخر مراحله واكتماله هو أنه لا يحتوي على عقائد
Dogma
أو على نسق من العقائد
Crédo
كأشياء مستقلة بذاتها لا تقبل التغيير والتبديل، تطابق حوادث تاريخية وقعت بالفعل كما هو الحال مثلا في العقائد المسيحية. العقائد في مرحلة اكتمال الوحي تصورات للعالم أو نظريات تكون أساسا للسلوك، يمكن التحقق من صدقها من خلال التجارب الحية في الحياة اليومية للأفراد والجماعات، في الحاضر وعلى مسار التاريخ، العقائد أفعال للشعور نظرية وعملية وليست «أشياء» موجودة في التاريخ وحوادث وقعت فيه بالفعل، هي بواعث على السلوك وليست حقائق مستقلة لها وجودها المنفصل عن موجهات السلوك، إن تحويل العقائد كلها من العمل إلى النظر لهو خروج عن القصد من العقائد، فالعقائد ليست نظريات بقدر ما هي دوافع للسلوك، وبواعث على العمل، العقائد تكون نواة أيديولوجية كاملة: نظرا وعملا، فكرا وسلوكا، يتحول فيها التصور إلى نظام، والعقيدة إلى شريعة،
20
ومن المستحيل تقنين الاعتقاد أو تحويله إلى عقائد، فالاعتقاد ليس غاية في ذاته بل هو وسيلة للتأثير في الحياة العملية، الاعتقاد وظيفة سلوكية لا حقيقة نظرية أو صياغة لغوية أو واقعة تاريخية مستقلة بذاتها، الاعتقاد لا يتحدث عن أشياء بل يوجه سلوكا، هو الدافع على الفعل، والباعث على العمل، والجامع للنية، والمحقق للقصد، والمحرك للإنسان، الاعتقاد جهد، ولا يمكن تصوير الجهد بالعقل أو التعبير عنه بالمنطق. ليست العقائد أشياء ثابتة بل مقاصد عامة تحقق منافع الناس وتدبر معاشهم، لم تكن العقائد في نشأتها، وبداية إعلانها عقائد نظرية بل بواعث على السلوك، ولم تنتقل من العمل إلى النظر إلا بعد توقف العمل والبدء في التساؤل النظري عن أساس العمل، ظهر علم العقائد بعد أن توقفت ممارسة العقائد ولم تعد موجهة للسلوك، تظهر ناتئة عنه، طائرة فوقه، فإذا نقص التوجه نحو الأرض ظهر الانعراج نحو السماء، والذي يحقق الله في الحياة العملية لا يسأل عن معنى الله، والذي يمارس حريته في التاريخ لا يسأل عن معنى الجبر والاختيار، والذي يجعل نفسه مسئولا عن الخير والشر في العالم لا يفترض مسئولية الله عنهما، تحضر العقيدة النظرية في غياب الممارسة العملية. ليس العمل إذن هو ضعف في التأمل، ولكن التأمل ضعف في العمل.
21
لذلك أدى «علم العقائد» أو علم الكلام إلى نتائج خطيرة بالنسبة للوحي والإنسان والمجتمع والواقع والتاريخ، تحول التوحيد من مستوى العمل إلى مستوى النظر، وكل تحول من العمل إلى النظر ضمور في التوحيد، كان التوحيد في أول تمثله توحيدا عمليا، ولم تطرح المسائل طرحا نظريا إلا بعد أن ضمر الفعل فتصرفت الطاقة في التساؤل النظري، وكلما ضمر الفعل زادت حدة التساؤل، وتطايرت الرقاب من أجل النظريات في «ذات الله» بعد أن كانت تتطاير من أجل الجهاد في سبيل الله، لم تكن هناك نظرية في التوحيد ساعة تمثله الأول، بل كانت هناك «عملية توحيد» أي تحويل الواقع إلى مثال، وتحويل المثال إلى واقع، فالوحي نظام مثالي للعالم، والعالم نظام طبيعي للوحي حين تزدهر الطبيعة أو يستوي الواقع، لم يوجد «علم العقائد» في الجماعة الأولى لأن التوحيد كان عمليا لا نظريا، التوحيد عملية توحيد بين الفكر والواقع وليس نظرية توحيد بين الممكن والواجب، ولا يعني انتشار ثقافات أخرى في الحضارة الناشئة أي تغيير في الجهة، وتحويل للتوحيد من العمل إلى النظر، فالمعركة الفكرية النظرية ليست بديلا عن المعارك العملية الاجتماعية والسياسية.
22
والخطورة أكبر إذا ما تم وضع «علم العقائد» في إطار علم تاريخ الأديان أو في تاريخ الفكر البشري؛ وبالتالي تضيع خصوصية «علم التوحيد» كنمط جديد لعلم العقائد، فالعقائد لها معنى نمطي في تاريخ الأديان، وهي أنها ضد العقل، فوق العقل، سر لا يمكن إدراكه بالعقل، بل إنها على نقيض العقل، تناقض بل وربما أيضا على نقيض الأخلاق، وضد الطبيعة، ولهذا يؤمن بها الناس، وإلا فلماذا يؤمن الناس بالعقائد إذا كانت مفهومة بالعقل، معقولة بالأخلاق، ومدركة بالطبيعة، لها سلطة تقننها؛ لأنها لا تنبع من طبيعة العقل أو من ثنايا الطبيعة، وهي سلطة يجب التسليم بمقرراتها دون اعتراضها؛ لأنها تعبير عن «الروح القدس» في التاريخ، لها صحة مطلقة خارج التاريخ، لا تتغير، ثابتة مهما تغيرت الظروف والأحوال مما أدى بالناس إلى رفضها كلية وإيثار الحقائق المتغيرة التي تعبر عن مصالحهم واحتياجاتهم ومستواهم الإنساني، وهي مقدسة لم يأت بها بشر، بل من وضع الله الذي أتى بشخصه إلى البشر وجسدها إمامهم عيانا،
23
وهي كلها تصورات خاطئة لمعنى العقائد بعد أن تم اكتشاف أنها من وضع التاريخ، تعبر عن تجربة الجماعة الأولى التي آمنت بها وعكست فيها انفعالاتها، آمالها وآلامها، داخلها التعصب الإنساني، وتحزبت لها الفرق، وتطايرت من أجلها الرقاب، ونصبت من أجل المقصلات، ودبرت بسببها المذابح ؛ وبالتالي نشأت الثورة عليها وعلى وضعها نظرا لاستخدام السلطة السياسية إياها للسيطرة بها على العوام ورفض المثقفين لها وإيثارهم أيديولوجية تعبر عن واقعهم، مفهومة مدركة، تتحول إلى نظام سياسي واجتماعي واقتصادي، ويكون بها الخلاص الفعلي للناس، وإن كل مجتمع ما زالت تسيطر عليه العقائد بهذا المعنى السلبي فإنه ينبئ بطبيعة الحال عن ثورة قادمة، بدأت بالإصلاح وتنحو نحو النهضة حتى تتحقق شروط الثورة ومقدماتها، وقد يكون هذا هو حال مجتمعاتنا المعاصرة وانتشار الحركة السلفية فيها حاملة لواء «العقائد» على «المصالح».
ثالثا: حده
(1) نقد التعريف القديم
يكاد يجمع القدماء على أن «علم التوحيد» أو «علم الكلام» هو «العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية»؛ أي أنه العلم بالأدلة على صحة العقائد،
1
والصدق هنا نظري خالص يخضع لقواعد المنطق، ولأساليب البرهان؛ ومن ثم ينفصل الاعتقاد عن العمل، وهو الفصل الشائع في كل التسميات، فالمراد بالعقائد هنا «نفس الاعتقاد دون العمل»، وكأن العقائد موضوعات نظرية صرفة وليست موجهات للسلوك، كما يخصص القدماء العقائد الدينية بالعقائد «الإسلامية» وحدها في حين أن الأدلة على صحة العقائد تتضمن كل دين، فالعقائد واحدة: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس حتى ولو اختلفت التسميات وتضاربت الآراء، وقد تجاوز القدماء أنفسهم العقائد «الإسلامية» إلى عقائد الديانات الأخرى حتى أصبح «تاريخ الأديان المقارن» جزءا من العلم، كما أن هذا الحد وضع للمنهج أكثر منه حد للعلم أي الاستدلال على صحة العقائد «بإيراد الحجج، ودفع الشبه»، وهو المنهج الجدلي ومعاندة الخصوم، والحقيقة أن هذا التعريف يثير عدة تساؤلات رئيسية منها: هل هناك أدلة على صحة العقائد أم أن الأدلة يمكن استعمالها وفقا لأهداف المستدل لإثبات أن الشيء صواب أم خطأ؟ فالدليل آلة كالمنطق يتوقف على كيفية استخدامه والهدف منه، ويمكن لنفس المتكلم أن يستدل على صحة الشيء وخطئه في آن واحد طبقا لمهارته أو مزاجه المتقلب أم مصالحه المتغيرة، كما أنه يصعب الاقتناع من متكلمين متصارعين، كل منهما يثبت بالدليل نقيض ما يقوله الآخر، وكلاهما مقنعان (مثلا: التشبيه والتنزيه، الجبر والاختيار، النقل والعقل ... إلخ)،
2
هل هناك نظرية ممكنة يتفق عليها الجميع ما دام الموضوع واحدا، والعقيدة واحدة أم أننا بصدد فرق ومذاهب متصارعة متناحرة متناقضة تضيع فيها وحدة الموضوع؟ وأن هذه الفرق لا تعبر عن العقائد ولا تستدل على صحتها بقدر ما تستخدمها للتدليل على شيء آخر في الواقع والمجتمع والتاريخ؟ فالفرق والمذاهب مصالح، ومواقف عملية وليس النظر عندها إلا غطاء للعمل وأساسا له، هل هناك عقائد صحيحة وأخرى خاطئة كما هو الحال في حديث الفرقة الناجية أم أن هناك عقائد سلطة وعقائد معارضة، وأن الذي يحدد أحد النمطين من العقائد، الهالكة أم الناجية هو الموقع من السلطة ومن يحصل عليها؟ حتى على فرض إمكانية إثبات صحة العقائد بالأدلة، هل أقنعت أحدا؟ هل قويت عقائد الناس أو آمن بها العوام؟ إن الأدلة يمكن الرد عليها بأدلة مضادة فتتكافأ الأدلة، ويقع الناس في الحيرة والتردد والشك واللاأدرية؛ وبالتالي ينتهون إلى الكفر بدلا من الإيمان طبقا لمقاييس «علم الكلام» نفسه وتصنيفه للفرق.
3
هل هناك عقائد أصلا أم أنها كلها تعبر عن مصالح وقوى اجتماعية بما في ذلك التوحيد الذي يعبر عن مصالح المضطهدين والمعذبين والمظلومين والفقراء والعبيد والمساكين من أجل إعادتهم إلى البنية الاجتماعية الموحدة، والذي يعبر عن القبائل المشتتة التي مزقت شملها الحروب والمنازعات من أجل توحيدها في أمة واحدة قادرة على وراثة الأرض والإمبراطوريتين المنهارتين آنذاك؟ إن العقيدة تعبر عن وضع اجتماعي، تأصيل نظري لموقف إنساني، ولما كانت العقائد هي وسائل للحراك الاجتماعي وكان الحراك الاجتماعي بالضرورة حراكا لصالح الأغلبية الصامتة، كانت العقيدة ثورة، وكان تاريخ العقائد جزءا من تاريخ الثورات الاجتماعية، وكان تاريخ الأديان جزءا من التاريخ البشري، هل حل الصراع العقائدي بالإقناع باستعمال الأدلة على صحة العقائد نظريا أم حله بالصراع الفعلي على الطبيعة وفي الواقع؟ لما كان الهدف من العقائد هو التأصيل النظري للأوضاع الاجتماعية والمواقف الإنسانية منها، فإن إثباتها لا يكون بالأدلة النظرية من أجل إثبات صحتها النظرية بل يكون بالدفاع عن هذه الأوضاع، كل من موقفه، بالفعل ، فالتصديق لا يكون بالعقل بل بالممارسة، لا يوجد «علم كلام» مكتبي لإثبات صحة عقائد نظرية، بل حركة صراع اجتماعي، لا يقوم به متكلم من صحن الدار أو المسجد وظهره على عمود، متكئا على وسادة وأمامه المؤلفات والمصنفات، وأمامه التلاميذ، ويحيط به المعجبون والمحاورون، بل يقوم الإمام الفقيه بقيادة هذا الصراع، وقيادة الجماهير في حركة تاريخية دفاعا عن مصالحها وتحقيقا للتوحيد، من المسجد وفي الشارع، في الحقل وفي المصنع، بقوة العقيدة وثقل الجماهير من أجل الثورة.
وربما لا يوجد حد آخر للعلم؛ لأنه لا وجود للعلم على هذا النحو القديم، ومع ذلك يمكن وصفه بعد إعادة بنائه وتصحيحه وإعادته من الوضع الزائف القديم إلى الوضع الصحيح الحالي، وتحويله ليس فقط من «علم الله» إلى «علم الإنسان»، فقد لا يكون هذا التقابل معبرا تماما عن جوهر الحضارة التي نشأ فيها هذا العلم، بل من علم «العقائد الدينية» إلى علم «الصراع الاجتماعي»، فهو العلم الذي يتناول العقائد الدينية كموجهات لسلوك الجماهير اليوم، والتاريخ شاهد على ذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة حتى انتصار الثورة الإسلامية الكبرى في إيران - من أجل المساهمة في حل قضاياهم المصيرية مثل الاحتلال، والقهر، والتخلف، والفقر، والتغريب، وسلبية الجماهير. هو العلم الذي يضع الأسس النظرية لسلوك الأمة الفردي والجماعي في مرحلة تاريخية محددة، وهي المرحلة التاريخية الحالية التي يعيشها جيلنا، فالجماهير ما زالت مؤمنة، تراثية، عقائدية، ولكنها في نفس الوقت في وضع احتلال وقهر وفقر وتجزئة وتخلف وتغريب ولامبالاة، جربت مناهج التغيير الاجتماعي والأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ولكن ظلت قضاياها الرئيسية كما هي لم تحل إن لم تزد صعوبة بعد أن جرب التغيير بواسطة القديم، وجرب التغيير بواسطة الجديد كما جرب التغيير بواسطة التوفيق بين القديم والجديد، وكانت النتيجة إما تقوقع القديم في الجماعات الإسلامية الغاضبة، أو تقوقع الجديد في الجماعات السرية المنتشرة أو انتهاء التوفيق إلى ردة ونفاق واستعمال القديم المتخلف كستار للجديد العميل.
4 (2) وضع تعريف جديد
كما يلاحظ على هذا الحد القديم «العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية»؛ أنه خال من أي تحديد لمضمون هذه العقائد الدينية، فإذا كانت العقيدة تعني التوحيد؛ أي نظرية في «ذات» الله فقد يكون ذلك متفقا مع ظروف نشأة العلم القديمة؛ حيث كان التوحيد النظري بهذا المعنى موضع الأخطار، ومظان الطعان بعد أن انتصر «التوحيد العملي» على الأرض وفتحت البلدان عندما أراد الأعداء النفاذ إلى مصدر القوة الجديدة وهي العقيدة، ثم انتصر التوحيد النظري وظهر التنزيه ممثلا في نظرية الذات والصفات والأفعال، وتم إثبات وجود الصانع بالعقل، والبرهنة على صفاته الكاملة، كما تم إثبات النبوة وإمكانها وصدقها، ثم تحول علم التوحيد من الدفاع إلى الهجوم، فأثبت وجوه الخطأ في النقل في الكتب المقدسة في الملل الأخرى، ونقد التجسد والتثليث، وبين خطأ الشرك، وأخطاء الممارسات العملية للكهان والأحبار.
5
ولما أصبحت المباحث الفلسفية العامة هي الأسس النظرية لعلم التوحيد بعد أن توقفت في علوم الحكمة، وتسربت إليه، استطاع العلم أن يقضي على آخر ما تبقى من تشبيه وفكر ديني تقليدي أو كاد حتى لم تعد الإلهيات والسمعيات أكثر من ربع العلم، واحتوت المقدمات النظرية الخالصة ثلاثة أرباعه،
6
أما اليوم فقد تغيرت مواطن الخطر ومظان الطعان، وتحولت من ذات الله وصفاته وأفعاله إلى أراضي المسلمين وثرواتهم، حرياتهم وهويتهم، ثقافتهم ووحدتهم، قد تتحول أيضا المقدمات النظرية العامة من نظرية في العلم يغلب عليها الاستدلال ونظرية في الوجود يغلب عليها مبحث الجواهر والأعراض إلى مقدمات نظرية أخرى بها نظرية في العلم يغلب عليها الرؤية المباشرة للواقع والإحصاء الدقيق لمكوناته، ونظرية للوجود يغلب عليها تحليل الوجود الإنساني الاجتماعي ومفاهيمه الرئيسية، مثل الحرية والعدالة والديموقراطية والتقدم والتحرر والنهضة، لقد تغير الواقع الاجتماعي والسياسي كلية عند القدماء وعندنا، وتحول من دولة منتصرة قديما وإمبراطورية مترامية الأطراف إلى دولة محتلة حديثا متجزئة متخلفة تتكالب عليها الدول العظمى كما الأكلة على قصعتها للقضاء على استقلالها، ونهب ثرواتها، ومنع وحدتها، وتشتيت شملها، وإيقاف تقدمها، وإجهاض نهضتها.
7
ولما كانت أوضاع الناس الاجتماعية هي أساس الواقع، وكان الواقع أساسا هي الأوضاع الاجتماعية للناس، فإن الأمور العامة القديمة (الواحد والكثير، الماهية والوجود، العلة والمعلول، الوجود والعدم، الوجوب والإمكان، القدم والحدوث ... إلخ) بالنسبة لنا هي المفاهيم الحديثة التي تؤثر في عقول الشباب، مفاهيم الحرية والتقدم والمساواة، والإنسان والمجتمع والتاريخ، والواقع الماضي المهاجم فكرا والمنتصر واقعا عند القدماء هو بالنسبة لنا الواقع الحالي المهاجم أرضا والمهزوم واقعا، وإذا كان العقل عند القدماء أساس نظرية العلم فإن الوعي عندنا هو شرطها، وإذا كان الوجود عند القدماء هو الوجود الطبيعي أو الميتافيزيقي، فإن الوجود عندنا هو الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأمة، أحوال المسلمين ومصائرهم، ثرواتهم وأراضيهم، وحدتهم وقوتهم، وهو ما فكر فيه المصلحون من قبل، وما حاوله الضباط الأحرار من بعد.
8
علم «أصول الدين» إذن هو العلم الذي يقرأ في العقيدة واقع المسلمين من احتلال وتخلف وقهر وفقر وتغريب وتجزئة ولامبالاة، كما يرى فيها مقومات التحرر وعناصر التقدم وشروط النهضة لو تم إعادة بنائه طبقا لحاجات العصر بعد أن بناه القدماء تلبية لحاجات عصرهم، فقد احتلت الأراضي وفي مقدمتها فلسطين، ونهبت الثروات من الاستعمار الخارجي أو الإقطاع الداخلي حتى أصبح يضرب بنا المثل في أعلى درجات الغنى وأحط مستويات الفقر، غنى الأقلية المترفة، وفقر الأغلبية المطحونة، وقضي على الحريات باسم الأهداف القومية والأخطار الخارجية، وانتشرت المحافظة من ثنايا الثورة المعاصرة وبراثن الحركة التقدمية، وزاد التغريب، وضاعت الهوية أو كادت وهي ترزح تحت أكوام المترجمات التي تمنع العقل من الفكر والإبداع، وتجزأت الأمة وتشتتت، وتقطعت أوصالها وأطرافها بعد أن كانت أمة واحدة قلبا وأطرافا، محورا ومحيطا، مركزا ودوائر. فإذا كان علم أصول الدين يقوم تلبية لحاجات العصر، وكانت هذه متغيرة من عصر إلى عصر، فإننا إذا عددنا حاجات المسلمين اليوم التي يمكن أن تكون مادة لعلم أصول الدين وباعثه الأول على إعادة بناء العقيدة وجدناها: (أ)
الحاجة إلى وضع أيديولوجية واضحة المعالم وسط هذا الخضم الكبير من أيديولوجيات العصر المنتشرة فوق الواقع، سواء كانت مستعارة أو محلية، متخلفة أو توفيقية، بين هذا وذاك. وعلى هذا النحو يمكن حل موضوع «الأصالة والمعاصرة» الذي ما زلنا نتجادل حوله ونبحث فيه منذ فجر النهضة الحديثة حتى الآن، وربما إلى عدة أجيال قادمة أخرى إن لم يقدر لمشروع «التراث والتجديد» أن يعيش ويستمر ويؤثر، وينقل الحضارة من طور إلى طور، من طور الشروح والملخصات إلى طور النهضة الثانية، من القرون السبعة الأخيرة (من السابع حتى الرابع عشر) إلى قرون سبعة قادمة (نهضتنا الأولى من القرن الأول حتى السابع)، حينئذ يربط الناس بين ماضيهم وحاضرهم، ويقومون بحركات التغير الاجتماعي من خلال التواصل لا الانقطاع، وتنتهي الازدواجية من حياتنا، ويتوارى فصام الشخصية الوطنية بين الحركة الدينية المحافظة والحركة التقدمية العلمانية، ويكون «علم أصول الدين» قد حقق الهدف المرجو منه، وهو إقامة علم نظري من أجل توجيه الواقع، سدا للفراغ النظري والركود العملي في حياتنا المعاصرة، فيعاد فهم العقيدة، ويعاد تصورها وتأصيلها في وجدان العصر، وخلق ثقافة وطنية مرتبطة بجذورها في القديم، وقائمة على تحليلات الواقع المعاصر؛ ومن ثم نشأت الحاجة إلى معرفة إحصائية دقيقة لواقعنا المعاصر حتى يمكن فهم العقائد وتفسيرها على أساسها كما يفعل الأصولي القديم في البحث عن العلل الفاعلة والمؤثرة في سلوك الناس، كما أننا في حاجة إلى تحليل نفسي اجتماعي للجماهير حتى يمكن معرفة موجهات سلوكها وبواعثها، وإعادة تفسير العقائد حتى تكون موجهات مثالية للسلوك، ويستدعي ذلك تطوير حركات الإصلاح الديني الحديث التي لم تؤت أكلها بعد، ولم تستفد أغراضها كلها، بل وإقالتها من عثراتها وردتها وتراجعها من مؤسسها الأول حتى ممثلها الأخير.
9
وعلى هذا يمكن الانتقال من الإصلاح إلى النهضة حتى يمكن الانتقال بعد ذلك من النهضة إلى الثورة، كما يستدعي إرساء قواعد النظرة العلمية كما كان الحال عند القدماء خاصة في علم أصول الفقه، وهي النظرة التي تسلم بكل معطيات الواقع المادية والمعنوية، كل ذلك يؤدي بنا في نهاية الأمر إلى صياغة جديدة لعلم أصول الدين وفروعه مثل «لاهوت الثورة»، «لاهوت التحرر»، «لاهوت التنمية»، «لاهوت التغير الاجتماعي»، «لاهوت المقاومة»، «لاهوت التقدم»، «لاهوت العدالة الاجتماعية»، «لاهوت الوحدة»، «لاهوت الجماهير»، «لاهوت التاريخ » ... إلخ، وتلك هي «رسالة التوحيد». (ب)
ليست مهمة علم أصول الدين الجديد نظرية فحسب، بل هي أيضا مهمة عملية من أجل تحقيق الأيديولوجية بالفعل كحركة في التاريخ بعد تجنيد الجماهير من خلال ثورة عقائدها؛ ومن ثم كان من مهامه القضاء على احتلال أراضي المسلمين المباشر منها مثل فلسطين وغير المباشر منها في صورة قواعد أجنبية أو تسهيلات دفاعية برية أو بحرية لقوى أجنبية شرقية أو غربية أو الأحلاف العسكرية أو المناورات المشتركة أو تبادل المعلومات العسكرية والخبرات الفنية، تعددت الأسماء والمسميات واحدة، ومن مهامه أيضا القضاء على نهب ثروات المسلمين من الخارج ونهب الإقطاع لها من الداخل، وإعادة توظيفها لخدمة جماهير المسلمين، والقضاء على استغلال هذه الثروات من الخارج أو الداخل من أجل قيام اقتصاد وطني مستقل للأمة، وكذلك أيضا تنمية موارد المسلمين الطبيعية وعدم تركها نهبا من الخارج أو دون السيطرة عليها وتركها للكوارث والفيضانات، وغريب حقا عندما يذكر الثروة والغنى فيذكر المسلمون؛ الأغنياء الجدد منهم، وعندما يذكر الفقر والجوع يذكر أيضا المسلمون؛ عامة المسلمين، وكأنها ليست أمة واحدة بل أمتان، المال فيها دولة بين الأغنياء، والفقر فيها شائع وعام بين الفقراء، ومن مهامه أيضا القضاء على كل صنوف القهر والتسلط، يضرب بالأمة المثل في وفرة عدد المسجونين السياسيين، واضطهاد المعارضة، وهربها من أوطانها إلى الخارج، والتصفية الجسدية للخصوم، وصياغة القوانين الاستثنائية والدساتير من أجل التقنين لحكم الفرد المطلق، وإجراء الاستفتاءات الشعبية لانتزاع الناس حرياتها وهي منزوعة سلفا، كما يهدف إلى توحيد الأمة، ولم شتاتها، وجمع أجزائها المبعثرة، وتجاوز الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار بين أجزاء الأمة، وأثار الأحقاد والضغائن بين طوائفها وجعلها أحزابا وشيعا
كل حزب بما لديهم فرحون . ويكون همه الرئيسي القضاء على كل مظاهر التخلف في الأبنية التحتية والفوقية، في الهياكل الاجتماعية والتصورات الذهنية حتى يمكن نقل المجتمع كله من مرحلة تاريخية إلى مرحلة أخرى، ويتحول من الخلود إلى الزمان، من الفيض والصدور من الأعلى إلى الأدنى إلى التقدم في التاريخ، من الأمام إلى الخلف، كما يقضي على التغريب محافظة على الهوية، ويحجم الآخر إبرازا لدور الأنا، ورد الحضارات الغازية إلى حدودها الطبيعية لإفساح المجال لإبداع الحضارات المحلية،
10
وأخيرا تكون المهمة تجنيد الجماهير، فتكون العقيدة المتحركة، والتوحيد الحي، فالتوحيد والجماهير واجهتان لشيء واحد، والعقيدة والحزب يمثلان النظر والعمل، يجمعان بين الإيمان والتصديق، ولا يبدو في ذلك أي تجاوز لعلم أصول الدين وإلحاقه بعلم الفقه؛ وذلك لأن الفصل بين العلمين غير واقع، وإن كنا قد ورثناه من التراث، ومهمتنا إعادة بناء التراث من أجل إقامة «لاهوت الفقه» و«عقيدة الثورة»؛ أي تأسيس علم أصول الدين الذي يقوم على الاجتهاد، والذي يجمع بين النظر والعمل، بين الأصول والفروع؛ وهو «الإسلام السياسي» الذي طالما مارسه المصلحون وحاول صياغته النظار والباحثون.
11 (ج)
ليست مهمة علم أصول الدين عملية نظرية فحسب، بل عملية فعلية في الواقع؛ أي الدفاع الفعلي وتحقيق التوحيد في العالم الإسلامي، قلبه وأطرافه بصرف النظر عن الأسماء المحدثة له: العالم الأفريقي الآسيوي، العالم الثالث، مؤتمر القارات الثلاث، دول عدم الانحياز، الشعوب المتحررة حديثا ... إلخ، فمنذ فشل الحروب الصليبية قديما في الغارة على العالم الإسلامي، قلبا وبرا، بدأت المحاولة الثانية بالالتفاف حوله، أطرافا وبحرا، فيموت القلب نزيفا وتتآكل الأطراف جمودا، وتتساقط الواحد تلو الآخر. ينتشر سرطان الغزو الصهيوني الاستيطاني في القلب ابتداء من فلسطين وتتآكل الأطراف تحت ضربات الاستعمار في جنوب شرقي آسيا، ووسط أفريقيا وجنوبها، والحزب الإسلامي الجماهيري قادر على تجنيد المسلمين وطاقاتهم بدلا من التحزب والتشعب والتشتت في الأيديولوجيات العلمانية أو السلبية واللامبالاة وإيثار موقف المتفرج الذي لا يعنيه من الأمر شيء؛ وبالتالي تتأكد وحدة العالم الإسلامي الحالي، الفكرية والعملية، العقائدية والتشريعية، سواء كان ناطقا بالعربية أم بغير العربية، تركية أو فارسية أو أردية أو ماليزية، فالروابط الثقافية، والتاريخ الحضاري، والعقيدة المشتركة، والمخاطر الواحدة؛ أقوى من الحدود القومية. يمكن تكوين جبهة واحدة من دول آسيا وأفريقيا ضد المخاطر التي تهددها والآتية من الاستعمار الغربي القديم والجديد، ومواصلة النضال المشترك من خلال «ثورة العقيدة» أو «عقيدة الثورة»، واستئناف التعريب، والانتشار الحضاري، والتعمير البشري والعمراني، هذه الجبهة تكون نواة لتوحيد المسلمين في نظام واحد، اتحادي أو فيدرالي أو كونفيدرالي أو وحدوي، وهو ما تصبو إليه الأمة وما يعج في صدرها، تأخذ «الخلافة» إذن مدلولها الحديث، يكون هو اتحاد آسيا وأفريقيا والمتعاطفين معه من دول العالم الثالث أو دول عدم الانحياز أو دول القارات الثلاث، ثم تنفتح على الشرق كما كان الحال قديما؛ حيث انتشرت الحضارة شرقا بينما عاداها الغرب حتى الآن، وكما دعي إلى ذلك في حركاتنا الإصلاحية الحديثة من إنشاء «للجامعة الشرقية» بعد أن ربطنا الاستعمار بمنطقته الحضارية، جغرافيا وثقافة، وجعلنا امتدادا بحريا له، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا وعسكريا وبشريا، وإمكانيات العالم الإسلامي الحالية النظرية والعملية ضخمة تساعد على تحقيق هذا المطلب، يزيد عليها ربط المؤسسات الإسلامية والمعاهد العلمية، ومراكز الأبحاث والجامعات الوطنية والتنسيق بين الأحزاب السياسية وتبادل الصحف اليومية والدوريات حتى يمكن توحيد العمل، وتحقيق ما يمكن تحقيقه من خطة شاملة يتم إنجازها خطوة خطوة، فالعمل الجماعي هو الوسيلة لخلق إمكانيات جديدة للأفراد؛ وبالتالي تحل مشاكل التربية الإسلامية، وإعادة خلق المسلم الكامل كفرد ثم إعادة بناء الجماعة الإسلامية كأمة من أجل تحقيق الوحدة الإسلامية، وخلافة الأمة في الأرض؛ وهو ما ركزت عليه أيضا الدعوات الإصلاحية الحديثة، فإذا تم ذلك يمكن للعالم أن يجد قيادة جديدة فكريا وعمليا، وريادة إنسانية شابة بعد أن تخلت القيادات القديمة، وعلى رأسها القيادة الغربية، عن مثلها، وتوارت إلى الخط الخلفي، وإن كانت ما زالت تصارع من أجل البقاء، ومن أجل البعث بدماء جديدة، وتغيير جذري في النظر والسلوك.
12
رابعا: موضوعه
(1) ذات الله
يظن القدماء خطأ أن موضوع العلم هو «ذات الله»، مع أن «الذات الإلهية» لا يمكن أن تكون «موضوعا» للعلم، فالذات لا تكون موضوعا، حينئذ يكون السؤال عن الذات: هل يمكن تصوره؟ هل يمكن إدراكه؟ هل يمكن الإشارة إليه من أجل التصديق والتحقق من صدقه؟ هل يمكن الحديث أو التعبير عنه؟ هل يمكن أن يتحقق في الحياة العملية؟ «الله» كما يعرفه المتكلمون القدماء ذات، وذات مطلقة، والذات لا يمكن أن تكون موضوعا، الذات تند عن الموضوع وتتجاوزه، وإلا لما كانت ذاتا، سواء الذات الإلهية أم الذات الإنسانية، وفي كل مرة تتحول فيها الذات إلى موضوع يخطئ العلم، ويعم الخلط، فالحديث عن الله إذن خطأ في تصور موضوع العلم، وجعل الذات موضوعا في حين أن الموضوع ذات.
وتحتوي العبارة «موضوعه ذات الله» على تناقض داخلي؛ لأن الله هو المطلق، والعلم بطبيعة موضوعه ومنهجه وغايته تحويل للمطلق إلى نسبي؛ لأنه يخضع الظاهرة العامة إلى ظاهرة خاصة في الزمان والمكان، ويميز بينها وبين غيرها من الظواهر، العلم تحديد للظاهرة في واقعة معينة يمكن السيطرة عليها علميا وتجريبيا والتمييز بينها وبين غيرها من الوقائع، ولا يعمم بعد ذلك إلا بناء على مسلمات سابقة حول الاطراد، وهو ما يحتاج إلى برهان، والله، موضوع العلم، لا يبدو في وقائع، ولا يتمايز عن غيره في وقائع، فكيف يمكن للكلي أن يصير جزءا؟ وكيف يمكن لعقل الإنسان النسبي، بحياته، وإدراكه، ومصالحه وأهوائه، ورغباته وميوله، والموقف الإنساني كله أن يحيط بالذات المطلقة التي لا يعتريها الموت، ولا يحدها عقل أو إدراك، ولا تمسها الرغبات والميول، ولا تنتابها الدوافع والأهواء، ولا يسري عليها أي موقف إنساني؟ صحيح أن العقل يتميز بصفات الإدراك، وأن الحدس قادر على إدراك البديهيات، وأن أوليات العقل عامة، مطلقة وشاملة، ولكن العقل أيضا موجود في بيئة معينة، وصاحبه ذو مزاج معين، مرتبط بالأهواء والانفعالات، وتسيره المصالح الخاصة والعامة. إن صفة الإطلاق هذه كثيرا ما تخفي تحتها كثيرا من المواقف الإنسانية النسبية، ولكن الغرور الإنساني أو الرغبة في التميز على الآخرين، وإيثار السلطة وحب التسلط يدفع الإنسان إلى خارج موقفه وبيئته ادعاء وغرورا، حتى إذا استطاع الفيلسوف بقدرته على النظر، والرياضي بقدرته على التجريد، والمنطقي بقدرته على الصورية، فإن الله لا يمكن أن يدرك كفكرة أو كمفهوم أو كتصور؛ لأنه «إله حي» يسمع ويبصر ويتكلم ويريد، إله المؤمنين المحتاجين، وليس إله الفلاسفة والنظار، أما إدراكه بالوجدان وبالذوق، فذاك طريق الصوفية وليس طريق المتكلمين، مكانه في علوم التصوف وليس في علم أصول الدين، ولا يعني ذلك أن الله سر، كما هو الحال في المسيحية، لا يمكن معرفته إلا عن طريق الإيمان، فالله بالنسبة لنا هو كلامه، والكلام موجود في القرآن، والقرآن كتاب صح نقله، ويمكن فهمه وتفسيره بل وتأويله طبقا لشروط التأويل، وهو موجود أيضا كمبدأ في المعرفة كفكرة محددة، وفي الأخلاق كمثل أعلى أو مطلب يمكن إدراكه بالحدس والاستدلال من خلال عناصر الثبات في التجارب البشرية، وبتحليل الواقع الاجتماعي والتاريخي،
1
وهو أيضا المعنى الشائع للقول المشهور بأن العقول قاصرة عن إدراك ذات الله أو أنها محدودة أو عاجزة، فيكون العيب في نقص العقل وليس في طبيعة الموضوع، واتهام الذات بالجهل وليس بأن الموضوع مستحيل أو مجرد وهم، بادعاء معرفته.
2
لذلك احتاط القدماء مرتين؛ الأولى في عدم بحثهم ذات الله مباشرة، بل عن طريق غيرها مثل الجواهر والأعراض؛ أي الأمور العقلية العامة المستقلة عن ذات الله، يدركها العقل كعلم سابق على علم ذات الله، وهي التي أصبحت فيما بعد «المقدمات الضرورية» للعلم، خاصة مبحث الجوهر والعرض الذي بلغ أكثر من نصف العلم، وثلاثة أرباع المقدمات النظرية كلها بنظريتيها، العلم والوجود، في القرنين السابع والثامن،
3
وهو ما حدث أيضا في علوم الحكمة من جعل الحكمة الطبيعية سابقة على الحكمة الإلهية، وجعل الحكمة المنطقية سابقة عليهما معا، أو وضع العلم الطبيعي والعلم الإلهي في علم واحد في تصنيف العلوم.
4
والثاني هو الإعلان المبدئي قبل الانتقال من مبحث الوجود إلى وصف ذات الله بأن الذات لا يمكن تصورها أو إدراكها، وبأن «الله في ذاته» يستحيل معرفته ودون الإقرار في نفس الوقت بأنه سر مجهول؛ «فذات الله» في حقيقة الأمر هو «الله في ذاته»، وكل ما لدينا هو تقريب وقياس، وبذل الجهد العقلي قدر المستطاع بالاعتماد على النقل وعدم الخروج عليه، لا فرق في ذلك بين عقليين ونقليين، بين معتزلة وأشاعرة.
5
وإذا كان «ذات» الله لا يمكن تصوره أو إدراكه، فإنه أيضا لا يمكن الإشارة إليه حتى يمكن أن يتم به تصديق أو تحقق في العلم.
6
ليس هناك شيء في العالم يسمى «ذات الله» يمكن الرجوع إليها أو تكون مقياسا للتحقق وللصدق، وبعبارة منطقية نقول إن «ذات الله» مفهوم بلا ماصدق؛ فهو بحسب تعريفه ليس متعينا في زمان أو مكان، والعلم لا يكون إلا لموضوعات متعينة وإلا كان علما صوريا خالصا لا شأن له بالكثرة، وهو ما لا يمكن استعماله لموضوع «ذات الله» التي هي على اتصال بالعالم من خلال «الصفات والأفعال»، لا يدرس العلم إذن إلا موضوعا موجودا بالفعل وإلا لكان أدخل في الفلسفة التي تدرس التصورات الشاملة أو في علم النفس الذي يدرس نشأة هذه التصورات وتكوينها في الظروف النفسية أو في علم الاجتماع الذي يحلل الظروف الاجتماعية التي تساعد على ظهور مثل هذه التصورات أو في علم تاريخ الأديان لدراسة التصورات المختلفة للموضوعات الدينية حسب الزمان والمكان، والملل والنحل، والشعوب والأجناس، والبيئات الثقافية والحضارات البشرية على مختلف العصور أو في علم الجمال لدراسة التعبيرات الجمالية والشعر الصوفي والفن الديني الذي يعبر عن التصورات المختلفة لله. الحديث عن «ذات الله» إذن خطأ في نظرية الصدق في المنطق القائمة في أحد معاييرها التقليدية على ضرورة تطابق المفهوم مع الماصدق، حتى ولو أمكن إثبات موجود كامل لا متناه يحوي جميع صفات الكمال كيف يمكن إذن الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان؟ بل إن «الدليل الأنطولوجي» نفسه افتراض محض؛ لأن الانتقال من الفكر إلى الوجود لا يمكن أن يتم نظرا، بل لا يتم إلا عملا من خلال جهد الفرد وفعل الجماعة وتحقيق الأيديولوجية في التاريخ، وتحويل المثال إلى واقع، والإمكانية إلى وجوب.
7
وإذا كان «ذات» الله لا يمكن تصوره أو إدراكه أو الإشارة إليه، فإنه لا يمكن أيضا التعبير عنه لأن اللغة الإنسانية لا يمكن أن تعبر إلا عن التصورات أو الإدراكات أو الموضوعات أو المعاني الإنسانية، كيف يمكن إذن التعبير عن المطلق بلغة نسبية؟ كيف يتم للإنسان التعبير عن شيء لا يقدر على التعامل معه أو ضبطه ولا يمكن العثور له على صياغة؟ الحديث عن «ذات» الله إذن خطأ في تصور وظيفة اللغة، فأي دراسة لموضوع «الله» لا بد وأن تقع بالضرورة في التشخيص لأنه لا يمكن الحديث عن «الله» إلا باستعمال اللغة الإنسانية، وبإعمال الجهد الإنساني والذهن الإنساني، فتصور الله على أنه صانع وعلى أن له أحوالا وصفات، إيجابية أو سلبية، تصور إنساني خالص، وقد تكون لغة الصمت هي أقدر لغة على التعبير عن «ذات» الله هروبا من قضية اللغة.
8
وقد حاول الصوفية حل الإشكال عن طريق الرمز، ولكن اللغة الرمزية أيضا ينطبق عليها قصور اللغة التقليدية، فمهما كان للرمز من قدرات تعبيرية فائقة فإنه يظل محدودا بما يثيره في الذهن من معان مرموز إليها، ويظل الفرق شاسعا بين الرمز والمرموز، وبين المرموز وموضوع الرمز، وإن ما يوحي به الرمز من حس وتخييل وتصوير يثبت أنه لا يمكن الحديث عن «ذات» الله إلا بطريق التخييل والتصوير الفني كما لاحظ ذلك قدماء النقاد والمحدثون المعاصرون.
9
ليس أمام الإنسان إذن، إذا ما أراد الحديث عن «ذات» الله إلا التشبيه والقياس، التشبيه بنفسه والقياس على العالم، وإثبات أوصاف الإنسان الإيجابية كصفات ثبوتية لله، ونفي أوصاف الإنسان السلبية كصفات سلبية عن الله؛ وبالتالي يكون كل حديث عن الله هو حديث عن الإنسان، يتوهم الإنسان أنه يتحدث عن الله في حين أنه يتحدث عن نفسه.
10
لذلك قد تكون اللغة الوحيدة الممكنة للحديث بها عن الله هي لغة الإشارة أو الحركة أي لغة الجسد كما هو واضح في الرقص الديني ومظاهر الطقوس وشعائر العبادات، ولكنها أيضا لغة رمز تعبر عن مرموز، فالرمز قد يكون باللفظ أو بالحركة، أما الفعل غير الرمزي فهو «الشهادة»؛ أي لغة المقاومة، وظهور «الذات» الإلهي في الذات الإنساني كحركة ونشاط وفعل ومقاومة وجهاد ونصر.
11
الله إذن ليس موضوعا للمعرفة أو للتصور أو للإدراك أو للتصديق أو للتعبير، بل هو باعث على السلوك، ودافع للممارسة، وقصد للاتجاه، وغاية للتحقيق، الله طاقة حالة في الإنسان من أجل أن يحيا ويسلك ويعمل، ويحس ويشعر ويتخيل وينفعل أيضا، الله طاقة حيوية يحولها الإنسان إلى فعل، الله ليس موضوعا ثابتا للمعرفة بل حركة ممكنة تتم من خلال فعل الإنسان، ومشروع يمكن أن يتحقق بجهده، الله ليس تصورا بل فعل، ليس نظرا
Logos
بل عمل
، الله ليس موضوعا لنظرية المعرفة إلا من حيث وجود مبدأ واحد شامل، بل هو باعث سلوكي في علم الأخلاق، الله ليس موضوعا لفهم العالم بل وسيلة لتغييره، الله ليس موجودا وجودا نظريا يمكن إثباته بالدليل العقلي، بل هو عملية إيجاد وتحقق وخلق وتقدم، الدليل الوحيد على وجوده هو دليل عملي لا نظري، والبرهان الوحيد على وجوده هو إيجاده بالفعل عندما يحققه الفرد كغاية والإنسانية كمشروع، الحديث عن «ذات» الله إذن خطأ آخر في نظرية السلوك الفردي الإنساني أولا والاجتماعي التاريخي ثانيا؛ فتصور الله على أنه موجود كامل هو في الحقيقة تعبير عن رغبة، وتحقيق لمطلب، وتمن لأمل، ونظرة بعيدة إلى هدف، وسير حثيث نحو غاية، وليس حكما على وجود في الخارج، فنحن بهذا التصور نعبر عن أعز ما لدينا، وعن أعمق تمنياتنا في أن نكون كاملين عاملين قادرين، ونبعد عن أنفسنا عيوبنا ونقائصنا من موت وعجز وجهل، فذات الله هو ذاتنا مدفوعا إلى الحد الأقصى، ومثلنا بعد أن شخصناها ماثلة أمام الأعين، «ذات» الله المطلق هو ذاتنا نحو المطلق، ورغبتنا في تخطي الزمان وتجاوز المكان، ولكنه تخط وتجاوز على نحو خيالي، وتعويض نفسي عن التحقيق الفعلي لهذه المثل في الحياة الإنسانية.
12
والله ليس موضوعا عقليا يمكن أن يوجد أو لا يوجد، يمكن إثباته أو نفيه بل هو مشروع الإنسانية والذي تحاول تحقيقه منذ وجودها حتى الآن، الله هو تقدم التاريخ الذي يساهم البشر في صنعه، الله ليس موضوعا للبرهنة العقلية على وجوده بل هو تاريخ يتقدم وواقع يتحرك، وجماهير تثور، ودول تقوم، ونهضات تؤسس. الحديث إذن عن «ذات» الله خطأ آخر في تصور التاريخ، وإذا كان من مآسينا المعاصرة غياب البعد التاريخي من وجداننا المعاصر فإن ذلك يرجع إلى ظهور «الله» كبعد رئيسي إن لم يكن البعد الأوحد كما هو الحال في تراثنا القديم، فظهور البعد الرأسي فيه كان بديلا عن ظهور البعد الأفقي في وجداننا المعاصر؛ «فالله» بديل التاريخ، والتاريخ وريث «الله»، الله هو غائية التاريخ كما تبدو في التقدم، وإن اكتشاف مجتمعات أخرى في حضارات مجاورة للتقدم والتاريخ إنما كان تحولا طبيعيا لتصورهم لله، وكما نفعل نحن الآن، في تراثهم القديم.
13
والتفكير في الله كموضوع خاص في المجتمعات النامية اغتراب بمعنى أن الموقف الطبيعي للإنسان هو التفكير في المجتمع وفي العالم، وكل حديث آخر في موضوع يتجاوز المجتمع والعالم يكون تعمية تدل على نقص في الوعي بالواقع لو كان الحديث طبيعيا غير مقصود أو على رغبة في التستر والتغطية على ما يدور فيه أو إعطاء لمن يعيشون عليه أمانا وهميا وتعويضا نفسيا عما ينقصهم وعما يسلب منهم لو كان الحديث مصطنعا مقصودا، والشواهد في البلاد النامية على ذلك كثيرة عندما نكثر من بناء المساجد في أقات الهزيمة، وعندما نكثر الحديث عن الله في أوقات الضنك، كما يحدث ذلك أيضا في النظم الرأسمالية عندما يأخذ الدفاع عن رأس المال صورة الدفاع عن الله، وعندما يتأكد التفاوت بين الطبقات وحق صاحب رأس المال المطلق في أن يفعل ما يشاء في صورة تأكيد للمراتب الإلهية وتثبيت لسلطة الله المطلقة، وحقه الذي لا ينازعه أو يشاركه فيه أحد، الحديث عن الله في المجتمعات النامية في الغالب نقص في الوعي بالواقع إذا كان من الناس وتستر على الواقع إذا كان من السلطة السياسية،
14
كما يستغل الدين أيضا في تدعيم النظم السياسية الوراثية، ملك عن ملك أو أمير عن أمير أو ضابط عن ضابط، فالملك واحد سواء كان الله أو الأمير، فكلاهما «صاحب الجلالة» لتدعيم شرعيتها بعد أن نقصتها الشرعية عن طريق عقد البيعة واختيار الأمة، الدين هنا يستعمل «أفيونا للشعب» من السلطة الحاكمة وإن لم يستعمل بعد «صرخة للمضطهدين» في تراث المعارضة.
15 (2) الصفات والأفعال
وقد يصبح موضوع العلم الذات بعد أن تتشخص أكثر فأكثر، ويصبح لها صفات وأفعال تتعلق بالدنيا وأحوال الناس كما تتعلق بالآخرة وأمور المعاد من حشر وحساب وجزاء، تسير أمور الدنيا من معرفة وسلوك ونبوة وسياسة، وأمور الآخرة من ثواب وعقاب.
16
فتصبح أمور الدنيا والآخرة كلها من الممكنات، وتصبح الذات وحدها الواجب الأوحد، لم تكتف الذات بأن تكون تشخيصا لمثل الإنسان وغاياته التي لم تتحقق بعد ولكنها تضخمت حتى شملت كل شيء، فيصبح كل ما عداها ممكنا فانيا، وهي الوحيدة الموجودة الباقية إلى الأبد، وقد يكون ذلك أحد الجذور التاريخية مما نعاني منه في حياتنا المعاصرة من تركيز لأمانينا القومية وتشخيصها في مركز واحد، يكون هو القادر وكل ما سواه تنفيذا لهذه القدرة، في حين أن البحث في العالم ممكن سواء في حوادثه أو في وضع الإنسان فيه، كما أن البحث في مصير الإنسان، في موته وبقائه في التاريخ من خلال آثاره وأعماله ممكن أيضا، ولكن باعتباره موضوعا مستقلا غير ملحق بموضوع آخر يكون هو الشيء والإنسان ظلا له. الحقيقة أن «علم الكلام» عند القدماء علم «لاهوتي» بالمعنى المسيحي الغربي للكلمة
Théologie
أي نظرية في «الله» أو «علم الله» أو «الإلهيات» بالمعنى الفلسفي، وكل المشاكل الأخرى، ولو أنها تبدو إنسانية في مظهرها إلا أنها لا توضع إلا في علاقة مع الله، فالله طرف في الطبيعة في صورة معجزة، فقد تصور المتكلم القديم أن الله قادر على خرق قوانين الطبيعة في حين أنها نواميس ثابتة يمكن للعقل إدراكها وللإرادة السيطرة عليها في عالم مسخر للإنسان، والله طرف في الحرية في صورة إرادة، فتصور المتكلم القديم أن الحرية تدخل كطرف مقابل للإرادة الإلهية في حين أن طرفها المحدد هو الموقف أو العالم وليست الإرادة الإلهية، والله طرف في العقل في صورة شرع ووحي ونقل، فتصور المتكلم القديم أن النقل هو الطرف المقابل للعقل في حين أن الواقع هو الطرف الآخر للعقل وليس النقل. والله طرف في الخير والشر في صورة خلق شامل لكل شيء بما في ذلك أفعال الإنسان ، فتصور المتكلم القديم أن الخير والشر من الله في حين أنهما مسئولية إنسانية واختيار حر للإنسان كخالق لأفعاله في أوضاع اجتماعية معينة هو مسئول عنها. والله طرف في المعاد ومستقبل الإنسان، فتصور المتكلم القديم أن الله يتدخل في تحديد مستقبل الإنسان ومصيره في حين أن الإنسان وتحقيق رسالته في الحياة هو الذي يحدد مستقبله وكيفية خلوده. والله طرف في السياسة في صورة تعيين الإمام، فتصور عالم الكلام القديم أن الله يعين الإمام، وأن علاقة الرئيس تتحدد برئيس آخر له، هو الله، وليس الشعب الذي يعقد البيعة والذي منه تستمد السلطة، وهكذا دخل الله بصفاته وأفعاله طرفا في كل المشاكل الإنسانية والطبيعية، ووضعت المسائل كلها وضعا لاهوتيا؛ فمسألة خلق القرآن مثلا وضعت وضعا خاطئا بجعل الله طرفا فيها، في حين أن الوحي كلام موجود، مقروء ومسموع، متلو ومحفوظ، يحتوي على تصور للعالم بعد فهمه، وعلى باعث على السلوك بعد ممارسته، فهو موضوع مادي وليس صفة مطلقة لذات مشخصة، والخلق في نهاية الأمر صفة إنسانية لفعل إنساني كما هو واضح عند الفنان.
17
علم الكلام إذن مسئول عن القضاء على النظرة العلمية للظواهر، وذلك بالقضاء على استقلال الموضوعات وربطها دائما بطرف آخر هو الله؛ إذ لا يتحدد أي موضوع مثل الوجود أو الحياة أو الحرية أو السياسة أو الأخلاق ... إلخ إلا إذا كان الله طرفا فيه ثم تفسير هذه الظواهر باللجوء إلى العلة الأولى دون العلل المباشرة؛ ومن ثم يجعل علم الكلام موقف الإنسان في العالم موقفا مغتربا لأنه يتصور أن أمور الدنيا إنما تتحدد بأفعال ذات مشخصة من خارج العالم وليس بأوضاع العالم الفعلية، يمكن إذن تغيير علاقات الأطراف في المسائل الكلامية وجعل الإنسان في علاقات مع الآخرين ومع الأشياء، ووصف الإنسان في العالم كطرف فيه؛ ومن ثم تتغير مادة العلم من مادة لاهوتية إلى مادة اجتماعية، ومن علاقات غيبية إلى علاقات مرئية، وقد يتغير فهم الدين التقليدي الوارد من تاريخ الأديان من عبادة ومعجزة وتشخيص وطقوس وعقائد وسلطة، وسحر وخرافة وغيب وأسرار، ويعود إلى أصله من كونه وصفا للإنسان في العالم كفعل وشعور وفعل وذات. الوحي نفسه مجموعة مواقف إنسانية نموذجية تتكرر في كل زمان ومكان، تصف الإنسان في العالم، فالعالم هو الوطن الأوحد للإنسان، أما علم الكلام فإنه يعرض الوحي في صورة أخرى مخالفة لتلك الصورة التي عرض الوحي بها نفسه. في علم الكلام يضمر الوحي، ويتحجر، ويتقوقع على نفسه، ويصبح لاهوتا في حين أن الوحي نظرية في الإنسان وقصد نحوه. في علم الكلام ينقلب الوحي من الإنسان إلى الله، ويصبح «علما إلهيا»، في حين أن الوحي بناء إنساني ووصف لوضع الإنسان في العالم، بل إن المشكلة الأولى في علم الكلام، وموضوعه الأول، وهو ذات الله وتشخيص ماهيته وأفعاله، موضوعة وضعا خاطئا؛ فالوحي قصد نحو الإنسان، ووصف لوضعه في العالم، وليس وصفا لذات مشخص يدور حول نفسه، يضع المتكلم المشكلة وضعا خاطئا، ويقلب الوضع بتحويل الوحي إلى قصد من الإنسان نحو الله وبتغيير اتجاهه من حيث هو قصد من الله نحو الإنسان إلى قصد من الإنسان نحو الله؛ الوحي قصد موجه نحو الإنسان، يعطيه نظاما لحياته ومعاشه، هو وصف للعالم وللإنسان في العالم، وصف واقعي حسي، بديهي وجداني، وليس قصدا من الإنسان نحو الله يعطي نظرية في الذات والصفات والأفعال على نحو غيبي افتراضي خالص يقع في التشبيه، وقياس الغائب على الشاهد لا محالة، فما كان في الوحي بداية وهو الله أصبح في علم الكلام نهاية، وما كان في الوحي نهاية وغاية ومقصدا وهو الإنسان أصبح في علم الكلام بداية ومنطلقا. علم الكلام إذن تدمير للوحي كما أن الوحي تدمير لعلم الكلام؛ الوحي تعبير عن وضع الإنسان الأمثل في الجماعة ليدرك المسافة بين الواقع والمثال ويقوم بتحقيق رسالته في التوحيد بينهما بالفعل وعلم الكلام اغتراب للإنسان وقذف به خارج العالم من أجل عبور المسافة من الواقع إلى المثال عن طريق التمني والخيال أو الوهم والخداع ، فأيهما موقف صحيح وأيهما موقف مزيف؟
18 (3) ذات الرسول
وقد يضاف إلى «ذات» الله «ذات» الرسول ، فيكون موضوع العلم قطبين: الله والرسول؛ وهو ما وضح أساسا في علم الكلام المتأخر في عصر الشروح والملخصات وفي كتب العقائد بعد القرن الثامن الهجري.
19
صحيح أن ذات الرسول مخلوق بشري فان، ولكن التركيز على هذين القطبين، الله والرسول، يوحي بعقائد ملل أخرى تعقد رباطا جوهريا بين الشخصين.
20
بالإضافة إلى أن هذين القطبين يمثلان مصدر الوحي ورسول الوحي فقط وغياب المرسل إليهم كلية في هذه العلاقة الثنائية وهم الناس والشعب والأمة، وكأن هذا الطرف الثالث لا وجود له كمحور في العقائد كما أن لا وجود له في حياتنا السياسية المعاصرة. إن العلاقة الكاملة ثلاثية: مرسل، ومرسل إليه، ثم رسول يتم بواسطته التبليغ وحمل الرسالة، والمرسل إليه هم الناس، والناس يعيشون في عالم، ويبحثون عن نظام، والرسول ليس له هذه الأهمية التي تجعله محورا من محاور العلم مع الله كمحور أول، فالرسول ما هو إلا مبلغ؛ أي أنه وسيلة وليس غاية، وما على الرسول إلا البلاغ، وإلا وقعنا في «علم السيرة»، وهو من العلوم النقلية الخالصة كما وقعنا في «علم الكلام» الذي يأخذ المرسل موضوعا له، أي الله. الغاية هم الناس، وهم البشر، وهو العالم، فكيف نسقط الغاية من الحساب، ونجعل الوسيلة جزءا من موضوع العلم؟ وإذا كان التصوف قد ركز على الوسيلة إلى حد الإطلاق فيما سماه «الحقيقة المحمدية»، فإن علم الكلام حتى في حركات الإصلاح الديني الأخيرة يكون قد انتهى إلى مثل ما انتهى إليه التصوف من التركيز على شخص الرسول حتى ضاعت الرسالة وضاع المرسل إليهم، إن الرسول ليس موضوعا مستقلا لعلم أصول الدين لأنه وسيلة إيصال الوحي فقط، ووسيلة تبليغ، فهو وسيلة لا غاية، وطريق لا هدف، وحامل لا محمول، أما الوحي فإنه موضوع مستقل غير مشخص، وإدخال الرسول كجزء من الوحي تشخيص للوحي، وتركيز للتشخيص الذي حدث بتحويل الوحي إلى ذات، في الموضوع الأول وهو «ذات» الله، والانتقال من كلام الله إلى ذات الله؛ وبالتالي تصب علوم الحكمة وعلوم التصوف مع علم الكلام في نفس الاتجاه ، وهو تشخيص الوحي، والتشخيص هو أحد مآسينا المعاصرة، التشخيص السياسي في صورة القائد أو الزعيم، والتشخيص الاجتماعي في صورة الأب أو رئيس المصلحة، والتشخيص الاقتصادي في صورة اللصوص والمرتشين وبطانة السوء، ويلتحم ذلك كله بالدين «الشعبي» القائم على تشخيص الأفكار والمبادئ والعقائد في الرسول وآل البيت والأولياء.
21
شخصنا الأفكار في القادة والزعماء، وحولنا صراع الأفكار والمذاهب إلى صراعات بين أفراد، وحولنا الاعتقاد بالنظريات إلى إيمان بالأفراد، وأصبح كل نقد للأفكار هو نقد للأفراد، والولاء للأفكار هو ولاء للأشخاص، هنا تكمن الجذور التاريخية إذن «لعبادة الأشخاص» وهو العيب الرئيسي في الحياة السياسية لدى الشعوب المتخلفة.
22
إن إدخال الرسول كجزء من موضوع العلم هو تحويل للتوحيد من أساسه الأفقي - الوحي في التاريخ - إلى أساسه الرأسي، الصلة بين الله والنبي وذلك بالحديث عن نظرية الاتصال، ووسائل الاتصال، والحجاب، والملاك، والمخيلة كما حدث في علوم الحكمة في حين أن ما يهمنا نحن هو الوحي بعد إعلانه - وليس قبله - وفهمه وتفسيره وتأويله من أجل الاستفادة منه في حياتنا العملية كما حرص على ذلك علم أصول الفقه في تحويل الوحي إلى علم دقيق ابتداء من لحظة الإعلان عنه وليس قبل ذلك حتى لحظة تحققه في الحياة العملية كسلوك للأفراد وكنظام للجماعة، سواء فيما يتعلق بالصحة التاريخية للنصوص من خلال مناهج الرواية أو الفهم لها من خلال مبادئ اللغة وأسباب النزول أو تحويلها إلى سلوك في الحياة العملية من خلال المقاصد والأحكام.
23
خلط علم الكلام إذن بين النبي والرسول، وتعرض للنبي كما تعرضت له علوم الحكمة وعلوم التصوف وعلم السيرة، ولم يتعرض إلى الرسول من حيث الرسالة كما هو الحال في علم الحديث أو علم أصول الفقه. فإذا كان الدافع على إقامة علم الكلام هو وقوع أخبار تتعلق بحياة الناس فيمكن تحويل هذه الأخبار إلى علم عن طريق التحقق من صدقها كما هو الحال في علم الحديث أو معرفة معانيها كما هو الحال في علوم التفسير أو الاستفادة منها في الحياة العملية كما هو الحال في علوم الفقه أو التصوف، ولا محل لعلم الكلام، هذا بالإضافة إلى أن كل ما وصل إليه علم الكلام في حديثه المنعرج عن النبي هي صفات النبي الأربعة مثل صفات الله السبعة، وخصال الرئيس العديدة أي التركيز على السمات الرئيسية في الشخص، إذا صلح الشخص انتظم الواقع وصلح الناس، فخصال الأفراد هي التي تحدد طبيعة النظم الاجتماعية، وهو تحليل ناقص يغفل دور المؤسسات والشعوب والأفكار ومن ثم فهو غير علمي، النظم الاجتماعية لها استقلالها عن خصال الأفراد حتى ولو كانت خصال الرؤساء، بل إن شخص الرسول سيتدخل في الجزاء ويخرق قانون الاستحقاق عن طريق الشفاعة كخرق الله لقانون الطبيعة عن طريق المعجزات، لقد ركز العلم على ضرورة المعجزة لإثبات النبوة وتأييدا للأخبار التي أتى بها الرسول؛ وذلك عن طريق أفعال خارقة للعادة في حين أن الوحي في آخر مراحله، وهو الوحي الإسلامي، له يقينه الداخلي، وصدقه الذاتي، ولا يحتاج إلى برهان خارجي، فضلا عن أن المعجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة ربما كانت موجودة في المراحل السابقة للوحي من أجل تحرير الشعور الإنساني من سيطرة الطبيعة أو من سلطة الحاكم المطلق، فالله وحده هو القادر على كسر كل القوانين الطبيعية وعلى كل النظم السياسية القائمة على حكم الفرد المطلق، ولكن في آخر مرحلة من مراحل الوحي تتحول المعجزة إلى إعجاز، ويكون الفكر والفن، وهما دعامتا الوحي، المضمون والصورة، الموضوع والأسلوب هما موضوعا الإعجاز؛ فالمعرفة الإنسانية مهما تقدمت فإنها ستظل تجد في الوحي نظريات صادقة، وأن الخلق الفني الإنساني مهما عظم فإنه سيظل يجد في أسلوب الوحي عملا فنيا باقيا على كل العصور، الوحي في آخر مراحله إعلان لاستقلال الإنسان عقلا وإرادة دونما حاجة إلى تدخل خارجي في عقله أو في إرادته من أجل الحصول على معرفة أو تحقيق فعل، مهمة الوحي وضرورته هي في إعطاء مجموعة من الافتراضات النظرية تسهل عمليات فهم الواقع بعد التحقق من صدقها بالدليل العملي أو البرهان النظري، كما أنها تقصر الطريق بإعطائها الأساس النظري من أجل أن يكرس الإنسان كل جهده وطاقته في التحقيق، بالإضافة إلى أن هذا الأساس النظري شامل وعام ومحايد، لا يخضع لهوى أو مصلحة، بل يحقق مصالح الفرد والجماعة أيا كانت، وذلك بخلاف المعرفة الإنسانية التي قد يطول البحث عنها والتي قد تقع في التجزئة وأحادية الطرف والتحيز والتي قد لا يتم الوصول إليها قبل نهاية حياة الإنسان والتي قد تنعزل وتنحصر عن الواقع، وتظل في حدود النظرية. وقوع المعجزات الآن إما شعوذة أو سحر أو خرافة أو وهم، ويمكن القضاء على كل ذلك بالنظرة العلمية للواقع، وبتوجيه الجماعة نحو الثقافة النظرية العلمية، وقد تخلفت حركاتنا الإصلاحية الحديثة عن دعوتها وذلك لاستمرار إيمانها بالمعجزات بمعانيها التقليدية كدليل على صدق النبوة، وكخبر متواتر، وإن كانت قد حاولت أن تجعل منها باعثا على الفكر والتأمل في الطبيعة، وكشفا عن مجاهل العلم، ويظل الخوف قائما من أن يتحول هذا البحث إلى تسليم بالأسرار طالما ظل الإيمان سائدا على العقل. (4) الأمور العامة
وقد يكون موضوع العلم هو الوجود بما هو موجود على قانون الإسلام وليس بحثا إلهيا عاما ودون الوقوع في التشخيص، والموجود هو الذي يمكن إدراكه بالأمور العامة مثل الوجود والماهية، الجوهر والعرض، الوجوب والإمكان، العلة والمعلول، الواحد والكثير ... إلخ، وهي آخر ما وصل إليه علم الكلام من تطور نظري من أجل إدراك معنى الوجود والاستدلال به على مدلوله، وهو أكثر الموضوعات تجريدا وصورية، لقد استطاعت هذه الأمور العامة تحويل الوحي إلى علم أوليات
Axiomatique
أي إلى مجموعة من المبادئ العقلية العامة الواضحة بذاتها، أوليات خالصة لا يسبقها شيء كما هو واضح في نظريتي العلم والوجود.
24
موضوع العلم إذن هو «المعلوم»، الذي يمكن معرفته؛ لذلك اشتمل المعلوم على نظرية العلم إجابة على سؤال: كيف أعلم؟ كما اشتمل على نظرية الوجود إجابة على سؤال: ماذا أعلم؟ ولو أن العلم تطور ولم يتوقف من القرن الثامن حتى الآن لكانت تلك الأمور العامة قد ابتلعت الإلهيات وأصبح العلم صوريا خالصا؛ فالإلهيات قد أصبحت عقليات ولم يعد باقيا إلا النبوات أو السمعيات التي عادت من القرن الثامن حتى الآن وابتلعت العلم كله بما في ذلك المقدمات النظرية عن «الأمور العامة» والعقليات وريثة الإلهيات.
وبالرغم من مزايا هذا الموضوع التجريدي إلا أنه يعبر عن إيمان باطني، ويهدف إلى شيء آخر، إما إلى حدوث العالم من أجل إثبات أن الله قديم أو لإثبات أن الوجود متميز عن الماهية في هذا العالم من أجل إثبات أن ماهية الله هو وجوده، وأن وجوده هي ماهيته، ولإثبات أن هذا العلم منقسم إلى جواهر وأعراض من أجل إثبات أن الله هو الجوهر الخالص لا أعراض فيه، ويحدث نفس الشيء بالنسبة إلى الوحدة والكثرة والعلة والمعلول،
25
وكلها تصدر عن إحساس مرهف بالإيمان معروضا عرضا عقليا صرفا، وفي هذا الإحساس قد يختلف الناس، فقد يرى البعض أن إثبات حدوث العالم هو المعبر عن هذا التنزيه العقلي، وقد يرى آخر أن قدم العالم هو الأكثر تعبيرا عن ذلك، قد يرى فريق أن عدم الربط بين العلة والمعلول ربطا ضروريا تعبير أصدق عن التصور الإيماني للعالم، بينما يرى فريق آخر أن الربط الضروري بين العلة والمعلول هو أصدق تعبير عن وجود الله وحكمته، وهكذا يختلف الناس في تعبيرهم عن إحساساتهم الدينية بالصور العقلية. وإنما يرجع اتهام بعضهم لبعض بالخروج عن الدين في أحسن الأحوال، ومع توافر حسن النية، إلى تعدد هذه الصور العقلية أو تضاربها، مع أنها كلها صور إيمانية تعبر عن عواطف إيمانية بالرغم من اختلاف ظروف نشأتها.
26
هذا بالإضافة إلى أن هذه الأمور الصورية العامة ما زالت مرتبطة بالجو العام لبيئة ثقافية معينة هي البيئة اليونانية ومفاهيمها، وهي بطبيعتها مثالية، والمثالية والعواطف الدينية صنوان، والخلاف بينهما في الدرجة وليس في النوع، فقط في درجة التجريد.
ولما كانت هذه الصور الدينية ليست وليدة البيئة الثقافية المعاصرة، فإنه لزم ملؤها بمادة معاصرة حتى يمكن أن تعبر عن مضمون معاصر، وإلا ظلت صورية فارغة تعبر عن الطهارة الدينية والتقوى الباطنية التقليدية، إن «الأمور العامة» اليوم ليست هي أفكار الوجود والعدم والماهية، والجوهر والعرض ، الواحد والكثير، العلة والمعلول، الوجوب والإمكان، القدم والحدوث ... إلخ، فقد كانت هي المفاهيم السائدة في الثقافة القديمة بعد ترجمة الثقافة العصرية آنذاك، وكان مصدرها الرئيسي من اليونان، أما اليوم فقد أصبحت أفكار الحرية والعدالة والمساواة والتحرر والتقدم والنهضة بل والثورة والتغير الاجتماعي هي الأفكار السائدة في ثقافتنا المعاصرة منذ فجر نهضتنا الحديثة، والتي أصبحت جزءا من الثقافة العصرية بعد الترجمات عن الثقافات العصرية الحالية ومعظمها وارد من الغرب، وكما عبرت الأمور العامة القديمة عن مقتضيات ثقافتنا القديمة وحاجاتها، فإن الأفكار المعاصرة تعبر أيضا عن مقتضيات ثقافتنا الحالية وحاجات مجتمعاتنا المعاصرة.
27
خامسا: منهجه
لم يفرد القدماء قسما للحديث عن منهج العلم، بل جعلوه جزءا من تعريفه، وهو إيراد الأدلة اليقينية على صحة العقائد الدينية ودفع حجج الخصوم، ورد شبه المعارضين، المنهج إذن مزدوج: الأول إيجابي وهو: «إثبات صحة العقائد الدينية بالأدلة اليقينية»، والثاني سلبي وهو: «دفع حجج الخصوم، ورد شبه المعارضين».
1 (1) المنهج الإيماني
والمنهج الأول منهج إيماني خالص يقوم على التسليم بالعقائد الدينية تسليما مسبقا عن طريق الوحي، وفي هذه الحالة تكون وظيفة العقل مجرد إيراد البراهين على صحة المسلمات المسبقة، وهو المنهج المعروف في العصر الوسيط الأوروبي «أومن كي أعقل»،
2
أو «الإيمان باحثا عن العقل»، صحيح أن مضمون الإيمان الإسلامي مختلف عن مضمون الإيمان المسيحي؛ لأنه يحتوي على صدقه من داخله في حين يحتاج الإيمان المسيحي إلى صدق خارجي من ألوهية أو نبوة أو معجزة أو إرادة أو إلهام أو سر، وقد وضح ذلك في المقدمات الإيمانية التقليدية وتعبيرها عن الأحكام المسبقة التي يبدأ منها الأصولي المتكلم، وهي عقائد أهل السنة التي يريد البرهنة على صحتها للآخرين وليس لنفسه؛ وبالتالي تكون نتائجه هي مقدماته، ومكتشفاته هي مسلماته، وكأن البحث ذاته ما هو إلا لملأ الفراغ بين المقدمات والنتائج، يقوم منهج علم الكلام عند القدماء إذن على البحث عن الأدلة اليقينية لإثبات صحة العقائد المسلم بها سلفا بعد الإيمان بها، وهو وقوع في «الدور» بين الإيمان والعقل، أومن كي أعقل ثم أعقل كي يزداد إيماني رسوخا، ولكي أثبت للآخرين صحة إيماني، وهو على عكس المنهج في علوم الحكمة الذي يبحث عن بداية عقلية مطلقة دون افتراض إيمان مسبق وإن خرجت صور العقل تعبيرا عن الطهارة الدينية والتقوى الباطنية، يبدأ المنهج الكلامي إذن بالتسليم ثم يثني بالبحث عن الأدلة وإيجاد البراهين على صدق ما سلمنا به أولا، فهو علم إيماني خالص أكثر منه علما عقليا؛ وبالتالي يفتقد شروط العلم وهو البحث عن نقطة بداية يقينية يصل إليها العقل من داخله، وهذا لا يعني أن الإيمان وظيفة له لأنه يكون أحيانا حدسا مباشرا أو تجربة صادقة أو عاطفة نبيلة أو مبدأ مثاليا، وكلها تدخل ضمن وسائل المعرفة وشروط الإدراك، وأحيانا يقدم الإيمان افتراضا نظريا لفهم الواقع، ثم تكون مهمة العالم التحقق من صحة هذا الفرض بالدليل العقلي أو البرهان الحسي، وأحيانا يقدم نظرة شاملة للكون تكون مهمة العالم تحويلها إلى بناء فردي ونظام اجتماعي وحركة في التاريخ، ذلك يمكن تعميم البراهين والأدلة إلى غيره من المعطيات الدينية، خاصة إذا كان الوحي الإسلامي معطى مثاليا وليس نوعيا كما هو الحال في المراحل السابقة للوحي التي تمسك بها الوعي الأوروبي.
3 (2) المنهج الدفاعي
والمنهج الثاني الذي يستعمله علم الكلام هو منهج الدفاع عن العقيدة، والذب عنها، ضد البدع والشبه التي يروجها الخصوم من المعاندين والمبطلين؛ فهو علم دفاعي ضد هجوم المنتقدين.
4
والحقيقة أن الدفاع ليس منهجا للعلم، بل هو مجرد تقريظ وثناء ومدح للنفس وثلب وهجوم وتجريح للآخر. ليست مهمة العلم الدفاع أو الهجوم، بل تلك مهمة المحاماة، والدفاع والهجوم كلاهما يقومان على التعصب والهوى والمصلحة، ويدلان على نقص في العلم والموضوعية والتجرد والنزاهة والحياد، العلم تحليل عقلي للموضوعات أو وصف علمي للظواهر لإدراك الحقائق الصورية أو المادية أو رؤية للماهيات في التجارب الحية وليس تعصبا أو هوى، دفاعا عنها وهدما لنقيضها، الدفاع شيء والتأسيس النظري شيء آخر، الدفاع همه دحض حجج الخصم واستخدام العقل لذلك صوابا أم خطأ، أما التأسيس فمهمته معرفة البناء النظري للعلم ، الدفاع والهجوم كلاهما معارك في الهواء، وتحويل للنضال الحقيقي من الواقع إلى الفكر، خاصة إذا كانت موضوعات الجدل لا تؤثر في مجريات الأحداث المباشرة مثل خلق القرآن، ووجود الملائكة، وعذاب القبر، والميزان، والصراط، والحوض، الدفاع موقف ينم عن ضعف صاحبه، وهجوم الخصوم يدل على قوة المعارض، وفي النهاية يرجع الفضل إلى الخصم في التحدي والمعارضة وإجبار المتكلم على التفكير والاستدلال، فالخصم ليس شرا، بل هو الباعث والدافع والمحرك والمنشط لذهن الأصولي المتكلم؛ وبالتالي يكون الخصم هو المؤسس للعلم باعتراضاته وليس المدافع عن العلم بأجوبته.
ولا يكون الدفاع عن الدين فحسب، بل عن تفسير معين للدين، ولا عن العقائد الإسلامية، بل عن تصور معين لها، وهو تصور مذهبي لفرقة خاصة هي في الغالب فرقة أهل السنة التي أصبحت، بعد الصراع على السلطة وحسم الصراع لصالحها، الممثلة للعقائد الرسمية للدولة، ضد تراث المعارضة السرية مثل عقائد الشيعة أو المعارضة العلنية من الخارج مثل نظريات الخوارج أو المعارضة العلنية من الداخل مثل أصول المعتزلة؛ فالدفاع عن المذاهب الكلامية وعقائدها أكثر من الدفاع عن الدين نفسه، وكانت الغاية من تأليف كتب العقائد الدفاع عن عقيدة أهل السنة حتى في علم الكلام المتأخر الذي يظهر فيه العلم مستقلا عن عقائد فرقة بعينها، بادئا بنظرية العلم ومثنيا بنظرية الوجود، وتحويل عقائد الفرق إلى مجرد تذييل للإمامة في نهاية العلم.
5
لا عجب إذن أن تكون المصنفات الكلامية في معظمها «سنية أشعرية» إلا فيما ندر؛ دفاعا عن فرقة بعينها هي الفرقة الناجية! الدفاع عن العقائد إذن هو في الحقيقة دفاع عن المذهبية، ودفاع عن الفرق الدينية، ودفاع عن الموقع من السلطة، سلطة الحكم أو سلطة المعارضة. والمذهبية والتحزب كلاهما وقوع في التعصب، والانغلاق، وضيق الأفق، والتضحية بمصالح الناس من أجل وهم انفعالي أو مصلحة خاصة، لا يعني ذلك التخلي عن المعارك الفكرية، فهي ضرورية للتصديق والبرهان، وللحوار بين الفرق لتوعية الجماهير وخلق جو ثقافي عام قادر على تحريك العقول، وتنشيط الأذهان، دون الانتساب المسبق إلى مذهب معين حتى يتم استبعاد «الدجماطيقية» ويبدأ التنوير، وتثار التساؤلات، وتطرح البدائل، ويعاد الاختيار، ودون الولاء لفرقة بعينها، حتى يتم جمع شمل الأمة في إطار الوحدة الوطنية دون صراع على السلطة، إعدادا للأمة لمرحلة قادمة تعود إليها وحدتها المفقودة منذ الفتنة الأولى.
6
وغالبا ما يكون الدفاع دفاعا عن النفس وليس دفاعا عن الفكرة، ويكون الهجوم هجوما على الآخر وليس هجوما على الفكرة؛ وبالتالي يقضي على استقلالية الفكر وشموليته، ويتحول إلى فكر متجسد في أفراد وأشخاص، وتتحول الحجة من حجة ضد الفكرة إلى حجة ضد الشخص
Argumentum Ad Hominem
وهو الشائع في حياتنا الثقافية المعاصرة، ولما كان كل فرد يمثل مصلحة خاصة أو مصلحة جماعة تحول علم الكلام إلى علم يكشف عن تضارب المصالح والأهواء، ويعبر عن القوى الاجتماعية وصراعاتها، فالجدل في نهاية الأمر تبرير نظري لصراع القوى الاجتماعية، انقلب العلم إلى تجريح، وقد يكون ذلك أحد أسباب تسمية علم الكلام من «الكلم» أي «الجرح»؛ أي التأثير القوي الذي يصل إلى حد الجرح؛ لذلك أنشئ علم مستقل هو علم آداب النظر والجدل للتقليل من آثار الجروح والتخفيف من المثالب والطعان على أصحاب الرأي والنظر.
7
فإذا كان القدماء قد وجهوا كل هممهم للدفاع عن العقائد القديمة، فإننا نوجه جهدنا لإعادة بنائها؛ لأنها ما زالت تعطينا تصوراتنا للعالم وتعمل كموجهات لسلوكنا المعاصر، وقد يكون بعضها سببا من أسباب الاحتلال والتخلف - وهما أزمتا العصر - ومعوقا لجهودنا من أجل التحرر والتنمية، وقد يكون بعضها مانعا من الاحتلال والتخلف، ودافعا للتحرر والتنمية، ولكن ظل طاقة مختزنة تتجاهلها القوى العلمانية وتحجرها القوى السلفية، إذا كان القدماء قد دافعوا عن العقائد طبقا لحاجات عصرهم، فإننا نحلل الأفكار لمعرفة آثارها النفسية والاجتماعية، وقدرتها على تحريك الجماهير طبقا لمقتضيات عصرنا، كما نحلل الواقع المعاصر ونصف مكوناته الذهنية والنفسية لمعرفة حاجاته، فالدفاع عن العقيدة عند القدماء يصبح هنا تحليلا للأفكار ووصفا للواقع وتنمية للمجتمع، وتغييرا للأوضاع الاجتماعية، ودفعا لحركة التاريخ إلى مرحلة تالية أكثر تقدما، العقيدة باعث على السلوك، وليست حقيقة مستقلة قائمة بذاتها إلا من حيث قدرتها على التغيير، وتصور بناء يجد فيه الواقع ذاته بصورة أفضل وأشمل وأكمل، العقائد في المجتمعات النامية - وذلك لأنها مجتمعات تراثية - طريق للتغير الاجتماعي ووسيلة لتحقيق الأهداف القومية.
8 (3) هل الجدل علم؟
والجدل ليس علما، بل هو أقرب إلى الفن منه إلى العلم؛ إذ يقوم على المهارة في إفحام الخصوم، ولا يعتمد إلا على الجهد الفردي الخالص، هو فن يعتمد على الكلام، كما تعتمد الفلسفة على المنطق؛ فالكلام آلة للعقائد كما أن المنطق آلة للعلوم، ومن هنا أتت تسمية علم الكلام «فن الجدل والمهاترات»،
9
والغاية من الجدل إفحام الخصم وليس الوصول إلى اليقين الذي يتجاوز الخصمين معا، غايته نفعية خالصة وليست نظرية، في حين أن العلم هو العلم النظري، غايته إقناع الآخرين ليس بالضرورة عن طريق البرهان، بل يمكن أن يتم ذلك عن طريق الإيهام وأساليب الإيحاء وشتى وسائل الإقناع، الجدل مثل الخطابة، كلاهما فن يهدف إلى التأثير على النفوس، الأول بحضور الخصم المجادل، والثاني بحضور جماهير الناس.
10
ولما كانت الغاية من الجدل ليس الوصول إلى الحق، بل إفحام الخصم والانتصار عليه، ولو كان على حق استعملت كل أساليب الإقناع للانتصار عليه، ولو كانت تقوم على الباطل، فالغاية تبرر الوسيلة؛ وبالتالي يصبح الجدل كل المنطق وتمحي التفرقة بين منطق الإقناع (الجدل) ومنطق البرهان (القياس)، ويتحول المنطق من علم معياري إلى علم نفعي، كما يتم الجدل على مستوى انفعالي خالص، ولا يستخدم العقل إلا للعثور على حجج لتأييد الانفعال السابق، والحقيقة أن العلم لا يكون علما إلا إذا تحول إلى نظرية، وقام على أسس عقلية خالصة، والجدل هنا ليس هو جدل الأفكار أو جدل التصورات أو جدل التاريخ، بل هو مجرد الحوار بين متخاصمين، قد يفيد في المعارك الفكرية، في الحوار المعقود بين وجهات نظر مختلفة، ولكنه لا يمكن أن يكون أساسا لعلم، بل يكون نوعا من توحيد الجهود النظرية للوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق الفكري . ليست الغاية أن يقتنع أحد المتحاورين بوجهة النظر الأخرى والتسليم بها، بل إيجاد أوجه الاتفاق كأساس لوحدة فكرية وأوجه الاختلاف وجعلها أقل قدر ممكن تشير إلى الأطر النظرية العامة التي لا أثر لها في المواقف العملية، ولكن دون ذلك لا يؤدي الجدل في النهاية إلى أية نتيجة، إذ لا ينهزم أحد، ولا ينتصر أحد، ولا يبقى إلا التعاند والخصام، فالغاية مجرد إظهار قدرة المجادل وضعف غريمه طلبا للمدح والثناء، إما من العامة أو من السلطان.
11
كما يؤدي الجدل إلى النزاع في الحق، والحق النظري لا نزاع فيه، ويؤدي إلى تغلب وجهات نظر فردية تعبر عن قصر نظر أو هوى أو مصلحة على الحق الواحد المجرد الشامل، وبكثرة الجدل تتعدد الحقائق وتضيع وحدتها كمبدأ مسبق، كبديهية ومسلمة، ويكون كل شيء فيه قولان كما هو الحال في الفقه، وكما نسخر في حياتنا اليومية عندما نضرب المثل بضياع الحق من خلال تضارب الأقوال.
12
لا يدافع عن الحق بالجدل؛ فالحق لا يدافع عنه، بل يعرض ويحلل عقلا وواقعا ببيان أسسه العقلية والواقعية، الحق فكرة بديهية أو تجربة إنسانية أو مشاهدة حسية لا خلاف عليها، وكثيرا ما يتحول الجدل إلى مهاترات خالصة، يتحدث المجادل وخصمه في الكل ولا شيء بلا تحديد للألفاظ أو بحث عن المعاني أو إشارة إلى الأشياء، ويصبح الحوار بين صم، لا يسمع أحدهما ما يقول الآخر، المتكلمون يتكلمون، ويفهم الواحد نصف ما يقوله الآخر فهما خاطئا، يسقط ما لا يريد، ويزيد على ما يريد، ويحور ما يفهم حتى يتفق مع مقاله، فلا يفهم إلا ما يريد، ولا يدرك إلا ما يفيده في الرد على الخصوم، وكثيرا ما يأتي الرد قبل الفهم، وبالتالي ينتهي الجدل إلى حوار بين الذات ونفسها، وكأنه حديث النفس بصوت عال، لا يسمعه إلا صاحبه، أو كمن يصدر أصواتا ولا يتلقى إلا صداها. وإذا كان الجدل يهدف إلى إفحام الخصم والقضاء على البدع، فإنه يؤدي إلى عكس ما قصد إليه؛ فالرد على البدع نشر لها، وتعريف بها، بعدها تقوى البدعة، ويتحمس الناس لها.
13
لذلك كان التوقف عن الحكم أولا ثم عدم الدخول في علم الكلام ثانيا وسيلة للقضاء على البدعة.
وقد أدرك القدماء أن الجدل يقوم على مسلمات خاطئة؛ إذ يدافع الجدلي عن معتقداته على أنها مسلمات دون أن يبحثها سلفا، ويثبت صدقها؛ الجدل بهذا المعنى تعصب وهوى، بل لا ضير أن يسلم الجدلي بمقدمات الخصم حتى ولو كانت خاطئة ما دام الغرض من ذلك هو إفحامه أو على معاندة الخصم، وذلك بإنكار ما للخصم من مسلمات حتى ولو كانت سليمة، فكما أن الجدل تشبث بالباطل، قد يكون أيضا إنكارا للحق؛ لذلك وصفت الفرق الكلامية المختلفة بأنها «أهل الأهواء»، وتاريخ الفرق بأنه تاريخ «الهوى»، والهوى يقود إلى الضلالة،
14
وقد تحتوي بعض المقدمات الإيمانية أحيانا على بيان المناهج الجدلية التي يستعملها المتكلم في عرض موضوعاته وإثباتها والبرهنة عليها؛ وهي مناهج تجمع بين المنطق والأصول والجدل، وأهمها: (أ)
السبر والتقسيم: وهو حصر الأمور في قسمين، وعندما يبطل أحدهما يلزم ثبوت الآخر، وهو مستعمل أحيانا في مناهج البحث عن العلة في علم أصول الفقه.
15
وهو منهج ظني خالص، ولا يوصل إلى اليقين لأسباب عديدة منها؛ أولا: ما الضامن على أن الحصر تام وليس ناقصا؟ ما السبب في أن الأمور تنحصر في قسمين اثنين وليس في ثلاثة أو في أربعة؟ إن القسمة الثنائية ما هي إلا تعبير عن عاطفة دينية في الحق والباطل، والخطأ والصواب، ثم يأخذ المتكلم جانب الصواب ويضع الخصم في جانب الخطأ، وإذا كانت القسمة مستفادة من علم آخر، فما صحة هذا العلم؟ وما هي هذه المقدمات؟ المقدمات إذن ما هي إلا افتراضات مسبقة لم يبرهن عليها بل يتم التسليم بها. ثانيا: لا بد من ترتيب المقدمات على شرط مخصوص وأن يندرج الفرع تحت الأصل استيفاء لشرط الاستغراق، فإن لم يكن الفرع مستغرقا في الأصل استحالت النتيجة، وفي حالة وجود نتيجة فإنها تكون متضمنة من قبل في المقدمات، ويصبح الاستدلال عقيما. ثالثا: ما الدليل على بطلان دعوى الخصم؟ يحتاج المتكلم إذن إلى منهج آخر لإثبات بطلان هذه الدعوى، لماذا يثبت مقدما أن دعوى الخصم باطلة، ودعوى المتكلم صحيحة؟ قد تكون دعوى المتكلم باطلة ودعوى الخصم صحيحة خاصة وأن علم الكلام ما هو إلا محاولات للعثور على أسس عقلية للعقائد، وهي كلها محاولات اجتهادية تخطئ وتصيب. وماذا يحدث لو كانت دعوى الخصم باطلة من وجه وحقا من وجه آخر؟ وما السبب في تصنيف الدعاوى بين الكل أو لا شيء، وكيف يعتمد المتكلم على دعوى الخصم وقد تكون باطلة ولا سبيل إلى التحقق من صحتها؟ رابعا: إن بطلان دعوى الخصم لا يستلزم بالضرورة صدق دعوى المتكلم؛ لأن هذا إثبات الشيء عن طريق نفي الدعوة المضادة، والإثبات عن طريق النفي لا يثبت إلا نفي الضد، ولكن لا يثبت الشيء المراد إثباته؛ لذلك كان «اللاهوت السلبي»
La Théologie Negative
عن طريق نفي الضد هو السائد على «اللاهوت الإيجابي»
La Théologie Positive . خامسا: إذا كان لا بد أن يقوم الخصم بالتسليم بالفرع حتى يثبت الأصل، فما العمل إذا لم يسلم الخصم؟ السبر والتقسيم إذن منهج جدلي لا يثبت شيئا يقينيا ولا يمكن أن يكون منهجا للعلم. (ب)
ترتيب أصلين تلزم عنهما نتيجة، فإذا سلم الخصم بالمقدمتين سلم بالنتيجة.
16
وهذا المنهج أيضا لا يثبت شيئا لأسباب عديدة منها: أولا: ما الدليل على صحة المقدمتين؟ هنا تبدو مقدمات علم الكلام وكأنها أحكام مسبقة أو بديهيات، فإذا كانت أحكاما مسبقة، فإنه يمكن للخصم رفضها بسهولة، وما دام علم الكلام يقوم على أحكام مسبقة، فإنه لا يكون علما، وإن كانت بديهيات، فالبديهيات ليس لها خصوم. ثانيا: إن النتيجة الثالثة التي تلزم من المقدمتين إن سلم بها الخصم لا تكون نتيجة؛ لأنها متضمنة في إحدى المقدمتين أو في كلتيهما؛ ومن ثم لا يكون علم الكلام علما منتجا؛ لأنه مبني على قياسات غير منتجة، ويكون علما عقيما قائما على قياسات عقيمة، وإن رفضها الخصم فذلك يدل على أن القياس كله لا يؤدي إلى الإقناع. ثالثا: يستطيع الخصم أن يتبع نفس المنهج كما يستطيع أي مجادل اتباعه ؛ إذ يعرض الخصم مقدمتين إذا سلم بهما المتكلم لزمت منهما نتيجة معارضة له، فهو سلاح ذو حدين يمكن استعماله في الحق والباطل معا. (ج)
إثبات استحالة دعوى الخصم؛ لأنها تفضي إلى المحال، وبالتالي تثبت دعوى المتكلم.
17
وهذا المنهج أيضا لا يؤدي إلى شيء؛ لأنه أولا قائم على منهج آخر يثبت به استحالة دعوى الخصم، وثانيا لأن الخصم يستطيع أن يطبق نفس المنهج بإثبات استحالة دعوى المتكلم؛ ومن ثم تثبت دعواه، وتكون النتيجة إثبات دعويين متناقضتين كلتاهما صحيحة جدلا. ثالثا: إن إثبات استحالة دعوى لا تثبت إمكان دعوى أخرى؛ لأن الإثبات بنفي العكس ليس إثباتا بالدليل، بل بوجود الدليل على نفي الضد وليس بوجود دليل على الإثبات.
ومن الممكن صياغة منهج للجدل من خلال المصنفات الكلامية، خاصة الجدلية منها، ويكون ذلك أقرب إلى منطق الكلام منه إلى علم الكلام.
18
وقد استطاع علماء الكلام تأسيس منطق جدلي للدفاع عن النفس وتفنيد حجج الخصوم حتى أصبح علم الكلام كله علما للجدل، فإن لم يبق شيء كمادة للعلم، فعلى الأقل فإن صورة العلم وهو منطق الجدل باقية، لم يترك علماء الكلام رسائل في الجدل مستقلة عن المادة الكلامية، كما أنهم لم يضعوا قواعد للجدل يمكن تطبيقها، ومع ذلك نجد منطق الجدل متناثرا داخل المادة الكلامية يمكن استخلاصه وتصنيفه وتبويبه كنوع من تحليل «المقال» الكلامي ابتداء من «قواعد» الخطاب، ويمكن تصنيف أبواب هذا المنطق في أقسام رئيسية ثلاثة:
19 (أ)
مناهج النقل أو طرق الرواية، ومهمتها نقد النصوص المنقولة، وتحديد مدى صحتها، ونسبة يقينها، خاصة فيما يتعلق بالحديث ويشمل: نقد الرواية وصحة نسبتها إلى المتكلم، مواجهة نص بنص آخر مساو له أو أقوى منه، مقابلة الإجماع على نص بإجماع آخر مساو له أو أقوى منه، الاتفاق مع التصور الديني العام دون اللجوء إلى نص معين، تحريف نقل رواية المتكلم عن قصد من أجل الكذب المتعمد والتشويه، إما بالنقص أو الزيادة أو التحريف بنقل الألفاظ وتبديلها لإفساد المعنى. (ب)
فهم الروايات وتأويل النصوص، فلا يوجد خبر خالص إلا بفهم وتأويل؛ وبالتالي يمكن تصحيح خطأ فهم الخصم وإعطاء الفهم الصحيح، التفرقة بين الجزء والكل وأن ما يقال على الجزء لا يقال على الكل، وما يقال على الكل لا يقال على الجزء، تحديد مستوى التحليل هل هو إلهيات أم طبيعيات أم إنسانيات، التفرقة بين مفهومين ثم الخلط بينهما مثل الاضطرار والطبيعة فكون الأشياء تسير وفقا لطبيعتها لا تعني أن «المؤله» مضطر لمسايرتها، تحويل الموقف الشخصي إلى موقف عام للمذهب، إثبات الفكرة والدفاع عنها، والإبقاء على تعارض وجهات النظر. (ج)
تفنيد مواقف الخصم ابتداء من تحليل شعوره، وإرجاع موضوعية الفكرة إلى ذاتية القائل بها، وإعلان أن هذه الفكرة المنقودة قد تاب عنها صاحبها وأنها لا تمثل مذهبه؛ ومن ثم إدخال بعد التطور الفكري للمتكلم، وضرورة نسبة أقواله إليه طبقا لمراحل تطوره الفكري، دفع النقد بأنه تشنيع وليس نقدا علميا؛ أي تحويل موضوعية النقد إلى ذاتية الناقد، إيقاع الخصم فيما ينقده، وباختصار تحويل عقائد المتكلم إلى سلوك شخصي وبناء للشعور وإدخالها في دائرة البواعث والدوافع والمقاصد والأهداف.
والجدل لا يكون منهجا لعلم يقيني، بل لعلم ظني محض؛ لأنه لا يوصل إلا للظن؛ فالجدل طريق ظني لا يوصل إلى اليقين؛ لذلك وضعه المناطقة مع السفسطة والخطابة والشعر منطقا للظن، وأخرجوه من منطق اليقين، لم يستطع علم الكلام أن يكون علما «منحى عن غياهب الشكوك وظلمات الأوهام»، بل كان كل ما انتهى إليه من قبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، والعلم لا يكون علما إلا إذا كان علما يقينيا موصلا إلى اليقين على الأقل من ناحية المنهج وليس من ناحية النتائج؛ وبهذا المعنى تكون علوم التصوف أكثر استحقاقا لتسميتها بالعلم؛ لأنها - على حد قول الصوفية - تؤدي إلى اليقين وإن كان يقينا ذوقيا يقوم على الكشف الخالص. ومع ذلك، يرى القدماء أن مهمة علم الكلام هو تحويل الإيمان إلى يقين، والاستدلال عليها من الأدلة اليقينية من أجل التصديق، بل إن علم الكلام سمي كذلك لأنه هو «الكلام» دون سائر فنون الكلام؛ لأنه هو الكلام الأقوى والأيقن ودونه الأضعف والأظن!
20
ولا يوجد الظن - عند القدماء - إلا في العمليات أي الفقه، أما النظر فليس فيه إلا اليقين، والحقيقة أن العمل هو الأولى باليقين من النظر، وأن النظر أولى بالظن من العمل؛ فالأطر النظرية لا يمكن الاتفاق عليها بين الناس، في حين أن الاتفاق على برنامج عمل موحد ممكن، والأمثل بطبيعة الحال هو اليقين في النظر وفي العمل على السواء؛ فغياب اليقين من العمل، إن حدث، يكون أيضا نقصا في النظر نفسه لأن النظر اليقيني يؤدي بالضرورة إلى عمل يقيني. يحدث الظن في العمل نتيجة لارتباط العمل بموقف معين في زمان ومكان محددين؛ ومن ثم وجب التفسير والاجتهاد، ووجب التعين والتخصص، وهذا طبيعي، ولا يخرج على اليقين، ولكنه يقين التاريخ والممارسة وليس يقين النظر، وفي النهاية إذا كان الجدل يؤدي إلى الظن ويتأسس السلوك على الظن فإن الجدل يؤدي إلى السلوك الظني ويمحي اليقين في الأخلاق.
21
وإذا كانت الغاية من علم الكلام تأسيس العقائد على يقين، فإنه قد قام بعكس غرضه وأسسها على ظن خالص، بل إن البدعة التي يود علم الكلام نقضها هي التي تتحول إلى يقين بالعجز عن الرد عليها أو بالرد عليها ظنا؛ وبالتالي يؤدي علم الكلام عن طريق الجدل على عكس ما يرمي إليه، يؤدي إلى تحويل عقائده إلى ظن وعقائد الخصم إلى يقين،
22
وإذا كانت الغاية تأسيس الإيمان على يقين، فإن علم الكلام قد انتهى إلى تأسيسه، لا على الظن فقط بل على التقليد أيضا، تقليد أهل السنة والدفاع عن عقائدهم، مع أن التقليد مرفوض في نظرية العلم التي وضعها علم أصول الدين ذاته.
23
وبالإضافة إلى الظن والتقليد، أدى علم الكلام إلى الشك والتردد وإلى التعصب والجزم، وهما طرفا نقيض؛ فالشك والتردد مضيعة لليقين النظري، والتعصب والجزم مضيعة للعقل والبرهان، وكأن البحث عن اليقين قد انتهى إلى مضادات اليقين: الظن، والتقليد، والشك، والتعصب. وإذا كانت الغاية من علم الكلام إعطاء الأسس النظرية للعقائد، فإنه لم يعطنا أساسا نظريا واحدا متفقا عليه حتى يمكن إقامة السلوك عليه، وكيف تكون الأسس اليقينية متضاربة، ومختلفا عليها، وتحتوي على الأساس وضده؟ وكيف يحدث الخطأ في اليقين، ومنها الأساس، والعمل كله قائم عليه، والقائم على الخطأ خطأ.
24
بالرغم من اتفاق القدماء على أن علم الكلام علم بمقاييس عصرهم وطبقا لظروفه وحاجاته، إلا أنه في الحقيقة ليس علما بمقاييس عصرنا ولا طبقا لظروفه وحاجاته؛ فكل عمل للعقل في النص لديهم كان علما، وكل عرض للوحي عرضا نظريا كان علما حتى اتسع نطاق العلم، وشمل كل جهد عقلي في النص، في حين أن العلم لدينا وصف للظواهر، وتحليل للتجارب، وأن النص بالنسبة لنا هو أحد مصادر المعرفة، أما العلم فإنه علم بالواقع بعد عمل العقل والحس فيه، النص هو وسيلة للعلم وليس موضوعا للعلم، إلا في نظرية التفسير.
25
إن العلم لا يكون علما إلا إذا كان له على الأقل موضوع ومنهج، وعلم الكلام على هذا النحو الذي وصفنا لا موضوع ولا منهج له.
سادسا: مرتبته
(1) من حيث الموضوع
يضع القدماء علم الكلام في أعلى الدرجات، فهو أشرف العلوم من حيث الموضوع والمنهج والفائدة والغاية.
1
هو أشرف العلوم من حيث الموضوع؛ لأنه يتناول أشرف الموضوعات، وهو «ذات الله وصفاته وأفعاله».
2
والحقيقة أنه ليس هناك علم «أشرف» من علم آخر؛ فالعلوم كلها على مستوى واحد؛ لأن الموضوعات كلها على مستوى واحد، لا تفاضل بينها في الشرف أو القيمة، علم النبات ليس أشرف من علم الحشرات، وعلم الحيوان ليس أشرف من علم النبات، والعلوم الإنسانية ليست أشرف من العلوم الطبيعية، والعلوم الإلهية ليست أفضل من العلوم الإنسانية، وتعبر ألفاظ «أشرف» و«أفضل» عن أحكام قيمة وليس عن أحكام واقع، كما تعبر عن إسقاط من الإنسان على الواقع وليس عن الواقع ذاته. إن موضوعات الطبيعة لا تتفاوت فيما بينها شرفا وكمالا، بل يقع التفاوت في أعمال الإنسان.
3
وإذا كان لموضوع الذات شرف، فهو أنه أول حقيقة يقينية يبدأ منها الإنسان، وهي ذاته وصفاته وفي مقدمتها الفكر، فهي ذات مفكرة، وأفعالها وأولها التغيير والتطوير، فهي ذات فاعلة؛ أي أن الحقيقة اليقينية الأولى التي يضعها العلم ويبدأ منها هي أن الإنسان نظر وعمل، وأن الذات فكر وسلوك، وشرف الذات ناتج عن كونها خالصة متعالية مفارقة، تشير إلى مستوى لامادي مثل المعيار في المنطق، فالخالص أساس الشائب، والصوري مقياس المادي؛ ومن ثم كان علم أصول الدين علما معياريا، نظريا صوريا خالصا، على أساسه يمكن إقامة علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، يتميز الموضوع إذن بكل خصائص العلم المجرد، مثل الشمول والعلو. موضوع العلم هو الشامل لا المتعين، والعام لا الخاص، والمتعالي لا الطبيعي الذي لا يفارق مادته، شرف الموضوع في أنه المبدأ العام الذي ينتسب إليه الإنسان نظرا وعملا، وهو ذاته التي تصل إلى حد الإطلاق عند تحقيق رسالتها، وحين تمتد وتنتشر وتحتوي العالم داخلها فتتحول إلى مطلق.
ويضع علم الكلام ذات الرسول مع ذات الله، كلاهما موضوعان شريفان، وبالرغم مما في هذا الوضع من نقص في التنزيه للذات الإلهية ومساواتها على نفس درجة الشرف لذات النبي، فإن الذوات الإنسانية لا تتفاضل أيضا فيما بينها، فلا توجد ذات إنسانية أشرف من ذات إنسانية أخرى حتى ولو كانت ذات النبي، الكل بشر، يتمثل نفس الأساس النظري، ويحققه بنفس أنماط السلوك، وليس للنبي وظيفة زائدة على وظائف سائر البشر إلا التبليغ الذي يمكن أن يقوم به أي إنسان، أما صلة النبي كمبلغ بمصدر الرسالة فهو خارج نطاق العلم وأدخل في نظرية النبوة والاتصال في علوم الحكمة.
وإذا نظرنا إلى نتائج العلم التي انتهى إليها في أشرف الموضوعات، وهي الذات الإلهية والذات النبوية، لوجدنا أنها لا تليق بها؛ فقد حدث تأليه للأشخاص عند غلاة الشيعة، كما ظهر تجسيم للذات في عموم الشيعة، كما حدث تشبيه عند أهل السنة، ولم يظهر التنزيه إلا عند المعتزلة، وبالرغم من أن هذا التنزيه أيضا هو تجريد إنساني عال، وإطلاق للصفات الإنسانية إلى أقصى حد، إلا أنهم لم يقدر لآرائهم الاستمرار والبقاء بعد انتصار «الأشعرية» كعقيدة رسمية للدولة، حتى هذا التنزيه الاعتزالي قائم على قدر من التشخيص للذات الإلهية وتصورها على أنها ذات إنسانية لها صفات وأفعال، فما أملنا فيه، ورغبنا في تحقيقه، ولم نستطع جعلناه صفات إيجابية للذات الإلهية، وما تصورنا أنه نقص وعيب فينا نفيناه عن الذات الإلهية، وما عجزنا عن التعبير عنه قسناه على أنفسنا؛
4
ومن ثم انتهى الحديث عن أشرف الموضوعات إلى حديث الإنسان عن نفسه ورجعنا إلى الموضوع الطبيعي.
وبالإضافة إلى هذا الانتقاص من شأن أشرف الموضوعات بتأليه الأشخاص وتأليه الطبيعة، والتجسيم والتشبيه والتشخيص، وهي كلها أخطاء في تصور الألوهية، يتدخل أشرف الموضوعات في الحياة الإنسانية ليقضي على كيانها واستقلالها؛ ففي أفعال الإنسان أدى تصور أشرف الموضوعات إلى القول بالجبر أو بالكسب الذي لا يختلف كثيرا عن الجبر، ووضعت الحرية الإنسانية موضع الشك، كما أدى في تصور العقل إلى إنكار استقلاله وقدرته على فهم الظواهر، وجعله تابعا مبررا لا بادئا وناقدا. أدى أشرف الموضوعات إلى إثبات أولوية النقل؛ كلام الله، على العقل وهو كلام الإنسان وفهمه وإدراكه، كما كان من الضروري جعل أشرف الموضوعات مسئولا عن الخير والشر معا في العالم، وليست مسئولية الأوضاع الاجتماعية وممارسة الأفراد لحرياتهم، وفي الطبيعة كان من الضروري السماح لأشرف الموضوعات بالتدخل بإرادته المشخصة في سير قوانين الطبيعة وإنكار ثبوتها واطرادها مما يفسح المجال للأسطورة والخرافة، وفي عمل الإنسان كان من الطبيعي لأشرف الموضوعات أن يرعى الإنسان برحمته ويرجئ عمله عن إيمانه، وأن يعفو، وأن يغفر، وأن يتوب على الناس معطيا الأولوية للإيمان على العمل؛ ومن ثم خرج الفعل من الإيمان، وتحول الإيمان إلى إيمان العجائز والضعفاء، وترك الفعل الإنساني حتى يفعل الحاكم ما يشاء، وفي السياسة كان من الطبيعي أن يعين أشرف الموضوعات الحاكم، وأن يطالب الناس بالطاعة والولاء الدائم للسلطة القائمة على الحق الإلهي، وليس على الاختيار الإنساني أو العقد الاجتماعي الذي يمكن أن يفسخ إذا ما خرج الحاكم على بنوده وشروطه، وأصبح الحاكم هو المنقذ والمخلص وليس فعل الإنسان وجهده ورقابته على ما يدور حوله وأمامه. صحيح أنه كانت هناك اتجاهات معارضة تنكر التأليه والتشبيه والتشخيص، وتؤول ذلك كله على أنه مجاز، وتثبت حرية الأفعال، وتؤكد أولوية العقل على النقل، وتجعل الإنسان مسئولا عن الخير والشر، والعمل معبرا عن الإيمان، وترى في الطبيعة كمونا وقوانين ثابتة وطبائع الأشياء، وتجعل من مستقبل الإنسان أملا إنسانيا ونزوعا نحو الكمال وليس تشخيصا لعوالم متخيلة تلعب فيها الذات المشخصة الدور الرئيسي، وتصر على الشورى والبيعة كأساس للحكم، ولكن هذه الاتجاهات ما دامت منقوضة باتجاهات أخرى معارضة، فإنها تكون مجرد وجهات نظر لأصحابها إن لم توصف بالخروج على التقليد والإجماع، وإن لم تتهم بالإلحاد والكفر، فأصبح الخطأ بديلا عن الصواب، والباطل اختيارا أمام الحق، وقد يتهرب الجميع عن الحق والصواب، نظرا وعملا، بدعوى أن فيهما «قولان». (2) من حيث المنهج
وإذا كان الشرف من ناحية المنهج؛ فالمناهج كلها على مستوى واحد من الشرف، كل منهج له موضوعه، وكل موضوع له منهجه، ويكون الخطأ في المنهج أساسا باستعمال منهج غير ملائم لموضوعه، فالموضوع التجريبي الحسي يلائمه منهج استقرائي، والموضوع العقلي الصوري يلائمه منهج استنباطي، والموضوع الإنساني الشعوري يلائمه منهج استبطاني يقوم على تحليل الظواهر الشعورية، ولما كانت موضوعات علم الكلام قد عرضها القدماء على أنها موضوعات عقلية، فقد استعمل المنهج العقلي في دراستها وفهمها دون المناهج الاستقرائية أو الشعورية، في حين أن العقائد الإسلامية موجهات للسلوك تفعل في الناس، وتؤثر في مجرى حياتهم؛ ومن ثم لزمت المناهج الاستقرائية الإحصائية لمعرفة هذا الجانب العملي من العقائد، وضرورة إلحاق المناهج الاجتماعية بالمناهج العقلية، كما أن العقائد الإسلامية تجارب إنسانية عامة يمكن التحقق من معانيها عن طريق تحليل وإدراك دلالاتها؛ ومن ثم إلحاق مناهج التحليل الشعوري بالمناهج العقلية النقلية التقليدية، وليس هناك منهج أشرف من منهج، فالمناهج كلها على مستوى الشرف على حد سواء.
ولكن السؤال هو: هل استطاع علم الكلام اعتمادا على المناهج العقلية التي مارسها القدماء الوصول إلى الأسس النظرية للعقائد أي إلى أصول الدين؟ هل كان استعمال العلم للعقل استعمالا برهانيا أم استعمالا جدليا؟ هل استطاع العقل أن يوصلنا إلى اليقين، أم أنه لم يتجاوز حدود الظن؟ هل استعمل العقل استعمالا مستقلا، أم أنه كان قائما على النقل؟ الحقيقة أن علم الكلام لم يعطنا إلا أسسا ظنية للعقائد، بدليل اختلافها وتضاربها، وكلها تدعي اليقين والصواب.
5
صحيح أن علم الكلام حاول العثور على أسس نظرية للعقائد، وتحويل الإيمان إلى تعقل، والنص الديني إلى معنى مستقل قائم بذاته، وتأسيس التوحيد ذاته على العقل وتحويله إلى علم نظري،
6
ولكن ماذا كانت النتيجة؟ تضاربت الأسس العقلية وتشعبت الآراء، حتى إنه ليستحيل معرفة أي أساس نظري هو أساس الدين، وحتى إنه يصعب التعرف على «أصول الدين»، ضاع الحق وسط الآراء، ولم يعد هناك تصور واحد، بل تصورات عديدة، كل منها يدعي أنه أولى بالتمثل والاعتقاد، وكلما وجد الإنسان هواه مع أحدها انتسب إليها، والحق معه ما دام يجد في النص أو في الرأي سندا له، فالذي هواه مع التجسيم ينتسب إلى التجسيم، والذي هواه مع الجبر يكون جبريا ... إلخ. علم الكلام إذن هو تاريخ الأهواء والأغراض والمصالح أكثر منه تاريخا للعقل، ثم ورث الهوى العداوة والبغضاء في النفوس، وضاعت وحدة العقل في تكثر الأهواء، وتلاشت وحدة الوحي في تضارب الرغبات والمصالح.
7
إن العقل بإمكانه تنظير كل شيء، وإن شئنا تبرير كل شيء، هو آلة يمكن استخدامها في كل اتجاه، فيمكن إيجاد براهين على التوحيد كما يمكن إيجاد براهين أخرى على التثليث.
8
العقل في معظم الأحيان تابع للشعور أو محلل لمضمونه، قد تكون هذه طبيعة العقل أو قد يكون هذا هو أسلوب استخدامه، أو قد يرجع ذلك إلى مستوى النضج الحضاري أو البلوغ الفكري، ولكن هذا هو وضع العقل داخل «اللاهوت» أيا كان، فما من دليل عقلي إلا ويمكن نقضه حتى الأدلة على التوحيد.
9
وما من برهان إلا ويمكن الإتيان بنقيضه، ولا يكون العيب في الموضوع مثل التوحيد، بل في أدلة العقل وبراهينه، وتكون نهاية العقل المستخدم لإثبات قضايا الإيمان الوصول إلى ما بدأ منه، وكأن العقل لم يفعل أكثر من تكرار ذاته مرة في البداية ومرة في النهاية، عمل العقل في علم الكلام إذن تحصيل حاصل، ونتائجه نتيجة لاستعمال العقل أيضا تحصيل حاصل، لم يأت بجديد بالنسبة لعقائد الإيمان، ولم يزد شيئا عما حوته النصوص، بل إنه أحيانا قال أقل مما قالته النصوص لأنه قاله معابا، مهلهلا منقوضا عقلا، في حين أن النصوص قد عبرت عنه في اتساق وبشعر وبلغة إنسانية يفهمها كل الناس. قضى علم الكلام على بساطة الوحي ووضوحه، وقدم عوضا عنه تحليلات صعبة عويصة لا يفهمها الجمهور، ولا يقتنع بها العقلاء، وقدم إلى الوحي مسائل لا يستطيع أن يقول فيها شيئا، وهي المسائل العقلية المحضة التي قدمتها البيئة الثقافية القديمة المجاورة مثل الحركة والزمان والجوهر الفرد، والخلاء، والملاء؛ فتحولت قضاياه ومسائله الجوهرية إلى قضايا فرعية لا يمكن الوصول فيها إلى رأي بمقياس شرعي، وكلما ازداد التفريع والتشعيب العقلي ازداد الابتعاد عن الوحي، واستعصى الوصول فيها إلى رأي يقيني، فقد تركها الوحي لحكم العقل الخالص أو لحكم التجربة أو لحكم الإنسان العام، لم يؤد علم الكلام إلا إلى الخلط والتشويش، ومزج الحق بالباطل، والباطل بالحق، وقول الكل ولا شيء في آن واحد، فإذا كان شرف المنهج هو العقل والبرهان واليقين، دفاعا عن العقيدة بالبرهنة عليها، فإنه قد انتهى إلى إضعافها وتجريحها، وكثيرا ما مات علماء الكلام على دين العجائز.
10
ومنهم من انقلب إلى صوفية يؤمنون بالأحوال والمقامات، وبحدود العقل، وبإيمان القلب، وبالعلم اللدني، وهذه هي «نهاية الإقدام».
11 (3) من حيث الأولوية
وإذا كان الشرف من حيث الأولوية والأساس، فإن علم الكلام يضع نفسه في أول العلوم؛ ومن ثم فهو أهمها وأعلاها، وأعمها وأشرفها؛ لأنه العلم النظري الذي يبحث عن أسس العقيدة وقواعد السلوك، ترجع الأهمية هنا إلى أنه علم نظري يبحث في الأمور النظرية، وهو العلم الشامل الذي يضم كل العلوم، والأساس النظري لها جميعا، وهو الذي يحدد لنا تصور العالم، ليس فقط عن طريق معرفة الحق والاطمئنان النظري إليه، بل أيضا من أجل توجيه السلوك، الشرف هنا يعني درجة التجريد في العلم؛ فأول العلوم هو أكثرها تجريدا؛ لأنه يعطي الأساس النظري للسلوك؛ ومن ثم كان علما معياريا بالنسبة لغيره من العلوم النظرية، هو محك للسلوك ولتحقيق الأفعال؛ وبالتالي فهو الأول والأساس؛ فنظرا لهذا الشرف الناتج عن البحث عن الأسس النظرية والمبادئ العامة، كان هو الكلام وما سواه يعتمد عليه، ويكون في تصنيف العلوم أول ما يمكن تعلمه لأنه لا يحتاج إلى أكثر من الكلام، علم الكلام عند القدماء هو أول العلوم؛ لأنه يبحث في الأسس والمبادئ العامة، وهي أوائل العلوم، ومبادئه بينة بذاتها، وغير مستمدة من علم آخر، وإلا لما كان أول العلوم؛ لذلك اتصل علم الكلام عند المتأخرين بمبادئ العلم الطبيعي والعلم الرياضي لأنها أيضا علوم نظرية أولية.
12
والسؤال الآن: هل استطاع علم الكلام بالفعل أن يكون أول العلوم؟ هل استطاع تكوين الأساس النظري للسلوك؟ إن أول العلوم هو علم سابق على علم الكلام، وهو علم المبادئ العامة للوحي
L’Axiomatique de La Révélation
وهو العلم الذي يضع المبادئ العامة في الوحي والتي تحدد الأسس العقلية العامة لكل العلوم.
13
ثم يأتي علم التفسير الذي يضع مناهج تفسير النصوص حتى لا يخضع تفسيرها إلى هوى فردي أو مصلحة شخصية، ثم يأتي علم الإحصاء الاجتماعي الذي يعطي صورة للواقع المراد تنظيره، والذي سيكون مصبا للعقائد، وبعد ذلك يأتي علم التوحيد بعد أن تحددت المبادئ العامة للوحي، وبعد أن اكتملت نظرية التفسير، وبعد أن أدركنا الواقع الذي نعيش فيه، أما إذا قام علم الكلام على أساس من التعصب وليس على التنظير العقلي، وإذا تغلب الهوى على العقل، والانفعال على النظر، والفائدة الشخصية على المصالح العامة، وإذا قصر العلم في التأسيس النظري، ولم يستطع الوصول إلى اليقين فيه واقتصر على الشك والتردد، وإذا انقلب الهدف من العلم وهو تأسيس العقائد إلى إفساد للعقائد والتشويش عليها وضياعها، وإذا تحول البرهان إلى غوامض الكلام وصعوبة المفاهيم وتعذر الوسائل - إذا حدث ذلك كله، فإن علم الكلام لا يكون أشرف العلوم من حيث تأسيسه وتنظيره وأولويته على كل ما عداه. (4) من حيث الغاية
أما إذا كان الشرف من حيث الغاية والفائدة، وهي الحصول على السعادة في الدنيا، ونيل الفوز في الآخرة عن طريق الاشتغال بالمعارف والعلوم والحصول على المعقولات، فإن علم الكلام في الحقيقة من أقل العلوم شرفا لأنه من أخطر العلوم، ومن أقرب السبل إلى التهلكة.
14
فلا توجد سعادة معروفة يبحث عنها الناس بالفعل إلا في هذه الدنيا وليس خارجها، ولا يوجد فوز يبغيه الناس ويسعون إليه إلا في هذا العالم، وليس في عوالم أخرى سابقة على حياته كما هو الحال عند الصوفية، أو لاحقة على مماته كما هو الحال عند المتكلمين. ليست الغاية من العقائد تعويض الإنسان عن مآسيه في العالم، ووعده بسعادة مستقبلية تعويضا عن شقائه الحاضر، بل توجيه السلوك نحو العالم، وتحقيق رسالة الإنسان في هذه الدنيا، وتحقيق غايته على الأرض.
15
تعارضت الأسس في علم الكلام، وتضاربت الآراء، وتعددت الحقائق، وسادت الأهواء، وعمت المصالح، وتوهجت الانفعالات؛ فعلم الكلام ليست له أية فائدة عملية، بل على العكس يؤدي إلى مخاطر جمة وضرر بالغ على الفكر والسلوك، على الفرد والجماعة، على الحاضر والتاريخ، هو مضيعة للوقت، ومذهبة للعمر، لا تنتج عنه أية فائدة، واشتغال بما لا يغني أو يفيد.
16
علم الكلام يبعد الجماعات عن مصالحها الفعلية، ويقدم لها موضوعات وهمية وإشكالات خاطئة تصرف فيه طاقات الجماعة، وتعطيها معركة وهمية تاركة المعركة الحقيقية للسياسة وممارسة الحركة العلمانية أو نضال الفقهاء، علم الكلام لا يزيد عن كونه كلاما في كلام، وكأن الكلام غايته ووسيلته، وربما سمي العلم «علم الكلام» لأنه كلام، بداية وطريقا ونهاية، مقدمة واستدلالا ونتيجة، لا يحقق فوزا لأحد حتى لصاحب المصنفات فإنها تضره أكثر مما تنفعه، ويعصي بها أكثر مما يطيع، ويعاقب عليها أكثر مما يثاب.
17
يمثل علم الكلام خطورة كبرى على الجماعة، فإنه يفرقها أكثر مما يوحدها، ويدعو إلى الاختلاف أكثر مما يدعو إلى الاتفاق، ويقوي من ذلك الفكرة الموجهة من افتراق الجماعة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة! علم الكلام إذن هو تاريخ الفرق الدينية التي نشأت ابتداء من وقائع تاريخية معينة يتركز معظمها في حوادث الفتنة الأولى، ثم انحصرت عناية كل فرقة في إظهار ما تختلف فيه عن غيرها والبرهنة عليه والتعصب له، وعدم التنازل عنه، كما توجهت عناية الباحثين لذلك، قدماء ومحدثين في بيان «اختلاف المصلين» و«الفرق بين الفرق» في حين أن هذه الفرق كلها خرجت من مصدر واحد وهو الوحي؛ أي أنها تجمع بينها نقطة تلاق في المصدر، كما أن هناك نقطة تلاق أخرى في الوقائع التاريخية التي أصبحت حالات جديدة تستدعي حكما مثل صاحب الكبيرة، وما دامت الفرق قد انغلقت على نفسها، ودافعت عن وجودها مع فكرها ما دامت مهددة في وجودها وفكرها معا، فإن النضال بينها قد تحول إلى نضال مسلح، كل فرقة تهدد الأخرى بالاستئصال، وأصبح الدفاع عن الفرقة هو دفاع عن البقاء، وقد وصل التنازع إلى حد سفك الدماء وقتل المعارضين. وهو ما استمر حتى جيلنا هذا من اعتقال للمعارضة السياسية بل وتصفيتها جسديا، وتجاوز أدبيات الحوار للتقريب بين وجهات النظر وللجمع بين الآراء مع الحد الأدنى من الاتفاق دون قهر الأغلبية للأقلية، ودون قمع من فرقة السلطة لفرق المعارضة، خاصة وأنها مسائل نظرية صرفة لا تنتج منها شرائع عملية مباشرة، والجماعة حرة في التأويل النظري، وملزمة بدليل العمل الجماعي بصرف النظر عن اختلاف الأطر النظرية عند مختلف الفرق. لقد أدى علم الكلام إلى التشتت والتفرق، وإلى اضطهاد الفرق بعضها للبعض، وتكفير بعضها للبعض، واستعداء كل منها السلطة على الأخرى حتى تفوز هي بفرقة السلطان، فيعم الاضطهاد، وتنتشر الرقابة، ويسود الإرهاب، وتتطاير الرقاب! واستعمال السلطة لقهر الناس على الاعتقاد، ولإجبارهم على الإيمان مضاد لمقصد الوحي الذي أتى معبرا عن الطبيعة، ومعلنا استقلال العقل؛ فاستعمال القوة لإجبار الناس مقابلة تعصب بتعصب، وجهل بجهل، وعناد بعناد، والفكر لا يسايره إلا فكر مثله؛ الفكر هو القادر على التغيير، والعناد لا يطول إذ ينتهي بالعزلة، ولا يقابل إلا بالتسامح، وبالرغم من هذا التشعب والتداخل العقائدي والثراء النظري، فإن السلطة كثيرا ما كانت تتدخل لنصرة فريق على فريق، فيحدث الاضطهاد عندما تتدخل السلطة في المعارك الفكرية.
18
علم الكلام إذن من حيث المرتبة ليس بأشرف العلوم، لا من حيث الموضوع ولا من حيث المنهج، ولا من حيث الأولوية، ولا من حيث الفائدة، بل إنه أخطر العلوم العقلية النقلية القديمة من حيث تشويه الوحي والتعمية عن واقع المسلمين.
سابعا: وجوبه
(1) العامة والخاصة
يكاد يجمع القدماء على قسمة الناس إلى عامة وخاصة، يستوي في ذلك المتكلمون والفلاسفة والصوفية والفقهاء؛ فالعامة غير قادرة على الاشتغال بالأمور النظرية، ولا يجوز إدخال الشك إلى عقائدها بالبحث والنظر، أو الاستدلال على صحتها بالبرهان كما يقول علماء الكلام، كما أنها غير قادرة على إدراك المعقولات الخالصة والأمور المجردة؛ لأنها تحتاج إلى حس ومشاهدة، وغير قادرة على التأمل العقلي، فدورها في العبادة، وإقامة الشعائر كما يقول الفلاسفة، والعامة أيضا غير قادرة على إدراك الحقائق القلبية والعلوم الكشفية، يكفيها مسطحات الأمور في العقائد والفقه كما يقول الأصوليون، وهي أيضا عاجزة عن أن تفتي أو تجتهد، يكفيها سؤال المفتي أو المجتهد وتقليده كما يقول الفقهاء، فالعامة عند الجميع خارجة عن نطاق العلوم كلها أيا كانت موضوعاتها ومناهجها، يكفيها الإيمان والتصديق والاعتقاد، يكفيها الإذعان والانقياد والتقليد دون تشويش عليهم بالعلوم العقلية والأمور النظرية.
1
وقسمة الناس إلى عامة وخاصة قسمة ضيزى، تقوم على الإقرار بالجهل الاجتماعي والتسليم به دون تغييره والقضاء عليه، فالعامة تحتاج إلى تثقيف وتنوير دون أن تنهر عن العلم أو عن التفكير، وتلك هي مسئولية الخاصة؛ فالخاصة هم طليعة العامة، ولا تكون طبقة مستقلة عنها، متعالية عليها وأعلى منها، لكل منها علم أو حقيقة، بل لكليهما نفس العلم، إن لم يكن بصياغته فعلى الأقل بمحتواه. إن وجود طبقتين في المجتمع، طبقة جاهلة، وهي الأغلبية، وطبقة متعالمة وهي الأقلية؛ لتؤدي بالضرورة إلى سيطرة الأقلية على الأغلبية. إن ترك العوام على ما هم عليه، وتحريم الفكر والنظر عليهم ضد التنوير، وتثبيت للأمر الواقع، ورفض لتغييره، وإيمان على علم خير من إيمان على جهل، العامة ليست طبقة ثابتة ومعطى كائن بذاته، بل توجد العامة لنقص في التعليم، وتتلاشى بالتنوير، يمكن القضاء عليها بتثقيفها ومحو أميتها، ونقلها من الاعتقاد الأعمى إلى الإيمان المستنير. قسمة العامة والخاصة ليست قسمة مانعة جامعة، عازلة مغلقة، بل هي قسمة مفتوحة متحركة، تسمح بالانتقال منها وإليها، فكثيرا ما تفرز العامة قادتها، وكثيرا ما ينبغ من العامة مفكروها وعلماؤها وقوادها، وكثيرا ما يخرج من الخاصة جهالها، ليست كل قسمة دائرة مغلقة على نفسها تحتوي على أفرادها بالطبيعة والضرورة، وكيف يطلب من العامة السلبية التامة وقبول ما يعطى لهم وعدم تجاوزها، والإيمان بالتقديس، والتصديق، والاعتراف بالعجز، والسكوت عن السؤال، والإمساك عن التصرف، والكف عن التفكير، والتسليم لأهل المعرفة؟ إن مأساتنا مع جماهيرنا الحالية هو إيمانها بالمقدسات التي وصلت إلى حد المحرمات
Tabous
التي لا يمكن تناولها أو التفكير فيها أو التعرض لها بالبحث والتحليل، وعلى رأسها مقدسات ثلاث: الله، والسلطة، والجنس.
2
ولن تتقدم الجماهير إلا بتناول هذه الأمور وعرضها عرضا عقليا خالصا، وتحليلها تحليلا علميا صرفا حتى تخرج من دائرة الشعور إلى دائرة ما فوق الشعور، وحتى لا تعمل كدوافع باطنية في الخفاء، وتكون علنا ظاهرا على مستوى الفكر والافتراض العلمي، وإلا نشأت الحركات الدينية والسياسية السرية وعم المجتمع مظاهر الانحلال والفساد في الخفاء، وإن من مآسينا المعاصرة أيضا التصديق بما يقال دون طلب للدليل أو البرهان في حين أن ما لا دليل عليه يجب نفيه كما قال الأصوليون القدماء، وأن البرهان هو أساس اليقين، التصديق بلا برهان عجز، وإنكار للعقل، وإهدار للنظر، وكيف نعترف بالعجز عن الإدراك والتوصل إلى الحقائق العلمية، في حين أن قيمة الإنسان مرهونة بثقته بالعقل وبقدرته على الاكتشاف؟ إن التسليم بالعجز لفيه نهاية للإنسان من حيث هو قدرة على البحث والتحصيل، وإعلان للهزيمة في معركة لم تبدأ بعد، وانسحاب من الأرض والعدو لم يحتلها بعد! أما السكوت عن السؤال فهو ضد التفلسف، وضد التفكير، وضد تحديد المسئولية، التساؤل هو الكشف، ويحتوي على نصف الجواب إن لم يكن الجواب كله ، أما الإمساك عن التصريف فهي عبودية للحرف، وخضوع للنص، وهدم للعقل أساس النقل، وإنكار للمعنى الذي هو المقصود من اللفظ، وإلا فكيف يمكن الوصول إلى المعاني العامة، والنظريات الشاملة دون جمع للألفاظ تحت موضوع واحد؟ وكيف يمكن فهم الوحي طبقا لروح العصر دون تفسير أو تأويل؟ أما الكف عن التفكير فهو أيضا قهر للذات بلا مبرر، وطلب المستحيل بالنسبة إلى الإنسان، فالإنسان هو هذه القدرة الباطنة على الطرح والتساؤل، وعلى التعالي على المستوى المادي، وتجاوز الأمر الواقع، التفكر الباطني هو أساس الكشف، وهو عالم النظر والافتراض، وأخيرا يأتي التسليم لأهل المعرفة إذ يجعل الإنسان مقلدا لغيره، والتقليد ليس مصدرا للعلم أو للمعرفة.
3
إن أوصاف العامة من جهل وتعصب وتقليد ليست أوصاف الجماهير الواعية التي تقوم بنفسها بالتوجيه والإصدار، بل إنها أحيانا تكون أكثر وعيا من الخاصة؛ وذلك لأنها ما زالت على الطبيعة، تعبر عن واقعها بصدق من خلال أمثلتها الشعبية وأغانيها التلقائية، وأساطيرها المتوارثة، وسير أبطالها في مقابل انعزالية الخاصة، واهتمامهم بمصالحهم الشخصية، وغربتهم عن الجماهير وتراثها، وميلهم إلى تراث آخر يجدون فيه العلم والمعرفة، ودورانهم حول الواقع والالتفاف حوله، والوقوع في التبرير والتنظير لصالح السلطان، إن العامة ذكية بطبعها بحسها الشعبي وإن بدت للخاصة جاهلة، ومستنيرة وإن بدت للغير عمياء، تفهم وتقدر، وتعرف من يتكلم باسمها ومن يتعايش عليها، ولكن ينقصها التنظيم والتحزيب والتجنيد من أجل المراجعة على القادة وفرض مصالحها عليهم.
4
لا يقتصر العقل على الخاصة وحدهم دون العامة، فالعقل هو النور الفطري الذي يوجد في كل إنسان، كل إنسان عاقل من حيث هو إنسان، تظهر البداهة عند العامي بحسه الشعبي المرهف، ومعرفته بالواجب، بل كثيرا ما يتعلم الخاصة من العامة، ويتثقفون من تراثها، وكثيرا ما تعلم العامة الخاصة وتعطيهم نموذجا للفكر والسلوك والجرأة على الحق والالتحام بالواقع. ليست العامة جاهلة بطبعها، وليست الخاصة عالمة بطبعها؛ فالحس البديهي موجود عند كل إنسان، وهو القاسم المشترك بين الناس، وأحيانا تكون الخاصة جاهلة، والعامة عالمة، فمن جهل الخاصة تصورهم أن هناك ثقافتين وحقيقتين الأولى لهم والثانية لغيرهم، من جهلها هذه القسمة للناس إلى أذكياء وأغبياء ، حكام ومحكومين، قادة وجماهير، ثم تنصيب أنفسهم من الفريق الأول وغيرهم من الفريق الثاني؛ فهم الأذكياء والحكام والقادة، والعامة هم الأغبياء والمحكومون والجماهير، تنصب الخاصة نفسها كقيادة للعامة فتخطط لنفسها وتعمل لحياتها، وتتصور العالم حسب تكوينها النفسي والاجتماعي وتنسى العامة ومصالحها وإدراكها، وتصوراتها للعالم، وبواعثها على السلوك، وهو ما يسمى في عصرنا الحالي بأزمة المثقفين. ليست الخاصة هي الوحيدة العالمة والتي تهتم بالثقافة دون العامة بل هي طليعة الجماهير والمسئولة عن تثقيفها، لا توجد حقيقتان؛ الأولى للعامة الدهماء والثانية للخاصة العلماء، هناك حقيقة واحدة ينتمي إليها الجميع، ويعبرون عنها في ثقافة واحدة، وبفكرة واحدة، وبتصور واحد، ومن ازداد وعيا قام بتوعية غيره.
ولا يوجد فريق من الناس كافر بطبعه، يحيد عن الحق كسلوك دائم لأن العقل ليس هبة فيهم، ويكون جزاؤه السوط أو السيف! إن نور العقل قاسم مشترك بين الناس جميعا، وإن تغليب الهوى أو المصلحة على نور العقل أو جحد الحق دون التسليم به كل ذلك يحدث في مواقف محددة، وظروف اجتماعية خاصة، وليس جبلة في الإنسان. الإنسان بطبعه ميال إلى الحق، فإن لم تتغلب الفطرة عليه سادته الظروف، وأصبح خاضعا للموقف، وإننا لنعاني في عصرنا الحاضر من استعمال السيف ضد المفكرين، خاصة لو كانوا ممن غلب لديهم نور العقل على ظروفهم الاجتماعية، وآثروا العقل على الطغيان، ومن يحكم أو يقرر أن هذا الفريق أو ذاك كافر بطبعه لم يهبه الله نور العقل؟ الحاكم أم المحكوم؟ السلطة أم المعارضة؟ من بيده السلطة اليوم أو من سيحصل عليها في الغد؟ إنه في الغالب إما السلطة السياسية أو السلطة الدينية أو كلاهما معا نظرا لتواطئهما المتواتر، ومصالحهما المشتركة.
5
إنه لا يحق لحاكم أو لمحكوم، لرئيس أو لمرءوس أن يحكم على أحد أو على فريق بأنه كافر مبتدع، وإلا عدنا إلى تكفير الفرق بعضها للبعض، الكل مجتهد، والمحك هو البرهان، لا يمكن قهر الناس بالسيف باسم العناد أو الكفر أو الضلال، ولكن يترك الناس حتى تأتيهم البينة ويلتزمون بالجماعة طوعا.
6
والشك ليس جريمة، والتساؤل ليس كفرا يدان صاحبه، ويجرح أمام الملأ، لأن التقليد والإيمان بالسماع لا يقوم على أساس، فإذا كان هناك فريق من الناس يشك ويتساءل ويريد أن يقيم عقائده على أساس من البرهان، فهم ليسوا مرضى يجب علاجهم بدواء التسليم والإيمان أو بآية أو حديث، الشك عند بعض المعتزلة أول الواجبات على المسلم قبل النظر.
7
كما يساعد طلب البرهان القلب على الاطمئنان لليقين كما حدث لإبراهيم الخليل.
8
التصديق جزء من الإيمان، ولا إيمان بلا تصديق. ليست العقائد الإسلامية معتقدات تعبر عن أفعال إرادة، بل هي مبادئ نظرية قائمة على أسس عقلية، العقائد مجموعة من الأسس النظرية التي تقوم عليها كل العلوم، ومجموع المبادئ العامة التي يقوم عليها تصور العالم؛ فهي تعتمد على البرهان لا على القرار الإرادي؛ أي أنه فعل عقل لا فعل إرادة، ويتطلب التصديق لا الإيمان، وهناك تكون العقائد الإسلامية والعقائد المسيحية واليهودية في جانب آخر، فالعقائد الأخيرة قرار إرادي مثل ألوهية المسيح (الكنيسة) أو الشعب المختار (المعبد). في حين أن العقائد الإسلامية لا أسرار فيها كما هو الحال في المسيحية ولا تعسف فيها كما هو الحال في اليهودية، إن وسيلة التخاطب مع المعتقدين بالتقليد والسماع مع ذكاء الفطرة ليس إبعاد الشك عن النفوس وإعادتهم إلى حظيرة التقليد بل تقوية الشكوك حتى يظهر البديل وهو العقل أو العلم، أليس الشك أساس اليقين؟
9
أما المرتابون في عقائدهم فلا تعطى لهم عقائد جديدة، بل يقوون في ارتيابهم، ويعملون عقولهم كما يشاءون، ويصلون إلى الحق بمحض بحثهم الحر دون أن تستعمل معهم مناهج التبشير والاستمالة، وقد نشأ ارتيابهم في المقولات الدينية، وهو ارتياب طبيعي في صور مضمرة، يكشف عن رغبة في التعقيل وبحث عن البداهة، المنهج القويم أفضل بكثير من النتيجة الجاهزة التي يتلقنها الإنسان دون بحث أو تحصيل.
10 (2) أقسام الواجبات
وقد تقسم الواجبات على أنواع ثلاثة من الناس: العامة، والخاصة، والسلطان؛ فإذا كانت مهمة العامة في التصديق والإيمان من ناحية العمل والتحقيق، فإن مهمة الخاصة المثقفة التفقه في الدين وفي الأحكام وفي القدرة على الاستدلال والاستنباط في المسائل الجديدة التي طرأت على حياة الجماعة، والحقيقة أن العامة أيضا تكون قادرة على الاستدلال عن طريق الاتصال المباشر بالواقع، وطرق الاستدلال الحر والصور المختلفة للمصالح المرسلة، الفلاحون أدرى بقضايا الأرض من فقيه الأرض، والعمال أدرى بشئون مصانعهم من مفكر المصنع، والطلاب أدرى بشئون المعاهد والجامعات من الإداريين والقائمين على إصلاح الجامعة، وكثيرا ما لا تهدف الخاصة في استدلالها إلى رعاية مصالح العامة، فتصدر قراراتها للحفاظ على مكاسبها الخاصة مضحية بمصلحة المجموع، أما واجب السلطان فهو تنفيذي خالص، يعهد إليه بتنفيذ القانون، ولا يشرع حكما، هو المنفذ لأحكام الخاصة والعامة على السواء، وكثيرا ما كانت السلطة مع الخاصة ضد العامة، يشتري السلطان ذمم العلماء وضمائرهم، ويبيع الخاصة للسلطان فتاويهم وأحكامهم، وينثرون تحت أقدامه تبريراتهم للأوضاع القائمة ولأحكامه الخاطئة، باستطاعة العامة المشاركة في السلطة التنفيذية بالاشتراك في المحاكم الشعبية، وأن تدلي برأيها في التعيين والعزل من خلال المجالس الشعبية، فالشعب هو الحاكم والمحكوم، والأمة هي الراعي والرعية.
11 (3) الكفاية والعين
السؤال الآن الذي طرحه القدماء: هل علم الكلام فرض عين أم فرض كفاية؟ فجواب المعاصرين أنه إذا كان علم الكلام هو هذا الذي وصفناه، والذي لا موضوع له ولا منهج، ولا فائدة منه فإنه لا هو فرض عين ولا فرض كفاية؛ لهذا السبب حرمه الفقهاء، أما إذا كان القصد منه «لاهوت الأرض» و«لاهوت الثورة» و«لاهوت التنمية» و«لاهوت التقدم» و«لاهوت التحرر» و«لاهوت الوحدة الوطنية»؛ أي العلم الذي يتناول مصالح المسلمين بالتحليل والذي يجند المسلمين للدفاع عن مصالحهم فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أما عند القدماء فقد تفاوتت الآراء في علم الكلام بين التحريم التام فهو بدعة وبين الوجوب ندبا أو إباحة.
12
أفتى القدماء بالتحريم لأنه بدعة لم تظهر إلا متأخرا، ولم يشتغل الجيل الأول بهذا العلم ولا عرفوه بل أفتوا بتحريمه بقدر ما ظهر منه لديهم.
13
وعدم انشغال الجيل الأول بمباحث علم الكلام لا يعني أنهم كانوا من العوام، بل يعني أن التوحيد كان في هذه الفترة من التاريخ توحيدا عمليا لا توحيدا نظريا، وعملية توحيد لا نظرية توحيد.
14
وعندما نشأ علم الكلام اعتبره قدماء الفقهاء مضادا للدين واعتبروا المتكلمين وقد خرجوا على الدين ومن ثم لا دين لهم، لا تجوز الصلاة خلفهم، ولا تجوز شهادتهم بل ويجب عقابهم بالضرب والجر في الطرقات!
15
لم يشتغل الجيل الأول إلا بالفقه وأصول الفقه؛ لأن الفقه هو العلم العملي الذي يظهر فيه التوحيد العملي والذي يرعى مصالح الناس؛ فقد كانت الحاجة إلى التشريع أمس من الحاجة إلى النظريات إلا إذا كانت أسس التشريع؛ فالحاجة إلى «تفقيه» الأرض والثروات والنظم الاجتماعية والسياسية ألح من الحاجة إلى البحث عن الأصل والنشأة أو المآل والمعاد، إلا إذا كان في مثل هذا البحث تعميق وجداني للتشريع، ويرتبط بالفقه علوم القرآن والحديث لأنهما مصدرا الفقه وأدلة الأحكام.
16
لم يكن المتكلمون في أول الأمر متكلمين، بل كانوا علماء لغة أو حديث أو زهادا ثم غلبت عليهم صناعة الكلام؛ علم الكلام إذن علم طارئ سببته الظروف والأحداث، وليس له أصل في الوحي.
17
إن علم الكلام لم يؤد في النهاية إلا إلى التعصب والجهل، وإفساد العقائد البسيطة، والدخول في متاهات الفلسفة، لم يؤد علم الكلام إلا إلى إعمال الهوى في النص، وإلى تغيير العقائد والخروج على الشرع. إن الجهل بعلم الكلام علم، والعلم به جهل؛ لأن الجهل به رجوع إلى البديهة وعود إلى مقاصد الوحي، الإنسان والطبيعة، العلم به انحراف عن الإنسان، وقلب لمقاصد الوحي أو ترك للعالم، واستبدال الوقائع بموضوعات جدلية من وضع العقل الجدلي، لم يؤد الكلام إلا لغير غرضه، فإذا كان غرضه الدفاع عن العقيدة وتثبيت الإيمان، فإنه قد أدى إلى إضعاف العقيدة وإلى جعلها أكثر تعرضا للنقد والتجريح، كما أدى إلى ضياع الإيمان كلية بما يروجه العلم من آراء ومذاهب لا ترضي العقل ولا تصلح من الأمور شيئا.
18
ولم يحرمه الفقهاء وحدهم بل تناوله بالنقد والتجريح الحكماء والصوفية؛ فهو علم لا يفيد الذكي، ولا ينتفع به البليد، صعب على العامة لا يمكنهم فهمه ولا ينفع الخاصة الذين فهموه، هو علم بلا جمهور إلا من الخاصة المتحذلقين نظرا، العاجزين عملا، أو من العامة المتشبهين بالخاصة في الحذلقة والادعاء أو في القدرة الوهمية. لا يوجد شيء في هذا العالم إلا ويمكن للعقل أن يرفضه، ويرد عليه، ويفنده؛ فلا هو برهن على صدق الإيمان ولا هو ترك الإيمان بالتسليم خاصة إذا كان من علم الكلام الأشعري.
19
رفضه الحكماء لأنه تفكير نظري بدائي على الدين، ما زال يستعمل لغة الدين الخاصة، وليست لغة الفكر العامة، وما زال يعتمد على الحجج النقلية وليس على الحجج العقلية، ما زال الله فيه ذاتا مشخصة أو مجردة وليس كونا أو عالما، ما زال «ثيولوجيا»، ولم يتحول بعد إلى «أنثروبولوجيا».
20
وقد نقده الصوفية من حيث منهجه الذي يعتمد على الجدل وليس على الرياضة والمجاهدة، ويعتمد على العقل كالفلسفة والأصول وليس على القلب، يستعمل مناهج النظر وليس طريق الذوق، كما نقد الصوفية موضوعه في أنه يتناول كلام الله وليس ذات الله، ويجعل الله تصورا وليس وجودا، منزها وليس مدرك محسوسا، ويقع في النهاية في ثنائية الإنسان والله أو العالم والله دون أن يصل إلى توحيد شامل في أحد صورتي «وحدة الشهود» أم «وحدة الوجود».
21
فليس هناك علم أجمع العلماء على تحريمه أو نقده أو رفضه أكثر من علم الكلام؛ فقد رفض الفقهاء والفلاسفة والصوفية جميعا الاشتغال به لتناوله موضوعات خاطئة، كانت بدعة وفتنة وكفرا، وأفضل رد عليها هو «التوقف عن الحكم»؛ أي إلغاء المشكلة من أساسها، والعودة إلى النص الخام دون التفريع أو التنويع عليه.
22
وإذا كان الموقف هو التحريم التام لعلم الكلام باسم الشرع فلا يمكن صياغة عقائد لأهل السنة لأن كل صياغة تعني إعمال الفكر أو تفسير النصوص، وهي كلها اجتهادات ظنية في حين نجد بعض الفقهاء وقد حرم علم الكلام ثم صنف فيه دفاعا عن عقائد أهل السنة!
ويفضل بعض القدماء جعل علم الكلام فرض كفاية لا فرض عين، يجوز أن يشتغل به الخواص فقط دون العوام، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وهذا البعض هم أهل العلم والفتيا، المتفقهون في الدين، الذين يقومون بمهمة الدفاع عن العقائد ضد تشويش أهل البدعة لها، ولكن يظل العلم محجورا على العوام، يقوم به الخاصة قدر الحاجة وتحقيق المطلب، وكل زيادة على ذلك تعتبر من فضول الكلام،
23
ولكن إذا كان علم الكلام ليس هو العلم التقليدي، بل هو العلم الذي يمد المسلمين بأيديولوجية العصر، يأخذ مصالحهم في الاعتبار، يدافع عن أراضيهم وثرواتهم، يجندهم في حزب، يكون إذن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، ويكون واجب كل فرد هو الفهم البسيط للأمور النظرية حتى يكون على وعي بالعمل، ولا يكون مجرد آلة للطاعة والتنفيذ، علم أصول الدين فرض عين، لا بمعنى علم الكلام القديم،
24
ولكن بمعنى تأصيل النظر، وتأسيس القواعد التي يمكن بواسطتها إعادة فهم الإسلام كنظام للحياة الفردية والجماعية، حاجة العصر فكرية واجتماعية وسياسية، وعصرنا هو عصر الأيديولوجيات والمذاهب السياسية، وظيفة علم أصول الدين تأسيس الأيديولوجية الإسلامية، وبيان وسائل تحقيقها بالفعل؛ وبالتالي تمحي التفرقة التقليدية بين علم أصول الدين وعلم الفقه أو بين علم الأصول وعلم الفروع أو بين علوم اليقين وعلوم الظن أو بين علوم النظر وعلوم العمل أو بين علم التوحيد وعلم التشريع. إذا كان التوحيد تشريعا للواقع، فالواقع توحيد للتشريع، التشريع توحيد للواقع. إذا كان الخطر القديم قد أتى من النظر في الحضارات المجاورة خطر التشويش على العقائد الجديدة، والطعن في الأنبياء وصدقهم، وإنكار المعاد والحشر، فإن الخطر الآن على ثروات المسلمين واستقلالهم وأراضيهم وشعوبهم؛ ومن ثم لزم تغيير مضمون العلم طبقا لنوعية الخطر واتجاهه، والانتقال من «علم اللاهوت» إلى «لاهوت الأرض»، ومن «لاهوت النبوة» إلى «لاهوت التحرر» ومن «لاهوت المعاد» إلى «لاهوت التنمية» أو «لاهوت التقدم» أو باختصار «من العقيدة إلى الثورة»، والعلم قادر على تطوير نفسه بنفسه طبقا لنوعية الخطر واختلافه من المتقدمين إلى المتأخرين.
25
إذا كان علم الكلام قد وضع موضع الاتهام من العلوم التقليدية الأخرى، ووقع الهجوم عليه من علوم الفقه والفلسفة والتصوف، فإنه لم يهاجم أي علم ولم يوضع أي علم تقليدي آخر موضع الاتهام إلا في أقل الحدود؛ ربما لأن علم الكلام كان أولها في الظهور والتكوين، فلم يتم التعرف على العلوم الأخرى إلا في وقت متأخر؛ وفي هذا الوقت انشغل علم الكلام بحروبه الداخلية وبصراع الفرق وهجومها المتبادل أو بالرد على الملل والنحل الخارجية التي غزت الحضارة وانتشرت، وأصبحت تمثل خطرا على الفكر الجديد الناشئ؛ ربما لأنه لم يكن هناك علم كلام واحد يتحدث باسم التوحيد ضد الأنماط الفكرية الأخرى، فقد اقتربت المعتزلة من الفلاسفة، واقترب الشيعة من الصوفية، واقترب الأشاعرة من الفقهاء وأهل السنة، فوجدت كل فرقة حليفا في أحد العلوم ضد الفرق الأخرى، ومع ذلك نجد إشارات بسيطة في الهجوم على بعض النظريات الفلسفية وعلى رأسها قدم العالم أو قدم المادة أو وصف الفلاسفة لعالم الأفلاك أو لإثباتهم وجود التصورات في الخارج، كما نجد أيضا نقدا للتصوف في نظرياتهم عن الحلول والاتحاد.
26
ومع ذلك يظل علم الكلام في قفص الاتهام، ويظل السؤال قائما: هل علم الكلام علم؟ وبأي معنى؟ وتحت أي شروط؟
الفصل الثاني: بناء العلم
أولا: مقدمة
يمكن تصنيف مقدمات المؤلفات الكلامية كلها إلى نوعين: الأولى: مقدمات تاريخية مهمتها تقديم علم الكلام على أنه تاريخ عقائد أو تاريخ فرق أو تاريخ سياسي خالص، وهي مقدمات المصنفات المبكرة، والثانية: تقدم علم الكلام على أنه نظرية في العلم أو نظرية في الوجود، وهي مقدمات المصنفات المتأخرة؛ وبالتالي فالمصنفات الكلامية إما مصنفات في تاريخ العقائد والفرق، أو مصنفات في موضوع العلم ذاته بصرف النظر عن تاريخه.
1
وبتعبير معاصر نقول: الشعور إما تطوري أو بنائي. الشعور التطوري هو الشعور التاريخي حيث يظهر فيه العلم مرحلة مرحلة، إما كموضوع أو كجانب موضوع أو كأصل أو كمجموعة أصول، وهو ما سماه القدماء تاريخ الفرق، وهو الشعور الذي يسقطه المنهج التاريخي من حسابه عندما يصف المادة الكلامية على أنها تاريخ فرق محضة لا دخل للشعور فيها، في حين أن توالد الفرق بعضها من بعض يوحي بأن هناك جامعا بينها، هو الشعور التاريخي، أما الشعور البنائي فهو الشعور الذي يظهر فيه العلم كبناء متكامل بصرف النظر عن توالي العصور والأزمنة وأسماء الفرق وتوالدها وتتابعها، ويكون الشعور في هذه الحالة حاملا لأنماط مثالية توجد في كل حضارة، ويعود ظهورها في كل زمان ومكان، وبلغة ثقافتنا المعاصرة في التقائها مع الثقافات المجاورة يشار عادة فيها إلى الشعور التطوري بأنه تتابعي
Diachronique
وإلى الشعور البنائي بأنه تزامني
Synchronique
ولكن كمنهجين لدراسة الظواهر الإنسانية دون إدخال الشعور الحي في الحساب واستبدال بناء منطقي للذهن الإنساني به.
وتبعا لذلك يمكن عرض علم الكلام بطريقتين: الأولى: تتبع نشأته التاريخية وتطوره وتوالد الفرق بعضها عن بعض، سواء بالتبعية أو بالتضاد أو بالتفريع أو بالتطوير. والثانية: دراسة الموضوعات الكلامية وعرض الفرق من خلالها، وتكون دراسة فلسفية خالصة فيها تجتمع المقالات حول موضوعات أساسية.
2
وقد يؤلف عالم الكلام بإحدى الطريقتين أو يتبع الطريقتين معا إما في مصنف واحد أو في مصنفين مستقلين، ولكن بناء العلم هو الذي ساد على تطوره حتى انتهى إلى تقنينه في كتب العقائد المتأخرة، وانزوى تطور العلم ودخل في نطاق التاريخ في حين أنه يمكن الكشف عن تكوين البناء داخل تطور العلم، وأن التطور ما هو إلا بناء في دور التكوين.
3
وكما أنه في تاريخ العلم يظهر البناء فإنه في بناء العلم يظهر التاريخ كأحد الموضوعات؛ أي أن تطور الشعور يصبح أحد أبنيته، وأن التاريخ أصبح فكرة أو مثالا أو نمطا تتحد جوانبه في التاريخ؛ فالتاريخ انفصام في وحدة الفكر، ولكنه يعود إلى وحدته الأولى كجزء من بنائه.
4
ولم تدون المصنفات الكلامية التي تحتوي على بناء العلم بطريقة واحدة أو بأسلوب واحد أو من خلال مذهب واحد، بل تتراوح بين عدة فرق، وعدة أساليب، وعدة مذاهب على النحو الآتي: (1)
مصنفات تحتوي على بناء العلم من وجهة نظر أشعرية، وهي التي حددت بناء العلم، وهي الأكثرية حتى ليقال إن بناء العلم بناء أشعري.
5 (2)
مصنفات تحتوي على بناء العلم من وجهة نظر اعتزالية، وهي تشارك في نفس بناء العلم مع المصنفات الأشعرية مع التركيز على بعض الجوانب مثل العدل، وهي الأقلية، لم يحفظها التاريخ نظرا لسيادة الأشعرية حتى أصبحت المذهب الرسمي للدولة.
6 (3)
مصنفات عقائدية من وجهة نظر سنية سواء في بداية العلم أم في نهايته. وفي النهاية هي الأكثرية عندما ضمر العلم وأصبح علما للعقائد، وهو حال العلم الآن.
7 (4)
مصنفات تحتوي على مادة العلم دون بنائه، وهي كالعقائد إلا أنها معروضة عرضا عقليا وكأنها مسائل أصولية.
8 (5)
مصنفات على أصول مذهبية، وغالبها اعتزالية لما كان المعتزلة هم الذين صاغوا فكرهم في أصول خمس.
9 (6)
مصنفات على موضوعات، وغالبها أشعري نظرا لأهمية موضوعات معينة مثل التنزيه والتشبيه أو الأسماء والصفات أو خلق القرآن أو خلق الأفعال أو الإمامة.
10 (7)
مصنفات جدلية خصمية دون بناء، يغلب عليها الموضوعات المتفرقة، من جميع المذاهب، ومعظمها لم يصل إلينا.
11 (8)
مصنفات إصلاحية إما تعود إلى مصدر العقائد في النصوص وإلى الواقع المباشر لتوجيه النصوص إليها وإما تعيد بناء العلم بحيث يمكن أن يؤدي إلى الغاية المرجوة وهو الإصلاح؛ وذلك عن طريق وصف العلم، وبيان مصادر التشتت أو العودة إلى التاريخ، وتتبع مساره كتقدم حتى ينتهي إلى استقلال الشعور فكرا وإرادة.
12 (9)
مصنفات حضارية تضع علم الكلام مع العلوم الأخرى في وصف شامل للحضارة، تطورها وبنائها.
13
ولم تتحدث المصنفات القديمة التي تضمنت بناء العلم عن تطور هذا البناء، وكأنه من لا شيء، وانتهى إلى لا شيء، أو أتى من ذهن العالم وتقسيمه العفوي للكتاب.
14
كان كل عالم قديم يبدأ من فراغ، فأتت المصنفات متجاورة في الزمان لا رابط بينها، في حين أنه يمكن رؤية تطور هذا البناء منذ بدايته واكتماله حتى نهايته؛ إذ لم يكتمل بناء العلم في هذه المصنفات مرة واحدة بل تطور البناء ابتداء من الشعور التاريخي حتى الشعور البنائي، وفي كل مرحلة يظهر جانب من جوانب البناء ويمكن تتبع تكوين البناء على النحو الآتي.
ثانيا: ظهور الموضوعات من خلال الفرق، وظهور الفرق من خلال الموضوعات
يبحث البناء في هذه المرحلة التكوينية الأولى عن كيانه المستقل عن الفرق، وفي هذه المرحلة يتداخل الشعور البنائي مع الشعور التاريخي، فيظهر الشعور البنائي من خلال الشعور التاريخي مرة، ويظهر الشعور التاريخي من خلال الشعور البنائي مرة أخرى، وقد تمت هذه المرحلة في القرون الخمسة الأولى على النحو التالي: (1) ظهور موضوعات من خلال الفرق (التنبيه والرد) في مقابل ظهور الفرق من خلال الموضوعات (التمهيد)
تظهر الموضوعات من خلال الفرق بلا إحصاء أو تبويب ولكن كموضوعات متفرقة، تتحدد فيها مادة البناء دون صورته. الفرق، إسلامية وغير إسلامية، هي الأساس، ولكن تنبزغ منها الموضوعات معلنة استقلالها عن التاريخ، وهي تشمل حوالي خمس العلم، وفي مقدمتها موضوعات مثل: باب ذكر متشابه القرآن، وباب ذكر الجامعة والنصيحة في الدين، الأول يدل على أن علم الكلام نشأ من تفسير النصوص، والثاني يشير إلى تربية الجماعة بإرجاعها إلى نصوص الدين كأوامر وليس كنظريات، مما يدل على أن الإحساس بخطورة علم الكلام كان مصاحبا لنشأته.
1
تظهر المادة الكلامية من خلال تاريخ الفرق، مختلطة غير واضحة المعالم؛ فهي تاريخ للفرق، وتاريخ للجماعة الأولى، وبيان لعقائد أهل السنة، ونقد للفرق، يختلط في ذلك كله النقل بالعقل مع الاعتماد أكثر على النقل حتى لتقترب بعض المصنفات من كتب الآثار لكثرة ما ورد فيها من منقول.
2
ولكن في مقابل ذلك، تظهر الفرق من خلال الموضوعات، خاصة من خلال موضوعي التوحيد والنبوة، ويتم التركيز على الفرق غير الإسلامية؛ لأنها هي التي تمثل الخطورة من الثقافات المجاورة الغازية، حتى إنها تشمل أكثر من نصف العلم.
3
ثم تظهر الموضوعات وهي توحي ببناء العلم، فتظهر نظرية العلم ونظرية الوجود كمقدمة للعلم، وهو ما استقر في بناء العلم حتى قبل مرحلة العقائد الأخيرة، ولكنها لا تشمل إلا جزءا من سبعة أجزاء من العلم في حين أن هذه المقدمات هي التي ستبتلع العلم كله فيما بعد، حين اكتمال بناء العلم.
4
وفي بناء العلم ذاته، تفوق السمعيات الإلهيات (التوحيد والعدل) من حيث الكم؛ مما يدل على أن العلم ما زال في مرحلته الإيمانية، ولم تصبح فيه بعد العقليات؛ وهي الإلهيات، الموضوع الأشمل والأعم، كما تتداخل السمعيات مع الإلهيات من حيث الأولوية، فأحيانا تكون لها الأولوية إذ تسبق النبوة الحديث عن المجسمة في حين أنها أصبحت تالية للإلهيات في بناء العلم النهائي مما يدل على أن العلم ما زال في مرحلة تسبق فيها السمعيات العقليات، وتغلب فيها الموضوعات الإيمانية على الموضوعات العقلية. وفي الإلهيات، يفوق التوحيد من حيث الكم العدل حوالي عشرين مرة مما يدل على أن الدفاع عن الله كان هو الغالب على الدفاع عن الإنسان، وأن إثبات الله في ذاته وصفاته كان أهم من إثبات الله في أفعاله، وهو ما حدث في العقائد المتأخرة عندما ابتلع التوحيد العدل من جديد، وضاع العدل لحساب التوحيد، واختفى الإنسان لحساب الله، ولكن يبقى للعدل ميزتان: الأولى أنه مبحث متميز عن التوحيد، ولو أنه قليل من حيث الكم، والثاني أنه أحيانا يسبق التوحيد من حيث الترتيب والأولوية وأحيانا يتلوه، وتداخل التوحيد مع العدل في موضوع الأفعال يدل على ظهور العدل من خلال التوحيد كموضوع مستقل يبلغ أوجه في المصنفات الاعتزالية عندما يفوق العدل التوحيد على الأقل من حيث الكم إن لم يكن من حيث الترتيب، أما السمعيات فإنها تتركز كلها حول موضوعين اثنين: النبوة والإمامة من موضوعات أربع ظهرت فيما بعد في بناء العلم: النبوة والمعاد، والأسماء والأحكام (الإيمان والعلم)، والإمامة، ولكن من حيث الكم تفوق الإمامة النبوة، وتبلغ أربعة أمثالها مما يدل على أهمية السياسة على الدين نظرا لحداثة العهد بالمشكلة السياسية التي فجرت علم الكلام وعملت على نشأته؛ وهو ما نفتقده حتى الآن إذ سقطت الإمامة كلية من العقائد المتأخرة التي تركزت حول موضوعي الله والرسول، وإن اختفاء موضوع المعاد ليدل على أن ظهوره كان متأخرا بعد تباطؤ الدفعة الأولى التي أنشأت الحضارة الإسلامية وعلومها العقلية، وبدأ الناس يفكرون في آخرتهم ودنياهم، وهو ما استمر في كتب العقائد المتأخرة، وما زال يفعل في وجداننا المعاصر، كما أن اختفاء موضوع الإيمان والعلم يدل على سرعة انتهائه من العقائد المتأخرة، وتحويله إلى عقائد الإيمان
Credo
وما يجب على المسلم التسليم به، ولكن تبقى ميزة أخيرة، وهي تركيز العلم كله حول موضوعي التوحيد والإمامة أي الدين والسياسة، وأن شئنا الله والشعب، وأن صوت الله هو صوت الشعب، وهو ما يمكن تطويره فيما بعد فيما يسمى بلغة عصرنا «الدين والثورة».
5 (2) من الفرق إلى الموضوعات، أو من الموضوعات إلى الفرق
تظهر الفرق أولا وعلى رأسها فرقتا «أهل الزيغ والبدعة»، و«أهل الحق والسنة» كبابين مستقلين حتى يمكن مقارنة القولين معا، ثم بعد ذلك يتم الانتقال من عقائد الفرقتين إلى العقائد من حيث هي موضوعات مستقلة تحاول أن تضع نفسها في بناء العلم،
6
أما من حيث موضوعات العلم ذاته فلم تظهر بعد نظرية العلم ونظرية الوجود، وكأن ظهورهما قد حل محل الحديث عن الفرق، فالعلم بديل عن الإيمان، والوجود بديل عن العقائد، وكان ظهور هاتين النظريتين يمثل تقدما كبيرا في تحديد بناء العلم إجابة على سؤالي: «كيف نعلم؟» و«ماذا نعلم؟» ثم تظهر موضوعات العلم الأساسية بلا بناء واضح، ولكن تبدو موضوعات الإلهيات وقد شملت حوالي تسعة عشر جزءا من العلم، وتحظى السمعيات بالجزء العشرين مما يدل على أن الإلهيات كانت في ذلك الوقت في خطر عظيم في حين أن السمعيات لم تكن كذلك، وأن قوة الدفع في الحضارة كانت في أوجها، فلم تشغل الناس أمور المعاد بل شغلهم أمر التوحيد، وهذا ما تخلفنا نحن عنه الآن عندما سادت السمعيات وجداننا المعاصر من جديد، وفي الإلهيات يفوق التوحيد العدل من حيث الكم ويكون ضعفه، مما يشير إلى أن المخاطر نحو الله كانت أعظم من المخاطر حول الإنسان، وعلى رأس موضوعات التوحيد يبرز موضوع إثبات الرؤية لله بالأبصار، وإثبات قدم القرآن ثم إثبات باقي الصفات مما يدل على أن غاية العلم في البداية كانت إثبات الرؤية ضد منكريها، وإثبات الصفات ضد نافيها، ولكن يبقى العدل متميزا عن التوحيد ويمثل نصفه، أما السمعيات فلا تتناول إلا موضوعين: المعاد، والإمامة دون النبوة، والإيمان والعمل، ويحظى المعاد بثلاثة أرباع السمعيات، ولا تحظى الإمامة إلا بالربع الأخير، وهو ما ساد حتى الآن في العقائد المتأخرة وفي وجداننا المعاصر من سيادة أمور الآخرة، وهي أمور المعاد، على شئون الدنيا، وهي السياسة، كما أن عدم ظهور موضوع النبوة يدل على إمكانية قيام العلم في بدايته دونها، وليس كما حدث في العقائد المتأخرة من قيامها على محور الله والرسول، وهما أيضا ركيزتان في وجداننا المعاصر، أما سقوط الإيمان والعمل من السمعيات فإنه يدل على أن الموضوع لم يؤخذ مأخذ الجد، فلا عجب أن توارى من العقائد المتأخرة، وتحول إلى مضمون الإيمان، وهي العقائد التي يجب التسليم بها، وسقطت مقولة العمل، وهو ما نعاني منه في واقعنا المعاصر.
7
وفي مقابل الانتقال من الفرق إلى الموضوعات يمكن الانتقال من الموضوعات إلى الفرق، فلما كانت كل فرقة كلامية اتجاها فكريا أو يغلب عليها موضوع فكري أمكن تقسيم المادة الكلامية حسب الموضوعات، ثم إدراج الفرق تحتها، وكأن الفرق ما هي إلا حلول متعددة لموضوع واحد، الأصل هو الموضوع، والفرع هو الفرق، ولكن العيب في ذلك أن الموضوع لم يكن إلا رأس موضوع أو عنوان، والمادة كلها من اختلاف الفرق في هذا الموضوع؛ فالمادة الكلامية تعطي تاريخ فرق مقنع تحت ستار الموضوعات، ولكن الفضل يكمن في اكتشاف أن الفرق ليست مجرد تاريخ، بل تندرج تحت أصول فكرية أو موضوعات مستقلة؛ وبالتالي يمكن حصرها ورؤية جدلها فيما بينها، ولو تركت الفرق بلا أصول لما أمكن حصرها أو ضبطها؛ فبناء العلم سابق على تاريخ العلم، والموضوعات هو أساس التشعب والآراء، وقد نشأت الحاجة إلى الأصول من أجل ضبط الفرق إلى عيوب المنهج التاريخي الصرف الذي يكتفي بسرد الفرق وتوالدها عن بعضها البعض، فالتاريخ لا يمكن فهمه بدون الفكر، والحركات الفكرية لا يمكن إدراكها إلا بأنماط عقلية مثالية تكون هذه الحركات تجسيدا لها.
8
والأصول أربع: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والسمع والعقل؛ فالأصلان الأول والثاني استقرا فيما بعد في بناء العلم، ولكن الأصل الثالث وهو الوعد والوعيد يشمل مسائل عديدة يدخل بعضها في العدل في موضوع «أفعال الشعور الداخلية»،
9
والبعض الآخر في السمعيات مثل موضوع الإيمان والعمل الذي يأخذ اسم «الأسماء والأحكام»، وبعض مسائل المعاد، وأوائلها في الدنيا مثل التوبة والوعد والوعيد دون صورها الفنية من جنة ونار، وصراط وميزان، وحوض وشفاعة ... إلخ، أما الأصل الرابع، وهو السمع والعقل، فإنه يشمل موضوع العقل والنقل، وهو داخل الإلهيات مع الذات والصفات والأفعال في بناء العلم بعد اكتماله، ويشمل موضوعي النبوة والإمامة، وهما من موضوعات السمعيات، لا توجد إذن تفرقة في الأصول الأربع بين الإلهيات والسمعيات، تلك التفرقة التي حدثت في بناء العلم فيما بعد، وأصبح موضوعا النبوة والإمامة من الموضوعات العقلية لدخولهما تحت أصل السمع والعقل وليس تحت باب السمعيات كما هو الحال في بناء العلم المتأخر، بل إنه لأول مرة يظهر السمع والعقل كأصل مستقل عن التوحيد والعدل، وبالتالي يكون فكرنا المعاصر قد تخلف بفتحه بابا للسمعيات تبعا لبناء العلم المتأخر، وإسقاطه أصل السمع والعقل، كما تخلفت عقائدنا المتأخرة بإسقاط العدل وابتلاعه في التوحيد حتى لم يعد العدل موجودا في سلوك الإنسان أو في النظم الاجتماعية.
10
وهنا تبرز أهمية إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة بإبرازها أصل العدل وأصل السمع والعقل من أجل إرساء قواعد العدالة الاجتماعية والعقلانية الحديثة، وبناء على هذه الأصول الأربع تصبح الفرق أربعا: القدرية، والصفاتية، والخوارج، والشيعة.
11
ويعد ذلك انتصار العقل على التاريخ إذا علمنا أن تاريخ الفرق كان باستمرار تاريخا موجها بالنص الذي يجعلها ثلاثا وسبعين فرقة! (3) من الفرق ثم الموضوعات بلا بناء إلى الفرق ثم الموضوعات المبنية
في نفس الوقت الذي يظهر فيه علم الكلام على أنه تاريخ فرق يظهر أيضا على أنه موضوعات مستقلة، وإن لم تدخل تحت تبويب معين حتى نعلم بناء العلم، يتم عرض الفرق أولا ثم الموضوعات ثانيا دون أدنى ربط بين الشعور التاريخي والشعور البنائي، وكأن هناك شعورين مستقلين عن بعضهما البعض لا رابط بينهما، بل إن عرض الفرق لم يتم طبقا لأصول معينة فكرية أو طبقا لبناء معين أو حتى طبقا لموضوعات علم الكلام الرئيسية، بل يدور معظمها حول المسائل الطبيعية، وبعض مسائل أصول الفقه والأحكام، وبعض مسائل الكلام مثل الإمامة والذات والصفات دون ترتيب أو تبويب، بل أحيانا بتكرار وسرد وكأن المعاني ما زالت تتحسس طريقا نحو البناء، وكأن علم الكلام ما زال في بدايته، محاولة لتجميع المعاني، وتحول النصوص إلى موضوعات نظرية وإن لم يجمعها جامع واحد.
12
وفي مقابل ذلك يعرض علم الكلام أيضا على أنه فرق، ثم يعرض ثانيا على أنه موضوعات مبنية، ولكن الفرق هي الفرق غير الإسلامية وعلى رأسها اليونان، والنصارى، واليهود، والبراهمة لأن الفرق الإسلامية تركت في نهاية العلم كما هو الحال في المصنفات التي تحدد فيها بناء العلم النهائي، وذكر الفرق غير الإسلامية أولا ليس من أجل السرد والإحصاء أو الإخبار والتعريف أو التاريخ والبيان، بل تقوم الفرق على أساس فكري، وتمثل كل فرقة موضوعا مستقلا، الفرقة موضوع تاريخي مستقل ولكنه يتحقق في التاريخ، والفرق ست: الأولى مبطلو الحقائق أو السوفسطائية، وهي تشير إلى نظرية العلم كمقدمة أولى في بناء العلم.
13
والثانية القائلون بقدم العلم دون إله، والثالثة القائلون بقدم العالم وقدم الله، والرابعة القائلون بحدوث العالم بمدبرين أو أكثر. وهذه الفرق الأربع تتناول نظرية الوجود وهي المقدمة الثانية في بناء العلم النهائي، إثبات حدوث العالم وأن له صانعا ومدبرا،
14
والفرقة الخامسة التي تثبت حدوث العالم ووجود الصانع وتنكر النبوات كلها كالبراهمة، والسادسة كالخامسة ولكنها تثبت بعض النبوات وتنكر البعض كاليهود والنصارى، وهاتان الفرقتان تتناولان موضوع النبوة، وهو أول موضوع في السمعيات بعد بناء العلم.
15
كل فرقة إذن ليست تاريخا بذاتها بل هي موضوع، ومجموعها يكون العقائد الإسلامية في بناء العلم.
16
أما الموضوعات فهي ست: التوحيد، والقدر، والإيمان، والوعيد، والإمامة، واللطائف أي الطبيعيات، تشمل الإلهيات التوحيد والقدر، وتشمل السمعيات الإيمان والوعيد والإمامة، أما الطبيعيات فتشير إلى بدايات التفكير العلمي في الطبيعة التي استعملت من قبل كسلم للإلهيات، كما هو واضح في دليل الحدوث، أما النبوة فقد دخلت من قبل في عرض الفرق غير الإسلامية وإثبات التحريف في الكتب المقدسة، كما دخلت أيضا نظرية العلم ونظرية الوجود في عرض الفرق غير الإسلامية، وبالتالي يكتمل بناء العلم بالمنهجين التاريخي والموضوعي، وظهور الشعورين، التكويني والبنائي؛ ومن حيث الأهمية، تفوق السمعيات الإلهيات من حيث الكم إلى درجة الضعف وهو ما زال مسيطرا على وجداننا المعاصر، ولو أن جزءا من السمعيات يغلب عليها الطابع العملي مثل الإمامة والمفاضلة، أما من حيث الكم، فالطبيعيات هو الموضوع الذي يأتي في الدرجة الأولى مع الإمامة وكأن موضوعي الطبيعة والسياسة هما أهم موضوعين أصوليين في العلم، وهو ما تخلفنا عنه بوجداننا المعاصر عندما توارت الطبيعة، وفتر الناس من قاموس السياسة بعد أن أصبحت حرفة ونفاقا.
17
ثم تأتي مسألتا القدر والإيمان في الدرجة الثانية مما يدل أيضا على أن موضوعي حرية الأفعال والإيمان والعمل يأتيان من حيث الأهمية بعد الطبيعة والسياسة، وكأن الإنسان من حيث هو عامل حر هو الذي ينتشر في الطبيعة وفي السياسة، وهو الذي يفعل في التاريخ وفي المجتمع، ثم يأتي في الدرجة الثالثة موضوعا التوحيد والوعد والوعيد، وكأن الإنسان الذي يفعل بحرية في التاريخ وفي المجتمع هو الذي يوحد بالله وهو الذي يكون له مستقبل مضمون. التوحيد إذن ليس شرطا بل مشروط، والفعل الحر في التاريخ والمجتمع ليس مشروطا بل شرط؛ وبالتالي يكون فكرنا المعاصر قد تخلف عندما جعل التوحيد شرطا لا مشروطا، وعندما جعل فعل الإنسان الحر في التاريخ والمجتمع مشروطا لا شرطا، وإذا أخذنا موضوعات الفرق غير الإسلامية في الاعتبار وهي نظرية العلم ونظرية الوجود والنبوة ووضعناها مع الموضوعات الأصولية الست ورتبناها من حيث الأهمية نجد الترتيب الآتي: (1) النبوة. (2) الطبيعيات. (3) الإمامة. (4) القدر. (5) الإيمان. (6) التوحيد. (7) الوجود. (8) الوعد والوعيد. (9) العلم. وهو ما تخلفنا عن معظمه بتركنا مسألة النبوة ودراستها دراسة علمية تاريخية، وتركنا إحساسنا بالطبيعة واتحادنا بها، وفتورنا من السياسة، وقصورنا عن الفعل الحر، وتواري عملنا وراء الإيمان ، وإعطائنا الأولوية المطلقة لله وللأخرويات، ثم انحسار العلم عن مظاهر الحياة وعدم إقامتها على أسس علمية؛ فالعلم كان آخر الموضوعات التسع من حيث الأهمية والكم، وإن كان أولها من حيث الترتيب، ومن خلال هذه الموضوعات الأساسية تتم الإشارة إلى الفرق الإسلامية وهي خمس: أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة، والشيعة، والخوارج.
18
ثالثا: من المسائل إلى الموضوعات، ومن الموضوعات إلى
الأصول
بعد أن ظهرت الموضوعات من خلال الفرق، والفرق من خلال الموضوعات، وقبل أن يتحدد بناء العلم النهائي ظهرت أيضا عدة مسائل كلامية مستقلة عن الفرق، ثم ظلت تتحد فيما بينها في فصول، وتندرج الفصول تحت أبواب، والأبواب تحت أصول حتى تظهر في النهاية أصول العلم والتي يمكن بعد ذلك من تكوينها في البناء النهائي للعلم، وإذا جاز نمط التقابل الماضي في تحديد الصلة بين الموضوعات والفرق، فإن نمط التدرج والتكوين والتجميع هو الذي يساعد على فهم تكوين البناء النهائي الذي يمكن وصفه كالآتي: (1) من الأقوال المتفرقة إلى الموضوعات المتناثرة
ظهرت بعض الأقوال المتفرقة أو الكلام ينشأ حولها الجدل، هجوما أو دفاعا. هنا يبدو العلم ناشئا من الخصام بين المتحاورين، والصراع بين المواقف المذهبية دون أن يكون له عرض عقلي شامل، وكما هو الحال أحيانا في بيئتنا الثقافية المعاصرة عندما تغلب عليها الأقوال دون الأصول، في هذه المؤلفات الجدلية في الرد على الخصوم لا يكون للعلم بناء معين، بل يدور حول موضوعات متفرقة يجمعها من بعيد البناء العام للعلم، قد يكون للرد على الخصوم بناؤه الشكلي الخاص، وهو دفاع المؤلف عن مذهبه أولا ثم هجومه على مذهب الخصم ثانيا أو الهجوم على مذهب الخصم أولا ثم الدفاع عن مذهبه ثانيا، ويكون ذلك إما بإيراد أقوال الخصم نصا ثم الرد عليها أو بإيراد مقالته معنى ثم تفنيدها، ويتم ذلك عن طريق تصحيح الرواية حتى تنقل المقالة على الوجه الصحيح أو تصحيح فهم المقال ضد التشويه المتعمد إما بالنقص أو الزيادة أو التحريف أو التأويل، وهذا مجاله منطق الجدل وأساليبه وليس موضوعات الكلام، ويتعلق بأساليب البيان أكثر من تعلقه بمضمون البيان.
1
كان العلم إذن مجرد مناقشة حول مقالات نظرية دون أن تندرج في بناء نظري للعلم، وكان معظمها يدور حول المعاد والطبيعيات والنبوة وبعض مسائل الفقه والإمامة، ولكن الغالب على المقالات موضوعات المعاد والطبيعيات والإمامة، وهي موضوعات النزاع التي تحاول أن تجد نفسها كموضوعات مستقلة قبل البحث عن أساس نظري أو بناء عقلي لها، ولكن تظل هناك ميزة وهو الحوار والنقاش والصراع الفكري، وهو ما ينقص بيئتنا الثقافية المعاصرة نظرا لغياب التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية باستثناء حركات الإصلاح الدينية الحديثة التي لم تؤت كل ثمارها، بل أوشك صوتها أن يخفت دون صوت بديل.
ثم تظهر المسائل من خلال الأقاويل والآراء والمناقشات، وتحدد المعاني والأوصاف، ولكن يبدأ العلم في الظهور من خلال المسألة، والمسائل كلها تشير من بعيد إلى بناء العلم النهائي الذي سيظهر فيما بعد، تشمل المقدمات - نظريتا العلم والوجود - حوالي عشر العلم على خلاف ما سيبدو في النهاية من ابتلاع هذه المقدمات للعلم ذاته حتى إنها بلغت ثلاثة أرباعه، أما الإلهيات فإنها تشمل حوالي ثلثي العلم، التوحيد الثلث، والعدل الثلث الآخر في مقابل السمعيات التي تشمل الثلث الأخير مما يدل على أهمية الإلهيات قبل السمعيات نظرا لوجود الأخطار التي تواجه التوحيد بصورة أكثر من الأخطار التي تواجه السمعيات، وتتداخل مسائل التوحيد مع مسائل الوجود أعني دليل الحدوث وهو ما زال حاصلا حتى البناء النهائي للعلم، وما زال متحققا في وجداننا المعاصر من ربط بين الوجود والله أو بين الطبيعيات والإلهيات، كما تظهر الفرق الإسلامية والفرق غير الإسلامية المعارضة مما يدل على أن العلم من حيث هو بناء ما زال مرتبطا بالعلم من حيث هو تاريخ، أما السمعيات فإنها لا تشمل إلا النبوة والمعاد، والأسماء والأحكام، وتسقط الإمامة من الحساب، وكأن السياسة لا أهمية لها، وهو ما نعاني منه حتى الآن من فتور الناس من قاموس السياسة، والنبوة أهم الموضوعات السمعية لدرجة أنها من حيث الترتيب تأتي بعد التوحيد مباشرة وقبل العدل، ويتم إثباتها ضد منكريها، وتظهر الفرق أيضا ضمن هذا الإنكار، كما أنها تبلغ من حيث الكم أقل من نصف السمعيات كلها، وضعف الأسماء والأحكام التي لا تتجاوز خمس السمعيات، كما يعادل المعاد النبوة من حيث الكم، وهما معا يشملان أربعة أخماس العلم، وهو ما زال حاصلا في وجداننا المعاصر من سيادة السمعيات وعلى رأسها أمور المعاد.
2
ويستمر التصنيف في المسائل إلى ما بعد ظهور الأصول وإلى ما بعد اكتمال البناء، وكأن المسألة هي الغاية النهائية من إقامة العلم حتى إن المسائل فيما بعد تحولت إلى عقائد، وعادت الأمور مثلما بدأت منه، من العقائد إلى المسائل ثم من المسائل إلى العقائد من جديد، ففي المسائل المتأخرة يسقط العلم كما سقط في العقائد المتأخرة، وكما يغيب في وجداننا المعاصر، ويبلغ الوجود سدس العلم، أي أن موضوعات العلم الإلهية والسمعية ما زالت هي السائدة على المقدمات النظرية، أما الإلهيات فإنها تشمل أربعة أخماس العلم، والسمعيات الخمس الأخير، وفي الإلهيات هذه يمثل التوحيد ستة أضعاف العدل مما يدل على تواري العدل وتقهقره عن التوحيد حتى يضيع كلية في العقائد المتأخرة، ويختفي من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تختلط مسائل النبوة بالمعاد، وتبدأ الإمامة بالدعوة إلى السلطان كما نفعل في أيامنا هذه، ويسقط الإيمان والعمل كما يسقط في عالمنا اليوم، وهو ما حاولت الحركات الإصلاحية الوقوف أمامه، وإبراز موضوع الإيمان والعمل من جديد مع إعطاء الأولوية للعمل على الإيمان.
3
وفي دوائر المعارف المتأخرة، يعود العلم من جديد إلى الظهور من خلال الكلام، أي حتى ما قبل المقالات والمسائل، ولكن يوحي مجموع الكلام بالبناء العام للعلم الذي بدأ يتوارى أيضا حتى يفسح المجال للعقائد، فالمقدمات التي تشمل نظريتي العلم والوجود تغطي ربع العلم، أما الإلهيات فإنها تعادل نصف العلم، والسمعيات تمثل ضعف الإلهيات، وهو ما زال سائدا في وجداننا المعاصر مع ضنك العيش، وتأزم الحياة، وفي الإلهيات يضم التوحيد العدل ويحتويه في الأفعال ويكون ضعفه، أما السمعيات فإن الإمامة تسقط منها مما يشير إلى انحسار السياسة من فكرنا الديني المتأخر ، ونفورنا منها في واقعنا الحالي بعد تحولها إلى تجارة ومهنة وربح ومكسب، ويعود تاريخ الفرق في الظهور في ختام السمعيات، وفي موضوع الإيمان،
4
ولكن من خلال المقالات والكلام والمسائل تظهر الفصول التي تدل على بعض الموضوعات المستقلة وليس على بناء العلم ككل، مثل موضوعات خلق القرآن، والقدرة، والرؤية، والشفاعة، يشير الأول والثالث إلى التوحيد، ويشير الثاني إلى العدل، وكلاهما أصلان في الإلهيات، وتشير الشفاعة إلى المعاد، وهو أصل في السمعيات، ومع ذلك تشير هذه المسائل إلى بناء العلم، فتظهر نظريتا العلم والوجود لأول مرة دون أن يكونا مقدمتين للعلم، بل يظهران متواريين أمام الإلهيات والسمعيات، ولا يجاوزان جزءا من أربعة عشر جزءا من العلم ذاته؛ ومن ثم يكون العلم المتأخر قد تقدم بالفعل عندما فاقت المقدمتان العلم ذاته، ولو تطور العلم فيما بعد لابتلعت المقدمات كلها ما تبقى من الإلهيات والسمعيات، ويكون فكرنا المعاصر الآن قد تخلف عن هذا التقدم السابق بتواري نظريتي العلم والوجود أمام الإلهيات والسمعيات، ومن حيث الكم تفوق السمعيات الإلهيات إلى حد ما مما يدل على أهمية السمعيات وأمور المعاد في بدايات العلم، وتكون سيادة السمعيات في وجداننا المعاصر عود إلى بدايات العلم وقضاء على تقدمه، وفي الإلهيات يتميز العدل عن التوحيد، ويساويه في الأهمية، ولم يتم ابتلاعه داخل التوحيد كما هو الحال في العقائد المتأخرة وفي وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تكون للإمامة وللإيمان والعمل الأولوية على المعاد والنبوة من حيث الترتيب؛ إذ إنها يبدآن السمعيات، ومن حيث الكم إذ إنهما يبلغان ثلاثة أرباع العلم، ويكون فكرنا المعاصر متخلفا عن هذا النمط القديم عندما أصبحت الأولوية للنبوة وللمعاد كما هو الحال في بناء العلم المتأخر، بل إن الإمامة لها الأولوية على الإيمان والعمل من حيث الترتيب والكم مما يدل على أهمية السياسة في بدايات العلم وتخلف واقعنا المعاصر عن هذا النمط القديم بإخراجنا السياسة كلية من بناء العلم، كما هو الحال في العقائد المتأخرة أو على أقصى تقدير اعتبارها ملحقا للعلم وليس داخلا فيه كما هو الحال في بناء العلم النهائي، ومما يدل أيضا على أولوية العمل الجماعي على العمل الفردي كما هو واقع في حياتنا المعاصرة من إعطاء الأولوية للعمل الفردي على العمل الجماعي؛ أي عمل الزعيم على ممارسة الجماهير، وبطولة القائد على إشراك الشعوب، ثم تظهر الموضوعات الأربعة المستقلة من خلال المسائل، وهي الموضوعات التي ما زالت مثارا للجدل وللخلاف: القرآن، والقدر، والجرح والتعديل، والشفاعة، والرؤية؛ القرآن والرؤية في التوحيد، والقدر والجرح والتعديل في العدل، والشفاعة في السمعيات، ولكن الترتيب من حيث الكم هو في الحقيقة: خلق القرآن، الإرادة، الرؤية، الشفاعة، مما يدل على أن موضوع خلق القرآن كان من أولى موضوعات الجدل والنزاع، وهو الأولى بالإحياء في فكرنا المعاصر بمدلول حديث في اعتبار الوحي تعبيرا عن واقع؛ ومن ثم فهو حادث أكثر منه تنزيلا من فكر ومن ثم فهو قديم، تعني حادث أنه يتغير في فهمه وتفسيره طبقا لمتطلبات الواقع وتعني القديم أنه سابق على التجربة لا يتغير بتغير الواقع وتطور التاريخ، ويعادل موضوع خلق القرآن أربعة أضعاف الرؤية من حيث الكم، هو ما يحدث في فكرنا المعاصر عندما تثار قضية الرؤية في الدين الشعبي وفي الطرق الصوفية دون إثارة قضية خلق القرآن بمدلولها الحديث، وتدل هذه الموضوعات الأربع على سيادة الإلهيات، خلق القرآن، والرؤية، والإرادة على السمعيات في موضوع الشفاعة، وهو أيضا ما يحدث في فكرنا المعاصر، ولكن في الإلهيات، يبلغ التوحيد أربعة أضعاف العدل من حيث الكم، وهذا ما حدث في علم الكلام العقائدي عندما ابتلع التوحيد العدل كلية حتى ضاع العدل من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات لا يظهر إلا موضوع الشفاعة وهو ما يحدث في فكرنا المعاصر من استمرار للشفاعة الدينية والدنيوية معا كموجه لسلوكنا القومي.
5 (2) من الموضوعات إلى الفصول، ومن الفصول إلى الأبواب
ثم تتحول هذه الموضوعات إلى فصول، والفصول إلى أبواب، وقد تم ذلك أيضا في القرنين الرابع والخامس، وإن ظهور الموضوعات في فصول كثيرة دون تبويبها في موضوعات أقل ودون إحصاء لهذه الفصول ليدل على أن بناء العلم لم يكتمل بعد في حين أن الموضوعات قد أخذت استقلالها النهائي، فتظهر نظرية العلم مع شرعيته في حين تختفي نظرية الوجود؛ وذلك يدل على أن انفصاله عن التوحيد فيما بعد يمثل تقدما ملموسا للعلم وتبرز الطبيعة ولو أنها ما زالت سلما لله، وتمثل نظرية العلم حوالي عشر العلم، وبالتالي يكون علم الكلام المتأخر قد خطا خطوات حاسمة باتساع موضوعي العلم والوجود حتى إنهما أصبحا ثلاثة أرباع العلم، ويكون وجداننا المعاصر قد تخلف عن بناء العلم بإسقاطنا من حياتنا العلم والوجود أو المعرفة والطبيعة؛ نظرا لسيادة الإلهيات وابتلاعها الطبيعة، والسمعيات كبديل للمعرفة، ثم تتعادل الإلهيات والسمعيات من حيث الكم إن لم تفق الأولى الثانية بقليل، وفي الإلهيات يختلط موضوع العدل بالتوحيد مما سهل ابتلاع التوحيد للعدل في علم الكلام العقائدي، ومما يسبب رسوخ تواري مقولة العدل من وجداننا المعاصر، بالإضافة إلى أن التوحيد يفوق العدل من حيث الكم، أكثر من خمسة أضعاف، مما يدل على طغيان التوحيد على العدل في نمط فكرنا القديم، واستمرار هذا النمط حتى الآن باستثناء الأصول الاعتزالية عندما فاق العدل التوحيد، أما السمعيات فتختلط بعض مسائلها مثل الإيمان والعمل مع بعض مسائل العدل، كما تظهر بعض مسائل العدل مع الإمامة مما يدل على تشتت العدل وضياعه بعد أن ابتلع التوحيد جزءا منه، وتشتت الباقي في السمعيات، مرة في المعاد، ومرة في الأسماء والأحكام، ومرة في الإمامة، كما تختلط في السمعيات بعض مسائل الإيمان والعمل مع بعض موضوعات المعاد، وسيادة المعاد على الإيمان والعمل، وهو ما يحدث في فكرنا المعاصر حتى الآن، وتدخل بعض موضوعات النبوة في الإمامة مما يدل على سيادة التفكير الديني على الفكر السياسي، وهو ما يحدث حتى الآن، كما تظهر الإمامة كموضوع إلهي أكثر منه كموضوع سياسي، وانتهاء الإمامة بالهجوم على الروافض من أهل الإباحة وأهل النجوم؛ أي على الصوفية والفلاسفة، مما يشير إلى اتصال العلوم القديمة بعضها ببعض، وبداية ظهور موضوع التاريخ كملحق للإمامة.
6
وقد تختفي نظرية العلم، وتظهر نظرية الوجود؛ لأن الربط بين العلم والمعلوم لم يكن ضروريا بعد، كما حدث في بناء العلم، ولا يمثل الوجود إلا حوالي جزء من عشرين جزءا مما يكونه العلم، وهو ما يحدث في وجداننا المعاصر من ربط للعلم بالإشراقيات أو ترك المعلوم بلا علم، ويظهر العلم ذاته من عدة فصول دون عد أو إحصاء، ولكن تبدأ الأبواب في الظهور، على الأقل باب واحد في ذكر ما يستحيل في أوصاف الباري، وأصل واحد في حدوث العالم ووجود الصانع؛ ومن ثم تبدأ الفصول المتفرقة في التجمع تحت أبواب أكبر، وفي أصول أشمل حتى يظهر بناء العلم فيما بعد، وتبلغ الإلهيات ثلاثة أضعاف السمعيات مما يدل على استمرار النمط القديم في فكرنا الديني المتأخر وفي وجداننا المعاصر، وفي الإلهيات يظهر التوحيد ثم العدل مختلطا ببعض مسائل التوحيد، وكأن العدل ما هو إلا تطبيقات للتوحيد، وليس بابا مستقلا عن فعل الإنسان وعقل الإنسان، ومن حيث الكم يفوق التوحيد العدل، ويبلغ ثمانية أضعافه مما يدل على سهولة ابتلاع التوحيد للعدل في فكرنا الكلامي المتأخر، وضياع العدل كلية من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تبتلع النبوة باقي الموضوعات مثل المعاد والإيمان والعمل، وتظهر مسألة العقل والنقل مع النبوة، وهي في الحقيقة إحدى مسائل التوحيد، وتبلغ النبوة ثلاثة أرباع السمعيات، ولا تترك للإمامة إلا الربع الأخير؛ فالتوحيد هو الموضوع الأول، وما سواه ملحق له، وهو الموضوع الوحيد الذي ظهر على أنه أصل، وهو الموضوع الوحيد الذي ظهر في باب مستقل هو الباب الوحيد، وما سواه فصول، مما يدل على أن علم الكلام كله قائم على أصل واحد هو التوحيد، وهو ما ظهر في إحصاء الأصول قبل بناء العلم الكامل.
7
ثم تظهر الفصول في أبواب أكثر، ويتحدد بناء العلم ولو أنها أبواب في القول، وتظهر نظريتا العلم والوجود معا مما يشير إلى بداية استقرار العلم من حيث مقدماته النظرية، ولكنها تشمل من حيث الكم جزءا من خمسة عشر جزءا تكون مادة العلم كله؛ وبالتالي يكون علم الكلام المتأخر قد خطا خطوات واسعة بإعطاء الأولوية للمقدمات النظرية على مادة الكلام ذاتها، ونكون نحن قد تخلينا عن مكاسب العلم المتأخرة بإسقاطنا العلم والوجود من وجداننا المعاصر، وتمثل الإلهيات أكثر من ضعف السمعيات، وهو ما زال أيضا في فكرنا المعاصر عندما نتبادل الإلهيات والسمعيات معا كمحاور في فكرنا القومي، وفي الإلهيات يفوق التوحيد العدل؛ إذ يمثل التوحيد ثلاثة أخماس الإلهيات، والعدل الخمسين الباقيين، وهو ما استمر في علم الكلام المتأخر باختفاء العدل في بطن التوحيد ثم ضياعه كلية من وجداننا المعاصر، وفي السمعيات تعادل النبوات من حيث الكم الموضوعات الثلاث الأخرى: المعاد، والإيمان والعمل، والإمامة، مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في فكرنا المعاصر بتركيزنا على النبوة، وبتفكيرنا في النبي، ويكون موضوع الإيمان والعمل أقل الموضوعات كما هو واضح في حياتنا المعاصرة بالرغم من محاولة الحركات الإصلاحية من تغيير ذلك، وتتداخل بعض مسائل الإمامة مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المعاد والإيمان والعمل، وكذلك تبرز بعض مسائل العدل مثل الآجال والأرزاق والأسعار في السمعيات بين النبوة والمعاد.
8
وقد تظهر مع الأقوال والفصول والأبواب الكتب، مجموعة من الأقوال تكون فصلا، ومجموعة من الفصول تكون بابا، ومجموعة من الأبواب تكون كتابا؛ وبالتالي يتحدد بناء العلم أكثر فأكثر في عدة جوانب تكون أساسا للعلم، وتظهر نظريتا العلم والوجود في خمس العلم تقريبا مما يدل على بدايات ابتلاع المقدمات النظرية للعلم، ولكن الوجود يفوق العلم من حيث الكم؛ إذ ينحو نحو الاستقلال بذاته، وتتداخل مباحثه مع التوحيد حتى إنه بقدر ما يظهر الوجود يختفي التوحيد، وبقدر ما يظهر التوحيد المشخص يختفي الوجود، وكأن تحويل «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا» عملية فكرية وتاريخية طبيعية، وتظهر مباحث جديدة في الوجود مثل مباحث العدل ومباحث الأحوال، وتبدو الإلهيات وقد تجاوزت من حيث الكم السمعيات وكأن السمعيات لا تكون جزءا أساسيا من بناء العلم، حوالي الثمن، والإلهيات سبعة أثمان العلم، على خلاف الحال الآن في وجداننا المعاصر المفتوح على السمعيات بلا تردد، وفي الإلهيات لأول مرة تفوق مسائل العدل مسائل التوحيد؛ نظرا لبلوغ التيار الاعتزالي قمته، ومحاولة الأشاعرة صده، والوقوف أمامه؛ إذ تبلغ مسائل العدل ثلاثة أرباع الإلهيات ، والتوحيد الربع الأخير، وتكون خسارة كبيرة ما حدث فيما بعد في بناء العلم الأشعري عندما ابتلع التوحيد العدل في نظرية الذات والصفات والأفعال، وعندما ضاع العدل كلية من وجداننا المعاصر بالرغم من محاولات بعض الحركات الإصلاحية من إحيائه من جديد، وتتفصل مسائل العدل إلى الإرادة، والقدر، والتولد، والطبائع، والتعديل والتجوير، أما السمعيات فلا تشمل إلا موضوعا واحدا هي النبوات دون المعاد أو الإيمان والعمل أو الإمامة، مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في وجداننا المعاصر، خاصة بتواري الإيمان والعمل والسياسة.
9
وقد تختفي الفصول كلية، ويتحول العلم كله إلى أبواب محصاة؛ ومن ثم يبدأ بناء العلم في الظهور؛ فالأبواب تحتوي على الموضوعات، وإن لم تتحول الموضوعات بعد إلى أصول نظرا لأن عدة موضوعات تكون أصلا واحدا، فتختفي نظرية العلم ونظرية الوجود باعتبارهما مقدمتين نظريتين للعلم مما يدل على أن ظهورهما يعد تقدما أساسيا في بناء العلم، خاصة بعد أن اتسعا في فكرنا الكلامي المتأخر، ومما يدل على مقدار التخلف بسقوطهما في فكرنا المعاصر، وقد تبدو بعض مسائل الوجود في التوحيد وكمقدمة له مما يدل أيضا على أن ظهورها في النصف الثاني من القرن الرابع يمثل تقدما أساسيا في بناء العلم خاصة بعد تمددها في علم الكلام المتأخر وابتلاعها نصف العلم تقريبا حتى أصبحت تمثل ثلاثة من مباحثه الستة، ومما يدل على مدى التخلف الذي وقع فيه فكرنا المعاصر باختفائها وتواريها تماما، وتظهر أبواب عشر، تشمل الإلهيات السبع الأولى، والسمعيات الثلاث الباقية؛ فالإلهيات من حيث الكم تمثل تسعة أعشار العلم، والسمعيات العشر الأخير، مما يشير إلى تخلف فكرنا المعاصر الذي قلب الآية، وتجاوزت السمعيات الإلهيات من حيث الكم من كثرة ما ينشر ويذاع في السمعيات، وفي الإلهيات يتميز التوحيد عن العدل، هذا التمييز الذي اختفى في علم الكلام المتأخر والمعاصر، حيث سادت نظرية الذات والصفات والأفعال، وحيث ابتلع التوحيد العدل، مما يدل على تخلفنا عن بعض مواطن فكرنا القديم؛ ومن حيث الترتيب كان للتوحيد الأولوية على العدل، وهو ما ساد العلم منذ بدايته حتى نهايته، وهو أحد أسباب ابتلاع العدل في التوحيد، وأحد أسباب تخلف فكرنا المعاصر. ومن حيث الكم يساوي التوحيد العدل، مما يدل على أن فكرنا القديم قد ركز عليهما معا وعلى خلاف ما حدث في علم الكلام المتأخر وفي فكرنا المعاصر من اختفاء العدل لصالح التوحيد، وقد فصلت مسائل العدل في ثلاث: القدر، والاستطاعة، والتعديل والتجوير. لم يكن العدل مسألة كلية فحسب، بل ازداد تفصيلا وبناء وتكوينا، وفي السمعيات تظهر موضوعات ثلاث فقط: الإيمان والعمل، والمعاد، والإمامة، ولم تظهر مسألة النبوة مما يدل على أنها لم تكن أساسا في العلم منذ البداية، ومما يشير إلى مقدار تخلف فكرنا المعاصر بتركيزنا على النبوات، ويدل ترتيب المسائل الثلاث على أهمية الإيمان والعمل على المعاد، وهو أيضا ما تخلفنا عنه بتواري موضوع الإيمان والعمل وظهور مسائل المعاد في وجداننا المعاصر.
10 (3) من الفصول والأبواب إلى القواعد والأصول
وبعد ذلك ينتقل البناء من الفصول والأبواب إلى القواعد والأصول التي تكون دعامة البناء النهائي، فيظهر علم الكلام مندرجا تحت عشرين قاعدة، تختفي نظرية العلم مما يدل على أهمية الوجود على العلم، وهو ما سيتضح أكثر فأكثر عندما يبلغ الوجود ثلاثة أرباع العلم في القرون الثلاثة التالية، السادس والسابع والثامن، ومما يدل أيضا على عدم رسوخ نظرية العلم كجزء من علم الكلام، ومما يفسر أيضا غياب نظرية في العلم من وجداننا المعاصر، ولكن تبدأ نظرية الوجود، بالإضافة إلى تذييل في الجوهر الفرد في نهاية العشرين قاعدة، والكل يبلغ عشر العلم مما يدل على وجود بوادر لفصل الفكر العلمي في الوجود عن الفكر الديني، فقد كان الوجود دائما مقدمة للإلهيات، حول دليل الحدوث أو الإمكان، وانفصال الجوهر الفرد عن البحث يوحي ببدايات التفكير العلمي المستقل، وهو ما نصارع من أجله في فكرنا المعاصر، من أجل استقلال فكرنا العلمي عن فكرنا الإلهي، ويتركز مبحث الوجود على رفض الفيض بعد أن أصبحت نظرية الفيض خطرا على علم الكلام آتيا من علوم الحكمة، ونظرا لهذا الغزو الداخلي، فإن علم الكلام أصبح هو الجانب الإيجابي في مقابل رفض الفلاسفة الحكماء الذي يمثل الجانب الهدمي، فبعد تأسيس علم الكلام على عشرين قاعدة يمكن هدم فلسفة الحكماء الإلهيين أيضا على عشرين قاعدة، وتبلغ الإلهيات من حيث الكم قدر السمعيات باثنتي عشرة مرة؛ أي أن الإلهيات هي كل العلم تقريبا، وأن السمعيات لا تمثل إلا جزءا من اثني عشر جزءا من العلم، على خلاف فكرنا المعاصر الذي تسوده السمعيات والإلهيات على قدر سواء، وفي الإلهيات تختلط مسائل التوحيد والعدل، فيظهر العدل أولا مركزا على حدوث الكائنات، ويختفي ضمن إثبات الحدوث بإحداث الله، ثم ينتهي التوحيد أيضا ببعض مسائل العدل مثل العقل والنقل، يبدأ التوحيد إذن بمسألة خلق الأفعال وإنكارها وينتهي بموضوع العقل والنقل، وإعطاء الأولوية للنقل على العقل، ويشمل التوحيد أربع عشرة قاعدة تتخللها بعض مباحث الوجود مثل الأحوال والمعدوم والشيء والهيولى والصورة مما يدل على تآكل التوحيد لصالح الوجود كما حدث في علم الكلام المتأخر، فقد ابتلع التوحيد نصف العدل في أول التوحيد، وهو خلق الأفعال، ومع ذلك يشمل التوحيد أكثر من نصف العلم، وأصبح يوازي العدل أكثر من ست مرات مما يدل على تواري العدل في علم الكلام المتأخر، واختفائه كلية في وجداننا المعاصر، أما السمعيات فلا تظهر إلا في القاعدة الأخيرة، القاعدة العشرين، في موضوعات النبوة، والأسماء والأحكام، والمعاد، والإمامة، ولكنها لا تشمل إلا جزءا ضئيلا من العلم دون تفصيل لمسائلها.
11
ثم تتناقص القواعد والأصول من عشرين قاعدة إلى خمسة عشر، وهو العدد الكامل في الشريعة، خمس عشرة سنة أو يوما أو آذانا أو درهما أو دينارا أو إبلا أو بقرا أو بعيرا! ولو أخذنا الأعداد من الشريعة لأعطتنا كل الأعداد، خمس صلوات، ستين مسكينا، ستين يوما صياما كفارة، سبعة أيام، سبع ليال، سبع سموات، الشفع والوتر، الواحد، والاثنين، والثلاثة، والأربعة، والعشرة، والسبعين ... إلخ، مما يدل على أن العدد خمسة عشر ليس من داخل العلم بل من خارجه، مستعارا من الفقه. تظهر نظريتا العلم والوجود في الأصلين الأول والثاني ، ويمثلان معا خمس العلم أو سدسه تقريبا، ويكون الوجود أكبر قليلا من العلم مما يشير إلى تقدم المقدمات النظرية واحتوائها للعلم ذاته تدريجيا، أما الإلهيات فإنها تبلغ نصف السمعيات، وتبلغ السمعيات ضعفها، وهو ما يتضح أيضا في وجداننا المعاصر. وتشمل الإلهيات أربعة أصول: (الثالث، والرابع، والخامس، والسادس)، وتتركز على نظرية الذات والصفات والأفعال بالإضافة إلى الأسماء، وهو ما سيتضح أيضا فيما بعد في بناء العلم الشامل، ويظهر العدل متميزا عن التوحيد، وهو ما افتقدناه فيما بعد، ولكن يفوق التوحيد العدل بأكثر من ثلاثة أضعاف، وهو ما استمر في فكرنا المعاصر حتى اختفاء العدل في بطن التوحيد في العقائد المتأخرة وفي وجداننا المعاصر. أما السمعيات فإنها تشمل الأصلين السابع والثامن عن النبوات والكرامات والمعجزات زيادة في تفصيل النبوات، وإضافة أصلين جديدين (التاسع والعاشر) عن الإسلام ومعرفة أحكام التكليف باعتباره آخر مرحلة من مراحل النبوة واعتمادها على العقل في فهم الأحكام، وهو ما بدأ يتضح في الحركات الإصلاحية بحديثها عن الإسلام كشريعة وتاريخ بدلا من الحديث عن النبوة كعقيدة ودين، ويشمل المعاد (الحادي عشر) والأسماء والأحكام (الثاني عشر) والإمامة في الأصول الثلاثة الأخيرة وما يتبع الإمامة من أحكام العلماء والأئمة وتاريخ الفرق.
12
وقد يدور العلم كله حول أساس واحد يكون هو بناء العلم، ويكون هو التوحيد بلا مقدمات نظرية من علم أو وجود، وبلا عدل كمحور ثان للإلهيات وبلا سمعيات كمحور ثان للعلم، وذلك من أجل نفي التجسيم والتشبيه والحيز والمكان، وإثبات التنزيه على الطريقة الأشعرية، ويدور العلم حول أربعة أقسام: الأول في إثبات التنزيه، والثاني في تأويل المتشابهات، والثالث والرابع في تقرير مذاهب السلف، وكأن العلم إذن أراد أن يختار له موضوعا واحدا هو الله دون العدل، وهو فعل الإحسان ودون السمعيات التي تشير إلى ماضي الإنسان في النبوة ومستقبله في المعاد، ومحله في الأسماء والأحكام، ومجتمعه في الإمامة. هذا التركيز على الله هو مأساتنا حتى الآن، وقد انغرس في وجداننا المعاصر باعتباره هو الموضوع الأول والأخير في الفكر والسلوك.
13
وفي مقابل علم الكلام على الطريقة الأشعرية ومحاولاته لإحصاء الموضوعات من أجل تحديد بناء العلم، كانت هناك محاولات لعلم الكلام على الطريقة الاعتزالية ابتداء من الرسائل في العدل والتوحيد عن القدر ضد المجبرة إلى ظهور معظم موضوعات العدل والتوحيد
14
في عشرين جزءا يعبر عنها بالقول والكلام والفصول، تشمل المقدمات مع الإلهيات ثلاثة أرباع العلم، والسمعيات الربع الأخير، ويبدو أن المقدمات النظرية، أعني نظريتي العلم والوجود، لم تتجاوز جزءا من عشرين جزءا من العلم؛ لأن نظرية العلم تدخل في مسائل العدل، الحسن والقبح، أو النظر والمعارف، والوجود هو المبحث الذي اعتمدت عليه الأشاعرة لصياغة دليل الحدوث أكثر من اعتماد المعتزلة عليه، وما دام العلم ذاته عقليا، فلم يكن هناك داع لتصديره بمقدمات نظرية كما هو الحال عند الأشاعرة عندما ظل العلم لديهم عقائديا، ولفظ الإلهيات لفظ أشعري يغطي مباحث التوحيد والعدل، ولكن المعتزلة لا يضمون الأصلين، التوحيد والعدل، تحت مبحث واحد، هو الإلهيات، من أجل الإشارة إلى ضرورة التمييز بين هذين الأصلين حرصا على عدم ابتلاع التوحيد للعدل كما حدث في علم الكلام على الطريقة الأشعرية، وكما نقاسي منه الآن من اختفاء العدل كلية كأصل مستقل في وجداننا القومي، ولأول مرة يكون التوحيد نصف العدل، ويكون العدل ضعف التوحيد؛ إذ يشمل التوحيد مع المقدمات النظرية الأجزاء الخمسة الأولى، في حين يشمل العدل الأجزاء العشرة التالية، بل إن بعض مسائل التوحيد التقليدية دخلت في مبحث العدل مثل خلق القرآن، وتفصلت مسائل العدل فشملت الإرادة، والتعديل والتجوير، والمخلوق، والتوليد، والتكليف، والنظر والمعارف، واللطف، والأصلح، واستحقاق الذم، والتوبة؛ أي أنها تشمل الموضوعين الأساسيين للعدل، خلق الأفعال، والعقل والنقل؛ أي فعل الإنسان الحر، وعقل الإنسان المستقل، كموضوعات مستقلة، وليس مجرد تطبيقات للتوحيد، فإذا كان التوحيد يشير إلى حق الله، والعدل يشير إلى حق الإنسان، فإن علم أصول الدين الاعتزالي قد أعطى الصدارة لحق الإنسان، وهو ما لم يحافظ عليه علم الكلام على الطريقة الأشعرية عندما ابتلع التوحيد العدل حتى اختفى العدل كلية من وجداننا المعاصر، ويكون علم الكلام الأشعري هو المسئول الأول عن تخلفنا الحالي، وقد حاولت بعض الحركات الإصلاحية قلب الآية، ومعاودة علم أصول الدين الاعتزالي من أجل إعطاء الصدارة للعدل ولكنها لم تؤت أكلها، ولم تؤثر في الناس، فقد ظل نصفها أشعريا في التوحيد، ونصفها الآخر معتزليا في العدل، وتكون هذه الحركات أكثر جذرية وأشد فاعلية إذا ما حاولت أن تكون اعتزالية في التوحيد والعدل من أجل اتساع المجال لحق الإنسان المطلق وإلا قامت حركات الإصلاح بخطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، وتكون واقفة وهي تسير أو سائرة وهي واقفة.
15
أما السمعيات فإنها تشمل النبوات، والإمامة، وربما المعاد، والأسماء والأحكام، وتشمل النبوات نصف السمعيات نظرا لأهمية إعجاز القرآن، وإلحاق الشرعيات بالنبوة من أجل التركيز على دور الوحي في المجتمع والتاريخ، وليس في علاقاته بالنبي وبالله، فمهمة الوحي أفقية لا رأسية، بلاغ من النبي إلى الناس وليس بلاغا من الله إلى النبي.
16
وعلم أصول الدين الاعتزالي هو الوحيد الذي حاول أن يقيم ذاته على أصول، ويحدد بناء العلم عقليا دون ترك ذلك لفعل التطور والعمل والتاريخ، جيئة وذهابا؛ ومن ثم أمكن تحويل العشرين جزءا الماضية إلى أصول خمسة مشهورة، وهي التي تحدد بناء العلم الشامل مرة واحدة وإلى الأبد، فالمقدمات النظرية الأشعرية عن العلم والوجود موجودة في مقدمات الأصول الخمسة؛ وبالتالي يشترك الاتجاهان في أن بدايات العلم هي في مقدمات النظرية إجابة على سؤالي: كيف أعلم؟ وماذا أعلم؟ ومن حيث الكم تشمل هذه المقدمات النظرية عن أول الواجبات، وهو النظر المؤدي إلى معرفة الله حوالي ثمن العلم، أما التوحيد، وهو الأصل الأول، فإنه يشمل خمس العلم تقريبا، ولكنه بالإضافة إلى العدل، الأصل الثاني، فإنهما يشملان أكثر من نصف العلم؛ وذلك لأن التوحيد نصف العدل، والعدل ضعف التوحيد، فلأول مرة أيضا في أصول الدين يفوق العدل التوحيد، ويتميز عنه في أصل مستقل، وهو ما لم نستطع المحافظة عليه بسيادة علم الكلام الأشعري، وابتلاع التوحيد للعدل، واختفاء العدل كلية من وجداننا المعاصر، وتتفصل في نهاية الأصل الخامس مسائل العدل، القضاء والقدر، أفعال العباد، العون واللطف والمصلحة والتوفيق والعصمة، والآجال، والأرزاق، والأسعار، أما السمعيات باللفظ العشرين فإنها تشمل الأصول الثلاثة الباقية، الأصل الثالث عن الوعد والوعيد أي المعاد، والأصل الثاني عن المنزلة بين المنزلتين أي الأسماء والأحكام، والأصل الخامس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي الإمامة، وهي كلها تبلغ نصف العدل من حيث الكم؛ أي أنها تعادل التوحيد، ويظل العدل هو نصف العلم، والتوحيد والسمعيات نصفها الآخر، وهذا يعني أن العدل، وهو الأصل الثاني، يعادل من حيث الكم الأصول الأربعة الأخرى ابتداء من التوحيد، الأصل الأول، مارا بالوعد والوعيد، وهو الأصل الثالث، والمنزلة بين المنزلتين، وهو الأصل الرابع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الأصل الخامس. صحيح أن الإلهيات بالمعنى الأشعري تشمل أصلين: التوحيد والعدل، والسمعيات بالمعنى الأشعري تشمل ثلاثة أصول: الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن يظل العدل، وهو ضعف التوحيد، يوازي العلم كله، إلهياته وسمعياته، أما مسائل التوبة التي تنتهي بها الأصول الخمسة فهي أدخل في الأصل الثالث: الوعد والوعيد.
17
وقد يدور العلم كله على بابي التوحيد والعدل؛ أي يقتصر العلم على الإلهيات بالمعنى الأشعري دون السمعيات، مما يدل على أن السمعيات ليست جزءا جوهريا من العلم، ولو شئنا الاختيار بين محور واحد للعلم لأبقينا الإلهيات ولأسقطنا السمعيات، فالإلهيات عقلية، وبالتالي فهي يقينية، في حين أن السمعيات نقلية، ومن ثم فهي ظنية، والظن لا يغني من الحق شيئا، كان علم أصول الدين على هذا النحو الاعتزالي يمثل تقدما خطيرا في الفكر الديني باستيفاء محوري التوحيد والعدل؛ أي الأصلين الأولين دون السمعيات؛ أي الأصول الثلاثة الأخيرة. ليس معنى ذلك التضحية بالعمل وبالسياسة؛ أي بالفرد والتاريخ لأنه يمكن اللحاق بهما من خلال العدل، بل إن مبحثي التوحيد والعدل كليهما يدخلان تحت اسم «التكليف»، تكليف الله للإنسان مما يشير إلى أن علم أصول الدين على هذا النحو يدور حول محوري الله والإنسان، وصلة التكليف بينهما وهو تحقيق رسالة الإنسان، فإذا كان العلم، وهو التكليف، يشمل تسعة أسفار، فإن المقدمتين النظريتين عن العلم والوجود يشملان السفرين الأولين، وهما حوالي خمس العلم، مما يدل على أهمية المقدمات النظرية وإن لم تبتلع بعد العلم كله كما حدث في علم الكلام المتأخر، ثم هوت واختفت من وجداننا المعاصر، ولكن الوجود يمثل ثلاثة أضعاف العلم مما يدل على أهمية مبحث الوجود، وكيف أنه الوريث الوحيد للتوحيد ونهايته، وليس فقط مقدمة أو سلما له، ثم يأتي التوحيد في الأسفار الثلاثة التالية، الثالث والرابع عن الصفات، والخامس عن الذات، وينتهي الخامس بالكلام في العدل الذي يشمل آخر الخامس والأسفار الأربعة التالية من السادس حتى التاسع عن الحسن والقبح، وخلق الأفعال، والمخلوق، والتولد؛ وبالتالي يمثل التوحيد نصف العدل، والعدل ضعف التوحيد، ومع أنهما متمايزان إلا أنهما متداخلان؛ إذ يأتي الكلام على العدل بعد الذات والصفات؛ أي مع الأفعال، ثم يأتي موضوعا الإرادة والكلام مع مباحث العدل، وكأن صفة الإرادة، هي من صفات الله عند الأشاعرة، هي من مباحث العدل عند المعتزلة؛ لأن المقصود هو الدفاع عن إرادة الإنسان، وليس إثبات إرادة الله، كما أن مبحث الكلام عند المعتزلة من مباحث العدل؛ لأنه إثبات لخلق القرآن، وليس إثباتا لصفة قديمة كما هو الحال عند الأشاعرة، أما من حيث الأصول الأربعة، فيشمل الأصل الأول المقدمات النظرية، والثاني والثالث التوحيد، ذاتا وصفات، والرابع بيان ما لا يجوز عليه، وهنا يظهر العدل متداخلا مع التوحيد؛ فالعدل دفاع إيجابي عن الإنسان ووصف سلبي لله، في حين أن التوحيد دفاع إيجابي عن الله ووصف سلبي للإنسان، ويشمل العدل أكثر من ضعف العلم كله، المقدمات النظرية والتوحيد معا، ويخص العدل بالتفصيل ليس فقط عن طريق الفصول والأبواب، ولكن بالكلام. فهناك الكلام في الأفعال، والكلام في الإرادة، والكلام في القرآن، والكلام في المخلوق، والكلام في التولد، مما يدل على أن هذه الموضوعات التي تكون مسائل العدل ما زالت تكون بطريقة لاشعورية البناء الأساسي للعلم الاعتزالي، ولكنه للأسف لم يظهر في صورة بناء شعوري كما ظهر بناء العلم الأشعري، ومحاولتنا هذه «من العقيدة إلى الثورة» هو انتقال من بناء العلم الأشعري إلى بناء العلم الاعتزالي عن طريق اكتشاف العدل وراء الإلهيات والسمعيات معا، واضعا القرون العشرة الأخيرة «بين قوسين»، وعائدا إلى القرن الرابع القديم، مطورا بناء علم أصول الدين الاعتزالي، ولاحقا بالحركات الإصلاحية الحديثة، دافعا إياها خطوة أخرى إلى الأمام، نحو بناء العلم الاعتزالي بعد أن تركت نصفه اعتزاليا ونصفه الآخر أشعريا، ويكون هذا تطويرا وتحقيقا لمعنى نهاية الكتاب «في ذكر من ذم القدرية».
18
رابعا: من الأصول إلى البناء
بعد تحول الموضوعات إلى أصول كان من السهل تركيب الأصول في بناء، يكون هو البناء النهائي للعلم، وذلك عن طريق إدخال مجموعة من الأصول معا في أصل واحد أعم وأشمل، بحيث يكون عددها أقل ونطاقها أوسع. وقد تم ذلك تدريجيا على النحو الآتي: (1) نظرية الذات والصفات والأفعال
بدأت نظرية الذات والصفات والأفعال في الظهور على أنها المحور الرئيسي للعلم الذي يضم التوحيد والعدل معا، التوحيد في الذات والصفات، والعدل في الأفعال، ثم إضافة محور آخر هو النبوات أو السمعيات يضم مسائل النبوة والمعاد والإيمان والعدل والإمامة، وقد تسمى هذه الإضافات أو تترك بلا تسمية كما حدث في أول بناء العلم، هذا بالإضافة إلى المقدمات النظرية عن العلم والمعلوم، وقد حدث هذا التركيب في القرنين السادس والسابع على وجه الخصوص، وإن كانت بداياته قد ظهرت في القرن الخامس، وامتدت حتى القرن الثامن، وكان العالم على وعي بهذا التركيب، يبرزه ويوضحه في مقدماته، ولم يتركه على مستوى اللاشعور، يدركه الباحث بعقله أو يركبه بالاستعانة ببناء العلم المتقدم، وقد استمرت المقدمات النظرية في تمهيدات أربع تقيم أساسا نظرية العلم بالإضافة إلى شرعية العلم ودرجة وجوبه، مما يدل على أن التساؤل حول شرعية علم الكلام قد بدأ يدخل ضمن مقدماته النظرية، وهو ما قد سقط أيضا في فكرنا الكلامي المتأخر، وفي وجداننا المعاصر بالتسليم بعلم العقائد دون تساؤل حول شرعية هذا العلم في وقت تضيع فيه مصالح الأمة، وتتغير مظان الأخطار، من الفكر إلى الواقع ، ومن العقيدة إلى الشريعة، ومن التوحيد إلى الأرض، أما الوجود فإنه يعتبر مقدمة للذات في صيغة دليل الحدوث، وإثبات العلم بالصانع، ولا تشمل هذه التمهيدات أكثر من عشر العلم، مما يدل على أن قلب العلم هي نظرية الذات والصفات والفعال، كل منها تدل على قطب، وتشمل ثلاثة أرباع العلم، وهي كلها في التوحيد، أما القطب الرابع فلا اسم له، ولكنه يشمل النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، وهو ما سمي فيما بعد بالسمعيات. وفي النهاية يأتي ملحق في تاريخ الفرق عندما يتحول التاريخ ذاته إلى جزء من البناء.
1
هناك إذن محوران للعلم بعد التمهيدات وقبل الملحق، وهما الإلهيات والسمعيات كما سميا فيما بعد؛ من حيث الكم تبدو الإلهيات ثلاثة أضعاف السمعيات، وهو ما زال مستمرا في وجداننا المعاصر، ويبدو العدل وقد أصبح جزءا من التوحيد في قطب الأفعال التي تمثل ربع التوحيد من حيث الكم؛ وبالتالي يتوارى العدل داخل التوحيد حتى يتم القضاء عليه كلية كما هو الحال في فكرنا الديني المعاصر، أما القطب الرابع فإن النبوة أهم مباحثه وأكبرها، فهي تمثل نصفه، ويظهر المعاد، والأسماء والأحكام في موضوع واحد، والكل مع الإمامة لا يزيد على ربع العلم، أما التاريخ فإنه لا يزيد على خمس السمعيات التي لا تزيد على ربع العلم مما يشير إلى غياب التاريخ كلية من علم الكلام العقائدي المتأخر، ومن وجداننا المعاصر على السواء.
2
ثم تتحول نظرية الذات والصفات والأفعال إلى بناء للعلم يدور حول عشرة أبواب؛ الأول في العلم، والثاني في الوجود، وكلاهما يبلغان سدس العلم كله، ولكن يفوق الوجود العلم بحوالي ستة أضعاف؛ مما يدل على أن المعلوم أصبح أهم من العلم، وأن الوجود بدأ يرث التوحيد حتى تمدد الوجود، ووصل إلى أكثر من نصف العلم بمفرده، والأربعة التالية في الإلهيات، ثم الأربعة الأخيرة في السمعيات، وبالتالي تكون الإلهيات نصف السمعيات، والسمعيات ضعف الإلهيات كما هو حادث في فكرنا المعاصر من تبادل السيادة بين الإلهيات والسمعيات، وتشمل الإلهيات: التوحيد في الأبواب الثلاثة الأولى عن إثبات العلم بالصانع، ثم الذات، ثم الصفات، ثم العدل في الباب الرابع بعنوان «القدر»، وتختفي مسألة العقل والنقل داخل خلق الأفعال؛ فالعدل يتمايز عن التوحيد، ولكنه نصفه كما أن التوحيد ضعف العدل مما سهل فيما بعد ابتلاع العدل في التوحيد ثم اختفاءه كلية في وجداننا المعاصر، أما السمعيات فتشمل الأبواب الأربعة الأخيرة: النبوات، والنفوس الناطقة وأحوال القيامة (المعاد) والإمامة؛ فالمعاد إذن يشمل بابين، النفس الناطقة وأحوال القيامة، حوالي نصف العلم أو أقل قليلا ابتداء من الموت وتميز النفس عن البدن، ثم يتلوه من حيث الكم الإمامة ثم النبوة، ولا يظهر مبحث الإيمان والعمل أو الأسماء والأحكام في باب مستقل، وهذا هو أول بناء صريح للعلم يظهر في القرن السادس من مقدمتين نظريتين وأبواب ثمان، إلا أن التوحيد جار على العدل في باب الإلهيات، كما أن المعاد جار على الإيمان والعمل في باب السمعيات.
3
ويستمر هذا البناء المثمن للعلم بالإضافة إلى المقدمتين بطريقة أو بأخرى، فيدور العلم مثلا على ثمانية قوانين؛ الأول في نظرية الوجود، ويدخل العلم معه، فالأولوية للوجود على العلم، وهو ما اتضح فيما بعد من تمدد الوجود حتى أصبح نصف مادة العلم كلها، ومع ذلك لا تشمل المقدمتان أكثر من واحد من عشرين جزءا من مادة العلم كله في القانون الأول، ثم تظهر الإلهيات في القوانين الأربعة التالية في الصفات، وفي وحدانية الباري، وفي إبطال التشبيه، وفي أفعال واجب الوجود، وتظهر السمعيات في القوانين الثلاثة الأخيرة، في المعاد، وفي النبوات، وفي الإمامة. وتمثل الإلهيات ضعف السمعيات من حيث الكم مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في فكرنا المعاصر، ويمثل التوحيد أربعة أضعاف العدل؛ إذ يشمل التوحيد قوانين ثلاثة، في حين يشمل العدل قانونا واحدا، يدخل أيضا ضمن أفعال واجب الوجود وليس أصلا مستقلا عن التوحيد، وتظهر في العدل لأول مرة مادة جديدة تعادل الموضوعات التقليدية للبحث ذاته، مثل خلق الأفعال، والحسن والقبح ، والغاية والمصلحة من أجل رفض نظرية الفيض، ورفض قدم العالم، وإثبات الحدوث مما يدل على خطورة نظرية الفيض في القرن السابع بعد غزو علوم الحكمة لعلوم التوحيد، وقد كانت هذه المادة من قبل أدخل في نظرية الوجود، أما السمعيات فإنها تشمل موضوعات ثلاثة فقط: النبوة والمعاد، والإمامة دون الأسماء والأحكام، مما يفسر تواري موضوع العلم والالتزام السياسي عن حياتنا المعاصرة، وتشمل النبوة والمعاد ثلاثة أرباع السمعيات، والإمامة الربع الأخير، مما يفسر أيضا تواري المسألة السياسية في حياتنا المعاصرة أمام التفكير في الأنبياء وفي أحوال الآخرة.
4 (2) المقدمات، والإلهيات، والسمعيات
وبعد البناء المثمن للعلم، بالإضافة إلى المقدمتين، والذي بلغ ذروته النظرية في نظرية الذات والصفات والأفعال، بالإضافة إلى أبواب النبوة والمعاد والإمامة، يكتمل بناء العلم في القسمة الأساسية للعلم إلى إلهيات وسمعيات، بالإضافة إلى المقدمتين النظريتين عن العلم والوجود اللذين يصبحان معا نظرية واحدة في أحكام العقل الثلاثة: الوجوب، والجواز، والاستحالة، تضم العلم والوجود معا، وهي النظرية التي أصبحت فيما بعد المقدمة النظرية لعلم الكلام العقائدي، وتشمل هذه النظرية جزءا ضئيلا من مادة العلم كله، جزءا من أربعة عشر جزءا، وتشمل الإلهيات ثلاثة أخماس العلم؛ ومن ثم تفوق مع السمعيات الخمسين، وكلتاهما تتبادلان الأولوية حتى الآن في فكرنا المعاصر، ولكن في الإلهيات يتميز التوحيد عن العدل، ربما لجدل بين الأشاعرة والمعتزلة، ومحاولة الأشاعرة الرد على الموقف الاعتزالي الذي يعطي الأولوية للعدل على التوحيد، ويحدث التميز بإقصار التوحيد على الإلهيات، أما العدل فإنه يدخل في أصل ثان؛ هي «العبودية والصفات المرعية في ثبوت الطلبات التكليفية»، ويتساوى حينئذ التوحيد والعدل أو الإلهيات والعبودية من حيث الكم، ولو أن العدل موضوع تحت شعار «العبودية»، مما يدل على الخسارة التي أدى إليها اختفاء العدل كلية، وابتلاعه في التوحيد، وضياعه من وجداننا المعاصر، أما السمعيات، فإنها تتبادل اسمها مع النبوات، ويظل هذا التأرجح حتى المصنفات المتأخرة باستثناء المصنفات الأساسية في بناء العلم، فالنبوة هي حلقة الوصل بين الإلهيات والعبودية من ناحية وبين السمعيات من ناحية أخرى؛ فهي بعد الإلهيات والعبودية وقبل السمعيات، وتمثل النبوة والسمعيات تقريبا ستة أسباع العلم، ويبقى السبع الآخر للإيمان والعمل، والسياسة، وهذا ما يتضح أيضا في حياتنا المعاصرة من سيادة الفكر النبوي والأخروي على الفكر العلمي والسياسي، ويتساوى قدر النبوات وأمور المعاد من حيث الكم، وهما يوجهان فكرنا المعاصر على التبادل، ويحدث هذا التحول في بناء العلم عن وعي تام بالبناء دون أن يكون ذلك متروكا لاستنباط الباحث أو لعقلنة المادة.
5
ويتحدد بناء العلم في النهاية كبناء كامل ينسج على منواله معظم المؤلفين الأشاعرة في المقدمتين النظريتين، العلم والوجود، والمحورين الأساسيين، الإلهيات والسمعيات، فيقوم العلم مثلا على أركان أربعة: المقدمات، وأحكام الموجودات، والإلهيات، والسمعيات، ولأول مرة تكون المقدمتان أكثر من نصف مادة العلم كله مما يدل على مدى تأخر فكرنا المعاصر باختفاء المقدمات، وتحويلنا العلم إلى مجرد عقائد يجب التسليم بها عن طريق الإيمان، وتبلغ نظرية الوجود وحدها أكثر من ضعفي نظرية العلم مما يشير أيضا إلى مدى تخلف فكرنا المعاصر من اختفاء بعد الوجود منه، وضياع الطبيعة، وطمس الواقع في وجدانه، أما الإلهيات فإنها تشمل موضوعات أربعة: الذات، والصفات، والأفعال، والأسماء؛ ولأول مرة يضاف إلى نظرية الذات والصفات والأفعال مبحث رابع هي الأسماء، وتشمل الأفعال مبحث خلق الأفعال، والحسن والقبح، وهما المبحثان الرئيسيان في أصل العدل، وتعادل الإلهيات السمعيات مرة ونصف، مما يدل على استمرار هذا النمط حتى الآن في فكرنا المعاصر، أما السمعيات فإنها تشمل لأول مرة بوضوح الموضوعات الأربعة: النبوات، والمعاد، والأسماء والأحكام، والإمامة، ولكن النبوة والمعاد يشملان ثلاثة أرباع العلم، في حين يشمل الإيمان والعمل مع السياسة الربع الأخير، مما يدل على تواري العمل والسياسة في حياتنا المعاصرة أمام التفكير النبوي والأخروي، وتتعادل النبوة والمعاد من حيث الكم، وهو ما يحدث بالفعل في فكرنا المعاصر من تبادلهما الظهر فيه، أما أقل الموضوعات كما فهو موضوع الإيمان والعمل، مما يوضح ما نحن فيه الآن من تواري العمل الفردي والجماعي.
6
وقد يقوم العلم على بناء ثلاثي مع مقدمة واحدة تشمل نظرية العلم وحدها، والتي تبلغ من حيث الكم ثمن العلم، أما نظرية الوجود فإنها لأول مرة تدخل في بناء العلم، وتمثل أكثر من نصف مادة العلم كله، إلهياته ونبواته، مما يدل على أن فكرنا المعاصر قد سار على هذا النمط في اختفاء نظرية العلم لأنها لم تكن داخلة في بنائه، بل ظلت مقدمة نظرية له، وتخلف عن هذا النمط أيضا بإسقاطه الوجود من حسابه بعد أن أدخله بناء العلم القديم كجزء منه، فبعد المقدمة النظرية عن العلم يكون العلم ذا بناء ثلاثي في ثلاثة كتب: الأول في الممكنات، والثاني في الإلهيات، والثالث في النبوة؛ الممكنات هي المعلومات، والموجودات والإلهيات هي ذات الله وصفاته وأفعاله، وهي تعادل النبوة من حيث الكم، ويختفي العدل كما هي العادة في الأفعال، أما النبوة فإنها تكون الاسم المفضل عن السمعيات نظرا لأهمية النبوة، وفيها تظهر موضوعات ثلاثة فقط: النبوة، والمعاد، والإمامة، وتتعادل فيما بينها من حيث الكم، وتسقط الأسماء والأحكام مما يدل على تواري العمل من فكرنا ومن وجداننا المعاصر.
7
وقد يقوم العلم على بناء سداسي، وهو ما وصل إليه البناء من اتفاق واستقرار، يشمل البناء ستة مواقف، الأربعة الأولى منها في المقدمات النظرية، والاثنان الأخيران في العلم ذاته؛ أي في الإلهيات والسمعيات، ولأول مرة، يدخل العلم والوجود معا كجزأين من بناء العلم، وليسا فقط كمقدمتين نظريتين له، وفي نفس الوقت يفوقان العلم ذاته من حيث الكم؛ إذ يبلغان ثلاثة أرباع العلم، ولا يبقى للإلهيات والسمعيات إلا الربع الأخير، ولو أن العلم تطور في مساره الطبيعي الارتقائي منذ القرن الثامن حتى الآن لكانت المقدمات النظرية هذه قد ابتلعت العلم كله خاصة ما تبقى منه، الإلهيات والسمعيات، خاصة بعد أن تحولت الإلهيات إلى عقليات؛ وبالتالي لا يبقى إلا السمعيات، وإن محاولتنا هذه «من العقيدة إلى الثورة» هو استئناف طبيعي لتطور العلم المتوقف منذ القرن الثامن حتى الآن باستثناء «رسالة التوحيد» في القرن الثالث عشر، وجعله كله عقليات تقوم هي ذاتها على التجارب الحية؛ أي الوجدانيات التي تنكشف «الواقعيات» من خلالها؛ أي واقع العصر، وقضاياه المصيرية، وأحداثه التاريخية. إن الذي حدث منذ القرن الثامن حتى الآن هو أن العلم نكص راجعا إلى الوراء، فاختفت المقدمات النظرية، العلم والوجود، وتحولت الإلهيات والسمعيات إلى محوري العلم الأساسي، الله والنبي. فضاع العلم وضعنا معه، ويفوق الوجود العلم بحوالي خمسة أضعاف مما يدل على أن تحليل الوجود الذي يأخذ وحده أكثر من نصف العلم، ويشمل ثلاثة مواقف من ستة، هو الوريث الوحيد لعلم أصول الدين، وأن «الأنطولوجيا» هي النهاية الطبيعية ل «الثيولوجيا»؛ فالإلهيات ما زالت مشخصة في وثنية عقلية، في حين أن تحليل الوجود العام هو أقصى درجات التنزيه، وقد تفصل مبحث الوجود حتى احتاج هو ذاته إلى مقدمات نظرية، هي «الأمور العامة» بدل أن كان هو مقدمة نظرية للعلم ذاته، بالإضافة إلى مبحثي «الأعراض والجواهر» بعد أن كانا مبحثا واحدا، أما الإلهيات فإنها تتعادل من حيث الكم مع السمعيات، وتشمل الذات والصفات والأفعال والأسماء، ويختفي العدل بمسألتيه، خلق الأفعال، والعقل والنقل من الأفعال، أما السمعيات فإنها تشمل الموضوعات الأربعة: النبوات، والمعاد، والأسماء والأحكام، والإمامة. وهو ما يحدث في فكرنا المعاصر من تركيزه على النبوة والمعاد، ثم يأتي العمل في النهاية، ثم يضاف تذييل في الفرق، وذلك عندما يتحول تاريخ الفرق إلى موضوع بنائي كنواة للتاريخ الذي لم يقدر له الظهور في بناء العلم إلا على هذا النحو الإضافي،
8
ويتحدد بناء العلم السداسي هذا عن وعي من المصنف الذي يحاول تعقيل البناء طبقا للتحليل العقلي الخالص.
9
وقد يدور بناء العلم أيضا على ستة أبواب على نفس المنوال السابق، حيث يدخل العلم والوجود معا في بناء العلم في البابين الأولين، وهما يشملان معا ثلاثة أخماس العلم، ومادة العلم ذاته الخمسان الباقيان، ولكن يتوارى العلم من المقدمتين، ولا يبلغ أكثر من جزء من أربعة عشر جزءا، في حين أن الوجود يشمل الثلاثة عشر جزءا الباقية، يشمل العلم الباب الأول في حين يشمل الوجود الثلاثة أبواب التالية، مما يدل أيضا على تواري العلم في حياتنا المعاصرة، بالإضافة إلى تواري الوجود أيضا إلا من الإحساس به كضنك وأزمة تنتظر الفرج أو نتكالب عليه لاحتوائه دون أن نراه أو نتصوره، ويفصل مبحث الوجود إلى مقدمة عن الأمور العامة، ثم ينفصل مبحثا الأعراض والجواهر، كل منهما في مبحث مستقل، أما الإلهيات فإنها تعادل السمعيات من حيث الكم، ولكنها بدأت تتخلى عن الذات والصفات والأفعال، وظهرت المسائل في مطالب وكلام وفصول، يجمعها الأصلان، التوحيد والعدل، ويتساويان من حيث الكم؛ أي أن مسائل العدل عادت للظهور كصحوة أخيرة قبل الموت النهائي في علم الكلام العقائدي، أما السمعيات، فإنها تشمل الموضوعات التقليدية الأربعة، النبوة، والمعاد، والإيمان والعمل، والإمامة، ويبلغ الإيمان والعمل نصف السمعيات من حيث الكم، وتلك صحوة أخرى قبل النهاية؛ وذلك لأن هذا الموضوع كان يأتي باستمرار في النهاية من حيث الأهمية والكم، بل كثيرا ما كان يتم إسقاطه، وإقصار السمعيات على موضوعات ثلاثة فقط، وبعد الإيمان والعمل في الأهمية والكم يأتي المعاد ثم النبوة، وتأتي الإمامة في النهاية، ولا تمثل إلا ثمن العلم مما يدل على ضعف أهمية السياسة في وجداننا المعاصر.
10
ويستمر البناء على ستة مقاصد على نفس المنوال الذي استقر فيه العلم في النهاية في القرنين السابع والثامن، فتدخل المقدمتان النظريتان كجزء من بناء العلم في المقصدين الأول والثاني، وكلاهما يشملان حوالي ثلثي العلم، والعلم ذاته الثلث الأخير، مما يدل على أن نظريتي العلم والوجود هما كل العلم تقريبا، وهما اللذان سقطا من وجداننا المعاصر، في حين بقي الثلث الأخير بإلهياته وسمعياته، ولا تشمل نظرية العلم إلا واحدا من أربعة وعشرين جزءا من العلم أو واحدا من خمسة عشر جزءا من المقدمات، في حين أن الوجود يشمل نصف العلم وأربعة عشر جزءا من خمسة عشر من المقدمات، مما يدل على أهمية الوجود، وكيف أنه أصبح هو البديل الوحيد لعلم الكلام، وهو ما أضعناه في القرون الستة الأخيرة من القرن الثامن حتى الآن قبل الانهيار التام للبناء في علم الكلام العقائدي، وتتفصل أيضا مباحث الوجود إلى الأمور العامة ، والعرض، والجوهر، كل منها بحث مستقل بذاته، أما الإلهيات فإنها لأول مرة تسمى العقليات، مما يدل على أن تطور العلم بالقرن الثامن كان قد شارف على ابتلاع الإلهيات بجعلها عقليات خالصة، ومن ثم يمكن ضمها إلى المباحث النظرية الأولى، وكان بالإمكان فيما بعد ضم السمعيات أيضا إلى العقليات أو العمليات أو المستقبليات أو السياسيات أو التاريخيات؛ وذلك لأن النبوة هي تاريخ الوحي، والمعاد هو مستقبل الإنسان، والإيمان والعمل هو حاضر الإنسان وفعله في الزمان، والإمامة هي السياسة والمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، ولكن لسوء الحظ توقف هذا التطور الأخير، وانهار البناء في علم الكلام العقائدي إلا من ومضة إصلاحية في الحركات الإصلاحية الدينية الأخيرة التي لم تؤت كل ثمارها بعد، وهذا المصنف «من العقيدة إلى الثورة» محاولة لاستئناف هذه الومضة الإصلاحية وتحويلها من أشعرية في التوحيد واعتزالية في العدل إلى اعتزالية في التوحيد والعدل.
11
ولكن يبقى البناء النظري هي المقدمات النظرية، والإلهيات والسمعيات، وهي تعادل ما توصلت إليه علوم الحكمة أيضا من قسمة الحكمة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات؛ فالمنطق هي نظرية العلم، والطبيعيات هي نظرية الوجود التي شملت الأمور العامة ومبحث الأعراض ومبحث الجواهر، والإلهيات هي الإلهيات والسمعيات معا.
12 (3) الإلهيات، والنبوات، والسمعيات
وبعد اكتمال بناء العلم بدأ يهتز البناء؛ إما لضياع التحليل العقلي الذي يقوم عليه البناء أو طبقا لمقتضيات ظروف حتمت عليه التفكك والضعف، وأول مظاهر هذا التهدم هو اختفاء المقدمات النظرية التي بلغت أحيانا ثلاثة أرباع العلم، والتي بلغ فيها الوجود وحده نصف العلم، وإقصار العلم على محاور ثلاثة: الإلهيات، والنبوات، والسمعيات؛ فقد تعدد المحور الثاني وازدوج وأصبح بديلا عن المقدمات النظرية، وفي غياب العلم والوجود تحل الأخرويات، وفي غياب العقل يحضر الخيال، وبضياع الواقع يحل الوهم، فبدل أن كانت السمعيات والنبوات في البداية مترادفتين في القرن الخامس أصبحتا الآن منذ القرن الثاني عشر متمايزتين، وأصبحت النبوات وسطا بين الإلهيات والسمعيات؛ لأن السمعيات تؤخذ من النبوات، كان بالإمكان أيضا أخذ النبوات وتحويلها إلى عقليات، ولا تبقى إلا السمعيات بمعنى الأخرويات.
13
ويستمر العلم في محاولة التكيف في بنائه مع الظروف الجديدة، ويغلب عليها طابع التجميع؛ ففي نفس الوقت الذي يدور فيه العلم حول محوري الإلهيات والسمعيات، تشمل المقدمات تعريف العلم وموضوعه وثمرته وفضله ووجوبه، وهو التساؤل القديم حول أساس العلم وشرعيته من جديد، وهو أيضا تساؤل العصر الحاضر في محاولته أخذ الموقف من العلوم التقليدية القديمة بالإضافة إلى مباحث الإيمان، وما يجب الإيمان به، والإسلام، وما ينافي الإيمان، وأحكام العقل الثلاثة، مما يدل على أن العلم قد أوشك على التحول إلى علم عقائد إيماني يقوم على التسليم، ولا تشمل هذه المقدمات على أكثر من جزء من عشرين جزءا تكون مادة العلم، مما يدل على أن تواري المقدمات والإقلال منها قد أدى إلى ما نحن فيه الآن من ضياع للمقدمات النظرية كلها لأي أمر من الأمور، أما الإلهيات فإنها تبلغ نصف السمعيات، والسمعيات ضعف الإلهيات، مما يدل على توجه وجداننا المعاصر نحو السمعيات أكثر فأكثر، وهو ما يحدث حتى الآن، وتبتلع الإلهيات مسائل العدل، فلا يظهر العدل إلا في موضوع واحد داخل الإلهيات، وهو موضوع ما يجوز على الله، أما السمعيات فإنها تشمل النبوة والمعاد دون الأسماء والأحكام؛ لأن العلم كله أصبح موضوعا للإيمان دون العمل، والحقيقة أن الإلهيات والسمعيات كتعبيرين لا يوجدان بل يوجد الإيمان بالله، والإيمان بالرسل، فموضوعات العلم كلها موضوعات للإيمان، أما الإمامة فتظهر في الخاتمة؛ أي أنها خرجت عن كونها أساسا للعلم أو ملحقا به، وأصبحت مجرد دعوة في وجوب نصب خليفة يقوم بأمر الإسلام والمسلمين، يحمي كيانهم، ويصون ثغورهم، إبان الخلافة العثمانية وهي على وشك الانهيار، تدعيما لها، ودفاعا عنها. وتفوق النبوة المعاد من حيث الكم إلى ثلاثة أضعاف مما يدل على تركيز فكرنا الحاضر على النبوة والمعجزة تشخيصا للوحي وليس «توقيعا» له؛ أي تحويله إلى نظام في الواقع، ولكن الجديد هو زيادة محور ثالث مع الإلهيات والسمعيات عن «التأويل» من أجل بيان اتفاق العقل والنقل في الموضوعات الطبيعية والأخرويات، والجغرافيا والتاريخ، وهي العلوم الجديدة المنقولة عن الغرب أو التي تفتح الذهن عليها في واقعه الخاص، فرضت مسألة العقل والنقل ، دون تسميتها، نفسها على العلم من جديد، حتى إنها بلغت ربع مادة العلم، مما يدل على أن مهمة عالم الكلام الآن هي في أن ينحو نحوا عقليا في تحليله للموضوعات، بل وإعطاء الأولوية لموضوع العقل والنقل على غيره من الموضوعات.
14
وتبدو بعض مظاهر التجديد الأخرى عن طريق زيادة موضوع على النبوة أو بتعبير أدق تطوير النبوة بإضافة الرسالة، حيث يبدو الإسلام نظاما عاما للحياة، ويتحد علم أصول الدين مع الفقه ويمحي الفرق بين النظر والعمل، هذا بالإضافة إلى بناء العلم التقليدي الذي يشمل المقدمات النظرية، العلم والوجود، ثم تقسيم العلم ذاته على محورين، الإلهيات من ناحية والنبوة والرسالة من ناحية أخرى، ويبدأ العلم بتجديد ذاته وموضوعه وغاياته والاحتياج إليه مما يشير إلى أن التساؤل الفقهي القديم قد أثير من جديد إحساسا بأن علم الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، تبدأ نظرية العلم ثم نظرية الوجود التقليديتان، وتشملان معا ربع العلم؛ أي أنهما توارتا قليلا عن علم الكلام المتأخر، وعادتا إلى حجمهما الطبيعي، أما الإلهيات فإنها تمثل ثلاثة أرباع السمعيات مما يدل على عظم حجم الإلهيات في فكرنا المعاصر، ويبتلع التوحيد العدل في نظرية الأفعال، ولكن يظهر موضوع الحسن والقبح من جديد، مثل باقي الحركات الإصلاحية من أجل إحياء بعض التيارات العقلية القديمة، ومن أجل إرساء قواعد العقلانية في حياتنا المعاصرة ضد مظاهر الخرافة والسحر والشعوذة، وتبدو مسائل العدل من حيث الكم نصف الإلهيات دون أن يبرز كموضوع مستقل، ويسقط لفظ السمعيات ويحل محله النبوة دون ذكر للمعاد أو الأسماء أو الأحكام أو الإمامة، مما يدل على إمكانية تطوير علم الكلام بإسقاط مادة وزيادة أخرى، ولكن إسقاط الإيمان والعمل وإسقاط المسألة السياسية لا يتفق مع ظروف العصر التي تتطلب البداية بالعمل الفردي والجماعي، خاصة وأن إضافة الرسالة على النبوة يتطلب تحقيقها بالفعل، ومن الذي سيحققها إن لم يكن العمل الفردي والجماعي؟ وقد ظهر لفظ «الرسالة» كعنوان أكثر من ظهوره كمادة إضافية على علم الكلام مما يستدعي تطويرا بإضافة مادة جديدة حتى يصدق العنوان عليها.
15
ويتم التجديد على نفس المنوال السابق بإظهار مسائل العدل من بطن التوحيد، وبتحويل النبوة إلى مسار تاريخي وليس إلى اتصال رأسي؛ وبالتالي يختفي أصل السمعيات بالإضافة إلى استبدال نظرية العلم الأولى بوصف تاريخي لنشأة علم الكلام، وكيفية حدوث الفرقة بين المسلمين، فالوصف التاريخي وبيان النشأة والتكوين أحد مصادر تأسيس العلم. تشمل المقدمات حوالي عشر العلم، وتعيد كتابة تاريخه لمعرفة ماذا حدث؟ وكيف نشأ؟ وكيف تطور؟ وكيف تكون؟ فإعادة التفسير والوصف هي الوسيلة للتصفية وإعادة البناء عن طريق الأحكام التاريخية التي هي أحكام فكرية ضمنية من أجل إعادة الوحدة الأولى بين الفكر والواقع قبل انفصالها إلى فرق منذ الفتنة، فوحدة الفكر تخلق وحدة الأمة.
16
أما نظرية الوجود فإنها أيضا تظهر في نظرية أحكام العقل الثلاثة التي يمحى فيها الفرق بين العلم والوجود؛ وبالتالي تدور المقدمة حول موضوع واحد، هو الفكر والواقع، إما من الناحية التاريخية الوصفية أو من ناحية الحكم والمنطق، وهو ما نحتاجه حتى الآن من إعادة تقييم لتراثنا القديم، وتحديد لصلة الفكر بالواقع، وفي مادة العلم ذاته يسقط اللفظان معا اللذان يشيران إلى محوري العلم، الإلهيات والسمعيات، وتظهر موضوعاتهما بلا تبويب لأصول متميزة، ولكن تتركز موضوعات التوحيد حول الصفات، وتشمل خمس الإلهيات في حين أن موضوعات العدل، خلق الأفعال، والحسن والقبح، يشملان الثلاثة أخماس الأخرى؛ وبالتالي تظهر مسائل العدل بعد أن اختفت من قبل ضمن باب الأفعال في التوحيد، أما الرسالة، وهي الوريث للنبوة التي هي بدورها الوريث للسمعيات، فإنها تفوق موضوعات التوحيد والعدل إلى درجة الضعف، ويتحدد فيها مسار الوحي في التاريخ، ولكن يضاف بعد جديد هو أخذ موقف من التراث الغربي عن طريق الدفاع ضد هجماته التي قام بها الاستشراق ضد التراث وقيمه؛ وبالتالي يكون موقفنا من التراث الغربي جزءا من دراستنا للتراث الحالي في المرحلة التاريخية الحالية، نهاية الثانية وبداية الثالثة، بعد أن أصبح مفتوحا على التراث الغربي ناقلا أو مقلدا، مترجما أو عارضا، مدافعا أو مهاجما،
17
وتسقط موضوعات المعاد والإيمان والعمل والإمامة، مما يدل أيضا على أن العمل السياسي الفردي والجماعي لم يدخل بعد كجزء أساسي في علم التوحيد إلا عند الشيعة مشخصا في الإمام، مع أن أول التوحيد أي الذات والصفات لا يجد له تفسيرا إلا في آخره؛ أي الإيمان والعمل والإمامة، فالتصور الوحيد لله، وهو الموضوع الأول في علم الكلام لا يوجد إلا في السياسة، وهو الموضوع الأخير، وأن «الذات» لا تتحقق إلا في الأمة، وأن الله بداية والدولة نهاية.
18
ورسالة «التوحيد» ليست رسالة مكتوبة، تعني مقالا أو كتابا أو مصنفا، بل تعني مسئولية التوحيد، وغايته، وتحقيقه، ومهمته، ودعوته.
19
وقد يغيب بناء العلم كلية ولكن يظل موضوعه قائما مدعما بالنصوص، ويظل موضوعه الأساسي التوحيد الموجه نحو العمل في مقابل التوحيد القديم الموجه نحو التشبيه والتشخيص، وهو التيار الغالب على جميع التيارات الإصلاحية التي تنقل الموضوع من مستوى الفكر إلى مستوى الواقع، ومن جانب النظر إلى جانب العمل. التوحيد موجه للسلوك وليس تصورا ذهنيا، ومع ذلك، لم تؤت هذه التيارات كل ثمارها بعد، لأن التوحيد ما زال تصورا مشخصا، بل وعقيدة إيمانية في حين أن محاربة البدع والخرافات ووسائل التقرب والشفاعة، كل ذلك عمل التوحيد الذي هو عملية حركية، وليس جوهرا ساكنا، ومصنفنا هذا في علم التوحيد «من العقيدة إلى الثورة»، ما هو إلا صهر لهذا التيار في صورة أكثر عقلانية، وبأسلوب تحليلي، يجمع فيه بين التحليل العلمي للموضوع والالتزام العملي بالواقع.
20
خامسا: من بناء العلم إلى عقائد الإيمان
بالرغم من المحاولات الإصلاحية الأخيرة التي تمت في بناء العلم من أجل إعادة ربطه بالواقع، وبالتغيرات التي طرأت على حال المسلمين، فإن بناء العلم ذاته الذي تم تكوينه في القرون الثمانية الأولى قد انهار بانهيار المسلمين، وتخلف بتخلفهم، فتحول من بناء للعلم إلى عقائد للإيمان، تحولت الأصول النظرية إلى عقائد إيمانية، وتوارى التحليل العقلي أمام التسليم والتقليد، وظهر الإسلام على أنه مجموعة من العقائد
Crédo
والإسلام ذاته أبعد الأديان عن هذه الصياغة وإلا كان مسيحية، الوحي الإسلامي مجموعة من الأصول العقلية التي هي أيضا بناء الواقع، وكلاهما يمكن التدليل عليه ببرهان العقل وتجربة الواقع، أما العقائد فهي مسلمات إيمانية لا تتضمن التصديق بها، بل مجرد التسليم إما عن طريق التقليد أو بفعل إرادي، وإن من أسباب ضياعنا الحالي هو هذا الانهيار في بناء العلم، وضياع جهد عقلي استمر على مدى ثمانية قرون، وإن من مقومات نهضتنا الحالية هي إعادة بناء العلم التقليدي آخذين في الاعتبار أوضاعنا الحالية، ومطورين الحركات الإصلاحية الأخيرة، معطين لها دفعة جديدة، ناقلين لها من الإصلاح إلى النهضة، ومن الدين إلى الحضارة، ومن الوحي إلى التاريخ، ومن العقيدة إلى الثورة.
وقد بدأ الكلام أيضا في أوله بعلم العقائد، وكأن تاريخ العلم في نهايته يعود إلى ما بدأ منه، وكأن نهاية الحضارة شبيهة بأولها من حيث الضعف، وغياب البناء العقلي، وإذا كانت البداية تتطور وتتكون حتى يظهر البناء العقلي للعلم وكيان الحضارة، فإن النهاية انهيار ونكوص وردة ورجوع إلى البداية، لا مستقبل لها ولا أمل أمامها إلا البداية من جديد عن طريق إحياء القديم، وإعادة تفسير بنائه ثم إعادة البناء وتطويره طبقا لظروف العصر ومتطلباته؛ ففي كتب العقائد المتقدمة لا يوجد بناء نظري، بل يوجد فقط ما يجب على المؤمن اعتقاده والتسليم به، وكأن المقدمات النظرية كانت هي الوريث الوحيد لوجوب الإيمان والتسليم بالعقائد، فلما اختفت هذه المقدمات عاود الإيمان بالتسليم إلى الظهور كمقدمة للعلم بديلا عن المقدمات النظرية، وقد غلب على موضوعات العقائد المتقدمة أيضا مسائل الإلهيات والسمعيات دون ترتيب أو تبويب كبناء العلم المتأخر ودون إحصاء أو عد للعقائد كما هو الحال في علم العقائد الآن، تتداخل المسائل فيما بينها بادئة بالتعبير عن مضمون الإيمان ثم متناولة موضوعات الصفات وعلى رأسها الكلام والصفات الخبرية، ثم خلق الأفعال، والإيمان، والنبوة، والإمامة، ثم تعود مسائل الإيمان والوعد والوعيد، والمعجزات، والصفات، وعلى رأسها الرؤية والمسائل الأخروية، كان المهم هو الدفاع عن العقائد، والإعلان عنها، وليس بناؤها النظري أو عدها الإحصائي؛ لأن العقائد لم تكن قد استقرت بعد في بناء أو في إحصاء، فوجودها سابق على البحث عن النظرية أو عن قياس الكم، وقد تم هذا الإعلان المبكر عن العقائد كرد فعل على المحاولات الأولى التي قام بها المعتزلة لتنظير العقائد دفاعا عنها ضد المعتقدات والمذاهب والآراء الغازية، فإذا كانت العقائد الأولى رد فعل على التعقيل والتنظير، فإن العقائد المتأخرة كانت نتيجة لغياب التعقيل والتنظير.
1 (1) أحكام العقل الثلاثة وإحصاء العقائد حول الله والرسول
في العقائد المتأخرة، ابتداء من القرن السابع، انقلبت المقدمات النظرية عن العلم والوجود إلى مقدمة واحدة عن أحكام العقل الثلاثة، الواجب والممكن والمستحيل التي يتحد فيها العلم والوجود معا. تقلص العلم إلى أحكام العقل كما تقلص الوجود إلى مقولات ذهنية تشير إليه، كما تحولت الإلهيات (العقليات) والسمعيات (الظنيات) إلى محوري الله والرسول وتشخيص البناء المزدوج للعقائد في قطبين رئيسين؛ وبالتالي كان علم العقائد هو ما يجب وما يستحيل وما يجوز على الله، وما يجب وما يستحيل وما يجوز على الرسول، وبدأ العلم في إحصاء عدد العقائد وحصرها كما فيتفاوت عددها، مرة ثمانية وأربعون، ومرة خمسون، لا أقل من ذلك ولا أكثر! ولما كان الله أهم من الرسول وأعظم، فقد حاز على إحدى وأربعين عقيدة، ولم يبق للرسول إلا سبع عقائد. يشمل الله ستة أسباع العلم، والرسول سبعه الأخير، مما يؤكد تركيز فكرنا القومي على الله متبادلا مع الرسول، في حين أن ما ينقص شعورنا المعاصر محوران غائبان، هما: الإنسان والتاريخ، حاولنا العثور عليهما داخل بناء علم أصول الدين، الإنسان في الإلهيات، والتاريخ في السمعيات.
2
وقد بلغت العقائد في الله إحدى وأربعين عقيدة؛ لأن ما يجب له عشرون وما يستحيل عليه عشرون، وما تجوز له واحدة، وقد بلغ ما يجب له عشرون لأن أوصاف الذات ست: الوجود، والقدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، وأنه ليس في محل، وأنه واحد. وصفاتها سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة. فيكون المجموع عندئذ ثلاث عشرة صفة، ولكن إمعانا في إثبات الصفات ضد منكريها، مع أن نفي الصفات لم يقدر له أن يستمر تاريخيا؛ ومن ثم لم يعد خطرا على العقائد كي تحدد عددها درءا له، تكررت الصفات مرة للذات، أوصاف الله الستة، ومرة للفعل، صفات الله السبع، لم يعد يكفي العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، بل أضيف إمعانا لإثبات الصفات: أن يعلم، وأن يقدر، وأن يحيي، وأن يبصر، وأن يتكلم، وأن يريد؛ وبالتالي أصبح الله عالما بعلم، وقادرا بقدرة، وحيا بحياة، وسميعا بسمع، وبصيرا ببصر، ومتكلما بكلام، ومريدا بإرادة، فانقسمت كل صفة على نفسها أو ازدوجت، وأصبح مجموعها أربع عشرة صفة تكون مع أوصاف الذات الست عشرين صفة أضيف إلى صفات الذات السبع صفات فعل سبع، وأصبح المجموع مع أوصاف الذات الست عشرين صفة، فإذا أتينا بأضداد هذه العشرين صفة ونفيناها حصلنا على عشرين أخرى، وهي ما يستحيل له من صفات الذات، مثل: الجهل، والعجز، والموت، والصمم، والعمى، والبكم، والكراهة؛ ومن صفات الفعل وهي: أن يجهل، وأن يعجز، وأن يموت، وأن يصم، وأن يعمى، وأن يبكم، وأن يكره؛ فيكون الله عالما بعلم وليس جاهلا بجهل، قادرا بقدرة وليس عاجزا بعجز، حيا بحياة وليس ميتا بموت، سامعا بسمع وليس أصم بصمم، بصيرا ببصر وليس أعمى بعمى، متكلما بكلام وليس أبكم ببكم، مريدا بإرادة وليس كارها بكراهية، فيكون المجموع ثمان وعشرين صفة، صفة الذات وصفة الفعل وأضدادهما؛ أي سبعة مضروبة في أربعة! فإذا قمنا بنفس التمرين العقلي، الفصل ثم القلب، التمييز ثم العكس، الازدواج ثم التضاد في أوصاف الذات الست، وجدنا القدماء قد قاموا بعملية عقلية واحدة، وهي التضاد والقلب والعكس دون الفصل والتمييز والازدواج، فأضافوا إلى أوصاف الذات الست: الوجود، والقدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، وأن لا في محل، والوحدانية، أضافوا إليها أضدادها، وهي: العدم، والحدوث، والفناء، والمشابهة للحوادث، والحلول، والتعدد من أجل نفيها؛ فأصبح الله وجودا لا عدما، قدما لا حدوثا، بقاء لا فناء، مخالفا للحوادث لا شبيها لها، لا في محل وليس حالا، واحدا وليس متعددا، فيكون المجموع اثنتي عشرة صفة، وبإضافتهما إلى الصفات الثماني والعشرين فيكون المجموع أربعين صفة في الله، ولكن يبقى السؤال: لماذا لم يقم القدماء بالعملية العقلية الثانية، عملية الفصل والتمييز والازدواج أيضا في أوصاف الذات بين أوصاف الذات وأوصاف الفعل، وأبقت أوصاف الذات وحدها؟ لماذا لا تكون أوصاف الذات أسوة بصفاتها أيضا مزدوجة فيكون الله موجودا بوجود، قديما بقدم، باقيا ببقاء، مخالفا للحوادث بمخالفة للحوادث، لا في محل بلا في محلية، واحدا بوحدانية، ولماذا لا ينقلب كلاهما إلى الضدين، فيكون الله: موجودا بوجود وليس معدوما بعدم، قديما بقدم وليس حادثا بحدوث، باقيا ببقاء وليس فانيا بفناء، مخالفا للحوادث بمخالفة الحوادث وليس شبيها للحوادث بمشابهة للحوادث، لا في محل بلا في محلية وليس حالا بحلول، واحدا بوحدانية وليس متعددا بتعدد، فيكون المجموع حينئذ أربعة وعشرين وصفا للذات، ست منها أولى مضروبة في أربعة، ويكون المجموع النهائي ثمان وعشرين صفة للذات وأربعة وعشرين وصفا لها، فيكون المجموع الكلي اثنتين وخمسين عقيدة في الله وحده على المسلم أن يؤمن بها! سبحان الله! تعالى الله عما يصفون! لا يخضع الإحصاء إذن لتحليل عقلي صارم، جامع مانع، بل هو تنظير كمي صرف للصفات القديمة في صورة عقائد، يعتمد أساسا على عمليات عقلية صرفة، فارغة بلا مضمون، عندما تعيش العقائد على نفسها ومن ذاتها وكأنها ليست تعبيرا عن واقع، وليست موجهات للسلوك، ولا تعطي تصورا للعالم.
فإن كان ما يجب لله وما يستحيل عليه كأول حكمين من أحكام العقل يشيران إلى الشيء وضده؛ أي إلى الصفة وضدها، وهي عند القدماء أربعون في الله، واثنتان وخمسون طبقا للإحصاء العقلي الكامل، فإن الحكم العقلي الثالث، وهو ما يجوز لله فإنه عند القدماء شيئان: الأول ما يمكن فعله أو تركه، وهنا يظهر العدل كملحق للتوحيد، ولا ينال إلا صفة واحدة بعد الأربعين في الله، ويكون أيضا صفة لله، والثاني رؤية الله، رؤيته لفعله ضمن ما يجوز له أي من جانب موضوع الرؤية وليس من جانب ذات الرائي، بل ويظهر الموضوع الثاني، وهو رؤية الله، مزاحما للموضوع الأول وهو ما يجوز فعله وما يجوز تركه، وهو أصل العدل بتعبير المعتزلة، حتى يصبح العدل عند الأشاعرة، نصف صفة بعد أن شاركتها الرؤية، ومن ثم لا يزيد العدل عندهم على أكثر من واحد في المائة من مادة العقائد كلها، حتى إن العدل ليختفي كلية من العقائد المتأخرة كما هو مختف حتى الآن في وجداننا المعاصر، بل إنه لم يصبح أصلا عقليا أو مصلحة واقعية بل تحول إلى حيز الإمكان، جواز الفعل والترك، وخرج من حيز الوجوب، وجوب العدل، أو حيز الاستحالة، استحالة الظلم، وإذا كان القدماء قد طبقوا قسمة الصفات إلى صفات ذات وصفات فعل ثم قلبها إلى أضدادها ونفيها، فإنهم قد فعلوا ذلك في حكمي العقل الأولين، ما يجب لله وما يستحيل عليه، ولكنهم لم يفعلوه مع ما يجوز له، وتركوها صفة واحدة تشمل صفتين، جواز الفعل والترك، وجواز الرؤية. في حين أنها طبقا لمنطق القسمة والتضاد تصبح يجوز بجواز حرصا على التمييز بين صفة الذات وصفة الفعل، سواء انطبق ذلك على الفعل والترك أم على الرؤية، ولكن يصعب قلب الصفة، صفة الجواز إلى ضدها، فضدها إما الوجوب أو الاستحالة، وهما الحكمان الأولان للعقل؛ وبالتالي تنقسم الصفة الواحدة والأربعون إلى اثنتين، ويصبح مجموع الصفات نظرا وافتراضا اثنتين وخمسين في الوجوب والاستحالة، واثنتين في الجواز، على فرض اعتبار جواز الفعل والترك وجواز الرؤية صفة واحدة، فيكون المجموع أربعا وخمسين، وإذا أردنا فصل الصفتين في الجواز فيجوز الفعل والترك بجواز، وتجوز الرؤية بجواز يكون مجموع العقائد في الله ستا وخمسين! والبقية تأتي! وهل تنتهي عمليات العقل؟ وهل الصفات متناهية؟
أما الرسول، وهو القطب الثاني مع الله، فإنه يحظى عند القدماء بسبع عقائد، تجب له ثلاث: الصدق والأمانة والتبليغ، وتستحيل عليه ثلاث: الكذب والخيانة والكتمان، وتجوز عليه واحدة وهي الأعراض البشرية، ومن ثم يبلغ مجموع العقائد كلها عند القدماء ثمان وأربعين عقيدة، واحدة وأربعون في الله وسبع في الرسول، وتكون الإلهيات هنا حوالي خمسة أسداس العقائد والسمعيات سدسها الأخير، ولم تظهر مشكلة صفات الذات وصفات الفعل في صفات الرسول من أجل قسمتها ثم قلبها إلى أضدادها من أجل نفي الصفات، فإن قضية إثبات الصفات ونفيها تتعلق فقط بالله وليس بالرسول، ولكن بقيت مشكلة أخرى في صفات الرسول، وهي أنها كلها صفات نظرية من أجل أداء مهمة التبليغ، فأين الصفات العملية التي استطاع الرسول من خلالها أن يحول رسالتها إلى واقع، وفكره إلى نظام، وشريعته إلى مؤسسات، ودينه إلى دولة؟ لذلك زادت العقائد المتأخرة صفة رابعة، هي «الفطانة»، وضدها «البلادة»، وهي أيضا صفة نظرية أكثر منها عملية؛ لأنها تعبر عن قدرة الرسول في التعبير والفهم أكثر منها عن قدراته في القيادة وإصدار القرار، وإذا أخذنا «علم السيرة» في الحساب كأحد مصادر علم أصول الدين من حيث صفات الرسول لوجدنا أنها أيضا غير متناهية نظريا أو عمليا، فأين صفات التضحية، والشجاعة، والأثرة، والكرم، والعفة والتقوى، والرحمة، والتعاطف إلى آخر هذه الصفات غير المتناهية، خاصة وأنه أكمل البشر صفات عند القدماء وبنص القرآن؟
3
وهل هي صفات خاصة للرسول أم صفات عامة يشارك فيها الناس جميعا بما في ذلك الصفات الثلاث أو الأربع الأولى: الصدق، والأمانة، والتبليغ، والفطانة؟ ألا يشارك فيها أيضا الرواة والنقلة وكل من يحمل رسالة يبلغها للناس؟ لقد انتهت العقائد الإيمانية المتأخرة إلى تشخيص الله وإلى تشخيص الرسول مما كان له أبلغ الأثر في ترسيخ التشخيص في حياتنا القومية، فما زلنا نعدد خصال الناس، خصال الرئيس، وخصال الكبار، وخصال المديرين، ونستزيد منها كل يوم حتى نصل إلى درجة التأليه للأشخاص، والتأليه للرسل والأنبياء.
4 (2) استغناء الله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما عداه إليه
وبعد أن تستمر العقائد على هذا النحو شعرا أو نثرا، يسقط منها العد والإحصاء، ولا تبقى إلا مجموعة عقائد للتسليم بها دون أي تحليل عقلي للشيء وضده، وهو ما تبقى من عقل في علم العقائد، ولكن يبقى القطبان الأساسيان، الله والرسول، يلخصان الشهادتين: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله»؛ ومن ثم يعود العلم كما بدأ، وينتهي العلم إلى تكرار مقدماته، وتصبح نتائجه من جديد هي المطلوب إثباته، وكأن الجدل لم ينته إلى شيء أو انتهى إلى كل شيء؛ إذ إن مقدمات الجدل هي نتائجه، ويكون الجدل قد أصبح موضوعا للعلم كما كان منهجه، ويقع العلم في دائرة مفرغة من المنهج للموضوع ومن الموضوع إلى المنهج، ويتجلى ذلك في نظرية «الاستغناء والافتقار»، استغناء الله عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه، وهي التي تجعل العلم كله يدور حول قطب واحد؛ وهو الله، الذي يصبح محور الكون، وقمته، وركيزته الأولى، وكل ما سواه قاعدته ومحيطه يدور حوله، وهو ما استقر في وجداننا المعاصر وفي تصورنا الهرمي للعالم، فأثبتنا الله وأضعنا العالم، ودافعنا عن الذات الإلهية، وأسقطنا من حسابنا الذات الإنسانية، وحرصنا على القمة دون القاعدة، ووضعنا كل شيء في المركز دون المحيط، وركزنا على القلب دون الأطراف، وهو ما يفسر مأساتنا المعاصرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والقانون، وما ترتكز عليه نظمنا الحالية، الإقطاع والرأسمالية، والتسلط والطغيان، والبيروقراطية والمركزية، والحرفية والصورية، وانصب كل ذلك في وجداننا المعاصر ملتحما بالتراث الفلسفي من علوم الحكمة، نظرية الفيض والإشراق، وبالتراث الصوفي في نظرية الفناء، حتى طرد كلية علم أصول الفقه الذي كان يمكنه إيجاد التعادل في وجداننا القومي بين الله والعالم، بين التأويل والتنزيل، بين المركز والمحيط، وبين القلب والأطراف.
5
والعجيب أن نظرية الاستغناء والافتقار كانت أحد روافد الحركة الإصلاحية الحديثة عن طريق إصلاح العقائد وشحذ الهمم، وإطلاق التوحيد الحبيس من عقاله، وتفجير طاقاته لولا أن ذلك كله كان على حساب العالم والإنسان.
6 (3) سقوط الإلهيات والاستسلام التام للسمعيات
وأخيرا انتهى علم العقائد بأن أصبحت العقائد ذاتها مجرد مسائل يجب التسليم بها والاستسلام النهائي لها حتى يضيع آخر ما بقي من العلم، وهو الجانب النزوعي الإرادي في العقيدة كما ضاع الجانب العقلي من قبل، تختفي المقدمات النظرية كلها حتى أحكام العقل الثلاثة، ويحل محلها الإيمان الكامل، وتدور معظم المسائل حول السمعيات التي فاقت الإلهيات، تلك التي كانت تمثل قدرا من العقليات، وكأن العدل ذاته قد أصبح من أمور المعاد، ليس من شئون الدنيا بل من اختصاص الآخرة، وانتهت اليقينيات الممثلة في الإلهيات ولم يبق إلا الظنيات الممثلة في السمعيات، فتحولت «العقيدة» إلى ظن؛ أي على نقيض مضمونها تهدم ذاتها بذاتها، وتحتوي في باطنها على جرثومة فنائها، ويتضخم موضوع النبوة، ويتشخص في النبي، ويسقط الإيمان والعمل والسياسة كلية، ويغرق العلم في متاهة الإيمان بالغيبيات، يضيع العقل، ويختفي الواقع، ونضيع نحن ونختفي معه.
7
وهكذا يدل بناء العلم النظري، نشأة وتطورا وتكوينا على مسار العلم المواكب لمسار الحضارة، والمؤشر على قيامنا ونهضتنا ثم كبوتنا ونكوصنا، لم يعد هناك فرق بين علم الكلام وعلوم الحكمة وعلوم التصوف، فقد انتهى الكل إلى التسليم والاستسلام، وإلى أن الله هو الغني الوحيد، وأننا نحن الفقراء، وكأننا في حاجة إلى من يدلنا على مصائبنا، ومن يذكرنا بأننا نعيش خارج العالم، وعلى هامش التاريخ؛ وبالتالي تكون مسئولية علماء أصول الدين من جيلنا في إعادة بناء العلم طبقا لمقتضيات العصر وإن تقلب نظرية الاستغناء والافتقار رأسا على عقب آخر ما وصل إليه العلم وأن تعود المقدمات النظرية إلى ابتلاع العلم كله وأن تبتلع العقليات اليقينيات وريثة الإلهيات، السمعيات، حتى يعود إلينا العقل؛ وبالتالي نعود نحن إلى العالم وإلى مسار التاريخ.
سادسا: المصنفات القديمة
من العسير استيعاب كل ما قاله القدماء في علم أصول الدين، خاصة خارج المصنفات الكلامية ذاتها، والتعرض له من أهل السنة والفقهاء والمحدثين بالتحليل والنقد والتحريم؛ فذاك مجال الفكر الفقهي.
1
ولكننا حاولنا الاعتماد على كل ما أمكننا العثور عليه من مؤلفات منشورة في علم الكلام ذاته والتي أعطيناها الأولوية على غيرها من مؤلفات الفقهاء العامة التي يتعرضون فيها للعلم كتعرضهم للفلسفة والتصوف، وهي عينة مميزة تعطي صورة عن تاريخ علم الكلام منذ نشأته حتى العصر الحاضر، وكان مقياس تمثيل العينة هو تكرار المادة المعروضة في معظم المؤلفات، بحيث كان الاطلاع على مؤلفات أخرى لا يعطي مادة جديدة إلا في أقل الحدود التي لا تؤثر على البناء للعلم وطرق تطويره، فكثير من المؤلفات يغلب عليها طابع التكرار والتقليد للسابقين، وكثير منها تجميع وتحصيل المادة السابقة من مؤلفات قديمة، في حين أن التقليد ليس من أصول الإيمان، وقد كان هذا هو طابع عصر الشروح والملخصات حفاظا على العلم وتذكيرا للناس ببنائه.
2
كما أننا لم نلجأ كثيرا إلى المخطوطات لنفس السبب، وهو تكرار المادة القديمة بعضها لبعض، قد يعطينا المخطوط دلالة من هذا النوع على ذلك التحليل أكثر أو أقل دون أن يخل الجهل به من بناء العلم ذاته وصدق التحليل بالإضافة إلى الصعوبات العملية في الحصول عليها أو في تناولها، وإذا فهمنا المنشور أولا بحثنا عن غير المنشور، وفهم الأقرب إلينا خير من ادعاء البحث عن المجهول. ليس المهم هو تكرار المادة وعرضها، بل إعطاء منهج للتحليل، وطريقة لإعادة البناء، وتحديد موقف معاصر.
3
فزيادة المادة تعطي تحليلات أكثر، ولكن بنفس المنهج ولعرض نفس الموقف، ودون أن تغير من المنهج أو من الموقف أو من النتائج شيئا، لو لم نستطع الاطلاع على كل المادة المنشورة في علم الكلام أو لو أننا لم نطلع بما فيه الكفاية على المادة غير المنشورة، فإن ذلك لن يغير شيئا من المنهج المتبع أو من الموقف المحدد، ولما كانت العلوم تتحدد ببنائها، ولا ترتبط بأشخاصها فإنه لا يهم كثيرا نقص المادة لأنها مكررة، وزيادة المادة قد لا تعني زيادة في التحليل كما أن نقص المادة قد لا يعني نقصا مماثلا في التحليل، وليس ذلك مجرد افتراض بل نتيجة لتجارب عديدة في تحليل المادة ثم قراءة مادة جديدة بعد ذلك دون أن تضيف جديدا إلى التحليل أو تنقص منه.
وقد اعتمدنا على المؤلفات الكلامية «الشاملة» التي تتحدث عن علم الكلام وتضع رسالة فيها
Traité ، عارضة مادته وموضوعاته، فهي مؤلفات في العلم، وأعطيناها الأولوية على المؤلفات الجزئية الأخرى التي تتناول جانبا واحدا من العلم أو التي تشير إلى موضوع واحد منه أو التي تتعرض له بالنقد والتحريم، فهذه تتضمن حكم القدماء، ولا تحتاج إلى إعادة بناء كالمؤلفات الكلامية الشاملة، هي مجرد دلائل وقرائن على وضع هذا العلم وشرعيته في التراث القديم، ومؤشر على شرعية التساؤل حول شرعية هذا العلم.
4
وكثير من المؤلفات لها شروح وحواش، وقد ساد هذا اللون من التأليف في العصور المتأخرة حين جدب الفكر لانفصاله عن الواقع، وكرر ذاته، وعاش على نفسه، كما تأكل الرأس الذيل في النهاية، يوافق كل شارح المؤلف الأصلي، ويزيد عليه من الحجج أو يضيف إليه من المادة التاريخية أو يعبر عن نفس الفكرة في عبارة أخرى دون أن ينقد أو يعدل أو يغير أو يرفض أو يبدأ من جديد، يزيد من النصوص النقلية أو من الحجج العقلية أو من ذكر أسماء الأعلام أو النصوص من مؤلفات أخرى أو إعرابا للكلام إن لم يجد شيئا! الذهن الشارح والذهن الخالق إذن على طرفي نقيض، والذهن التابع غير الذهن البادئ، لم تضف الشروح جديدا، بل عبرت عن اجترار الحضارة لذاتها في فترة تؤرخ فيها الحضارة لذاتها، تقدم لنفسها الحساب أمام التاريخ، ويحدث هذا الاجترار دائما عندما تكون الحضارة في موضع الخطر، وعندما تضيع الأرض، وتريد الجماعة المحافظة على نفسها، فتدون تاريخها، وتخلد نفسها في الفكر أمام تهديدات استئصالها في الواقع كما حدث لقدماء العبرانيين أثناء الأسر البابلي.
5
والشروح والحواشي أكثر شيوعا من التلخيص لأنها أكثر إيفاء بالغرض، وأكثر تعبيرا عن طاقة خاوية تتصرف في فراغ، ومع أنها لا تضيف جديدا، إلا أن أهميتها ترجع إلى أنها مادة خصبة لدراسة العمليات العقلية، والأساليب الفكرية التي أدت إلى التخلف أو التي أدى التخلف إليها كما هو الحال في مؤلفات الباحثين المعاصرين العارضين لمادة القدماء، سواء في العلم أو في السياسة عندما يشرح المعاصرون أقوال الزعيم ويفسر المنظرون خطبه وأقواله وكأنها الدر في أحشاء البحر كامنة، قد تحتوي بعض الشروح والملخصات على بعض الانتقادات الجزئية، ولكنها لا تغير من المضمون شيئا، لا تؤثر في قصد العلم أو في بنائه مما يدل أيضا على مدى تخلف العقلية الشارحة والملخصة «بتمحكه» في الجزء وترك الكل.
6
ولما كان الشرح في حاجة إلى مادة يشرح بها، فقد استعار علم الكلام جزءا من مادته من العلوم الأخرى كالفلسفة، والتصوف، وأصول الفقه، وعلوم القرآن، والحديث، والتفسير، واللغة، مما يشير إلى وحدة الحضارة في نهايتها وكأنها تود لم شملها في وحدة واحدة كما بدأت وحدة واحدة.
7
ولا يهمنا في الشروح والملخصات التي يقوم أصحابها بتفنيد آراء مؤلفي المتون أو بيان أغلاطهم أو الحكم فيما نشأ بينهم من خلاف أو حتى رصده، بل يهمنا أخذ المادتين معا من أجل التعرف على وضعهما في بناء العلم؛ أي الارتفاع بالحاجة إلى الموضوع نفسه الذي نود أن نعرف بناءه القديم أو نقله على البناء النفسي المعاصر، وعلى هذا النحو، يفقد اختلاف أوجه النظر دلالته، والحقيقة أن «التراث والتجديد» كله ما هو إلا شروح على الماضي، ولكن لا يعني الشرح هنا مجرد تحصيل حاصل، شرح عبارة بعبارة، ولفظ بلفظ مرادف أو إعراب جملة أو زيادة مادة قديمة تالية على تاريخ النص المشروح أو حتى التأييد أو التفنيد، بل هي إعادة بناء القديم كله على أساس نظرة متكاملة، والبحث عن الموضوعات ذاتها، وكيف أن أبنيتها تعبر عن بناء نفسي قديم، ثم إعادة بناء هذه الموضوعات ذاتها على أساس من أبنيتها النفسية المعاصرة.
وفي نفس الوقت الذي يكون فيه الشرح مجرد شرح داخلي يصيب الإنسان بالإغماء والدوار ويبعث في النفس الخواء؛ إذ لا يزيد الشارح شيئا إلا العبارات الشارحة التي لا تفيد جديدا - يأتي التلخيص كتقييم للمصنف السابق وكمبرز لثمينه دون غثه، ومصلح لحججه وبراهينه، ويكون له دور إيجابي في أحكام العلم إن لم يكن من حيث البناء، فعلى الأقل من حيث الحجج،
8
ومع ذلك فالشروح والحواشي على المتون أكثر بكثير من التلخيصات، فالشرح أو الحاشية مجرد جمع مادة، وإضافة تاريخ في حين أن التلخيص تركيز على الجوهر، وإخراج للب من الشروح والحواشي؛ فهو يمثل جهدا أكبر، ويدل على فكر ما زال قادرا على استخلاص اللباب؛ لذلك كان التلخيص أقل بكثير من الشروح والحواشي من حيث الكم، هذا بالإضافة إلى أن الحضارات في لحظات الشكوك أو الخطر تجمع وتستوعب أكثر مما تلفظ وتستبعد، فمهمة المفكر الحفاظ على كل شيء ولو لفظا أو عبارة في حين أن الملخص يحتفظ بالجوهر، ويحمل معه «ما خف حمله وغلا ثمنه»، وكلاهما طريقان لدرء الأخطار والمحافظة على التراث في لحظة التدوين.
والمصنفات الكلامية ليست فقط مراجع للدراسة، بل هي ذاتها موضوع للدراسة؛ لأنها تكون التراث، وهو موضوع الدراسة الأول. ليس الأمر فقط مجرد أخذ مادة منها لموضوع معين، بل تحليل هذه المادة ذاتها إلى موضوعات، كل عبارة فيها لها دلالة حتى العنوان والمقدمات والتسليمات والصلوات والتحميدات والبسملات والنهايات والدعوات والإشارات إلى «مصر المحروسة» أو إلى «مصر المحمية»، فهي تعبر عن عقلية القدماء ومستواهم الثقافي. المؤلفات الكلامية ما هي إلا مادة تكشف عن البناء الشعوري الذي صدرت هذه المادة عنه، وهو المطلوب الكشف عنه، وإعادة بنائه. المادة ليست هي الظاهرة، بل الظاهرة تكمن فيما وراء المادة أو فيما تحت المادة أو فيما هو أدخل في المادة، وهو البناء الشعوري الذي خرجت هذه المادة منه، ويحتاج إدراكه إلى الذهاب إلى ما وراء الألفاظ، والإحساس بالمضمون الحق وراء الفصول والأبواب؛ وذلك باشتراك الباحث في نفس التجارب، ولو أنها من نوع مخالف، تعبر عن موقف حضاري متقدم؛ ومن ثم لزم على الباحث أن يكون مجددا، خالقا، واضعا للعلم، وليس مجرد ناقل أو عارض أو شارح له. إذا اتحدت التجارب بين القديم والجديد، تم إدراك البناء القديم بالحدس والتجربة المباشرة، وكأن الباحث يتحدث عن نفسه، ويحلل شعوره الخاص، وهو لم يكتمل بعد، في إحدى لحظاته التاريخية الماضية.
ولا يهمنا في طريقة الإشارة إلى المصنفات إرجاع كل فكرة إلى مصدرها، بل أخذ الفكرة ذاتها من المرجع ثم إكمالها من مرجع آخر، وأخذ الزيادة من مصنف وإكمال ما بها من نقص من مصنف آخر، ثم وضع المصنفات كلها معا، كل منها يشير إلى جانب من الفكرة، الأفكار موضوعات مستقلة عن قائليها، وعن مصنفاتها، ولكننا راعينا الترتيب الزمني قدر الإمكان لرؤية تكوين الفكرة نشأة وتطورا، وإلا فالترتيب الموضوعي المستقل عن الترتيب الزماني والذي يتحول التاريخ فيه إلى مضمون لملء صورة.
9
موضوع التحليل هو الموضوع كفكرة وليست أفكار المؤلفين، والفكرة مستقلة عن مؤلفها، بل ولا يهمنا من هو صاحبها أو أول القائلين بها بقدر ما تهمنا الفكرة. لا يهمنا إن كان قائلها هو هذا أو ذاك، بل تهمنا الفكرة ذاتها، المهم هو القضاء على «تشخيص الأفكار» الذي نشأ من تخلفنا مثل تشخيص النبوة في الأنبياء، والذي نشأ أيضا بفعل الاستشراق الغربي، عندما ارتبط المذهب في الغرب بشخص المعلن عنه بعد القضاء على استقلال الفكر والموضوعات في العصور الحديثة.
10
وقد اتبع تراثنا القديم هذا الأسلوب، فلم يهتم لمن تكون «أثولوجيا» أرسططاليس، لأرسطو أم لأفلوطين، هذه المشكلة التي من أجلها حكم على التراث القديم بالخلط والتشويش، ولا يهمنا لمن تكون الأفكار لأفلاطون أم لأرسطو؛ فالأشخاص إن هي إلا حوامل للفكر وليست خالقة للفكر، ولا يهمنا حتى إن كانت الأفكار منتحلة أم تاريخية، فالفكر له بناؤه المستقل عن التاريخ، وإن كان يظهر في التاريخ كحركة ومسار وقانون؛ ومن ثم، فإن أي نقد لهذا المصنف يستعمل المنهج التاريخي لن يهدف إلى قلبه، بل ولن يلمس حتى أطرافه، وإن أي نقد حتى ولو صدق تاريخيا، فإنه لن يزيد التحليل إلا عمقا أو إضافة لمادة جديدة تثبت صدق التحليل.
ولا يهمنا تضارب المقالات، ونسبة فكرتين متعارضتين إلى شخص واحد أو ذكر فكرة واحدة لشخصين مختلفين، سواء حدث في مؤلف واحد أو في مؤلفين أو أكثر. ليس الغرض هو التحقق التاريخي من صحة إحدى الروايتين، بل المهم هو تحليل المقالتين فكريا، وبيان نشأتهما في الشعور، وفي الظروف النفسية والاجتماعية التي حددت لحظة النشأة. ليست هناك قضية نسبة مقالة خاطئة لغير صاحبها، بل المهم هو تحليل المقالات ذاتها بصرف النظر عن أصحابها، وقد فعل الحكماء ذلك أيضا عندما حللوا نظرية الفيض، ولم يهتموا بصاحبها أفلوطين أم أرسطو؛ ففي كثير من الأحيان تكون الروايات غير صحيحة، وغير مطابقة للواقع، ولكن ذلك عمل مستقل يقوم به المؤرخ للتحقق من صدق الرواية، ولكن فيما يتعلق بالباحث، فإنه يحلل المادة في الشعور بصرف النظر عن قائلها، الأشخاص يعرضون موضوعات ولا يضعون فكرا، هم مجرد وسائل تظهر الحضارة من خلالها دون أن يكون لهم الفكر خلقا وإبداعا، فسواء كان المعبر عن الفكرة هذا أم ذاك، فإن الفكرة هي موضوع البحث، والحضارة ليست تاريخ أشخاص بل مجموعة أفكار يهمنا تحليلها ومعرفة دلالتها بالنسبة للفكر وأثرها في الواقع، وفي علم الكلام خاصة، يستحيل وضع فرقة معينة في نظرية معينة أو شخص محدد تحت رأي محدد؛ لأنه لا توجد فرقة واحدة متجانسة، كل فرقة تضم عشرات الفرق الصغيرة، ولكل منها رأي مستقل وأحيانا رأي مضاد، كما أن الشخص الواحد قد تكون له عدة آراء مختلفة حسب كل مسألة، قد يكون في التوحيد معتزليا، وفي العدل أشعريا، وفي الإمامة شيعيا، هناك مثلا أهل التوحيد والعدل، وأهل التوحيد والإمامة، ولا توجد فرقة إلا ولها نقيض، ولا توجد فرقة لها نقيض إلا ولهما فرقة ثالثة تحاول التوسط بينهما، وكذلك الحال في الآراء والمذاهب؛ وبالتالي فإن معرفة «من قال ماذا» من أصعب الأمور تاريخيا في علم الكلام، خاصة وأن العلماء لم يكتبوا بأنفسهم، بل روي عنهم من أصدقائهم وأعدائهم على السواء، ويضيع الجهد في تصحيح نسبة المقالات أكثر من ضياعه في تحليل الأفكار.
11
وليست مهمتنا نقد العلماء وبيان عوراتهم وتناقضاتهم، فما أسهل ذاك! ليست المعركة معهم، بل مع بناء فكري قديم نشأ في ظروف تاريخية قديمة ويعاد بناؤه من جديد طبقا لظروف تاريخية جديدة، المعركة مع البناء الحي الذي ما زال يؤثر فينا لا مع البنائين الذين واراهم التراب، ومن منا ليس له أخطاء أو عورات؟ ومن منا لم يقع في تناقضات؟ المهم هو إعادة بناء القديم، واستقامة المعوج، بل إن فكرة الخطأ من الناحية الحضارية لا وجود لها، كل مفكر ما هو إلا معبر عن موقفه الحضاري، والمواقف الحضارية تتغير بفعل التاريخ، ويكون الخطأ فقط هو أخذ موقف حضاري مخالف للحظة التاريخية التي يوجد فيها المفكر؛ أي أن يعبر عن موقف حضاري سابق (الحركة السلفية)، أو عن موقف حضاري قادم (الحركة العلمانية)، الصواب في التاريخ هو التعبير عن الموقف الحضاري الحالي (التراث والتجديد أو اليسار الإسلامي)، يكون الخطأ هنا بمعنى الجمود، والتأخر، وتخلف الفكر عن الواقع، ويكون الصواب هي الحركة، والتقدم، ومواكبة الفكر للواقع، أما الخطأ بمعنى غياب الاتساق الداخلي فهو خطأ صوري خالص، لا يهمنا في شيء، لسنا أمام مقدمات نستنتج منها نتائج، بل أمام واقع حي نحاول المساهمة في تطويره، وفي القضاء على معوقات تقدمه، مهمتنا عملية لا نظرية، وغايتنا اجتماعية لا صورية، ومنطقنا منطق التغيير لا منطق الاتساع؛ أي مطابقة بناء الفكر مع حركة الواقع وليس مجرد مطابقة الفكر الصوري مع الواقع الأبدي، بل إن تغيير الواقع هو أقصى محاولات تحقيق اتساق الفكر مع الواقع، وإلغاء المسافة بين نظام العالم ونظام الوحي الذي هو نظام الطبيعة وهي تنحو نحو الكمال، نحو التحقق والغاية، بل إن الغاية ليس حل المسائل الكلامية، بل إرجاعها واحدة تلو الأخرى إلى ظروفها النفسية والاجتماعية الأولى التي نشأت منها، ثم ردها إلى الأسس النفسية والاجتماعية الحالية لمعرفة مدى فاعليتها سلبا أم إيجابا، ثم اختيار أحد الحلول من البدائل القديمة المطروحة والتي يفرضها بناء الشعور المعاصر طبقا لحاجات الجيل ومطالبه، فلا توجد هناك حلول نظرية صائبة وأخرى خاطئة، بل توجد حلول فعالة ومؤثرة تهدف لصالح فئة أو لصالح مجموع الأمة، تحقق مطلب السلطة في الشرعية والطاعة أو مطلب المعارضة في الرفض والثورة.
12
ولم نقتف أثر رسالة أو كتاب، شرحا أو تلخيصا، بل اتبعنا بناء العلم ذاته، تكملة من جميع المذاهب والفرق، ولم ننتسب إلى فرقة دون أخرى أو مذهب دون آخر، بل حاولنا تحليل جميع المذاهب والفرق تحليلا علميا موضوعيا، لا هدف لنا إلا نشأة الأفكار وآثارها في السلوك والتوجيه، مع أن وجداننا معتزلي، وهدفنا تطوير الاتجاه الاعتزالي خطوة نحو عقل الثورة من أجل إقامة «لاهوت» شامل للثورة، وقد احتفظ التاريخ لنا بمؤلفات الأشاعرة أكثر من مؤلفات المعتزلة، كان المعتزلة قليلي الكتابة، وأهل مناظرة ورأي، كانوا أقرب إلى قادة الفكر، ومؤسسي الحركات، مما لا يسمح لهم ذلك الموقف بالتأليف كما كانوا أهل معارضة علنية من الداخل، ومواقف مشهودة، وقيادة أمة، وإنارة فكر، وهذا أيضا قد يمنع من التأليف على عكس تراث السلطة وتجنيد النظار، وحشد الأقلام وتفرغ المنظرين له،
13
هذا بالإضافة إلى قصر عمر المعتزلة بعد أن أنهتهم المحنة، فضاعت كتبهم واندثرت، وبعد أن سادت الأشعرية وراجت كتبهم، خاصة وأنهم كانوا يمثلون التراث والسلطة في آن واحد، وكانت العقيدة الرسمية السائدة منذ محنة المعتزلة حتى اليوم، كما أن تعبير الأشاعرة عن إيمان العوام والعقائد الشعبية والفكر الشائع جعلهم أقرب إلى الاستمرار والدوام في مقابل تعبير المعتزلة عن مواقف فكرية تستلزم وعيا وبصيرة لا تتوافر في كل عصر ولا توجد عند كل الناس، وقد استمر «علم الأشعرية» بعد اكتمال العلم في الشروح والملخصات تعبيرا عن الواقع المستتب، وسكون الفكر، والركود الحضاري العام.
14
لم نستعمل مؤلفات شيعية لأن الفكر الشيعي ليس موجها لسلوك الجماهير، وليس مخزونا فكريا عندها بالرغم من حب آل البيت، وتقديس ولاة الله الصالحين في الدين الشعبي. كان يجوز الاعتماد على مصنفات شيعية لو كان المؤلف إيرانيا أو لو كان الفكر الشيعي سائدا وموجها سلبا أم إيجابا، ولا يعني هذا الانقطاع عن الفكر الشيعي والانعزال عنه؛ وذلك لأنه نمط مثالي يوجد في كل عصر، ويظهر في كل حضارة، ويتكرر في كل زمان ومكان، ربما لو شئنا إقامة حوار بين الفكر الشيعي والفكر السني الآن لجاز تناول الفكر الشيعي، ولكن مهمتنا ليست إجراء مثل هذا الحوار الذي يفصمه التاريخ وتمنعه الأحقاد والضغائن المتوارثة، بل الرجوع إلى وحدة الفكر الأولى وربطه بواقع المسلمين الحالي، فالوحدة تأتي من الفكر ومن الواقع، وليست من توحيد العقائد التاريخية أو إجراء حوار بينها لا يتعدى بعض المتخصصين المتفيهقين، ولا يتجاوز اهتمام الساسة وأهل المراسيم.
ولم نشأ التركيز على صلة الكلام بالعلوم الأخرى، فذلك موضوع آخر.
15
ولكننا أشرنا إليها بمقدار إشارة علم الكلام إليها إما عرضا في نقد بعض التصورات الفلسفية خاصة بقدم العالم والمادة أو بعالم الأفلاك أو بعض مدارك العلوم في التصوف فيما يتعلق بالإلهام أو بعض الأحكام الشرعية فيما يتعلق بالنسك. والإشارة إلى أصول الفقه أوضح لأن علم أصول الدين وعلم أصول الفقه كلاهما علم للأصول، أما الإشارات إلى علم الكلام من العلوم الأخرى فذلك أدخل في هذه العلوم منها في علم الكلام، فذكر علم الكلام في علوم الحكمة يبين موقف علوم الحكمة من علم الكلام وليس موقف علم الكلام من علوم الحكمة، وكذلك الإشارة إلى علم الكلام في علوم التصوف تبين موقف علوم التصوف من علم الكلام أكثر مما تبين موقف علم الكلام من علوم التصوف، هذه المادة الكلامية لا تدخل في بناء علم الكلام، بل تدخل في أبنية العلوم الأخرى.
16
ولم نشأ الاعتماد على منهج النص، وذكر كل النصوص الدينية التي تعتمد عليها هذه الفرقة أو تلك، فبالرغم من أن هذه النصوص أصل للفرقة ولنشأة الاتجاه إلا أنها أصل واحد، وهو الأصل الفكري أو العقائدي، وهناك أصل ثان وهو الدوافع النفسية والمصالح الشخصية والظروف الاجتماعية التي امتلأت النصوص بها ففسرتها وأولتها، النصوص مجرد قوالب يمكن ملؤها حسب مقتضيات كل موقف، فالموقف هو الأصل المحدد لا النص، وهو ما نريد إعادة بنائه لمعرفة الدوافع النفسية والظروف الاجتماعية التي من خلالها نشأت الفرقة وخرج المذهب، الاعتماد على النصوص وحدها هو تفسير للفكر وللواقع من خارجهما، وكأن الأفكار والوقائع توجد فقط بوجود النصوص، وكأن الألفاظ لها الأولوية على المعاني والأشياء. صحيح أن النصوص نفسها أساس جميع المذاهب، ولكن لا يمكن من خلال النصوص وحدها معرفة تنوع هذه المذاهب وتفرقها وتشعبها، بل وتضاربها وصراعاتها حتى الموت، هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد نص لا يمكن تأويله، ولا يوجد نص صريح الدلالة إلا وله نص صريح مقابل، النصوص إذن لا تفسر نشأة فرقة على التحديد، بل تفسر جميع الفرق وجميع الاتجاهات مهما بلغ تضاربها وتشتتها، كما أن الاعتماد على النصوص يكسر اتساق تحليل الواقع كما يكسر اتساق الخطاب النظري، إن تحليل الواقع يعتمد على تحليل الوقائع نفسها وعلى وصف الأشياء على ما هي عليه، ولن يلغي النص الواقعة إذا كانت موجودة كما أنه لن يوجد واقعة إن لم تكن موجودة، كما يقضي النص على استقلال الخطاب، ويجعل الفكر قائما على براهين خارجية عنه، وهي ظنية في حين أن الدليل أساسا هو الدليل العقلي؛ أي الدليل اليقيني الداخلي، ولما كانت الأدلة العقلية كل منها يصدر عن الآخر، فإن الموضوع يتحدد ببداهة العقل، والنص لن يغني عن الدليل العقلي إن غاب، ولا ينقض الحجة العقلية إن وجدت.
17
والنصوص نفسها إما عقل أو واقع، هي عقل لأنها قائمة على العقل، فلا يوجد شيء في النص إلا ما اعتمد على العقل أولا، العقل أساس النقل على ما هو معروف في تراث القدماء، والنص هو الواقع على ما هو معروف من «أسباب النزول»، وهي الوقائع الأولى التي جاء النص واصفا ومشرعا لها، وكذلك «الناسخ والمنسوخ» اللذان يدلان على تكيف الوحي طبقا لتغيرات الواقع وقدرات الإنسان وإمكانيات التحقيق.
18
الرجوع إلى العقل والاعتماد على الواقع إذن رجوع إلى مصدر النص والتقاء معه من حيث أصوله من أجل فهمه وحمايته من أي تأويل مغرض، وإن استعمال النصوص كحجة يقتضي إيمانا مسبقا بها، سواء من الباحث أو من القارئ، وذلك يقلل من درجة شمولية البحث وعلميته ودرجة استقبال جماهير القراء له، في حين أن تحليل العقل لا يتطلب أي إيمان مسبق بشيء، ولا يتطلب إلا العقل الصريح أو رؤية الواقع الموصوف، ولا يعني ذلك أننا نلجأ إلى استعمال الحجج العقلية التي تتشعب في عديد من التقسيمات حتى تخرج على مستوى الفهم، فتتحول إلى جدل عقيم؛ أي إلى دلائل أصعب في الإقناع من الموضوع ذاته، وقد حولنا هذه الأدلة قدر الإمكان إلى خبرات شعورية حتى يمكن أن تكون أكثر إقناعا، وأوضح مضمونا، وأيسر فهما، حولنا العلم من علم جدلي إلى علم برهاني، ومن علم صوري إلى علم حي، هذه الحجج العقلية المتشعبة هي في الحقيقة الجوانب المختلفة للواقع معروضة عرضا صوريا خالصا، الاحتمالات الصورية في حقيقة الأمر هي إمكانيات واقعية، وإذا اقتضت الضرورة، وحتى نبين مصدر الفكر ووحدته الأولى في النصوص الدينية قد نذكر بعضا من الحجج النقلية في الهوامش السفلى وإعادة تفسيرها حتى تتفق مع الحجج العقلية ورؤية الواقع. والقدح في التفسير لا يكون قدحا في العقل، ولو عورض التفسير بتفسير آخر فإن حجج العقل تظل باقية لأننا نحتكم إلى مقياس ثالث يشمل العقل والنقل معا وهو الواقع الذي نعيش فيه. اليقين من العقل من حيث الاستدلال، والنقل يأخذ يقينه من العقل، والاختلاف في تفسير المنقول راجع أساسا إلى اختلاف في فهم المعقول، ولكن الواقع هو الذي يعطي مادة اليقين التي يحللها العقل في التجربة المباشرة، وسنشير إلى الحجج النقلية ليس باعتبار تفسير صوري لها بل لتحليل أثرها عند سامعيها، ومدى تعبيرها عن متطلبات الواقع من أجل العثور على البناء النفسي الاجتماعي الذي قد تكشف عنه الحجج النقلية من أجل توجيهها نحوه بالتغيير أو استدعاء حجج نقلية أخرى تعطي هذا البناء دفعا وقوة وشرعية.
ومع ذلك فقد اعتمدنا على كثير من المادة الكلامية ووضعناها أحيانا بين قوسين، ولا يعني ذلك أننا نستشهد بها، بل نعطي عينة من مادة نحللها، قد نسقط عبارة أو عبارتين من الوسط لا تخل بالفكرة أو تحدث اضطرابا في السياق، ووضعنا كل ذلك في هوامش الصفحات حتى لا ينكسر الاتساق الداخلي للفكر وبالتالي يكون الجديد في صلب الصفحة والقديم أسفلها، ووجود النصوص في الهوامش أسفل الصفحات، بالرغم من ثقلها وإرهاقها للقراء، ضروري؛ فهذا هو «التراث»، وتحليلنا لها في أعلى الصفحة هو «التجديد»؛ وبذلك يستطيع القراء أن يحكموا ويقارنوا بأنفسهم بعد أن يقرءوا «التراث والتجديد» سواء في جزئه الأول «من العقيدة إلى الثورة» أو في أجزائه التالية، فغالبا ما لا تتاح لهم فرصة الحصول على نصوص دالة من القديم، إما لصعوبة المحل أو لضياع وسط النصوص غير الدالة، النصوص من التراث تسمح للقراء، العامة منهم أو الخاصة، بالاحتكاك بالتراث وأخذ انطباعات منه بالموافقة أو المخالفة، بالقبول أو بالرفض، بالارتياح أم بالغضب، وهي المادة الشعورية التي يقوم «التجديد» بتحليلها؛ وبذلك أكون قد خففت عن القراء عناء البحث والتمحيص عن القديم، وأكون قد قدمت لهم، ما لم تتح لهم الفرص للتعرف عليه، وأكون قد أبرزت التراث وقدمته، ووضعته في شعور القراء المعاصرين بدل انزوائه وانزوائهم؛ أي أنني أكون قد قمت بمهمة تقديم الطرفين بعضهما للبعض الآخر بعد تباعد وتجاهل ونسيان؛ والنصوص المذكورة ثلاثة أنواع: الأولى نصوص مخالفة تبعث على الغضب حتى يغضب القراء معي على القديم ويشاركونني في الهم، ويعطونني الحق، ويعذرونني، ويفهمون موقفي.
19
والثانية نصوص موافقة، يمكن أن يثق بها القراء، تساعدهم على النقد والرد والتطور، وحتى يعلم القراء أن مواقفي لم تأت من فراغ، وليست مجرد هوى، بل لها ما يدعمها أيضا عند القدماء، ولكنها انزوت واختفت باختفاء المعارضة واستتباب النظام، والثالثة نصوص محايدة يمكن إعادة بنائها، وتكون نموذجا لعينات من التحليل، يعاد صياغتها من جديد أو ينسج على منوالها بتحليلات جديدة في المناهج أو في الموضوعات، ولكن الغالب هو النصوص المخالفة، فالغضب أهم من الرضا، والحزن أجدى من الفرح، على الأقل في لحظة الهزائم الحالية، والثورة على القديم أوجب من الإيمان به. ربما استكثرنا من النصوص، وربما تكررت لدرجة أنها قد تصبح نصف الدراسة أو على الأقل ربعها حتى تتضخم الدراسة وتصبح صعبة على القراء في عصر لا يود إلا السرعة ولا يتحمل إلا العرض السريع المقتضب.
20
والحقيقة أننا أردنا الدراسة شاهدا على التراث والتجديد معا، وصورة للماضي والحاضر في آن واحد، وذلك حتى يرى القراء كيف يخرج القديم من الجديد، وكيف يخرج الجديد من القديم، وحتى تكون عونا لكل طالب علم أو قائد أمة. من أراد القديم وجده، ومن أراد الجديد وجده، ومن أراد الاثنين معا وجدهما معا، وقد سبب هذا ربما طولا لا فائدة منه، ولكنه ضروري؛ فالدخول في أعماق التراث هي الخطوة الأولى لاكتشاف الجديد، ولا ينفع مس التراث على نحو سطحي بإشارات عابرة ؛ لأنه موضوع البحث والتحليل. «التراث والتجديد» فيه غناء عن التراث الماضي لأنه يجمع ويعرض التراث كله كشاهد على التحليل وكمصدر له حتى تتم المقارنة بينه وبين الجديد حتى يكون القارئ حكما ويكون قاضيا، وقد تكون هناك عدم دقة في فهم النصوص أو خطأ في فهم التحليلات، ولكن ذلك يحدث في كل بحث، وحتى على افتراض وقوع خطأ في فهم نصف المادة وفي نصف التحليلات يبقى المنهج سليما، ويظل الموقف صحيحا يكشفه النصف الآخر من الفهم والتحليل الصحيحين، قد نتخلى أحيانا عن دقة التعبيرات، ونسقط الفروق الدقيقة عن قصد لأن المقصود ليس البحث عن الدقيقات، بل عن أمهات المشاكل، كيف نشأت؟ وما دلالتها؟ هل تفيد معنى أم أنها تحصيل حاصل؟ هل تعبر عن وقائع أم هي تعبيرات إنشائية خالصة؟ لا تحتوي الدراسة على معلومات، فالمعلومات محفوظة في القديم بوضوح وتمام وكمال، ولكنها تحتوي على تحليلات، وإعادة وضع للمشاكل وضعا صحيحا، وإعادة بناء لها طبقا لروح العصر؛ ولذلك فهي تحتاج إلى مشاركة من القارئ الذي بإمكانه إقامة هذه التحليلات بنفسه، إن وجدها صحيحة وافق واتفق، وإن وجدها مخالفة خالف ورفض؛ وذلك لأن هذه التحليلات تعبر عن حياته وعن موقفه، وعن وجوده في هذا العالم، وعن مساره في حركة التاريخ.
وقد كان القدماء على وعي بالكم، فكثيرا ما كان الدافع على التأليف هي مؤلفات مطولة مسهبة، أو مختصرة مخلة، ثم يأتي المؤلف الجديد لتحديد الكم المتناسب بين التطويل الممل والإيجاز المخل، وفي الغالب لا يتحقق الغرض فالذي يريد الاختصار يطيل، والذي لا يريد التكرار يكرر، وقد يقصد المؤلف التكرار من أجل البيان، أو لأجل حياد العرض أولا ثم صدق النقد ثانيا.
21
ويطيل المؤلف إذا كانت مصنفاته إملاء أو تدوينا من تلميذ أو مريد، ومن ثم يحتاج إلى تلخيص وتركيز، أو إذا كان جامعا لمادة سابقة، فإنه يحتاج إلى تركيز لأن الجمع كثيرا ما يتكرر أو إذا كان جدلا أو تفنيدا أو ردا، وذلك أنه يحتاج إلى إبراز رءوس الموضوعات التي تكون البناء الرئيسي للعلم، قد تكون الإطالة بلا مبرر، مجرد إسهاب، وقد تكون تشويشا على المذهب حتى تفقده أساسه العقلي، وقد يكون الاختصار مخلا بالمذهب غير منصف له ودون تبرير كاف لأسسه العقلية، خاصة لو كان المؤلف من خصومه، فإنه يبخسه حقه، ولكن معظم المؤلفات تركز على ضرورة الاختصار.
22
فهو أكثر قدرة على التعبير عن القصد ومضمون الفكر، وإبراز البناء الكلي الشامل للعلم، وبعد ذلك يمكن ملؤه فيما بعد بأية مادة تحليلية ومن أي عصر.
23
للتطويل عيوب كبيرة؛ إذ إنه يمنع من الاتصال الوجداني بين القارئ والكاتب، ويفقد القارئ حماسه، كما يفقد الكتاب دلالته، وكل كتاب له هدف أو هدفان يتم التركيز عليهما من أجل التعبير عن دعوة العصر وحتى يكون للكتاب فائدة، الإطالة سيحان لهذا التركيز، وطمس لهذه الدعوة؛ ونظرا لأهمية هذا الموضوع، العلم من حيث الكم، تعقد له مسألة خاصة في نهاية الكتاب من أجل التنبيه عليها.
24
ونادرا ما تأتي المصنفات من أجل التطويل، وفي نفس الوقت يضيف البعض منها زيادات؛ إما لمادة قديمة أو لتحليلات من مادة العصر التي ازدهرت وأصبحت جزءا من الثقافة العامة، وغالبا ما يحدث ذلك في الشروح، وإلا فمن أين يأتي الشارح بمادة شرحه إن لم يكن من داخلها عن طريق الشرح اللغوي والعقائدي أو من خارجها عن طريق الزيادات والإضافات من مادة خارجية كلامية أو غير كلامية؟
25
ومع ذلك، تنحو معظم المصنفات نحو رفض الخطأين معا: الاختصار المخل والتطويل الممل، خاصة فيما يتعلق بحجج الخصوم حتى تتحقق الأمانة في عرضها ونقلها مستوفاة لقوة الحجج وضرورة الإقناع، ويحدد كل مصنف منذ البداية الهدف من مصنفه وأسلوبه المتبع، وعيوب التأليف في عصره، وأوجه نقص المصنفات التي أمامه، من اختصار أو تطويل أو نقص في الحجة والبرهان واكتفاء بالخطابة والإقناع أو إشارة إلى المقاصد من بعيد أو زيادة وإسهاب في السؤال والجواب، وكثرة الاستدلال أو الاعتماد على الأغاليط لترويج الرأي أو الاحتواء على تناقض داخلي في الاستدلال وترتيب المقدمات واستنتاج النتائج أو الازدحام بالمادة المكررة كتحصيل حاصل أو تجميع لكل شيء دون تمحيص أو تدقيق، يأتي مصنف جديد ويتخلى عن كل هذه العيوب ، ويأتي بأضدادها محاسن.
26
والحركات الإصلاحية الحديثة تنسج أيضا على نفس المنوال، وترفض الإيجاز والتطويل، وتؤثر التركيز على وحدة الفكر وترك الاختلافات بين المذاهب، والجمع بين القديم والجديد طبقا لحاجات العصر مع التركيز على الوضوح والبساطة في الفهم.
27
كما أشارت المقدمات الإيمانية إلى حجم المؤلف ونسبته من الاختصار والتطويل، والإيجاز والإطناب؛ فمنها المختصر ومنها المطول، ومعظمها يحاول أن يبتغي بين ذلك سبيلا، وبالرغم مما يبدو على مصنفنا هذا من طول إلا أنه حاول الجمع بين «التراث والتجديد»، وبيان الجذور التاريخية لأزمات العصر في التراث القديم، قراءة للماضي في الحاضر، ورؤية للحاضر في الماضي، فلا يوجد تحليل قام به القدماء إلا وتمت الإشارة إليه، قدر الوسع والطاقة، ليظل وسطا متناسبا بين إيجاز كتب العقائد والأصول وإطناب كتب الحوار والجدل، وقد يكون أحد أسباب الإطالة أيضا ضرورة وضع بعض النصوص القديمة في الهوامش حتى يشعر القراء بالتجارب التي نحللها، وحتى يروا معنا الجذور التاريخية لأزمات العصر في التراث القديم، فإذا ما عاش القراء تجارب القدماء، فإنهم قادرون على مراجعة تحليلات المعاصرين لها، والتحقق من صدقها، وإلا فإنهم يحصلون على المعاني دون تجارب، وعلى الصورة دون مضمون؛
28
لذلك نرجو ألا يقرأ البحث كله دفعة واحدة، بل فصلا فصلا، وموضوعا موضوعا؛ فكل فصل يضع مشكلة مستقلة، وكذلك كل باب يحتاج إلى مناقشة وتدبر، وقد تكون إحدى الفقرات أو العبارات أولى من الأخرى وأدل؛ لذلك كانت سهولة الأسلوب مطلبي في التأليف، فليس العلم هو التعقيد والتصعيب حتى يظن السامع أنه أمام عالم عويص، بل إن أسلوب العلم هو الأسلوب السهل البسيط الذي يستطيع أن يفهمه كل الناس، وهو أسلوب «التراث والتجديد». ليس العلم هو وعورة الأسلوب وصعوبة المفاهيم، وتعقيد الألفاظ، فذلك هو التعالم. إنما العلم هو المدون بأسلوب سهل بسيط، يفهمه العامة قبل الخاصة، وهو ما سماه علماء البلاغة «السهل الممتنع»، هذه السهولة هي أحد دوافع الشروح والملخصات التي تحاول شرح العويص المعقد مع أنها أحيانا أخرى تشرح البسيط السهل زيادة في السهولة والإيضاح! وتوخي البساطة في الفهم التي يبغيها البعض إنما تحدث بعرض المادة الكلامية عرضا عقليا خالصا، فالبداهة هو مقياس الفكرة، وعلم أصول الدين يقوم على اليقين العقلي، وكل ما هو داخل في الظنيات ليس من صميم العلم، ومن مقتضيات البساطة التخلي عن المصطلحات العويصة كما حاولت بعض الحركات الإصلاحية الحديثة.
29
أما روح العصر فهي التي نحتويها بين ضلوعنا، وهي تجاربنا المعاشة، وواقعنا المضني، وسلوكنا اليومي، هي أساسا هذه المادة الحية غير المدونة والتي قد نختلف في تفسيراتها، ولكننا لا نختلف في وجودها، هي المنهل الذي منه يأخذ الأدباء والشعراء والفنانون والمفكرون الاجتماعيون مادتهم، قد تستلهم في الأعمال الأدبية، والمصنفات الفنية، كما قد تدون بطريقة تلقائية في الأمثال العامية والحكم والأساطير والمأثورات الشعبية بوجه عام. لم نشأ الاعتماد على ذلك حتى لا نضع بجوار التراث شيئا أقل منه علمية ودقة وإحكاما، ويختلف عنه مصدرا ورافدا، وحتى لا نقع في انتقائية الأمثلة أو اختلاف تفسيراتها، تركنا ذلك لدراسات أخرى هامشية على «التراث والتجديد» لمخاطبة الجمهور العريض من خلالها، بحيث تكون أقرب إلى تحليل روح العصر، ووصف الواقع وتنظيره تنظيرا مباشرا دون الرجوع إلى التحليل العلمي الصارم القديم.
30
ولا يوجد عصر إلا وظهر فيه مؤلف في علم أصول الدين؛ فالتأليف فيه ضروري في كل عصر، لكل عصر مشاكله ومطالبه، وعلم التوحيد إن لم يستجب لمطالب العصر فإنه يظل متخلفا عن واقعه، فيذهب الواقع إلى أفكار ومذاهب أخرى أكثر عصرية، وينشأ الفصل بين الفكر وواقعه، وتنشأ مشكلة «التراث والتجديد» أو القديم والجديد، أو التقليد والخلق أو الإتباع والإبداع، أو الاستعراب والاستغراب، إلى آخر ما يقال بلغة عصرنا. لم يتخل الوحي من قبل عن اللحاق بالواقع، فكان به الناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني، والعقيدة والشريعة، وظهر بأصول الفقه الاجتهاد كعامل للتطوير، وبقي أصول الدين متخلفا عن أصول الفقه؛ وبالتالي كانت مهمة «التراث والتجديد» تطبيق الاجتهاد ونقله من علم أصول الفقه إلى علم أصول الدين ، مهمة التأليف في أصول الدين إذن تحريك الهمم، وحثها على التفكير في العقيدة، فهو عمل فكري بالأصالة، يعمل في التجارب الشعورية حتى تحيا عقائد الناس، فتوجه سلوكهم توجيها نظريا بدلا عن التوجه الأحادي الطرف بالدوافع والحاجات وحدها، وترشيد سلوكهم نحو تلبية هذه الحاجات على نحو جذري ودائم، وليس عن طريق الحقن المسكنة، والحلول الوقتية والترغيب تارة والترهيب تارة أخرى.
31
مهمة «التراث والتجديد» الشرح والتلخيص، الزيادة والنقصان، زيادة مادة لم يلتفت إليها القدماء مثل المعاني القرآنية للألفاظ الكلامية، مثل: تنزيه، تشبيه، تجسيم، آخرة، دنيا، وعد، وعيد، نقل، عقل، إمامة، خلافة، إيمان، عمل. وكذلك كل موضوعات الطبيعة من جبال وأنهار وطيور وأنعام وأشجار.
32
وأهم من ذلك كله الإنسان الذي ذكر في القرآن خمسا وستين مرة، ولم يدخل في بناء علم الكلام كموضوع مستقل.
33
مهمة «التراث والتجديد» نقصان مادة عن طريق اختصار كل مادة لا تعبر عن مطالبنا المعاصرة، مثل: مباحث الجوهر والعرض، وزيادة مادة أخرى أكثر تعبيرا عن مطالب العصر، مثل: العقل والعمل، والطبيعة، والسياسة، والثورة، والتنمية، والتقدم، والتاريخ.
34
صحيح أن من عيوب «التراث والتجديد» التطويل والإكثار من التحليلات، فلا توجد فكرة قديمة إلا وقد تم تحليلها ثم عرضها على العصر، ولا توجد مشكلة عصرية إلا وكانت محكا للتمحيص والاختيار بين البدائل. يدخل «التراث والتجديد» إذن ضمن المؤلفات المطولة، ويكون بذلك خليفة «المغني في أبواب التوحيد والعدل» أو «المحيط بالتكليف» ما دام أنه تطوير للتيار العقلي الطبيعي الاعتزالي مع إدخال عنصر الثورة والتحرر عليه، وهي مكتسبات في حياتنا المعاصرة، ونرجو من خلفائنا اختصاره وتركيزه.
35
وإذا كنا قد درسنا في مقتبل العمر «علم أصول الفقه»، فإننا بعد حوالي عشرين عاما من صدور «مناهج التأويل»، محاولة في علم أصول الفقه، نصدر محاولتنا الثانية «من العقيدة إلى الثورة»، محاولة في بناء علم أصول الدين.
الفصل الثالث: نظرية العلم
أولا: نشأة نظرية العلم وتطورها
(1) مصطلح «نظرية العلم»
يشير مصطلح «نظرية العلم» إلى المقدمات النظرية التي غالبا ما تكون في مصنفات علم أصول الدين التي تعرض لموضوعات العلم دون الفرق.
1
ولكنها قد تظهر أيضا في تلك المصنفات التي تجمع بين موضوعات العلم وتاريخ الفرق؛ هي ليست إذن مقصورة على المؤلفات النظرية وحدها، بل قد تكون مقدمة نظرية لتاريخ الفرق التي تعرض الموضوعات من خلالها.
2
ويمكن القول إنه في المؤلفات المبكرة عندما كان العلم أقرب إلى تاريخ الفرق منه إلى البناء المستقل لنسق العقائد تظهر نظرية العلم كمقدمة لتاريخ الفرق، وكأن تاريخ العلم لا يمكن تناوله إلا بعد مقدمة نظرية عن العلم نفسه، وفي المؤلفات المتأخرة عندما يختفي تاريخ الفرق تماما، ويظهر بناء العلم مستقلا عن التاريخ، تظهر نظرية العلم أيضا باعتبارها مقدمة للعلم ذاته من حيث هو بناء.
3
نظرية العلم إذن هي المقدمة الضرورية لعلم أصول الدين، سواء من حيث هو تاريخ أو من حيث هو بناء. ويبدو أنه نظرا لأهمية هذه النظرية، فإن بعض المؤلفات التي تجمع بين التاريخ والبناء تبدأ بنظرية العلم، وتنتهي بنظرية العلم، ويكون العلم ذاته تطبيقا لهذه النظرية الخالصة في تأسيس العلم.
4
ومصطلح «نظرية العلم» يعبر عن هذه المقدمات النظرية التي لم تستقر على مصطلح لها إلا في المصنفات المتأخرة.
5
ففي المؤلفات المتقدمة نجد حديثا عن العلم أو التكليف، كما نجد كلاما في العلم والنظر والمعارف وتكافؤ الأدلة، ونجد أيضا تحليلا لمناهج الأدلة وبيانا للحقائق والعلوم. ولكن تحولت هذه الموضوعات في المؤلفات المتأخرة إلى أبواب مستقرة تحت اسم «أحكام النظر» أو «المبادئ» أو «المقدمات»، وأصبحت المدخل النظري للعلم إجابة على سؤال: «كيف أعرف؟» أو «كيف أعلم؟». وهي الأبواب التي سميناها «نظرية العلم». العلم مصطلح من القدماء، ونظرية مصطلح من المحدثين والقدماء على السواء؛ فقد تحدث القدماء عن العلوم النظرية، كما تحدث المحدثون عن «نظرية في كذا». ولما كنا نحاول أن نصوغ هذه المقدمات باعتبارها مدخلا نظريا لعلم أصول الدين فقد سميناها «نظرية العلم». (2) غياب نظرية العلم
في المؤلفات المتقدمة قد لا تظهر نظرية العلم وكأن علم أصول الدين قد بدأ أولا دون مقدمات نظرية، بل كان مجرد عرض لقواعد الإيمان ومبادئ العقيدة . لم تكن الحاجة قد نشأت بعد إلى ضرورة عرض العلم عرضا نظريا دون افتراض إيمان مسبق بالعقائد أو حتى بالوحي.
6
فقد قام الإيمان مقام العلم أولا. فإذا ما ظهرت نظرية العلم فإن ظهورها يكون تطورا طبيعيا للإيمان وتحويلا إلى مستوى النظر. الإيمان في الحقيقة هو نظرية العلم، ونظرية العلم هي التطور الطبيعي للإيمان. فلما ظهر «المعارض» العقلي في الحضارات الأخرى، موجها ضد العقيدة الجديدة، الفاتحة أرضا، والمنتصرة جندا، والمقوضة عروشا، والهازمة جيوشا؛ اضطر علم أصول الدين إلى اللجوء إلى المستوى النظري في التحليل للرد على المعارض ودرء الأخطار النظرية ورد الهجوم بالمثل؛ فتحول الإيمان التقليدي إلى نظرية في العلم، ودخلت مسائل النظر والعلم والمعرفة والدلالة كأساس مشترك بين العلم الجديد الناشئ وبين علوم الحضارات الغازية؛ إذ لا تقل أهمية المنهج عن أهمية الموضوع. كان الحوار بين الحضارات هو التطور الطبيعي للذات الحضارية الجديدة البازغة. لم ينغلق علم الأصول على ذاته، واستبقى الإيمان، بل انفتح على الحضارات الغازية، وتعامل معها بأسلوبها وبلغتها، واستعمل مناهجها وطرق استدلالها. وعلى هذا النحو تأسست نظرية العلم تأسيسا حضاريا.
7
وعندما تغيب نظرية العلم، يبدأ العلم بنظرية الوجود مباشرة؛ أي بتحليل العلم، وهو ما عرف فيما بعد باسم دليل الحدوث، وكأن موضوع المعرفة سابق على الذات العارفة، ويمكن معرفته مباشرة دون ما حاجة مسبقة إلى معرفة وسائل المعرفة أو مناهجها. تلجأ الذات مباشرة دون ما حاجة مسبقة إلى معرفة وسائل المعرفة أو مناهجها. تلجأ الذات مباشرة إلى العالم، موضوع المعرفة دون أن تتساءل كيف تعرف أو كيف تعلم، وقبل أن نجيب على سؤال ماذا تعرف أو ماذا تعلم؟ والحقيقة أن افتراض العلم مسبقا دون رؤية منهجية له مخاطر غير محسوبة العواقب، قد تكون من أسباب خلطنا المعاصر، وتخبيطنا في الواقع دون رؤية أو بصيرة، وكأننا نعيش في عالم الأشياء المصمتة بلا ترشيد أو تعقيل أو تنظير، في عالم لا يحكمه الفكر. فالواقع لا يتحدث عن نفسه، والوجود ليس علما. ولا يقال إن لذلك الغياب، غياب نظرية العلم ، والبدء بالوجود مباشرة دلالة أعمق في جعل الوجود هو المعرفة. والبداية بالوجود هي في حد ذاتها نظرية في المعرفة، وكأن الوجود في العالم هو وجود تنشأ منه المعرفة، والمعرفة تالية على الوجود وليست سابقة عليه.
8
لا يقال ذلك لأن مجتمعاتنا الحالية تحتاج أولا إلى تأسيس النظر، وإعمال العقل، واكتشاف الواقع من حيث هو فكر؛ فمأساتنا هو حضور الأسطورة مكان العلم، والخرافة بدل العقل، والوهم كبديل للنظر، ونحن لم نتعب من عمل العقل بعد ولم نمل منه ولم نر مخاسره ولا مثالبه، فكيف نرفض ما لا نملك؟ وكيف نهدم ما نريد بناءه؟
9
إن العيش في الواقع مباشرة يتم عن طريق العمل والجهد، وهو ما نحن فيه بجهادنا من أجل لقمة العيش، ومحاولتنا للتغلب على الضنك، وصراعنا من أجل البقاء. ويكون ذلك أيضا في حالة الاسترخاء التام أو السعادة القصوى أو اللذة اللحظية بعد عناء الجهد ومشاق العمل، وتأدية الرسالة.
10
إنما المهم هو التنظير والفهم، وإدراك مسار الأمور حتى يكون صراعنا مجديا، قائما على أساس وليس أهوج فرديا انفعاليا، مجرد تعبير عن صرخة الحياة والرغبة في البقاء. ولا يقال إن الاختصار هو المسئول عن غياب نظرية العلم، فالاختصار لا يصل إلى حد القضاء على الأساس المعرفي للوجود وعلى تحليل العقل للواقع وعلى تأسيس العلم. (3) ظهور نظرية العلم كنظرية في المعرفة
تظهر نظرية العلم في المؤلفات المتقدمة مرتبطة بالإلهيات عندما ينقسم العلم إلى علم الخالق وعلم الخلق، العلم القديم والعلم الحادث، العلم الإلهي والعلم الإنساني. وتظهر نظرية العلم منبثقة عن الإلهيات كمولود جديد حتى تأخذ شكلها الكامل المستقل كنظرية في المبادئ أو الأحكام في المؤلفات المتأخرة. وبالتالي يكون كل عود إلى العلم الإلهي رجوعا عن هذا الانبثاق الجديد وإرجاعا للعلم إلى مرحلة ما قبل النشأة والظهور. في حين أنه يمكن تأسيس العلم الإلهي نفسه باعتباره علما إنسانيا، وذلك لأن الوحي قد نزل في زمان معين ومكان محدد، ولدى شعب بعينه، فهمته العقول، وتمثلته الأذهان، وطبقته الإرادات، وحققته الأفعال؛ وبالتالي فهو علم إنساني كما حدث في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه خاصة.
11
والعلم الإنساني بتحليلاته الصورية قادر على الحفاظ على صفات العمومية والشمول والموضوعية التي يتصف بها العلم الإلهي، ألا وهو الوحي، كما أنه قادر على صياغة علم صوري خالص يقوم على المبادئ الأولى في لا زمان، وقد أصبحت الإلهيات نفسها جزءا من نظرية العلم، ودخلت ضمن المعرفة الاستدلالية.
12
ثم يظهر انقسام العلم الإنساني إلى ضروري واستدلالي، وفي العلم الضروري تثبت المعرفة الحسية والبداهية العقلية، وفي العلم الاستدلالي يثبت النظر، ثم يبدو النظر كأول واجبات المكلف، خاصة عند المعتزلة الذين يجعلون النظر أول الواجبات.
13
وأصبح الإيمان جزءا من النظر وليس مصدرا مستقلا للمعرفة. ويدخل النظر، لأهميته وباعتباره أول الواجبات ضمن نسق كامل لنظرية الواجب، ويصبح أحد الواجبات أو أولها.
14
بل يتحول الواجب العقلي إلى واجب شرعي، فتظهر بذلك نظرية الوجوب أو التكليف على ثلاث جماعات: العامة، والعلماء، والسلطان، وكأن واجب المواطن، وواجب العالم، وواجب الحاكم نفس الواجب، خاصة واجب العالم الذي عليه إرشاد المواطن والرقابة على السلطان. ليس واجب العالم التمويه على المواطن وتبرير أفعال السلطان كما يحدث في عالمنا هذا في أغلب الأحيان.
15
ثم تكتمل نظرية العلم شيئا فشيئا، فتظهر مضادات العلم: الشك، والوهم، والجهل، والتقليد، والإلهام، فالعلم لا يتأسس إلا بعد رفض المعارض، وتطهير الشعور الإنساني من معوقات العلم، ويبدأ تفنيد نظريات الشك وإثبات الحقائق وإمكان معرفتها. هناك شيء موجود يمكن معرفته، سواء كان ماديا أو صوريا.
16
ثم يظهر النظر باعتباره شرط العلم وتكون الصلة بينهما صلة الشارط بالمشروط، والعلة بالمعلول. وينقسم إلى صحيح وفاسد. الصحيح هو القائم على الدليل، والفاسد هو الذي لا يقوم على دليل أو الذي يقوم على دليل خاطئ. النظر هو الاستعمال الصحيح؛ أي أنه هو النظر السليم، يحتوي على معيار صدقه من داخله. كما يظهر التمييز بين النظر الجلي والنظر الخفي، وبالتالي تبدو نظرية العلم على أنها أساسا نظرية في الوضوح. ثم يظهر النظر مرتبطا بالدواعي والخواطر، مما يدل على ارتباط العلم أساسا بالشعور وبسكون النفس . وبالتالي أصبح حد العلم هو العلم الشعوري أو حالة العالم، مرتبطة بحياته، ومنتهية بمنيته. كما ترتبط المقاصد والدواعي بالمنفعة والضرر الناشئين عن فعل النظر أو تركه.
17
وأخيرا تبدو محاولات أولى لتحديد العلم باعتباره نظرية شاملة، يشمل النظر والعلم، ومقدمات النظر وطرقه ونتائجه، وكأن العلم يتأسس في العقل، ويقوم على الواقع، ويسكن في الشعور، وتسكن النفس إليه. ثم تظهر مادة العلم الضروري مثل المسلمات العقلية، وبداهات العقول؛ فتظهر نظرية العلم باعتبارها نظرية في العقل. العقل هو وسيلة العلم وآلته، والعلم نتيجته وثمرته؛ كما تظهر أيضا الحدسيات والحسيات كجزء من المعرفة الضرورية. ويظهر التواتر أيضا كنموذج للمعرفة الضرورية يعتمد على الرواية، ومشروط بالبداهة الحسية والعقلية. وأخيرا تظهر الأدلة متأرجحة بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه وعلوم اللغة. فالأدلة ثلاثة: العقل، والسمع، واللغة. يظهر الجانب اللغوي كما يظهر جانب الوحي، وجانب العقل في نظرية العلم. وعندما تتسع الأدلة فإنها تشمل الأدلة الشرعية الأربعة في علم أصول الفقه مع التركيز على الإجماع والقياس أكثر من التركيز على الكتاب والسنة؛ أي أن نظرية العلم تنشأ في الجماعة وتقوم على الاجتهاد.
18 (4) تداخل نظريتي العلم والوجود
تظهر نظرية العلم في المؤلفات المبكرة على أنها هي المقدمات النظرية الوحيدة دون نظرية الوجود التي يستعاض عنها بدليل الحدوث كمقدمة للإلهيات. أما في المؤلفات المتأخرة فتظهر نظرية الوجود مساوية لنظرية العلم، ثم تتجاوزها وتسودها كي تبتلعها في النهاية.
19
وأثناء نظرية العلم قد تظهر بعض مسائل نظرية الوجود، حتى إنه ليصعب التمييز بينهما في المؤلفات المبكرة؛ حيث يتداخل العلم في المعلوم، والوجود في الأدلة.
20
ففي بدايات تكوين نظرية العلم تمتد النظرية وتضم الوجود، ويصعب الفصل بينهما. ويظل التأرجح من الأولى إلى الثانية؛ مما يوحي بصعوبة التمييز بين الذات العارفة وموضوع المعرفة. ولا يعني ذلك ضرورة الفصل بينهما، فالموضوع ينكشف من خلال الذات، والذات تضم الموضوع وتحتويه كاشفة عنه ومتحدة به. هناك إذن حقيقة واحدة، «شيء» واحد، ذات من حيث هي معرفة، وموضوع من حيث هو معروف. ومع ذلك تتحدد نظرية العلم أولا قبل أن ينكشف موضوع العلم ثانيا، خاصة في حضارة ناشئة تكون أولا تصورها النظري للعالم كما كان الحال عند القدماء أو لدى شعب ناهض كما هو الحال في عصرنا، يحاول أن يؤسس نظرية للعلم يدرك بها واقعه. أما الخلط بين الذات والموضوع، والتوحيد بين المعرفة والوجود كما يحدث أحيانا في الحضارات في نهاية عمرها أو في لحظات الهزائم، والرغبة في النصر عن طريق الخيال، فهو إما عود إلى العالم الحسي، والعيش من جديد على مستوى الطبيعة
21
أو انغلاق الروح على ذاتها فتصبح فارغة من أي مضمون كما هو الحال في التصوف.
وقد تظهر نظرية العلم داخل نظرية الوجود عرضا دون أن تكون مقدمة لها، وكأن بعض المسائل في نظرية الوجود فيما يتعلق بالاستدلال مثلا لا تحل إلا بنظرية العلم. ينكشف العلم هنا من خلال الوجود، ويكون أحد أنماطه. وقد حدث ذلك في بعض المؤلفات المتأخرة حين قاربت نظرية العلم على الانتهاء وسادت نظرية الوجود.
22
وفي بعض الموضوعات، يصعب التمييز بين المعرفة والوجود، مثل تصنيف العلوم بين العام والخاص، كل علم يعبر عن إحدى مراتب الوجود حتى لا يتم الخلط بين العلوم أو بين مستويات الوجود. يعبر العلم الشامل عن الوجود الكلي بينما يعبر العلم الخاص عن الموجود المتعين.
23 (5) نظرية العلم كنظرية في المنطق
وفي المؤلفات المتأخرة، تطورت نظرية العلم وأصبحت نظرية في المنطق، وبالتالي تكون نظرية العلم في آخر صورها هي نظرية في المنطق أو تكون نظرية المنطق في بدايتها نظرية في العلم. فالمنطق وريث العلم، وهو ما ظهر بوضوح في علوم الحكمة التي أصبح المنطق فيها بديلا عن نظرية العلم وسابقا على الطبيعيات والإلهيات، بل وآلة للعلوم كلها. وتشمل نظرية المنطق عند القدماء نظرية في الاستدلال ونظرية في الإدراك، الأولى تعنى بصورة الفكر، والثانية تتناول مادة الفكر.
24
وابتداء من القرن السادس عندما تسربت مسائل علوم الحكمة إلى علم أصول الدين تحددت نظرية المنطق أساسا كنظرية في التصورات والتصديقات، وكأن علم أصول الدين أصبح ممثلا لعلم حضاري شامل يضم علوم الحكمة، كما سيضم فيما بعد في مرحلة توقف الحضارة علوم التصوف.
25
بدأت نظرية المنطق في التخلي عن الحجج النقلية، واعتبرت هذه الحجج غير مفيدة لليقين، وأنها لا تفرد إلا الظن لاعتمادها على اللغة نقلا وتفسيرا. أصبحت الحجج المؤيدة هي الحجج العقلية، كما أصبحت نظرية العلم نظرية في العقل الخالص.
26
وفي دوائر المعارف المتأخرة، ظهرت نظرية العلم أيضا متداخلة مع نظرية المنطق. فبعد تحديد العلم وتعريفه باعتباره نظرية في المنطق قل الفصل بين العلم والوجود، وأصبح المنطق هو علم الوجود، وأصبح لدينا علم صوري واحد يتحدد في المنطق باعتباره نظرية في العلم، وفي الوجود باعتباره نظرية في المنطق. وظهر ذلك أساسا في أحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل.
27
وقد شملت نظرية العلم في المؤلفات المتأخرة تحليلا للعقل والوجود، والعقل هنا يشمل الحس والوجدان، والوجود يضم المنطق والوجود العام. لقد حاول كثير من علماء أصول الدين من قبل التعرض إلى مشاكل العلم وتأسيس نظرية عقلية يقوم عليها العلم. فخرجت مرة عقلية، ومرة أخرى وجودية، وثالثة نفسية، ورابعة جسمية، وخامسة علمية. ولكنها تمت جميعا باسم العقل وكأنها كانت جميعا تحليلات للعقل ولصور العقل. ظهر العقل إذن في أكثر من صورة، فهو في نفس الوقت نظرية في العلم، ونظرية في الوجود، وهو الغالب.
28
وأحيانا يتجاوز تحليل العقل كونه مقدمة عامة للعلم كله إلى أن يصبح مقدمة لكل موضوع كلامي؛ فالحديث مثلا عن مراتب العلوم، والعلة والمعلول، والشرط والمشروط، والحقيقة والحال، وصفات النفس وصفات المعنى يمكن أن يدخل ضمن المقدمة العامة للعلم كما يمكن أن يدخل كأساس نظرية لمسألة الصفات.
29
وأحيانا يتسع تحليل العقل حتى يطغى على الموضوعات الكلامية ذاتها، ويصبح علم أصول الدين مجرد نظرية في العلم ونظرية في الوجود، ويتحول علم «اللاهوت» إلى «أنطولوجيا» عقلية خالصة، وكأن هذا التحول هو مصير كل علم إنساني. فإذا تتبعنا المؤلفات الكلامية لمعرفة نسبة المقدمات النظرية إلى الموضوعات الكلامية نجد أن المؤلفات المبكرة تبدأ كتاريخ للعقائد أو كعرض لها دون مقدمات نظرية تذكر. ثم تبدأ المقدمات النظرية في الظهور تدريجيا حتى تكون في نسبة مساوية للموضوعات الكلامية في المؤلفات المتوسطة . ثم تبدأ المقدمات النظرية في التمدد والانتشار على حساب الموضوعات الكلامية التي تبدأ في الاختفاء تدريجيا حتى تصبح هذه المقدمات النظرية التي تشمل على تحليل العقل هي العلم كله، وكأن «اللاهوت» لا يظهر إلا في مرحلة مبكرة في بناء العلم، ولكن بعد أن يتطور العلم ويكتمل يتلاشى اللاهوت، ويظهر التحليل العقلي الأنطولوجي الخالص.
30
وفي آخر ما وصل إلينا من مؤلفات كلامية بدأت الإلهيات في الاختفاء تماما، وأصبحت تسمى «العقليات» أو الواجب، وهو الوجوب العقلي، ولم يتبق من علم أصول الدين القديم إلا السمعيات.
31
ولولا توقف العلم في القرون الأخيرة لتطور ولابتلعت المقدمات النظرية - نظريتا العلم والوجود - الموضوعات الكلامية كلها، وتحول علم أصول الدين إلى علم إنساني خالص.
والسؤال الآن: لماذا سادت علوم الحكمة أولا، ثم علوم التصوف وعلوم الفقه ثانيا؛ علم أصول الدين المتأخر؟ هل تم ذلك لتوحيد العلوم الإسلامية في علم حضاري واحد يجمع بين التنزيل والتأويل، بين النظر والذوق، أم أنه هزيمة لعلم الكلام الأشعري الذي ساد منذ القرن الخامس حتى الآن، بما في ذلك الحركات الإصلاحية الحديثة، والذي كان بطبيعته قابلا للتأقلم مع باقي العلوم النقلية العقلية؟ فالفلسفة إشراقية، والتصوف أشعري، والفقه يقوم على الطاعة المطلقة للإرادة الإلهية، والنظام الاجتماعي السياسي نظام تسلطي يهمه الإبقاء على هذا التراث طالما يحث على طاعة أولي الأمر.
32
ومع ذلك يظل لعلم الكلام المتأخر الفضل في تأسيس نظرية العلم على أساس أن مبادئ العلم بينة بذاتها دون التوحيد التام بين النظرية العقلية والموضوعات الكلامية. واعتماد علم الكلام على النظرية العقلية كاعتماد أصول الفقه على اللغة العربية اعتمادا لا ينفي استقلال موضوع علم الكلام أو موضوع الأصول؛ ومن ثم تكون مبادئ الشرعي في غير الشرعي دون أن يؤدي ذلك إلى وقوع في الدور؛ لأن مبادئ غير الشرعي بينة بذاتها. النظرية العقلية هي في نفس الوقت نظرية في البداهة، وبالتالي يمكن تأسيس العلم لأن هناك نقطة يقينية أولية هي البداهة العقلية، خاصة إذا كان الشرعي نفسه يقوم عليها.
33 (6) اختفاء نظرية العلم
وتبدأ نظرية العلم في الاختفاء حتى في المؤلفات المتأخرة التي يكتمل فيها العلم. ففي زحمة الموضوعات الكلامية وفي مقدمتها موضوع التنزيه، والذي يبتلع ما دونه من الموضوعات، تختفي نظرية العلم وكأنها مقدمة غير ضرورية أمام الإلهيات.
34
وفي عصر الشروح والملخصات تبدو نظرية العلم وكأنها تجميع بني نظرية المعرفة ونظرية المنطق دون أن تأتي بجديد، باستثناء عرض بعض المسائل التي ظهرت من قبل، ودون أية مساهمة في الكشف عن أحد جوانب البناء أو إعادة البناء كله من جديد. فنظرية العلم التي بدأت كمسائل متفرقة عادت أيضا كما بدأت بضع مسائل متفرقة، وفقدت رابطها الداخلي وعنفوانها النظري الذي استطاعت به أن تؤسس الإلهيات.
35
ثم تحول الوجوب العقلي والوجودي الذي صاغته نظرية العلم بعد اكتمالها إلى الوجوب الشرعي. وأصبح على المسلم أن يؤمن بالواجب الشرعي الذي أصبح بديلا عن الواجب النظري. اختفى النظر، وأصبح الإيمان بالعقائد بمثابة إقامة الشعائر، كلاهما تسليم بنظر أو بعمل، وتقبل للواجب دون أي إعمال للعقل، وهو ما عرف باسم كتب العقائد والثناء عليها، والإكثار منها ومن شروحها، وتدريسها في المعاهد الدينية والكليات الأزهرية حتى الآن، بل لقد عرفت العقائد باسم واضعها؛ نظرا لأنها لا تتمايز في شيء إلا باسم عارضها.
36
ويستعاض عن النظر بالتقليد الذي رفضه علم أصول الدين المتقدم حتى للجمهور. وتستمر نظرية العلم في التواري حتى يتحول علم أصول الدين إلى علم إيماني خالص، يحل فيه الإيمان محل العلم، والتسليم محل العقل، والتقليد محل النظر.
37
بل إن موضوعات العلم ذاتها لم تصبح نظرية خالصة تتأسس بالعقل، بل أصبحت قضايا نظرية شرعية اعتقادية، وبالتالي فقد النظر مهمة التأسيس.
38
وفي الحركات الإصلاحية الحديثة، لم تظهر محاولات لإعادة نظرية العلم من جديد، وصياغة المدخل النظري لعلم أصول الدين، كما كان الحال من قبل، بل استمرت نظرية العلم في الاختفاء، وحل محلها وصف لتطور العلم في التاريخ لمعرفة ما هو أصيل منه وما هو دخيل عليه. الغاية من تحديد مسار العلم في التاريخ هي معرفة كيفية الانتقال من الوحدة إلى التشتت، ومن الجماعة إلى الفرقة، حتى يمكن تجاوز الحالة الراهنة، حالة التشتت والفرقة، إلى الحالة الأولى، حالة الوحدة والجماعة؛ وبالتالي يعود علم أصول الدين إلى ما كان عليه من توجيه لسلوك الناس نحو العمل.
39
وتنتهي «الرسالة» أيضا بنفس الهدف، وصف مسار الوحي في الواقع وتوجيهه له، والعودة إلى هذا التوجيه، وهنا يتحول التاريخ إلى قيمة، والنظر إلى عمل، ويعود علم التوحيد كما كان في بدايته حركة في التاريخ، يغير الواقع، ويبني المجتمعات، ويؤسس الدول قبل أن يتحول إلى علم حضاري نظري، وكأن الإنسان لا يؤسس النظر إلا بعد أن يتوقف العمل.
40
وفي حركة إصلاحية أخرى، تختفي المقدمات النظرية ولا يستعاض عنها بأي بديل في وصف التاريخ، بل يتحول التوحيد إلى عمل مباشر، وذلك بتوجيه النصوص الدينية مباشرة نحو الواقع وكأنها سهام موجهة إلى الأوضاع المتردية التي تعيش فيها الجماعة. التوحيد هنا ليس هو التوحيد النظري، بل التوحيد العملي.
41
فالحركات الإصلاحية الحديثة جعلت العمل بديلا عن النظر، وظلت تدعو إلى ذلك حوالي أكثر من قرن ونصف، وما زالت الدعوة قائمة، يكررها كل مصلح حسن النية، وكل راغب في التغيير. ولكن السؤال هو الآتي: هل يمكن الدعوة إلى العمل دون نظرية في العمل؟ هل يمكن التغيير دون نظرية في التغيير؟ هل يمكن تحقيق التوحيد العملي دون التوحيد النظري؟ قد يكون أحد الأسباب في أن حركاتنا الإصلاحية الحديثة لم تؤت أكلها بعد. إنها أرادت تحويل النظر إلى عمل دون تأسيس للنظر؛ لذلك ظل الإصلاح مجرد وعظ وإرشاد، حاثا الناس على العمل، والناس لا تعمل بالمواعظ بل بتغيير تصوراتها للعالم، ونظرتها إلى الكون؛ ومن ثم فالعودة إلى تأسيس العلم، وتحويل التوحيد إلى نظرية هو السبيل إلى إصلاح جذري، والانتقال من الإصلاح إلى ثورة تتأصل أولا في شعور الجماهير، وتمدهم بتصور ثوري للعالم قبل أن تتحقق الثورة بالفعل.
42
نظرية العلم هي البناء الأيديولوجي اللازم لثورة الجماهير.
43 (7) بناء نظرية العلم
إن أهم شيء في البناء الفكري هو البداية الأولى، بعد ذلك يتم بناء الموضوع في نسق عقلي يكشف جوانب الموضوع بحيث يكون النسق العقلي وجوانب الموضوع شيئا واحدا، وهذا ما حدث في تراثنا القديم، وعرف باسم القسمة العقلية التي يتم بواسطتها بناء الموضوع في نسق عقلي، وبالتالي يتوحد فيه المنطق بالوجود.
البداية اليقينية الأولى هو أني حي، أشعر وأعتقد، وفي شعوري واعتقادي يبدأ وجودي ككائن معتقد. الاعتقاد صفة من صفات الكائن الحي، الاعتقاد هنا عام؛ العنوان الشامل للفكر والنظر والعلم وكل أفعال الشعور وأنماط اعتقاده. لذلك جعل علماء أصول الدين العلم والحياة صفتين من صفات «الله» مع القدرة؛ لأن الحياة شرط العلم، والعلم هو الاعتقاد اليقيني.
44
البداية اليقينية الأولى إذن هو الاعتقاد أو التصديق، الاعتقاد لأنه لا يمكن لإنسان أن يتحدث إلا وقد اعتقد شيئا، والتصديق لأن أي اعتقاد هو تصديق ضمني أو حكم صريح تقوم به أفعال الشعور قبل أن يتم بتحليل العقل لصورته أو مادته. الاعتقاد مجموعة من الأمور يجدها الإنسان في نفسه بالضرورة، يتوحد فيها الذات والموضوع كواجهتين لشعور واحد يعطي النسق العقلي، ويكشف عن جوانب الموضوع، ويعطي البناء الذي يصبح منطقة في الشعور يتحد فيها العقل والواقع معا.
45
ويتحدد الاعتقاد عن طريق القسمة كالآتي: الاعتقاد إما أن يكون جازما أو مترددا، ولا توجد قسمة ثالثة يتوقف فيها الشعور عن أخذ موقف أو إصدار حكم؛ لأن ذلك تردد أيضا. والاعتقاد المتردد إذا تساوى فيه الطرفان كان شكا، وإذا غلب أحد الطرفين الآخر فأصبح الأول راجحا والثاني مرجوحا، فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. أما الاعتقاد الجازم فإن كان غير مطابق فهو الجهل (والمطابقة هنا مع الفكر والواقع على السواء، فهناك اتساق فكري وواقعي يشمل كل جوانب الموضوع)، وإن كان مطابقا بلا سبب فهو التقليد - فالتقليد مطابقة مع القديم بلا سبب - أو عن سبب إما بتصور الموضوع والمحمول معا في لحظة واحدة وهي البديهيات أو بالإحساس وهي الضروريات أو بالاستدلال وهي النظريات. المطابقة عن سبب هو العلم، والبداهة العقلية تسبق الضرورة الحسية، وكلاهما يسبق الاستدلال النظري. وبالتالي يكون تعريف العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق عن سبب بديهي عقلي أو بديهي حسي أو نظري استدلالي.
46
استطاع القدماء إذن صياغة نظرية في العلم تقوم على قسمة المنطق إلى منطق يقين ومنطق ظن. يشير منطق اليقين إلى المعرفة اليقينية؛ العقليات، والحسيات، والتجريبيات، والحدسيات، والعقليات، والمتواترات. ويشير منطق الظن إلى المعارف الظنية: الجدل، والمغالطة، والخطابة، والشعر. ويظهر هنا الاحتواء - احتواء قسمة الحضارة المجاورة - في وضع المتواترات كجزء من منطق اليقين، وفي وضع المستورات كجزء من منطق الظن، وفي ذلك لا يختلف علم أصول الدين في احتواء قسمة المنطق القديم عن علوم الحكمة.
47
ويمثل هذا التقسيم الذي صاغه القدماء تقدما بالنسبة لعقليتنا المعاصرة. لقد استطاع القدماء التمييز بين الاعتقاد والعلم، بين الاعتقاد الجازم وغير الجازم، وبين الاعتقاد الجازم المطابق وغير المطابق. ولكننا في حياتنا المعاصرة خلطنا بين هذه التمييزات بين العلم والاعتقاد. فكثيرا ما «نعتقد» أو «نظن» أننا نعلم بل وكثيرا ما يسود الاعتقاد حياتنا دون العلم؛ نظرا لغياب المطابقة مع الفكر أو مع الواقع؛ لذلك غاب التحليل العقلي من حياتنا، كما انعزلت اعتقاداتنا عن واقعنا الذي نعيش فيه. كما أننا لا نفرق بين الاعتقاد الجازم وغير الجازم؛ لأننا أقرب إلى الجزم في كل شيء، ونخشى من الشك والتردد في مواقف تحتم النظرة النقدية كما هو الحال بالنسبة للموروث أو أننا نشك أو نتردد في مواقف تحتم الجزم والحسم كما هو الحال في مواجهة السلطة، وحق الشعب في الرقابة عليها، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضرورة التصدي للقضايا المصرية، وعقد حوار وطني شامل حولها، قضايا تحرير الأرض، واسترداد الحريات المغتصبة، وإعادة توزيع الثروة، والوحدة والتجزئة، والتخلف والتقدم، والهوية والتغريب، وتجنيد الجماهير. كما لا نفرق بين الاعتقاد الجازم المطابق وغير المطابق؛ فكثير من اعتقاداتنا الجازمة غير مطابقة تعارض العقل والواقع والتاريخ، ونسلم بها تقليدا. أصبحت اعتقاداتنا متخلفة عن حركة الواقع وتطور التاريخ؛ مما دعا البعض منا إلى لفظ هذه الاعتقادات كلية من أجل اللحاق بحركة الواقع ومسار التاريخ؛ لم يكن أمامهم إلا هذا الخيار. ولا نفرق بين المطابق عن غير سبب مثل التقليد والإلهام والذي هو عن سبب وهي البديهيات العقلية والحسية والاستدلال النظري؛ فكثير من اعتقاداتنا الجازمة المطابقة تقوم على التقليد والإلهام، وتغفل البداهة العقلية والحسية والاستدلال النظري، وكثير مما نظنه بداهة عقلية أو حسية يصدر عن الذائعات وهي الشائعات أو المشهورات والمظنونات التي تروج لها أجهزة الإعلام تضليلا للشعوب ومحوا لرؤيتها المباشرة للواقع، وكثير مما نظنه استدلالا نظريا هو في الحقيقة تبرير يقوم به العلماء المأجورون لما تريده السلطة فيبيعون علمهم في سوق السياسة، ويتبارى العلماء في الصياغة وفي المهارة، وهي تقوم كلها على المغالطات. ما زال يمثل النسق العقلي القديم بالنسبة لحالتنا الراهنة تقدما، ويظل مقياسا لحياتنا العقلية المعاصرة.
48
فقد سادت في حياتنا مضادات العلم أكثر من العلم؛ أي الظن والوهم والجهل والتقليد باستثناء الشك لأن ما فينا من قطعية وجزم يمنعان ظهوره، وغاب منا النظر وطرقه.
ثانيا: تعريف العلم
لما كان علم الكلام «علما»، فإن السؤال يكون: وما هو العلم؟ وما تعريفه؟
1
وبالرغم مما يبدو على التعريفات من مسائل نظرية خالصة إلا أن أهميتها ترجع إلى أنها ضرورية لتعريف العلم قبل تأسيس علم الكلام. وهو ما حدث أيضا في علم أصول الفقه وعلوم التصوف بتحديد كلمة «علم» دون علوم الحكمة التي جعلت المنطق مدخلا لها وآلة للعلوم جميعا. ولا يمكن الحديث عن تعريف «علم الكلام» دون معرفة أولا بتعريف العلم؛ أقسامه، وشروطه، وطرقه. البحث عن إمكانيات المعرفة الإنسانية إذن سابق على تأسيس هذه المعرفة ذاتها. وربما لا تسمح قدرات العلم الإنساني بإقامة «علم إلهي» يدعي أنه يصدر أحكاما على الله في ذاته، وهو في الحقيقة يتحدث عن طريق القسمة والمثال أو عن طريق التشبيه والقياس؛ قياس الغائب على الشاهد. معرفة إمكانيات العلم إذن مطلب أساسي لتأسيس العلم وقبل الحديث عن أي علم. وقد أسقطنا نحن في حياتنا المعاصرة هذا الجزء من علم الكلام وبدأنا بالذات والصفات والأفعال كما هو الحال في علم الكلام المتأخر دون حديث عن إمكانية العلم بمثل هذا الموضوع وشروطه.
وعندما يعرف العلم فإن الذي يعرف هو العلم الإنساني، وليس «العلم الإلهي» موضوع الذات والصفات والأفعال؛ لأننا لا نعلم علما آخر سوى العلم الإنساني، بل إن الوحي ذاته بعد نزوله وفهمه يصبح علما إنسانيا، سواء كان أصول دين أو أصول فقه، علوم حكمة أو علوم تصوف. والعلم الإنساني لا حدود له. وكل عصر يضيف إلى العلم علما؛ تقدم العلوم إذن غير محدود. لقد استطاع العقل الإنساني أن يدرك التنزيه وأن يتصور اللانهائي ويتمثل اللامحدود. وإن تصور العلم الإنساني محدودا والعلم «الإلهي» غير محدود لهو تصور يقوم على احتقار الذات وتملق الغير، وتعذيب النفس والرضا بالغير. ليس العلم الإنساني محدودا، ولن يزداد «الله» فرحا بأن نجعل علمه لا محدودا. تعبر هذه الثنائية عن تخلف ثقافي واجتماعي؛ حيث تكون الجماعة أقرب إلى الجهل منها إلى العلم، وتجد تعويضا عن جهلها بنسبة العلم إلى قوة خارجية عنها تكون الوصية عليها والملهمة لها، سواء كانت مشخصة أو غير مشخصة، دينية أم سياسية، عاقلة أو أسطورية. هل العلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف؟ فكل إنسان يعلم بوجوده، والعلم بالوجود شرط العلم وأساسه، كما أن العلم لا يعرف إلا بالعلم، وهو ما يستلزم الدور، وبالتالي وجبت البداية بعلم ضروري ليس في حاجة إلى تعريف. العلم مساوق لوجود الإنسان، ومطابق لفطرته، كما أن الجهل مضاد لطبائع الأمور. العالم موجود، والجاهل غير موجود، والأمة العالمة موجودة، والجاهلة لا وجود لها؛ لذلك قد يرفض البعض حد العلم باعتباره لا ضرورة له؛ فكيف يحد العلم وهو أمر بديهي يعلمه كل إنسان وشعر به من نفسه. كما أنه يصعب تحديد العلم لأنه يتحدد بعلم، وهذا العلم بآخر إلى ما لا نهاية. لا بد إذن من علم بديهي لا يحتاج إلى حد، فيكون العلم حينئذ لا حد له. ولا تمنع التفرقة بين تصور العلم وحصوله من الوقوع في الدور؛ لأن تصور العلم، وهي المقدمة، غير حصوله وهي النتيجة. وذلك لأن تصور العلم أيضا يحتاج إلى تصور آخر، وهذا إلى ثالث إلى ما لا نهاية.
2
والحقيقة أن العلم بناء نظري، العلم الضروري أولى خطواته. والنظر والاستدلال يفيدان العلم، والرؤية المباشرة للواقع، كما أن الإحصاء الكمي للظاهر يفيد العلم؛ ومن ثم فتعريف العلم ممكن، بل ضروري حتى يتأسس العلم؛ فالبداهة أحد جوانب العلم وليست العلم كله.
والعلم وإن عسر تعريفه إلا أن كل إنسان يشعر به، ويحصل عليه، ويجاهد في سبيله، ويفهمه ويقتنصه، ويرتقي الإنسان في مداركه. ولا يهم تعريف الشيء بقدر ما يهم الحصول عليه. قد تأتي صعوبة من أنه يشمل كل أفعال الشعور ابتداء من النظر ومقدماته حتى العلم ونتائجه؛ وبالتالي يكون من الأفضل إذن تحديد العلم مجازا أو تشبيها لصعوبة الحصول على حد حقيقي للعلم. أو على الأقل يكون العلم بديهيا لا مكتسبا، ومثال ذلك علم الإنسان بوجود نفسه. والحقيقة أن العلم البديهي أحد مراحل العلم وليس كله. وجعل العلم كله بديهيا ضروريا رد للعلم كله إلى أحد مراحله مع إغفال الاكتساب والاستدلال وتحليل العقل، وعمل الشعور.
3
ومع ذلك يمكن تعريف العلم عن طريق القسمة ابتداء من الاعتقاد غير الجازم الذي يجعل الإنسان مترددا بين شيئين وهو موقف الشك، أو قادرا على الترجيح بينهما؛ فيكون الراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. ويكون ذلك تعريفا للعلم عن طريق السلب؛ أي بنفي مضادات العلم، وما ليس بعلم ابتداء من الشك ثم الظن والوهم والجهل والتقليد. وقد أوفى القدماء الحديث في كل منها وكأنه موضوع مستقل؛ نظرا لأهميته وخطورته على العلم. (1) الشك والظن والوهم
فالشك هو تردد بين معتقدين دون ترجيح لأحدهما على الآخر. ويعتبره القدماء مذهب السوفسطائيين، وهو على ثلاثة أنواع: اللاأدرية، والعنادية، والعندية. وهي في حقيقة الأمر اتجاهات في المعرفة الإنسانية قبل أن تكون فرقا كلامية أو مذاهب تاريخية. لا يهمنا رصد أسماء الفرق القديمة واتجاهاتها وآرائها من الناحية التاريخية الخالصة، بل يهمنا وجود هذا الاتجاه الفكري في كل عصر، وتعبيره عن موقف معرفي خاص وكشفه عن بناء فكري عام.
اللاأدرية هو الشك المبدئي، الشك في الشك إلى ما لا نهاية حتى تنتفي الحقائق ويستحيل العلم . وقد صاغ القدماء حجتين لهدم هذا الموقف، الأولى جدلية مؤداها أن نفي الحقائق هو نفسه حقيقة، والثانية تجريبية تعتمد على إثبات الحركة بالسير، وإثبات الألم بالضرب. ولا ينفع المناظرة أو الأدلة والبراهين لإثبات العلم مع الشكاك عامة واللاأدرية خاصة، لأن إمكانية العلم مستحيلة؛ إذ لا يحدث العلم إلا بالانتقال من معلوم إلى مجهول، والشك ينفي إمكان قيام أي معلوم. الدليل الوحيد هو تجارب الألم واللذة، حرق الأصابع للشكاك مثلا من أجل إثبات المعارف الحسية لهم.
4
فالإنسان لا يشعر بحقيقة إلا في موقف، ولا يثور إلا عندما تهدد حياته. التجربة أصدق من الجدل العقلي؛ يتطلب الجدل العقلي التسليم بإمكانية المعرفة ووجوب النظر، في حين أن الموقف اللاأدري لا يسلم بأية حقائق لأنه موقف إرادي خالص؛ لذلك منع القدماء مكالمتهم لعدم وجود أي أساس مشترك بينهم. الشك اللاأدري تقصير في النظر وإنكار لعمل العقل، ونفي لقدرة الإنسان على البحث والكشف، وتحليل الواقع ورؤية مكوناته. هناك حقائق يمكن معرفتها مثل وجود النفس الذي لا يمكن نفيه، وجود نفس الذي يشك؛ فالشك فعل من أفعال النفس؛ لذلك جعل علماء أصول الدين أول أركان نظرية العلم إثبات الحقائق والعلوم.
5
هناك حقائق تسكن إليها النفس ضرورة، لا مجال فيها للإيهام أو الخداع، مثل أني موجود الآن، جالس وأكتب، أفكر فيما أكتب فيه، وأني محتل ومتخلف، وأعيش في عصر يسوده النفاق. الشك مضاد لسكون النفس؛ ولما كانت النفس تطلب سكونها فإنه يستحيل الشك.
6
يمكن تفنيد الشك ليس فقط بالرجوع إلى بداهات الحس وأوليات العقل التي تحدث عنها القدماء، بل إلى بداهات الموقف الإنساني، حيث تبرز الوقائع التي يحيا بينها الإنسان؛ فمثلا نحن نعيش في العالم، نتعامل مع الآخرين، نحن شعب أرضه محتلة، وبلده نام، تعيش جماهيرنا في ضنك، تصارع من أجل لقمة العيش. هناك حقائق الحياة المرة التي نعيشها، وإنكارها هو إثبات لوجودها، وإبعاد الشعب عنها وتجاهل أجهزة الإعلام لها عمدا إبعاد للجماهير عن المشاركة في صنع القرار والوعي بها اتقاء لحركتها. نعاني من الفقر يوميا، ونقاسي من الاستغلال كل لحظة. البيروقراطية مأساتنا، والتسلط يجثم على صدورنا، والنفاق يلف ويدور حولنا، والسخط يعمينا، والاضطهاد موجه ضدنا، والعيون تقف لنا بالمرصاد. هذه هي الحقائق اليومية التي نعاني منها ليل نهار، والتي هي مثار حديث الناس في الطرقات علنا أو في الدور همسا، والتي تكمن وراء هموم المواطنين. أدرك ذلك بحياتي، وأعيشه بوجودي، أراه وألمسه، أسمعه وأشعر به، ولا أكاد أخطئ في أي منهما لأنها تتحول إلى ثورة ساخطة عارمة، وانتفاضة شعبية لا ينكرها إلا متسلط يعمل لصالح طبقة تستغل الشعب وتثري على حسابه. وأنضم إلى حزب سياسي يعمل على استرداد حقوق الفقراء من الأغنياء، ويعد لتحرير الأرض وتوحيد المنطقة. الحس يدرك، والوجدان يشعر، والعقل يحلل. ولا يشك في ذلك كله إلا ضال أو مضلل، يريد أن يبقي الوضع القائم كما هو عليه، ويريد أن يقضي على مشاركة الجماهير، وأن يستمر في سلبها حقوقها والتنكر لها، يظهر غير ما يبطن؛ يظهر الشك، ويبطن اليقين، يدعو الناس إلى الريبة، وهو جازم بما يهدف إليه؛ فالشك زعزعة لمعتقدات أصحاب الحقوق، وتثبيت لمعتقدات سالبي الحقوق، الشك ضياع للنظر وبالتالي ضياع للأساس الواعي للسلوك، فلا يبقى إلا الهوى والمصلحة؛ حينئذ تركن النفس إلى الدنيا، ويترك الإنسان رسالته. العمل هو أكبر رد فعل على الشك، واسترداد الحقوق بالفعل أكبر إثبات للحقائق النظرية؛ لذلك كان الشهداء هم الدليل على إثبات وجود الحقائق، وكانت ثورات الشعوب أكبر دليل على إثبات وجود المبادئ. يمثل الشك إذن خطورة على الحياة الاجتماعية وتاريخ الشعوب، وذلك برفض المبادئ؛ أي رفض الالتزام والانتهاء إلى العدمية أو الفوضوية أو اللامبالاة أو السلبية المطلقة. ومرحلتنا التاريخية التي نمر بها الآن لم تصل إلى هذا الحد، بل إن مأساتنا هي اللامبالاة التي تنشأ من عدم الإحساس بالرسالة، وعدم تحمل الأمانة، وليس من عدم تمثل مبدأ والعمل على تحقيقه.
7
ولا يعني إثبات الحقائق الوقوع في «الدجماطيقية»، وإثبات حقائق مستقلة عن الواقع، لا تتغير بتغيره؛ فالحقائق هو هذا الواقع نفسه على مستوى الإدراك. إذا تخلف الإدراك عن الواقع تحول الفكر إلى صورية خالصة، وإذا سبق الفكر تطور الواقع تحول إلى طفولة ومراهقة. ولكن تحويل الواقع إلى فكر ثم العود إلى الواقع للتأثير فيه هي حقيقة ثابتة. لا إثبات إلا لحركة الواقع وصياغتها بالفكر. التاريخ حقيقة أولى، مساره وحركته وتطوره، مثل حقيقة وجود النفس.
والعنادية مذهب من يعترف بوجود الحقائق، وبالتالي يكون أقل شكا من مذهب اللاأدرية الذي ينكر وجود الحقائق أصلا، وينفي إمكان معرفتها. وهو المذهب القائل بتكافؤ الأدلة واستحالة الوصول إلى اليقين حيث تتعادل المواقف كلها، وتتساوى الحجج، وتختلف الآراء وتتضارب الأقوال دون إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. كل الدلائل ينفي بعضها بعضا. ليس هناك دليل إلا وله دليل مضاد، ولا توجد حجة إلا ولها حجة مناقضة. ومن ثم تساوت الآراء في الحق والباطل؛ فهي إما كلها باطل وإما كلها حق. ولما استحال أن تكون كلها حق، فالحق لا يناقض الحق؛ فهي إذن كلها باطل لاستحالة تغلب حجة على أخرى أو دليل على آخر؛ وبالتالي ليس هناك رأي أو مذهب أصح من الرأي أو المذهب المعارض.
8
والحقيقة أن القول بتكافؤ الأدلة نفي لبداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان، مثل وجود النفس ووجود العالم بصرف النظر عن إثبات حدوثه أو نفيه؛ فالأدلة لا تهدم بعضها البعض لأن بداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان لا يختلف عليها اثنان، بل إنها مقاييس للخطأ والصواب. والقول بتكافؤ الأدلة إثبات لعلم يقيني لا يتساوى مع نقيضه وهو هذا القول نفسه، وذلك يثبت وجود حقيقة يمكن معرفتها. وهي حجة جدلية يقدمها القدماء لتفنيد رأي الخصم. وأن افتراض خطأ كل رأي يعني أن القول بتكافؤ الأدلة باعتباره رأيا خطأ، وبالتالي ينهزم المذهب لعدم وجود دليل، وهي حجة جدلية لتفنيد رأي الخصم. ولا يمكن أن تصدق الأحكام المتناقضة كلها على شيء واحد كما لا يمكن أن تكون كلها صحيحة لأنها متناقضة أو باطلة. لكل شيء حكم معين هو الحكم الصحيح، وما سواه باطل. الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد لا تصدق معا ولا ترتفع معا على رأي المناطقة، بل بها صواب وخطأ، إذا صح أمرها بطلت الأحكام الأخرى. والسبيل إلى التمييز بينها هو البرهان. لا يوجد دليل يهدم دليلا آخر، بل هناك تفسيرات مختلفة تتنازع واقعة معينة. لا يوجد التناقض إلا على المستوى الصوري أو المادي، أما على المستوى الإنساني فيمن الاحتكام إلى الواقع العملي لمعرفة أي التفسيرات أصدق. تدل الأحكام المتناقضة على اختلاف وجهات النظر أكثر مما تدل على تساوي الحق والباطل وتعادلهما، تشير إلى البعد الذاتي أكثر مما تشير إلى البعد الموضوعي،
9
وتغيير الإنسان لوجهة نظره لا يعني تغيير الحق أو إنكار وجود حقيقة ثابتة، بل يعني تغيير الظروف والأحوال والمادة وتقييم الحكم طبقا للأدلة الجديدة، وذلك على مستوى تعين المبدأ في الواقع وليس على مستوى المبدأ ذاته. إن كل حكم إنساني هو حكم تقريبي مشروط بدقة البحث وسلامة الإدراك. وقد ينتقل الإنسان من خطأ إلى خطأ حتى يعثر في النهاية على الصواب. ويرجع الخطأ والصواب في الأحكام إلى شمول الحكم واتساعه. الحكم الضيق لا يصدق على واقع أشمل، والحكم الشامل قد لا يصدق على واقع أضيق إذا كان متفردا. قد يكون الانتقال من رأي إلى آخر هو انتقالا من رأي أقل صوابا إلى رأي أكثر صوابا، وهذا الانتقال ذاته إقرار بوجوب الصواب. وطريق الانتقال هو البرهان حتى يتم الوصول إلى اليقين. يمكن إذن الانتقال من رأي إلى آخر بشرط توافر حسن النية؛ إذ ينضج الإنسان مع تقدم العمر، وتصح آراؤه بدقة البحث وتغير المناهج ومستويات التحليل، وربما لاختلاف اللغة والمصطلحات. وذلك طبيعي؛ نظرا لما يحدث في حياة الإنسان من تطور فكري ونضج علمي، ووعي اجتماعي. إن ثبوت الحقائق لا يعني جمودها من حيث الصورة أو المضمون.
10
ولا يعني تفاوت البراهين دقة ووضوحا أنها لا تثبت شيئا، فالناس متفاوتة في الإدراك. ويمكن أن يتضح الخفي، وأن يفصل المجمل، وأن يحكم المتشابه؛ لذلك كان العلم أساسا نظرية في الإيضاح.
11
وإن تفاوت الناس في المدركات الحسية لا يعني انتفاء الحقائق وعدم إمكان معرفتها، فذاك راجع إلى اختلاف دقة الحواس وتفاوت عملها وطريقة تحويلها إلى تصورات ثم أحكام. كما يتوقف على درجة تيقظ الشعور، وهو شرط إدراك الحواس.
12
ويتوقف على حياد الشعور وعدم تحيزه أو خضوعه لهوى أو مصلحة. ولا يضير المعرفة الإنسانية احتمال الخطأ؛ فالخطأ كالصواب طرفان لها. وقد يحدث الخطأ في فهم الوحي وتحويله إلى علوم عقلية أو إنسانية. والمعرفة لا يضيرها البحث ودقة النظر وشدة الخصومة وتوالي الأجيال؛ فتلك مهمة الإنسان وشرفه وعظمته، وقد يكون البحث عن الحق أولى من الحصول عليه.
13
ولا يعني كون البرهان إجماليا العجز عن الإتيان بالبرهان التفصيلي؛ فالعقل قادر على إعطاء أكثر الاستدلالات دقة وتفصيلا. قد يؤدي البرهان الإجمالي إلى التأويل كما تفعل الباطنية، وقد يحدث بعد التصديق وليس قبله. وقد لا يخضع للبحث الدقيق فيكون أقرب إلى التمويه والمغالطة منه إلى البرهان، ولكنه قد يؤدي أيضا إلى العلم إذا امتنع التأويل وكان سابقا على التصديق وخضع لمناهج البحث المحكمة كالسبر والتقسيم.
14
وإذا استحال الترجيح بين معتقدين أو تصورين نظر لنقصان الدليل، فإنه يمكن أخذ أنفعهما للناس وأقلهما ضررا دفاعا عن المصلحة العامة والأقرب إلى تحقيق مصالح الأغلبية. إن وجود شيء حقيقي تتمثله الجماهير أو تسعى لتحقيقه لهو الشرط الضروري لأي تغير اجتماعي، وإلا فلماذا يضحي الإنسان؟ ولماذا يستشهد؟ إن ضرورة العمل وثقل الحياة تستلزم أخذ المواقف. وبدلا من أن تؤخذ بالبخت والمصادفة فتكون عشوائية عابثة يلزم الترجيح إن لم يكن بالدليل النظري فبالمصلحة العامة. وقد نشأ علم بأكمله في علم أصول الفقه لهذا الغرض وهو «علم التعارض والتراجيح» بين الروايات والأدلة. موقف الشك إذن بالإضافة إلى أنه مستحيل عملا لأن الحياة تسير وفقا للاعتقاد؛ مستحيل نظرا لما تقدمه الحياة من بواعث ودوافع ولما تقوم عليه من مقاصد وغايات، تعمل كلها كمرجحات.
ولا يعني اختلاف الآراء وتضاربها وعناد الناس عدم وجود الحقائق أو إمكانية معرفتها أو إنكار شرعيتها أو صدقها؛ إذ يمكن معرفة كل ذلك بالبرهان. وهو أقل منه في العلوم الصورية والعلوم المادية منه في العلوم الإنسانية؛ نظرا لتداخل الأهواء والمعتقدات والمصالح. كما ينشأ هذا الاختلاف والتضارب نتيجة للتكاسل عن طلب البرهان أو الوقوع في التقليد والتسليم بالموروث دون نقد أو تمحيص. كما ينشأ من اختلاف مناهج التحليل ومستوياته ولغته وأسلوبه بين الخطابة والجدل والبرهان. ولا يعني عدم اتباع النفس للحق انتفاء الحق واستحالة معرفته، بل يدل على الجهل أو نقص في الوعي أو تغليب المصالح والأهواء على المبادئ العامة. كما لا يدل تخلف العمل عن النظر على استحالة النظر، بل يدل على الخوف وإيثار السلامة. ولا يعني اختلاف العلماء فيما بينهم انتفاء وجود الحقائق واستحالة معرفتها، بل يشير إلى تعدد التفسيرات طبقا لمكونات الواقع وحركة التاريخ. وكلها مشروعة طبقا للحاجة؛ إذ يتحول الوحي بمجرد نزوله في زمان ومكان معينين ولدى شعب بعينه وفي مرحلة تاريخية محددة؛ يتحول إلى حضارة. والحضارة لها بناؤها الإنساني، ونشأتها طبقا للحاجات البشرية. لا يعني التعدد في التفسيرات إذن التضارب والتناحر، بل الاجتهادات المختلفة طبقا للصالح العام وما تستطيع أن تحققه من نفع للناس. والرأي غير الهوى. الرأي له برهانه، أما الهوى فانفعال ومزاج؛ لذلك كتب الفقهاء في «ذم الهوى»، الرأي قول يقوم على دليل، والهوى دعوى بلا دليل. إن القول بتكافؤ الأدلة ثم الاعتراف بأن أحدها حق والآخر باطل دون التعيين والتخصيص هو اقتراب من اليقين وترك الشك دون أن تكون هناك ثقة بالعقل وقدرته على تعيين الحق والتمييز بينه وبين الباطل، سواء التعيين النظري أو الترجيح العملي طبقا للصالح العام. إن القول بتكافؤ الأدلة فيما دون «الله» اعتراف بتعيين واحد هو وجود مبدأ أو حقيقة يعقلها الجميع ويترك تفسيرها بعد ذلك طبقا للمجتمعات وحسب مراحل التاريخ. والقول بتكافئها فيما دون «الله» و«النبوة»؛ أي أقوال البشر وتفسيراتهم هو أيضا نزول إلى تعيينات الواقع درجة أكثر والاتفاق على وجود فكر إنساني متكامل ونظام اجتماعي يصلح للناس في كل زمان ومكان. إن القول بتكافؤ الأدلة نظرا لا يمنع من اليقين عملا؛ وذلك لأن الإنسان بموجب عقله يلتزم بمبدأ ينتج عنه إدراك الفضائل وممارستها، ويمكن إدراك هذا المبدأ بالعقل ولكنه يقين عملي خالص.
15
وخلاصة القول إن القول بتكافؤ الأدلة يؤدي إلى إنكار عدة أشياء، منها: قدرة العقل على الوصول إلى حقائق الأشياء وبداهة الحس وأوليات العقل ومعطيات الوجدان، قدرة العقل على وصف العاقل وتحليل الأوضاع الاجتماعية وهموم الناس التي تجثم على الصدور، دور الآخرين في إمكانية اطراد التحليل والوصف ولأهمية رأي الجماعة والتجربة المشتركة، حاجة الواقع إلى بناء والعمل إلى نظر، فالترجيح والتفصيل أولى من العشوائية والمصادفة، قدرة الإنسان على الاختيار بين المواقف وتفضيل مصلحة على أخرى، وحرية الحركة في الممارسة، وجود قوى اجتماعية وراء الأدلة تحسم الصراع لمصلحة الأقوى والأدل، وجود حركة التاريخ وقانون الأغلبية وحق الشعوب؛ فاليقين التاريخي لا يقل أهمية عن اليقين النظري والعملي.
أما «العندية»، وهو المذهب الثالث في الشك، فلم يفصل فيه القدماء تفصيلهم للاأدرية والقول بتكافؤ الأدلة. ومع ذلك ترى العندية أن كل الآراء صحيحة عند قائليها، ومن هنا جاءت تسميتها بالعندية، وهي على نقيض العنادية التي ترى الآراء كلها باطلة. والحقيقة أن اعتبار الاعتقادات كلها صحيحة نفي لمعيارية العلم وإمكانية إثبات حقيقة واحدة والتمييز بين الحق والباطل، ووقوع في النسبية المطلقة. وقد قلب القدماء الحجة الجدلية ضد المذهب؛ فالعندية مذهب باطل لأنه عندنا باطل، وبالتالي يكون بطلانه حقيقة. العندية إنكار للصفات الموضوعية للأشياء، وإرجاعها إلى مجرد انطباعات ذاتية وأمزجة فردية، وإحساسات خاطئة. لا توجد صفات متناقضة في الطبيعة، بل في إدراك الناس لها. كما توجد حقائق موضوعية اجتماعية، مثل ضرورة الثورة استردادا لحقوق الفقراء من الأغنياء، وحصولا على الاستقلال الوطني ضد المحتل الأجنبي، ودفاعا عن الحرية والديمقراطية ضد التسلط والطغيان، وتوحيد الأمة بعد التجزئة والتشرذم، وحفاظا على الهوية ضد التغريب، وتجنيدا للجماهير حتى تكون بثقلها الضمان الوحيد لنيل حقوقها. لا يعني اختلاف التعبيرات ضياع الحقيقة. هناك عدة مستويات لتحليل الواقع وللقدرة على الفعل ولدرجة الوعي ولصراحة التعبير، والقدرة على التعبير عن الصالح العام.
16
الشك إذن بمذاهبه الثلاثة لا يمكن أن يكون أساسا لنظرية في العلم تقوم على إنكار الحقائق أو على استحالة معرفتها أو على نسبيتها، وهذا لا يعني ألا يكون الشك مقدمة للنظر وشرطه، بل إنه عند البعض أول الواجبات على المكلف حتى يخف التقليد ويقضي على التبعية.
والظن أعلى درجة من الشك وأقرب إلى المعرفة والعلم؛ لأنه قد تحول من اعتقاد غير جازم إلى اعتقاد جازم يتجاوز التردد إلى الترجيح. ولما كان المرجح ليس دليلا برهانيا يظل الظن في مرتبة الاعتقاد غير الجازم، ولا يرقى مطلبا إلى درجة العلم. فإذا كان الراجح هو الظن فالمرجوح هو الوهم، وهو قياس أمر غير محسوس على أمر محسوس، وهو أساس قياس الغائب على الشاهد الذي هو أساس الفكر «الإلهي» كله. وقد يقوم على المخيلات؛ أي على الصور الشعرية ترغيبا للنفس أو تنفيرا لها. والحقيقة أن القياسات الشعرية قد تكون صادقة؛ نظرا لإحساس الشاعر وصدقه؛ وبالتالي لا يكون النموذج الأمثل للوهم؛ فالوهم إصدار حكم على واقع غير مطابق له، في حين أن الشعر لا يهدف إلا إلى التأثير على النفوس وإيصال تجربة إنسانية تطابقها مع نفسها ومع تجارب الآخرين بالمشاركة.
وبالرغم من أن القدماء لم يتوسعوا كثيرا في وصف الشك والظن والوهم، إلا أن لها أبلغ الأثر في حياتنا المعاصرة؛ فنحن لا نفرق بين منطق الظن ومنطق اليقين، بل نخلط بينهما، فكثيرا ما نستعمل منطق الظن على أنه منطق لليقين، كما أننا لا نميز بين أنواع الحجج، البرهاني والخطابي والجدلي. فكثيرا ما نخطب ونظن أننا نبرهن، وكثيرا ما نجادل ونظن أننا نستدل. تمثل قسمة القدماء لأنواع الحجج تقدما أكثر مما نحن عليه الآن، بل إن بعض الجوانب في فكرنا المعاصر يقوم على الوهم والمخيلة أكثر مما يقوم على العقل، ويعتمد على المغالطات أكثر مما يعتمد على الحجج والبراهين. نستعمل القياسات الظنية ونظن أنها برهانية. وكثيرا ما نسلم بالمشهورات التي تروجها أجهزة الإعلام فتصبح بمثابة معتقدات للناس بكثرة ترديدها، وتصبح جزءا من ثقافتهم تعمية لهم عن الحقائق البرهانية، كما أننا في حياتنا الثقافية نجادل الخصم دون التسليم بمقدماته ، بل نشغل أنفسنا بتفنيدها؛ ومن ثم يتحول جدلنا إلى تناطح وتنازع وخصام؛ لذلك يستحيل الحوار ولا يكون هناك مجال إلا للتقاذف والاتهامات والسباب. وكثيرا ما تغلب المغالطات على ثقافتنا الوطنية، وتغليب المرجوح على الراجح، كما أننا غالبا ما نقيس غير المحسوس على المحسوس، خطأ في أمور لا تقاس مثل فكرنا لإلهي، وتصوير الله غير المحسوس بالإنسان المحسوس، والوقوع في التجسيم والتشبيه، أو بالنسبة إلى أمور المعاد وقياسها على النعيم والعذاب في الدنيا، في حين أنه يمكن استعمال المحسوس لتفسير نشأة غير المحسوس من حيث الصورة الأدبية والنشأة. فلا يوجد تصور في الذهن إلا ما ينشأ في الواقع أولا، سواء كفعل أو كرد فعل. ولا نقيس غير المحسوس على المحسوس بطريقة صائبة على نحو ما يفعل أصوليو الفقه في قياس الغائب على الشاهد. كما تغلب على فكرنا القومي الخيالات الشعرية والأساليب الخطابية بغية التأثير على النفوس، تأييدا لشخص أو هجوما على آخر، حتى اتهمت عقليتنا على مسار التاريخ بأنها عقلية إنشائية لا خبرية، وبأن لغتنا غنائية وليست تقريرية؛ فنحن نعيش في هذا العالم خطباء وشعراء دون أن نعيش مفكرين وعلماء.
17 (2) الجهل
والجهل اعتقاد جازم غير مطابق، والاعتقاد الجازم قطعية مضادة للعلم ونقيض النظر، وينقصه البرهان، ويكون عدم المطابقة مع الواقع؛ فمقياس العلم مطابقة الاعتقاد للواقع، إن كان مطابقا كان علما، وإن لم يكن مطابقا كان جهلا. ويصاحبه سكون النفس وغياب التردد والريبة؛ وبالتالي غياب الظن والوهم. ويمر التطابق بالشعور، وليس مجرد تطابق آلي صوري مادي بين الفكر والواقع؛ أي تطابق بين المفهوم والماصدق.
وبالرغم من أن القدماء لم يفصلوا في الجهل إلا أنه يغلب أيضا كالظن على حياتنا المعاصرة، لا بمعنى عدم العلم أو بمعنى الجهل بالقراءة والكتابة، أي الأمية، التي نتحدث كثيرا عن محوها ونعقد لها البرامج والندوات، فقد يكون غياب العلم علما، وهو الجهل العالم كما هو الحال لدى الأمي العالم. وقد يكون حضور العلم جهلا، وهو العلم الجاهل كما هو الحال لدى المتعلم الجاهل.
18
فالأمي بصدق فراسته، وبأمثاله العامية، وبإحساسه بالواقع، بنكاته الشعبية، وبوجدانه التاريخي، وبتراكم آلاف السنين؛ قد يكون أعلم من المتكلم حيث الوعي والانتباه، والقدرة على الرؤية المباشرة للواقع بلا تدليس أو إيهام. كما أن المتعلم باغترابه، وانفصاله عن الواقع، وباستخدامه جعبة من الألفاظ للتضليل والتعمية يكون أجهل من الجاهل، وبل ويكون جهله مركبا لأنه لا يعلم أنه جاهل. قد يكون الجهل في حياتنا المعاصرة ماثلا في عدم الوعي بأنفسنا، وبالمرحلة التاريخية التي نمر بها، وفي غياب مشروع قومي تحققه الأمة، وتجند له قواها، وتحشد له إمكانياتها، بعد أن كان لها واحد وانتكس بعد أن فرغ من مضمونه؛ فأصبح مثل كرة الهواء بلا ثقل من التراث وبلا أساس من الجماهير. قد يكون الجهل في تخلف مؤسساتنا القومية عن درجة تقدم الواقع وحركته، وفي عدم تمثيل السلطتين الدينية والسياسية لحركة الواقع العريض ومحاصرتهما لطلائع هذه الحركة ومحاولة عزلها عن الواقع ومن وسط الجماهير. الجهل هو هذا التفاوت الشديد بين ما يدور في الواقع من قوى للتغير والحركة، وبين النظم الاجتماعية والسياسية القائمة التي تحاول إيقاف هذه القوى والقضاء عليها، وهو في الحقيقة جهل بالتاريخ وبمساره. والإنسان مسئول عن هذا الجهل، ولكننا في حياتنا المعاصرة جعلنا الله مسئولا عنه، وبرأنا أنفسنا من تبعة هذا الجهل بدعوى أن علمنا محدود أمام العلم «الإلهي»، وإدراكنا قاصر عن إدراكه، وعقلنا ضعيف لا يقدر على تجاوز الحدود التي رسمها الله له. نتوقف أمام الغيب لأن الإنسان ذو علم محدود والله ذو علم مطلق؛ وبالتالي نكون أكثر تخلفا في تحليلنا لأسباب الجهل وتحديد المسئول عنه، في حين أن الجهل لدينا له أسبابه المباشرة في مضمون ثقافتنا التي هي أقرب إلى الاعتقاد الجازم غير المطابق للواقع أو للفكر أو للتاريخ؛ لذلك سادت حياتنا المعاصرة القطعية، وهدم العقل، وإنكار النظر، وإسقاط الواقع من الحساب، وغياب التاريخ كبعد شعوري وكميدان للعمل والتحقيق. (3) التقليد
لقد أفاض القدماء في التقليد كما غصنا نحن فيه إلى الأذقان؛ فالتقليد اعتقاد جازم مطابق، ولكن دون سبب للمطابقة؛ ومن ثم فهو لا يؤدي إلى العلم، هو قطع وجزم دون نظر، هو اعتقاد أي حكم أو تصديق، وجازم لأنه لا شك فيه ولا تردد. ومطابق لأنه يتماثل مع شيء آخر قد يكون تراثا قديما أو معاصرا حديثا أو شخصا ميتا أو شخصية حية، ولكن دون سبب وبلا برهان قطعي من حس أو عقل أو استدلال. التقليد تبعية للآخرين من غير مطالبتهم بالبرهان، لا يرتقي إلى اليقين، ولا يفيد الظن، ولا يمكن اختيار أحد الاحتمالين عن طريق التقليد بلا سبب للتفضيل.
19
ويقوم التقليد على بعض الحجج، هي في الحقيقة ضد النظر، فإذا بطل النظر ثبت التقليد اتباعا لبرهان الخلف، نفي الشيء لإثبات نفيضه، وهو برهان سلبي خالص لا يثبت شيئا؛ لأن النظر والتقليد ليسا هما الاحتمالين الوحيدين كطريقين للمعرفة؛ إذ يضع الصوفية الذوق والإلهام. إن مجرد إنكار القياس لا يثبت التقليد، وإنكار الشيء لا يثبت ضده، وبرهان الخلف يدخل ضمن منطق الظن لأنه يقوم على حجة جدلية. ليس التقليد هو البديل الوحيد على فساد القياس؛ فهناك بداهة الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان. وكل الحجج مستقاة من قصة إبليس وصراعه مع آدم. فقد قاس إبليس النار على الطين، «خلقتني من نار وخلقته من طين»، فأخطأ، وهي حجج ضعيفة لعدة أسباب. فالهدف من القصة هو التأثير على النفس وليس إصدار حكم، والحث على العمل أكثر من الوصف والتقرير، والإيحاء إلى النفس وليس مصدرا للأحكام الشرعية؛ فهي صورة شعرية أكثر منها حادثة تاريخية، والقصص والمجاز ليسا مصدرا للأحكام. وحتى على فرض صحة استنباط أحكام من القصص فإن أشخاصا كثيرة تقيس وتصيب، وليس كل من قاس فقد أخطأ. ولا يمكن إصدار حكم كلي على واقعة. وكثير من المؤمنين يقيسون ويصيبون. كما تقيس الأنبياء وتصيب، وكما بين الفقهاء ذلك في كتب «أقيسة الرسول»، بل إن الله ذاته يقيس ويصيب، والوحي مملوء بالأقيسة الصائبة على ما بين الفقهاء. ليس الخطأ من القياس في ذاته، بل من طرق الاستدلال الخاطئة. وتقوم مناهج الأصوليين على القياس، والقياس الشرعي يصيب، وهو مصدر من مصادر التشريع. إن أقصى ما تستطيع هذه القصة أن تقدمه هو أنها تنبه على القياسات القائمة على مقدمات خاطئة، فتقيس الكم على الكيف، وليست تلك التي تقوم على المقدمات الصحيحة. هذه الحجج كلها يمكن في نفس الوقت استعمالها دفاعا عن القياس كأحد أشكال النظر وليس فقط ضد التقليد.
وقد صاغ المعتزلة عدة حجج عقلية ضد التقليد لبيان استحالة النظرية والعملية، وضرورة الاستدلال؛ فالمقلد لا يستطيع تقليد المذاهب كلها؛ لتعارضها ولحاجة السلوك إلى مذهب واحد. ولا يمكن أن يكون الاختيار بينها مصادفة عشوائية أو بالمزاج والهوى، بل بالنظر والاستدلال، كما أن المقلد لا يقلد غير العالم؛ لأنه جاهل، بل يقلد العالم الذي له علم عن طريق غير التقليد، وإلا تسلسلنا إلا ما لا نهاية. وعلم العالم إما من العلم الضروري أو العلم النظري. والعلم الضروري مشاع عند الناس جميعا، يستطيعه المقلد وبالتالي فلا حاجة له إلى التقليد، والعلم النظري هو طريق العلم لأن النظر يفيد العلم. هذا بالإضافة إلى أن التقليد يؤدي إلى الخطأ النظري والخطأ العملي على السواء؛ لأنه خال من اليقين، في حين أن العلم يقيني في النظر، وبالتالي يقيني في العمل.
ولا يمكن تقليد الأكثرين لأن الكثرة حجة كمية والعلم كيف. وقد كان الأنبياء أقلية في قومهم وهم الأغلبية. وكان الدعاة والمصلحون أقلية في أقوامهم.
20
وكان أهل الحق باستمرار أقل عددا من أهل الباطل، وهذا لا يعني التنكر لدور الأغلبية أو إهمال مصالحها أو الإقلال من شأنها؛ فالأغلبية الصامتة يدافع عنها الأنبياء والدعاة والمصلحون، ويعبرون عن مصالحها، ويبعثون فيها النظر وحس العلم حتى تستنير وتستقل فتصبح قادرة على الدفاع عن حقوقها بنفسها وحتى تفرز طليعتها من ثناياها وهم العلماء والفقهاء والأمة، وتكون قادرة على قيادتها وحمايتها. وهذا لا يعني أيضا إنكار دور الأغلبية النظري في الإجماع والنزول على رأيها؛ فالإجماع أحد مصادر التشريع ودرءا لمخاطر الفردية والتسلط والاستبداد بالرأي. ولا يقوم الإجماع على تقليد، بل هو أخذ بالدليل النقلي أو العقلي أو المصلحي الذي يعلمه الجميع.
21
كما لا يجوز تقليد الأزهدين؛ لأن الزهد لا يعني العلم بالضرورة، بل قد ينشأ عن خطأ في الحكم وعلى جهل بالوحي وانحراف بالدين، كما هو الحال عند الصوفية وفي باقي الديانات، كما لا يعني الفضل بالضرورة، بل قد يكشف عن طمع مقنع ورغبة فيما هو أكثر؛ مما في أيدي الناس. هذا بالإضافة إلى أن الزهد ليس حقيقة نظرية وبالتالي فهو ليس دليلا أو برهانا.
22
ولا يمكن تقليد السلف لأن التقليد إنكار لدور العقل، ولضرورة التصديق، وللمسئولية الفردية، ولمهمة الإنسان في التجديد والتطوير والتغيير. تقليد السلف قضاء على الحاضر والمستقبل باسم الماضي، وإيقاف لمسار التاريخ على إحدى مراحله الماضية، فيتحدب التاريخ وتتقوس حركته ويتحول إلى كهف يغلف الإنسان، ويعيش فيه تحت قبوه، وكلما ازداد تمسك الإنسان بالقديم ازداد التحدب حتى ينهار التاريخ، ويتخلف الإنسان، ويلفظ أنفاسه خارج المسار، ويتحول إلى كائن من الحفريات يعيش في طي النسيان. ثم يزداد الأمر سوءا بتدخل التعصب؛ نظرا لغياب العائل والحس والاتصال المباشر بالواقع؛ فتقع الفتن ويحدث الشقاق. قد تكون النشأة الاجتماعية على دين الأسلاف نقطة البداية، ولكنها لا تكون نقطة النهاية بالضرورة؛ نظرا لتطور الوعي ونضج الإنسان وإدراكه لما يحيط به من أمور، وما يأخذه من مواقف. فالحياة تسير نحو الأفضل. إن تقليد السلف هو قول بتكافؤ الأدلة؛ نظرا لاختلاف أقوال السلف وعدم وجود مقياس للاختيار بينها أو للتحقق من صدق أحدهما. وقد رفض القدماء تقليد السلف بحجة جدلية تقوم على القسمة لمصدر التقليد، الله أو الرسول أو العقل، والمصادر الثلاثة تحرم التقليد، بنص القرآن، وبنص الحديث، وبنظر العقل. حتى إذا صعب على الإنسان الحصول على اليقين النظري فهناك اليقين العملي؛ يقين السلوك القائم على الطبيعة والصالح العام. التقليد إذن ضد العقل النظري وضد العقل العملي على السواء. والإنسان قادر بعقله وبعمله الصالح أن يسير وفقا لهداه.
23
التقليد ضد الفطرة، وإنكار لمعطياتها من حقائق وعلوم. والوحي فطري في الإنسان، حتى العامي يدركه بنفسه دون نظر، ببداهة الحس، وأوليات العقل، ومعطيات الوجدان. تقليد العامي إذن إنكار لفطرته حتى ولو لم يستطع استعمال مصطلحات العلماء. يمكنه أن يعبر تلقائيا عن تصوره للحياة دون تقليد للغير. المعرفة إذن طبيعية، سواء الفطرية منها أو الاستدلالية. والتفكير أي طلب الدليل فطري في الإنسان، سواء من بلغته الرسالة أو لم تبلغه. تقوم الرسالة على العقل، والعقل قائم في الإنسان قبل أن تأتي الرسالة. الاستدلال إذن فرض كفاية على من لم تبلغه الرسالة وفرض عين على من بلغته؛ لذلك جعل بعض القدماء موضوع التقليد لفظيا خالصا؛ لأن جميع الناس لا تعرف عن طريق التقليد، بل عن طريق النظر والاستدلال.
24
وتحريم التقليد ينطبق على كل الموضوعات، لا فرق بين دينية ودنيوية، بل من حيث هو موقف في الحياة نظري أو عملي لأنه مجرد تبعية واعتقاد جازم بلا دليل. وخطورته في أن المقلد لا يرجع عن تقليده حتى ولو رجع العالم بعد إعماله النظر. تحريم التقليد إذن عام وشامل بصرف النظر عن المقلد، سواء كان فردا أم جماعة، بل لقد تجرأ القدماء، وحرموا تقليد الرسول باعتباره فردا. أما إذا كان التقليد اتباعا لدلالة فإنه لا يكون تقليدا؛ لذلك قبل بعض القدماء تقليد القرآن والسنة القطعية باعتبارها قطعية الدلالة، ولو أن ذلك أيضا خاضع لقواعد اللغة والتفسير. ولا يجوز تقليد الرسول لظهور المعجزة عليه؛ لأن المعجزة ليست دليلا، بل هي نفسها في حاجة إلى دليل من الحس أو العقل أو الوجدان. التقليد هنا لا يتعدى كونه استرشادا بالتجارب السابقة كقدوة ونموذج، ولكن بعد نظر واستدلال. ومن ثم فإنه لا يكون تقليدا.
25
كما يحرم التقليد على العامي للعالم من حيث هو فرد، أما إذا كان سؤالا عن دلالة واسترشادا برأي فإنه لا يكون تقليدا؛ فالعامي قادر بفطرته على إدراكه. وغالبا ما يكون هذا الاسترشاد عمليا عن طريق القدوة وليس نظريا. بل إن طريق التطور ومسار التقدم في إلغاء هذه القسمة للجماعة إلى عامة وخاصة، وهي لا توجد إلا في المجتمعات المتخلفة التي تتسم بأمية الأغلبية وبعلم الأقلية؛ مما يسبب تضليل الأغلبية وحجب الحقائق عنها أو تشويهها، وشراء الأغلبية لحساب الأقلية، وهي في الغالب السلطة السياسية؛ دفاعا عن مصالحها ضد مصالح الأغلبية وحقوقها.
وبالرغم من سقوط المقدمات النظرية، واختفاء نظرية العلم وضمورها، إلا أن رفض التقليد ظل قائما باعتباره الجانب السلبي في نظرية العلم؛ فإيمان المقلد لا يجوز، والتقليد ليس مصدرا من مصادر العلم ولا أصلا من أصوله. كما حرص الفقهاء على نقد التقليد في علم الأصول بفرعيه علم أصول الفقه وعلم أصول الدين؛ فقد قام الوحي ذاته على البرهان والنظر ولم يكتف بدعوى الرسول، وبالتالي يكون عدم الاكتفاء بالتقليد أولى، دعا الوحي إلى إعمال النظر وترك التقليد حتى تثبت المسئولية وتصح المساءلة.
26
ويتفاوت حكم المقلد بين الإيمان والعصيان والكفر على سبيل الإطلاق أو على سبيل التقييد.
27
والحقيقة أن القول بصحة إيمان المقلد وتحريم النظر لم يتبنه إلا القليل؛ لأنه لا يقوم على دليل نقلي أو عقلي. ويخرج على الإجماع الذي يرى أن التقليد إثم وعصيان بشرط وجود الأهلية وهي القدرة على النظر. ولقد أخذ القدماء حكم الوسط لأن التوازن بين التقليد والنظر كان قائما في حياتهم، ولم تكن خطورة التقليد ماثلة في حياتهم كما هي الآن ماثلة في حياتنا. أما الآن، والناس تؤمن بالتقليد، وتمارسه في حياتها، ولا تستدل على صحة إيمانها أو تطلب اليقين فيه، فإن اعتبار المقلد كافرا أكثر إيقاظا للناس، وأقوى صدمة لهم. إن المحك في الحكم هو حالنا الراهن، ومأساتنا هي التقليد، وعدم إعمال النظر كحكم شرعي أو كوضع اجتماع والحكم بكفر المقلد يعبر عن ضرورة اجتماعية. وقد أصدره القدماء والمحدثون لإيقاظ المقلدين وحث الهمم على النظر والاستدلال، كما حدث في فكرنا الاعتزالي القديم وفي فكرنا الإصلاحي الحديث، وهو أقوى من حكم المكروه لأن طبيعة المرحلة التاريخية التي نمر بها تجعل التقليد أكبر عائق على التقدم وعلى إعمال العقل. ففي المجتمعات الغارقة في التقليد مثل مجتمعاتنا المعاصرة يكون إصدار الحكم على التقليد بالتحريم أقوى صوتا وأشد إيقاظا للمقلدين . التقليد مظهر من مظاهر التخلف وأحد أسبابه في آن واحد، وسبب مباشر لطغيان السلطتين الدينية والسياسية وسيطرتهما على رقاب الناس. لا تهم أحكام التقليد من ثواب أو عقاب خارج الدنيا، بل الذي يهم فاعليتها لإيقاظ الهمم في هذه الدنيا. للأحكام الشرعية غايات عملية وصدق مادي في الدنيا. ولما كانت حياتنا المعاصرة يغلب عليها التقليد، بل وأشنع أنواع التقليد؛ تقليد الرؤساء الذين لا هم بالعلماء ولا بالفضلاء ولا الأنبياء، بل وتعدى التقليد إلى النفاق والمدح وأصبح رياء ومداهنة. وأصبح الدافع على التقليد ليس طلب النصح والاسترشاد برأي الآخرين، بل تحقيق مصلحة عاجلة أو درء خطر حقيقي أو متوهم؛ فإن تحريم التقليد واجب قومي وشرعي. وقد كان القدماء على وعي بذلك فأجمعوا على رفضه، وكانوا أكثر تقدما مما نحن عليه الآن بدفاعنا عنه واتهامنا لكل من يخرج على التقليد بالخروج والمادية والإلحاد والتبعية والعمالة.
28 (4) المطابقة في العلم
وبعد أن رفض القدماء مضادات العلم من شك وظن ووهم وجهل وتقليد، لم يبق إلا العلم. ومهما عسر تحديد العلم، فإن الإنسان قادر على أن يصل إليه حتى ولو بأبسط الطرق، وهو طريقة القسمة والمثال؛ مما يدل على أن تأسيس العلم ممكن وأن إقامة نظرية في العلم ممكنة.
29
والعلم عن طريق القسمة والمثال هو أحد طرق العلم المستعملة في علم الكلام؛ إذ تؤدي القسمة إلى التمييز بين المستويات، في الغالب بين الأعلى والأدنى، كما يؤدي المثال إلى القياس والتشبيه. ومع ذلك فطريق القسمة والمثال ليس منهجا علميا يؤدي إلى تأسيس نظرية في العلم، بل أقصى ما يستطيعه هو التصنيف، وقياس الشبيه بالشبيه. وعلى هذا النحو تستحيل معرفة «الله» معرفة نظرية؛ لأن الله لا شبيه له، وإلا وقعنا في التشبيه لا محالة. وهو ما حدث بالفعل في علم الكلام. حتى التنزيه لم يسلم من التشبيه أو على الأقل من ألفاظه وتصوراته ومعانيه. هذا بالإضافة إلى أن التحديد بالقسمة تحديد خارجي محض وليس تحديدا داخليا من بناء الموضوع وماهيته. وهو في حقيقة الأمر ليس حدا، بل ترتيب وتصنيف وبناء لعلاقات الموضوع مع غيره دون وصف لبناء الموضوع ذاته. وعلى هذا النحو يكون العلم «كل اعتقاد جازم مطابق لسبب»؛ فيتميز عن الظن والشك وهما ليسا اعتقادين جازمين. كما يتميز عن الجهل وهو اعتقاد جازم غير مطابق، كما يتميز عن التقليد الذي هو اعتقاد جازم مطابق لغير سبب. التعريف عن طريق التصنيف والترتيب وصف خارجي وليس تحليلا داخليا لمضمون الشيء. وقد تستكمل القسمة بالمثال ويتحدد العلم حينئذ عن طريق المثال، فيقال مثلا العلم مثل إدراك البصر، وحدوث العلم مثل حدوث الصورة في المرآة. ولكن المثال أو ضرب المثل ليس حدا تاما على تقول المناطقة، بل حد ناقص. وقد لا تكون الصورتان مطابقتين تماما من كل ناحية، كما قد يغفل أحد جوانب الصورة أو يقرب بين جانبين مختلفين أو يباعد بين جانبين متشابهين. ليس التشبيه حدا بل هو تقريب للأفهام، ويكون أقرب إلى البلاغة والأدب منه إلى المنطق والعلم. والتمثيل على ما تقول المناطقة أقل يقينا من القياس؛ لأنه يقوم على تشبيه الخاص بالخاص دون منطق البرهان، على ما هو الحال في القياس، وشروط القياس المنتج والفرق بينه وبين القياس غير المنتج. وقد استمر التعريف عن طريق القسمة والمثال في عقليتنا المعاصرة وكما هو واضح في الأمثال العامية من قولنا: «العلم نور» أو «العلم في الصغر كالنقش على الحجر» أو غيرها من الأمثال.
وقد يعرف العلم بالمعرفة، فكل علم معرفة، وكل معرفة علم، وكلاهما دراية تقوم على سكون النفس. وهنا يتم التحديد عن طريق التعريف بشيء يحتاج إلى تعريف، وبالتالي لا يمنع من الوقوع في الدور؛ حيث يكون الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا. العلم والمعرفة مترادفان، وكلاهما يتم في الشعور في نسق عقلي واحد. وكلما كانت المعرفة دقيقة لها منهج وموضوع وغاية كانت أقرب إلى العلم منها إلى مجرد الآراء والنظريات المتناثرة؛ لذلك كان العلم أو المعرفة واقعا لكل شيء، بشرط الاعتقاد بالشيء على ما هو عليه بالاعتماد على شهادات الحس وأوائل العقول.
30
وقد حدث هذا الترادف في عقليتنا المعاصرة عندما وحدنا بين المعارف والعلوم بالرغم من أن معارفنا لم تتحد بعد في مناهج دقيقة. فنظن أن كل عارف عالم، وكل عالم عارف، مع أن العلم ليس هو المعارف، بل بناء نظري يتأسس في الشعور، هو نظرية في العقل وفي الواقع وفي الشعور أكثر منه نتائج ومكتشفات لتطبيقها في الحياة العملية.
ولا يمكن أن يكون العلم هو «اعتقاد الشيء على ما هو به»،
31
فقط لأنه إذا كان علما مطابقا فقد ينشأ هذا التطابق عن التقليد وليس عن النظر. والنظر منهج العلم وطريقه؛ لذلك كانت المطابقة في العلم قائمة على الضرورة أو الدليل أي المطابقة مع الحس أو مع العقل. وقد يكون التعريف «معرفة المعلوم على ما هو به» أي مطابقة الحكم للواقع أو كما يقول الحكماء «مطابقة عالم الأذهان مع عالم الأعيان». الحق والباطل في الأحكام، والصدق والكذب في الأقوال. والواقع في هذه الحالة ليس هو العلم «الإلهي» أو «اللوح المحفوظ» بل الواقع العريض. التجربة الإنسانية من الحياة ومن التاريخ، العلم «الإلهي» هو الوحي الذي تكيف طبقا للواقع كما هو الحال في «الناسخ والمنسوخ»، والذي هو نداء للواقع كما هو الحال في «أسباب النزول».
32
قد يكون اللوح المحفوظ هو قوانين التاريخ، وقد تحققت من قبل أي صدقت في الواقع. العلم البسيط هو المطابقة للواقع، والعلم المركب هو العلم بهذه المطابقة؛ أي العلم بالعلم. ويكون الجهل البسيط هو عدم المطابقة، والجهل المركب هو الجهل بهذه المطابقة. لا يتعلق العلم بالمستحيل؛ فالمستحيل ليس شيئا، أي غير ثابت في نفسه، والعلم علم بالأشياء؛ ومن ثم لا يتعلق العلم إلا بالأشياء الممكنة. والممكن هو الشيء الذي يمكن التحقق من صدقه، فإذا كانت معرفة الله مستحيلة، فإنها تكون خارج موضوع العلم، وإذا كان العلم هو «معرفة المعلوم على ما هو به» يخرج «علم الله» لأنه ليس معرفة، ولا يمكن معرفته «على ما هو عليه»، ولا يمكن ذلك إلا عن طريق التقريب والتشبيه أو طبقا لقياس الغائب على الشاهد أو طبقا لتأويل النصوص، وهي كلها لا تكون نظرية عقلية في العلم. كما يتضمن هذا التعريف نفس الدور السابق وهو أن العلم معرفة ، والمعرفة علم. وهذا يدل على صعوبة تعريف العلم النظري. أما الرؤية المباشرة للواقع، وحدس الماهيات، وإدراك البداهات، وهو طريق المطابقة، فإنه يحدد منهج العلم وليس نظرية العلم؛ مما يدل على أن منهج العلم هو الذي يحدد نظرية العلم كما حدد منهج علم الكلام تعريف علم الكلام. ولا يختلف في ذلك الأشاعرة عن المعتزلة إلا في اتهام المطابقة عند المعتزلة بأنها تجعل العلم شاملا للتقليد؛ لذلك أضاف المعتزلة «المطابقة عن ضرورة أو نظر» مع استبعاد العلم بالمستحيلات أو بوجود الله، وهو اعتراض لا يقوم على أساس؛ لأن العلم لا يكون إلا علما بالممكن وليس بالمستحيل، ولأن «وجود الله» ليس موضوعا للعلم بشخصه، بل بعلمه وهو الوحي، والوحي علم وموضوع للعلم.
33
وكما يرتكز العلم بالمطابقة على أساس نظري في العقل، فإنه يقوم أيضا على أساس شعوري في النفس؛ وبالتالي تظهر الصفات أو المعاني العقلية في النفس حتى تتمايز وتتضح؛ وفي هذه الحالة يكون العلم «صفة توجب لمحلها التمييز بين المعاني لا يحتمل النقيض.»
34
العلم موضوع أي صفة ومعنى متميز عن غيره، العلم هو المعنى القائم بالنفس والقادر على التمييز بين المعاني المتناقلة، العلم علم للمعاني ومنهجه الإيضاح، وكل نقيض له هو نقص في التمييز.
35
ترتبط الصفة بالنفس، ويصبح العلم هو ما يحدث في النفس من الواقع من خلال التجربة. ومن ثم لا يمكن إخراج الحواس من المعاني؛ فالحواس طريق الحصول على المعاني، والتجارب موطن لها. العقل هو الرصيد النهائي للمعاني ولكن المعاني تنشأ من التجارب الحية في العالم. لا تتحقق المعاني الكلية إلا في تجارب جزئية. التقابل بين الكل والجزء تقابل في المنطق الصوري لا وجود له في تحليل التجارب الحية لإدراك معانيها المستقلة. لا يظهر المعنى إلا في موقف، والموقف لا يمكن إلا أن يكون موقفا إنسانيا خاصا قد يتكرر بعد ذلك في الزمان والمكان. وعلى هذا النحو يكون العلم هو الذي يوجب كون من قام به عالما.
36
فرغما من قيام هذا التعريف على الدور، تعريف العلم بالعالم الآن يظهر الموضوع من خلال الذات؛ نظرا لأنه لا وجود لعلم بلا عالم. فإذا غاب العالم غاب العلم. مما يشير إلى أهمية العلم في الصدور وأهمية موقف العالم. صحيح أن العلم بناء نظري، لكنه موجود في شعور العالم، ويتحدد ببنائه، ويتحقق ببواعثه. فالبناء النظري للعلم لا ينفصل عن تحققه العملي، لذلك ارتبط العلم بالعلماء؛ إذا حضر العلماء حضر العلم، وإذا غاب العلماء غاب العلم، إذا فسد العلماء انهار العلم، وإذا صلح العلماء قام العلم. ترتبط إذن الصفة أو الحال بالإنسان، هل هما نفسه أم غيره أم لا هما نفسه ولا غيره بصرف النظر عن ارتباطهما بالصفات والأحوال «الإلهية»؟ فإنها تعبر عن البناء الإنساني والاجتماعي لنظرية العلم، دور العلماء في تأسيس العلم.
37
وبالإضافة إلى وجود العلم كحالة للشعور، كما يركز المعتزلة، إلا أنه أيضا صفة ومعنى كما يركز الأشاعرة.
38
والحقيقة أن كون العلم حالا لا يقضي على موضوعية العلم؛ فالعلم علم بالدليل، وبالتالي لا خوف من الوقوع في الذاتية النسبية. يظل النظر الصحيح حالا مختلفا عن النظر الفاسد ولا سبيل إلى التماثل بين الحالين. النظر حال للناظرين. وهناك فرق بين تصور العلم وحصوله؛ فقد يتصور المؤمن الإيمان دون أن يكون مؤمنا، التصور عقلي وحصوله نفسي. ويدل الدليل بصيغته النفسية، ويمحو كل شبهة. الدليل أيضا دليل وجداني. فإذا كان الدليل هو ما يتوصل إليه بصحيح النظر، فإن السبيل المفضي إلى العلم بوجوب النظر «اختلاج الخواطر في النفس وتعارض الجائزات في الحدس.» النظر علم شعوري؛ لذلك كان العلم صفة للحي؛ أي حالة له وصفة للعالم. تعريف العلم إذن: «اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه.» فإذا كانت الصفة للكائن الحي فالحياة شرط العلم؛ إذ لا علم للأموات وللجمادات، والصفة هي التي يمكن إدخالها بعد ذلك في منطق اليقين تصورا وتصديقا. فسواء كانت نقطة البداية الحالة أو الصفة، فكلتاهما تنتهي إلى تحليل العقل. ويبدو أن إثبات العلم كصفة هو انعكاس لمسألة الصفات في «الإلهيات» حين أثبت الاشاعرة الصفات وأثبت المعتزلة الأحوال. كما أن المسألة انعكاس للطبيعيات، فإثبات الصفة موجه ضد نفاة الأعراض والذين يعتبرون الصفات أجساما.
وقد ارتبطت نظرية العلم أيضا بالعمل والممارسة؛ فإذا كان العلم حالة شعور، فالإرادة أيضا حالة شعور، ومن ثم يكون الشعور مصدر العلم والإرادة معا، ومنبع النظر والعمل سواء. وقد يرمز لهذا التوحيد أيضا في الذات المشخصة في الإلهيات عندما يوحد فيها بين العلم والإرادة. يشمل العلم القدرة، فعل النظر وفعل الإتقان كلاهما مكونان للعلم؛ لذلك فضل البعض جعل العلم «ما يصح ممن قام به إتقان الفعل»، وبالتالي تدخل القدرة على تحقيق العلم. ولا يمكن الاحتجاج على هذا التعريف بعلم الإنسان بنفسه وبالله؛ فذاك أيضا ممكن التحقيق؛ إذ يحقق الإنسان ذاته بتحقيقه رسالته وغايته في الحياة، ومشروع عمره. كما يحقق الإنسان علمه بالله عن طريق تحقيق مقاصد الوحي في العالم، وتحويل الوحي إلى نظام مثالي للعالم، وتحويل العقيدة إلى شريعة، والتصور إلى نظام؛ فالتوحيد ليس نظرا فقط بل عمل أيضا، إدراك وسلوك، فكرة وفعل.
39
أما تعريف العلم بأنه «اعتقاد جازم مطابق لموجب»،
40
فإنه يخرج التصور من تعريف العلم لأن التصديق هو الذي يطابق أو لا يطابق، كما أن الجزم في الاعتقاد قد يحيله إلى تعصب وهو ورفض للحوار، وإذعان للمعارض، والتوقف عن التغير والاتساع طبقا للقرائن الجديدة. العلم ليس اعتقادا جازما، بل معرفة نظرية مفتوحة؛ لذلك عرف الحكماء العلم بأنه «حصول الشيء في العقل.» أو «تمثل المدرك في نفس المدرك.»
41
وهو تعريف صوري خالص يقوم على إثبات الوجود الذهني للأشياء وتحويلها إلى صور ومعقولات، وينكر دور الحس والمشاهدة والتجربة، بل وينكر وجود الأشياء المادية ذاتها والتأثير عليها وتحريكها وتغييرها والعيش معها، ورؤيتها رؤية مباشرة. وهو تعريف تطهري خالص يقوم على عالم المعقولات كبديل عن الإيمان، كما أنه لا يبين مستوى اليقين في هذا الإدراك، هل هو الشك أم الظن أم الوهم أو الجهل أو التقليد؟ فقد تحصل الصور في النفس بإحدى هذه المراتب في اليقين، وقد تكون علما وقد لا تكون علما، قد تكون صورة ذهنية وقد تكون تخيلا . فبالرغم من أن تعريف العلم بالمطابقة يشير إلى الذهن، فإن المتطابق يكون مع وجود الأشياء في الذهن؛ أي تطابق العقل مع نفسه. العلم هنا بناء الذهن أو صورة الشيء في العقل، وبالتالي لا يختلف العلم عن باقي مكونات الحياة العقلية من تخيل وتذكر. ونظرا لهذه الصورية في تحديد العلم، فقد يعني العلم أيضا عدم النقيض طالما أن التحليل الصوري يقوم على الاتساق. والنقيض يحدث في العلوم الجزئية ولكن مطلق العلم لا نقيض فيه. وإذا كان هذا التحديد العقلي للعلم يتجاوز الانطباع الحسي والسكون النفسي، فإنه يصل إلى تحليل المعاني الكلية الخالصة. والحقيقة أنه لا يتحدد العلم بهذا المستوى الصوري الخالص إلا بعد نشأة العلم في الشعور ثم تحويل مناطق الشعور إلى «أنطولوجيا» خالصة. حينئذ يمكن الاستغناء عن العالم الحسي والتجربة الحية وأفعال الشعور. ولا تجعل المطابقة مع الذهن العلم مجرد صورة بل هو معنى أو صفة أو موضوع. وهو ما سيصبح في علم أصول الدين المتأخر نظرية في المنطق، تصورا وتصديقا، فإذا ما أحدث العلم انكشافا في الشعور فإنه يتحول بعد ذلك إلى قضايا عقلية.
تتجه التعريفات السابقة كلها نحو المطابقة، وتظهر المطابقة في العقل وبالشعور ومع الواقع؛ لذلك تفاوتت حدود العلم في ثلاث: المطابقة مع الواقع، والمطابقة في العقل، والمطابقة في النفس. المطابقة مع الواقع تمنع أن يكون العلم وهما أو خيالا. والمطابقة في العقل تجعل العلم متسقا مع نفسه قائما على البرهان، والمطابقة في النفس تجعل العلم تمثلا واعتقادا ويقينا. العلم إذن مطابقة الشعور مع نفسه أو هو سكون النفس وتوطينها واطمئنانها وذلك لأن العقل والواقع مجالان للشعور وقطبان له. العلم في الشعور، والشعور مركز اللقاء بين العقل والواقع. لم تجد التعريفات السابقة للعلم بالمطابقة في العقل ومع الواقع مناصا من التعرض لأفعال الشعور في صورة أنماط للاعتقاد وعمليات التوضيح والبيان؛ فأصبح العلم هو الاعتقاد الجازم أو التبيين والاستبصار أو الفهم والفقه والفطنة والإحاطة والإدراك حتى يصل في النهاية إلى سكون النفس والاطمئنان إليه. فالعلم أوسع نطاقا وأشمل من المطابقة مع الواقع فحسب. إذا وقع العلم بعد الشك كان التبيين والتحقق والاستبصار، وإذا كان عملا للعقل سمي فهما وفقها وفطنة. قد يكون العلم هو العقل أو الإحاطة أو الوجود طبقا للحظة العلم وبنائه في الشعور. ولا يدخل هنا موضوع العلم، القديم أو المستحيلات، بل أفعال الشعور المؤدية إلى العلم. ولا يعني وجود العلم في الشعور اتجاها سلبيا أمام الأشياء، مجرد الحصول على انطباعات حسية منها، وأن الشعور لا يكون إلا محصلا مكتسبا مستقبلا بل هو اتجاه إيجابي نحوها لإنارتها وإدراك دلالتها وتعقيلها وتنظيرها وفهمها. يشمل العلم سكون النفس بالنسبة لشيء ما مع إدراك دلالته. الشعور موطن السكون، والواقع به الأشياء، والدلالة يحللها العقل. وعلى هذا النحو يحمي العلم نفسه أولا من الوقوع في الصورية والتجريد لارتباطه أيضا بالشعور الحي وبالواقع الملموس، كما يحمي نفسه ثانيا من التجريبية الفجة لارتباطه أيضا بالشعور الحي وبالعقل، كما يحمي نفسه ثالثا من الوجدانية الانفعالية الخالصة لارتباطه بالواقع الحسي وبالعقل النظري. للعلم إذن كيانه الذاتي والموضوعي، الصوري والمادي بفضل بنائه الشعوري.
ثالثا: أقسام العلم
(1) العلم الإنساني
كما أن تعريف العلم لا يكون إلا للعلم الإنساني، فالعلم الإلهي ليس صفة مشخصة للذات، بل هو الوحي المنزل الذي أصبح علما إنسانيا بمجرد كتابته وقراءته وفهمه وتفسيره، فكذلك أقسام العلم لا تكون إلا للعلم الإنساني إلى ضروري ومكتسب أو إلى تصور وتصديق، أو إلى بديهي واستدلالي. لا يقسم العلم إذن إلى إلهي وإنساني، قديم وحادث، علم خالق وعلم مخلوق. فهذه قسمة دينية تقوم على التشخيص بالنسبة إلى العلم الإلهي، وعلى احتقار الذات بالنسبة إلى العلم الإنساني. كما أنها قد تقوم على التملق والمداهنة والنفاق فنجعل العلم الإنساني محدودا والعلم الإلهي غير محدود، وتكون غاية الإنسان التقرب إلى الله وسؤاله العطاء المعرفي أولا ثم الشيئي ثانيا. الأول ينقسم إلى ضروري واستدلالي في حين أن الثاني لا ضرورة فيه ولا استدلال؛ لأنه يتعالى على ذلك ويجاوز هذه القسمة. ويصل حد احتقار الذات إلى وضع العلم الإنساني مع علم الحيوان! كما يصل حد التملق إلى وضع العلم الإلهي مع علم الملائكة والجن!
والحقيقة أننا لا نعلم إلا علما واحدا هو العلم الإنساني. ولا ندري عن علم الحيوان إلا ما يعلمه الإنسان عن الحيوان. ولا ندري عن علم الملائكة أو علم الجن إلا ما يعلمه الإنسان عن هذه العلوم بعد إثبات وجود مثل هذه المصادر للعلم. ولا نعلم عن «علم الله» إلا ما هو موجود في كتاب مدون بلغة معروفة وبعقل يفسر ويفهم ويعقل ويتمثل ويحقق وهو الإنسان المكلف. لا يوجد إذن في هذه العلوم الثلاثة، لو وجدت، إلا العلم الإنساني كطريق لها. نحن لا نعلم عن هذه العلوم الثلاثة شيئا إلا من خلال العلم الإنساني. وقد تكون أدخل في مضادات العلم في الشك أو الظن أو الوهم أو الجهل أو التقليد منها إلى العلم؛ فهي اعتقاد جازم غير مطابق أو هي اعتقاد جازم مطابق من غير سبب. لا يمكن الحديث عن علم الملائكة أو علم الجن لأنه ليس لدينا تجارب عن هذه العلوم. وعلم الحيوان أقرب إلى لغة التخاطب منه إلى علم يقوم على التصور والتصديقات، ويعتمد على النظر والاستدلال. ولا يقال إن هذه العلوم الثلاثة مذكورة في القرآن؛
1
وذلك لأن الوحي بمجرد نزوله يصبح علما إنسانيا، ويتحول بمجرد قراءته وفهمه إلى علوم إنسانية مثل علوم القرآن وعلوم التفسير وعلم القراءات وعلوم أخرى جزئية متضمنة في علوم القرآن مثل علم أسباب النزول، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم المكي والمدني، وعلم المحكم والمتشابه ... إلخ، وذلك من حيث التدوين والتفسير. أو يتحول إلى علوم عقلية شرعية مثل علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف. أو يتحول إلى علوم عقلية خالصة مثل العلوم الرياضية والطبيعية أو إلى علوم إنسانية خالصة مثل علوم الجغرافيا والتاريخ واللغة والأدب.
2
العلم إذن ليس قديما أو حادثا، بل هو العلم الإنساني الذي ينشأ في الشعور، يحلله العقل، ويصدقه الواقع. هو حادث بحدوث الشعور وقديم بقدم الشعور إذا كان مختزنا فيه واستدعته الذكريات أو إذا كان مسلمات في العقل لم ينشأ من التجربة في مقابل العلم الحادث الذي ينشأ من التجربة أو إذا كان «أنطولوجيا» خالصة تكشف عن مناطق مثالية للشعور أو أنماط نموذجية فيه. العلم القديم هو الذي يعتمد على التاريخ وعلى المعلومات المتراكمة وعلى خبرات الماضي، أما العلم الحادث فينشأ في العصر ويحدث في الجيل. إن افتراض أن علومنا محصورة في مقابل علوم «إلهية» لا يمحوها حصر؛ مزايدة دينية وقول مجاني لا يهدف إلا إلى الإعلان عن الذات، ولا يعبر إلا عن إيمان طفولي، ولا يهدف إلا إلى السيطرة على العامة وفرض الوصاية عليها، وذلك لأنه فوق كل ذي علم عليم! والعلم الإنساني في حقيقة الأمر ليس محصورا ولا محاصرا؛ فالعقل قادر على إيجاد أنساق شاملة يضع فيها موضوعاته، كما أن الشعور قادر على رؤية المعاني والدلالات كماهيات مستقلة. والواقع نفسه عريض ومتسع وشامل، يعطي وقائع لا حصر لها كحوامل للمعاني. وأن فكرة وجود علم غير محدود فكرة إنسانية خالصة، لها وظيفة معرفية في الاستمرار في البحث، والاستكشاف المستمر لقوانين الطبيعة، ورفض الجمود المذهبي والقول النهائي في العلم.
3 (2) العلم بديهي ضروري أو استدلالي نظري؟
لما كان العلم «القديم» افتراضا محضا خارجا عن نظرية العلم،
4
وهو أحد صفات الله التي لم تدخل بعد كموضوع للعلم؛ فالعلم لم يتأسس بعد، لم يبق إلا قسمة العلم الإنساني إلى علم ضروري بديهي فطري، وعلم استدلالي نظري مكتسب. الأول علم اضطراري يجده الإنسان بنفسه، ويشعر به دون أدنى شك ودون أن يستطيع له دفعا، يأتي الإنسان مهاجما له ولا يمكن الشك فيه. أما الثاني فإنه يحتاج إلى رؤية وتدبر، ويقوم على فكر وطريقة للنظر، ويعتمد على الحجة والبرهان، يمكن الشك فيه، ثم الانتقال فيه من الشك إلى اليقين. لا يقع العلم الضروري بفعل قدرة خارجية، بل يحدث من طبيعة النفس وبقدراتها الخاصة. ولا يحدث العلم الاستدلالي بقدرة خارجية كذلك، بل هو كسب للإنسان بأعمال الجهد والنظر. وإذا كان الإنسان لا يحتاج في العلم الضروري إلى جهد وإعمال نظر، فإنه يحتاج في الاستدلال إلى الجهد والنظر.
5
وقد يسمى العلم الضروري العلم البديهي ويعني ما لا يقترن بنفع أو ضرر؛ أي المعرفة الخالصة، في حين أن المعرفة الضرورية قد تقترن بنفع أو ضرر، أي المعرفة الخالصة في حين أن المعرفة الضرورية قد تقترن بنفع أو ضرر لأنها المعرفة الحسية المباشرة، والوجدانية التلقائية التي قد تؤدي إلى اللذة والألم والتي قد ينتج عنها الفرح والحزن. وقد يكون البديهي أخص من الضروري؛ إذ إن البديهي أقرب إلى المعرفة العقلية الخالصة، في حين أن الضروري يشمل الضروري الحسي والعقلي معا، المادي والصوري في آن واحد.
6
وكما يكون الضروري بديهيا يكون الاستدلالي مكتسبا. العلم الضروري فطري، والعلم الاستدلالي كسبي. وقد آثر القدماء لفظ الضروري على لفظ الفطري فليس المهم «نشأة» العلم بقدر وجوده.
ولكن إلى أي حد تكون هذه القسمة فاصلة حادة بين العلمين؟ ألا يوجد علم ضروري فطري بديهي يكون في نفس الوقت، على الأقل في نشأته، مكتسبا من التاريخ وتراكم المدركات الحسية، ومحاولات الصواب والخطأ التي عبر بها الفرد، وتتالت على الجماعة، والتي تحدد في النهاية تصورات العالم وخصائص الشعوب؟ «أنا حر» تجربة ضرورية، ولكن أكتسبها كل يوم بالممارسة حتى تتحول عندي إلى علم ضروري.
7
والعلم الفطري ليس فرديا فحسب بل هو علم جماعي وتاريخي يظهر في الأمثال العامية، وحكمة الشعوب، وهي فطرة الناس التي تتراكم، وتتوارثها الأجيال.
8
وإذا كان كل علم كسبي هو علما نظريا استدلاليا، فالكسب لا يأتي إلا بالنظر والاستدلال؛ ألا يمكن للكسب أيضا أن يأتي من الحس والمشاهدة والتجربة والعادة؟
9
وقد يمتد السؤال إلى بناء العلم كله متوجها إلى هذه القسمة الحادة الفاصلة فيكون: هل يمكن أن تتحول العلوم الضرورية إلى استدلالية والعلوم الاستدلالية إلى ضرورية؟ ليس السؤال: من الفاعل؟ هل هو فاعل خارجي «الإرادة الإلهية»؛ إذ إنها لا تثبت إلا بعد تأسيس نظرية العلم أو بفعل داخلي في الشعور نتيجة النشأة والتكوين في نظرية العلم، وهو أمر ممكن إثباته؟ مما لا شك فيه أن الحد الفاصل بين العلوم الضرورية والعلوم الاستدلالية صعب المنال؛ إذ لا يمنع العلم الضروري من نظر؛ إذ تختلف الضروريات في الوضوح والخفاء؛ لذلك يمكن تصور كل علم ضروري علما استدلاليا، وكل علم استدلالي علما ضروريا.
10
ولما كان العلم الضروري هو الأساسي فيمكن للعلم الاستدلالي أن ينقلب إلى ضروري دون أن ينقلب العلم الضروري إلى استدلالي بالضرورة. الحقائق المطلقة ضرورية، والحقائق الإنسانية قد تكون ضرورية أو استدلالية، وإذا كانت ضرورية تصبح حقائق مطلقة. ولكن لا يمكن أن تصبح الحقائق المطلقة استدلالية وإلا كانت حقائق إنسانية عرضة للخطأ والصواب.
11
وهناك شواهد عديدة تثبت وجود علم ضروري في أمور يظن أنها استدلالية مثل وقوع الحوادث على وتيرة واحدة ووفقا لقانون أو نظام لا يعني أنه علم نظري، بل قد يكون علما ضروريا مطردا في الطبيعة البشرية. أو مثل حدوث المعرفة الضرورية طبقا للدواعي والمقاصد فهي أدعى إلى أن تكون ضرورية منها إلى نظرية. لا يوجد إذن حد فاصل بين المعرفة الضرورية والمعرفة الاستدلالية؛ فإن ما يعرفه البعض ضرورة قد يعرفه الآخر استدلالا، وما يعرفه البعض استدلالا قد يعرفه البعض الآخر ضرورة. هذا بالإضافة إلى أن العلوم الضرورية هي المبادئ اليقينية التي يقوم عليها العلم الاستدلالي؛ فهما لا يكونان نوعين من العلوم، بل هما درجتان للمعرفة وفعلان متمايزان للشعور.
12
وقد تحولت هذه القسمة للعلم إلى ضروري واستدلالي في علم الكلام المتأخر؛ إلى قسمة منطقية نظرا لسيادة علوم الحكمة على علم أصول الدين، ونظرا لأن المنطق في علوم الحكمة آلة للعلوم، وبالتالي فهو يعادل نظرية العلم في علم أصول الدين. فالعلم إما تصور أو تصديق. التصور هو العلم الضروري البديهي، والتصديق هو العلم الاستدلالي الكسبي.
13
التصور بديهي لأنه «مشعور» به قبل طلبه، والتعريف بالماهية تعريف للشيء بنفسه أو تعريف يستلزم تعريفا آخر يقوم على تصور. فإما أن نقع في الدور أو نسلم بوجود تصورات بديهية ليست في حاجة إلى تعريف. لا يطلب التصور إذن لأنه بديهي، وإذا طلب تصور للنفس أو للروح فإنما ذلك تفسير لفظ أو طلب برهان وكلاهما تصديق. وعلى هذا النحو قد يصبح العلم الضروري هو تعريف مطلق العلم.
14
ويظل السؤال الأول قائما: هل يوجد تصور كسبي استدلالي نظري، وهل يوجد تصديق ضروري بديهي فطري؟ قد تحتاج بعض التصورات إلى نظر مثل الجزء والكل، والوجود والعدم، كما تحتاج بعض التصديقات إلى استدلال مثل وجود الله. وقد لا تحتاج بعض التصديقات إلى استدلال إذا أمكن تصور المقدمتين معا والانتهاء إلى النتيجة المباشرة. هناك إذن تصوران: تصور بسيط ساذج، وتصور يتضمن تصنيفا. كما أن هناك تصديقين: تصديق بسيط ساذج، وتصديق يقوم على أحكام متتالية. هناك تصور بسيط وآخر مركب، وتصديق بسيط وآخر مركب. والحقيقة أن التصورات والتصديقات ليست مقولات مستقلة للعلم، بل أفعال للشعور تتفاوت بين البساطة والتركيب. وقد تكون بعض التصورات السمعيات كسبية مثل «الجن» و«الملائكة». وفي هذه الحالة يجب أن تتفق مع شهادة الحس وبداهة العقل والوجدان، وبالتالي ترجع إلى الضرورية. أما التصديقات البديهية فهي إدراكات حسية يمكن الاستدلال عليها مثل قوانين الفكر الأولية.
15
قسمة العلم إذن إلى تصور وتصديق قسمة منطقية أي صورية خالصة تجعل العلم مجرد تصورات وأحكام مع أن التصورات نفسها تنشأ من طبيعة الذهن وهي البديهيات والأوليات، والبعض الآخر ينشأ من الحس والمشاهدة. التصور أحد مراحل بناء العلم، أما الأحكام فبعضها فطري ضروري وبعضها مكتسب نظري، قد تصدر بالعقل وقد تصدر بالوجدان، وقد تكون نتيجة للعادات الاجتماعية. تنشأ التصورات في مواقف إنسانية معينة وتتحكم في التصديقات البواعث والمصالح. لا يوجد إذن بناء منطقي صوري خالص. وقد تبلغ قسمة المنطق إلى تصور وتصديق من الأهمية بحيث تصبح هي ذاتها نظرية العلم. وتصبح نظرية المنطق الجامع بين علم أصول الدين وعلوم الحكمة، ويكون التمييز بين التصور والتصديق هو الحكم المنطقي إثباتا ونفيا. وهنا لا يكون المنطق منطقا بل بحثا في المبادئ العامة في أوليات العلم،
16
والحقيقة أن قسمة العلم إلى ضروري واستدلالي إنما ترجع في نهاية الأمر إلى شهادة الحواس ومعطيات الوجدان؛ أي إلى الرؤية المباشرة للواقع وإدراكه ابتداء من مقاصد الوحي وقياس المسافة بين الواقع والمثال، فالرؤية المباشرة للواقع والتنظير له هي أساس العلمين الضروري والاستدلالي. (3) إثبات العلم الضروري
العلم الضروري هو العلم الفطري البديهي الذي يعتمد على الحس والعقل والوجدان، يجده كل إنسان في نفسه دون تعلم أو تكسب، مثل الحسيات والبديهيات والوجدانيات، هو موجود في استعدادات الفطرة. ولا يمكن القول في هذه المرحلة من تأسيس العلم إنه من خلق «الله»؛ لأن الله لم يثبت بعد ولم يظهر بعد كموضوع في بناء العلم؛ فما زال الحديث قائما عن إمكانية قيام نظرية في العلم. لا يمكن إذن جعل العلم كله نظريا بدعوى خلو النفس من الأفكار الضرورية وحدوث العلوم كلها من خلال الكسب؛ لأن نقصان الاستعداد لا يعني غياب العلم الضروري.
17
ولا يزول العلم الضروري بالغفلة والنوم؛ لأن الحياة واليقظة والوعي شروط للعلم. فإن لم تحدث المعرفة الضرورية عند شخص ما، فإن ذلك قد يعني أن شعوره كان غافلا، أو أنه قد فقد التوازن بين مستوياته وفقد القدرة على البيان والإيضاح، وأن عدم وجوده عند البعض لا يعني عدم وجوده مطلقا. ولا يعني اختلاف العلماء فيما بينهم انتفاء العلم الضروري، بل يعني فقدان الشعور شروطه كالحياة أو التجرد أو التوازن؛ فالعلم الضروري عام ومشترك بين العقلاء جميعا، واختلافهم لا يدل على انتفائه، بل قد يشير إلى وجود بعض معارف موروثة تمنع من حدوث المعرفة الضرورية. كما لا تعني ضرورة الشك وأوليته على المعارف الضرورية نفيها؛ لأن وظيفة الشك في نقد الموروث وتأسيس اليقين وإثبات المعارف الضرورية. فإذا ما توافرت الشروط العادية له وجد العلم. إذا وجد إنسان يحيا له حس وعقل وقلب يكون له بالضرورة، علما ضروريا، شهادة الحس، وأوائل العقول، وبداهات الوجدان.
فالعلم الضروري هو القائم على الحس والمشاهدة، وتعني أصلا حاسة البصر، ثم امتدت حتى شملت الحواس الخمس عند القدماء. فلا يمكن إنكار ضرورة الحس دفاعا عن ضرورة العلم النظري بحجة أن الحس لا يمكن أن يكون مصدرا للحكم على الكليات إلا عن طريق الافتراض والاطراد والتعميم. كما أن الحس قد يقع في الخطأ في إدراك الجزئيات؛ إذ ترى الصغير كبيرا والكبير صغيرا، وتشعر بالحار باردا وبالبارد حارا، ونرى الثلج أبيض وهو ليس كذلك، كما أن الحس لا يميز بين الأمثال.
18
وكذلك يرى الإنسان صعوبة في التفرقة بين النوم واليقظة. والحقيقة أن الاطراد أساس القانون العلمي، والتعميم يقين عقلي تندرج تحته كل الجزئيات. أما خطأ الحواس في إدراك الجزئيات، فإنه لا يحدث إلا إذا تجاوز الحس إمكانياته، ولم تتحقق شروط الإدراك مثل مسافة الرؤية، واعتدال المزاج، والشعور المحايد. واليقين الحسي لا يقل عن اليقين العقلي. ليست كل الرؤى عمى ألوان، وليس الإدراك الحسي كله خداع. والحس قادر على التمييز بين الأمثال لأنه قادر على إدراك الجزئيات، والعقل قادر على تصور أوجه الشبه بينها، كما أنه يمكن التفرقة بين اليقظة والنوم مهما كان الإنسان مستغرقا في النوم، تضغط عليه الأفكار والرؤى؛ فإنه بمجرد أن يستيقظ يدرك الفرق بين اليقظة والنوم، ومهما استغرق الإنسان في أفكاره وأحلامه وهو يقظ فإنه يدرك بمجرد عودته إلى الوعي بالواقع أنه كان في لحظة استغراق. إن الحواس لا تخطئ إذا كانت بريئة من الآفات، وإذا كانت تعمل في مداها الطبيعي، وإذا كانت تؤدي وظائفها المحددة.
19
والعقل قادر أن يفرق بين الصواب والخطأ في المدركات الحسية، كما أنه يمكن اللجوء إلى مجرى العادات للتفرقة بين النوم واليقظة. إن الحس السليم لا يخطئ، وخطأ الحواس راجع إلى آفة فيها وليس إلى طبيعتها. ولا يوجد برهان على شهادات الحس لأنها معارف ضرورية، والمعارف الضرورية لا تحتاج إلى برهان، كما يستحيل البرهان نفسه دون مقدمات ضرورية لا تحتاج إلى برهان، وإلا وقعنا في الدور أو التسلسل إلى ما لا نهاية. هذا بالإضافة إلى أن خطأ الحواس هو الفرع والبداهة الحسية هي الأصل، خداع الحواس هو الاستثناء وسلامة الإدراك هي القاعدة. هناك حقائق حسية لا يمكن أن تكون خداعا أو وهما، مثل أني جالس الآن، أكتب ، والقلم في يدي، وأني أتنفس وأحيا وأفكر، أو أنك الآن تقرأ وتفهم وتستوعب وتحيا وتتنفس وتفكر، أو كأني محتل، مقهور، متخلف، وأن أمامي فقرا وتغريبا وفتورا. هذه الحقائق الوجودية شهادات حسية لا يمكن إنكارها.
20
قد تكون الأسباب في إنكار العلوم الضرورية اجتماعية صرفة لا شأن لها بنظرية العلم، مثل الغفلة والإعراض عن الحق، والاشتغال بطلب المعاش أو بزيادة جاه أو مال أو سعيا وراء منصب، وهذا يمكن تجاوزه عن طريق التجرد، واعتبار العلم غاية وليس مجرد وسيلة للمعرفة. وقد يكون تقليد العلماء طبقا لحسن الظن أو الاستحسان أو الهوى مع رفض البرهان وسماع هواجس النفس، والتقليد ليس علما بل علم مضاد. وقد يكون الإنكار باللسان لما يصدقه القلب طمعا في رئاسة أو منصب أو جاه أو خوفا من فقد ميزة. وهذا ناشئ عن موقف العالم وليس عن نظرية العلم وعن ارتباط العلم بموقف العالم واتجاهه، وارتباط النظرية بالبواعث والدوافع والرغبات. كما صعب إنكار المعارف الضرورية من الخصوم لأنهم ينكرونها بمعارف ضرورية وليست معارف الإنكار بأولى من معارف الإثبات. وإذا كانت هناك براهين يقينية على إنكار المعارف الضرورية، فإثبات العلم بها أولى. وهي نفس الحجة التي تقال أيضا ضد مواقف الشكاك المنكرين للعلوم على الإطلاق. إن إنكار المعارف الضرورية هو إنكار لإمكانية تأسيس العلم وهدم له مع أن الغاية من تأسيس نظرية العلم إقامة «نسق» للعقائد، وبالتالي تستحيل إقامة العقائد. وفي هذه الحالة يكون «الكفر» ضروريا ما دام ليس هناك علم ضروري لإثبات «الإيمان».
21
والعلم الضروري هو مطلق العلم بصرف النظر عن موضوع العلم، مثل العلم «بالله». ليس العلم هو العلم الخاص، بل هو العلم العام من حيث هو معرفة دون تحديد موضوع معين، مثل معرفة «الله». مع ذلك لا تمتنع مثل هذه الموضوعات أن تكون موضوعات معرفية مثل البحث عن الخالص أو الشامل أو المطلق أو الفكرة المحددة. ولكن يتم ذلك في نطاق التصورات وعمل الشعور وليس بطريقة التشخيص.
22
وهو العلم الضروري الذي يقوم على شهادة الحس في هذا العالم وليس في عالم آخر بعد الموت أو قبل الميلاد، مشاهدة في الحاضر وليس رؤية مستقبلية لما لم يقع بعد. يمكن معرفة الماضي بالعلوم التاريخية والمستقبل بالعلوم المستقبلية. وكلا العلمين يتمان في الحاضر طبقا لشهادة الحس والعقل والوجدان. يمكن معرفة الله ضرورة من حيث هو مبدأ معرفي أو أخلاقي أو كمساواة إنسانية وبناء اجتماعي، فتلك بداهات وجدانية واجتماعية.
23
ولا يمكن أن تكون معارف الوحي مثل «إثبات الصانع وصفاته والنبوات» نموذجا للمعارف الضرورية لأن الوحي يقوم على الاستدلال، والجاهل بها مكلف بالنظر. وأن الغاية من العلم إثبات العقائد بالنظر. لا يوجد إلا علم ضرورة بالمشاهدة بعد انقضاء زمن المعجزات؛ فقد أدت المعجزات دورها في التاريخ، وهو تحرير الشعور من أسر الطبيعة، وإبراز التوحيد - التعالي - في شعور الإنسان. بعد أن تحقق ذلك، واستقل الشعور والعقل والفعل أصبح العلم قائما على شهادة الحواس وبداهات العقول وليس فقط على إثارة المشاعر وإلهاب الخيال.
24
وهناك فرق بين المعارف الضرورية والأفعال الاختيارية. الأولى ضرورية تتعلق بأفعال الشعور الداخلية، والثانية تتعلق بإرادة الإنسان وأفعالها الخارجية. الأولى لا يستطيع لها الإنسان دفعا لأنها مرتبطة بحياة الإنسان الشعورية، والثانية أفعال إرادية خالصة يكون الإنسان فيها مخيرا بين الفعل والترك.
25
ولا يمكن إنكار البديهيات العقلية بحجة أنها أضعف من الحساب؛ فهي فرع لها، ولأن «من فقد حسا فقد فقد علما.» أو بالاعتماد على عدة حجج كلها لا تثبت للنقد، وقابلة للتفنيد.
26
فإن قيل: إن أجلى البديهيات مثل أن الشيء إما أن يكون أو لا يكون غير يقيني، فبين الوجود والعدم هناك الحال، وهو التوسط بينهما، كما أن هناك أشياء لا هي وجود ولا عدم. ومثل ما يقال في البديهيات المشهورة، الكل أعظم من الجزء فهناك جزء آخر معتبر وغير معتبر، أو أن الأشياء المساوية لواحد متساوية، فهي واحدة وليست واحدة، أو أن الجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين؛ فالألم في جسمين، والجسم الآخر معتبر وغير معتبر. كما أنها تتوقف على تصور المعدوم وتصور المعدوم يجعله ثابتا وهذا تناقض . كما يتوقف على تميز المعدوم عن الموجود. وكذلك يستحيل ثبوت الشيء وعدمه في نفسه أو لغيره. والحقيقة أن ذلك نقل صوري للبداهة من مستوى العقل النظري إلى مستوى الميتافيزيقا الخالصة التي يكون فيها العقل محلا للتجارب الإنسانية وليس عقلا بديهيا صوريا خالصا. البديهات أمور بديهية، والقدح فيها افتعال غير بديهي. والعلوم الرياضية كلها تقوم على البديهات، والقدح في البديهات هدم لأسس العلوم الرياضية. وإن قيل: هناك صعوبة في التمييز بين البديهيات العقلية وبديهيات العاديات لاستنادهما إلى «القادر المختار» الذي أوجبهما عند المتكلمين أو للأوضاع الفلكية عند الحكماء، وهذا أيضا شك في البديهيات، فإنه بالإمكان التمييز بين بديهيات العقل ومجرى العادات. وكلاهما في نهاية الأمر بديهي بصرف النظر عن نشأتهما. ولا يمكن إدخال احتمال تدخل «القادر المختار» في هذه اللحظة من تأسيس العلم لأنها لم تكتمل بعد. وما زال موضوع «ذات الله وصفاته وأفعاله» مطلوبا إثباته بعد تأسيس نظرية العلم إجابة على سؤال: كيف أعلم؟ وتأسيس نظرية الوجود إجابة على سؤال: ماذا أعلم؟
27
وحتى على فرض الانتهاء من هذا الإثبات، فإن «الله» لا يكون مخادعا، وليس من صفاته ولا أفعاله التمويه والإيهام والإيقاع في الخلط بين بديهيات العقل وبديهيات العادات. كما أن افتراض الأوضاع الفلكية عند الحكماء لم يثبت بعد في نظرية العلم تحت التأسيس. وهو أقرب إلى أن يكون افتراضا أسطوريا خالصا لا يتحول إلى فرض علمي إلا في علوم الفلك والأرصاد الجوية. وإن قيل: إن للأمزجة والعادات تأثيرا في الاعتقادات مما يمنع وجود بديهيات مستقلة، فمع ذلك، العقل البشري قادر على تجريد البديهيات وعلى الإدراك المباشر وحدس الماهيات، وإلا لكان الفكر البشري كله نتاج الأمزجة والعادات. ولما أمكن التخاطب بين البشر والاتصال بين المجتمعات والتفاهم بين الأجيال على مختلف العصور. ولما كانت هناك حكمة واحدة للشعوب وخبرة مشتركة للجنس البشري. وإن قيل: كثيرا ما تتعارض البديهيات فيما بينها فأيهما نصدق؟ قال إنه يستحيل أن يتعارض القطعيان. وإن تعارضا فلربما لخطأ في المقدمات أو في تصور البديهيات أو لكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا. لا تعارض إذن بين البديهيات العقلية، كما أنه لا تعارض بين المتواترات . وقد نشأ علم بأكمله «علم التعارض والتراجيح» لحل التعارض بين القطعيات المتواترة. ولا تختلف البديهيات حسب الزمان والعصر والتطور واختلاف المصالح والأهواء؛ لأنها توجد على مستوى العقل الخالص. ربما يحدث تدخل للزمان والتطور في التعبير عنها وتأويلها وتحقيقها، ولكنها تبقى دون تغير بالرغم من تغير الظروف والأحوال. كما تتجاوز البديهيات حدود المذاهب والعقائد والملل والنحل. فالخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول حسن الصدق وقبح الكذب، بالعقل أم بالشرع خلاف مذهبي، ولا يرجع إلى البديهيات بقدر ما يرجع إلى المواقف الذهبية. وكذلك الخلاف حول خلق الأفعال والرؤية وبقاء الأعراض والوجود والعدم بين الحكماء والأشاعرة أو بين أنصار التنزيه حول الوجود إما مقارن للعالم أو مباين له، وبين الحكماء والمتكلمين حول نهاية الأجسام إلى ملاء أو خلاء، أو بين أنصار الحدوث وأنصار القدم حول قدم الزمان، أو بين الحكماء والمتكلمين حول الخلق من عدم، أو حول الترجيح بمرجح، أو حول محل الألم الإنسان أم الجسم، كل ذلك خلافات مذهبية وليست بديهيات عقلية، تكشف عن المذهب وليس عن ضرورة العقل. والمذهب بناء عقلي يعبر عن انتماء فلسفي، وموقف اجتماعي وسياسي. إن العقل البديهي قادر على إدراك أوائل العقول، وهو مرتبط بصفاء النفس وتجرد الشعور وحياده منعا للهوى. العقل ليس وسيلة مستقلة للعلم، بل أحد وظائف الشعور العاقل.
28
إنكار البديهيات إذن هدم للعلم، وقضاء على العقل، ووقوع في الشك المطلق. بديهيات الحس، وأوائل العقول، وشهادات الوجدان، وتواتر الأخبار، ومجرى العادات كلها بديهيات. وهي المبادئ التي يتصورها العقل بلا واسطة، معرفة واحدة لا تختلف من فرد إلى فرد أو من مجتمع إلى آخر أو حتى من زمان إلى آخر، يدركها كل ذي عقل، وإن شك فيها أحد أو استعصى عليه إدراكها فالعيب به لا بها، ويكون ذا آفة.
29
هي مقدمات مغروزة في النفس فطرية فيها، وإذا نشأ الخلاف عليها فبسبب القرب أو البعد عنها. البديهيات واحدة، من طبيعة العقل الخالص، وكل المعارف اليقينية واحدة تستلزم وجود إنسان حي ذي حس وتجربة وحدس وعقل وتواتر ووجدان. فالعقل ليس هو العقل الصوري، بل هو الجامع للحس والوجدان والفكر والعادة. هو أحد قوى النفس مثل الحس والإدراك والخيال. بل إن كثيرا من المباحث مثل «الوحدة والكثرة» في نظرية الوجود من عمل العقل والخيال معا، العقل لإدراك الوحدة والخيال لإدراك الكثرة. العقل هنا شامل لكل شيء، شامل لقوانين الطبيعة وقوانين العقل ذاته، وهي قوانين النطق. ومعرفة أوائل العقول في حد ذاتها نظرية في العلم.
30
ولا يمكن استبعاد الوجدانيات من العلم؛ فضرورة الوجدانيات مثل ضرورة الحس والعقل، وهي ليست «قليلة النفع في العلوم لأنها غير مشتركة، فلا تقوم حجة على الغير»؛ لأنها أساس العلوم ومشتركة بين العلماء، والأساس الذي تقوم عليه وحدة العلم؛ فالعلم مشروط بحياة الوعي، والوجدان أحد مظاهره، العلم ليس صفة لموضوع، بل حالة للذات وبناء للشعور.
31
لم يفصل القدماء كثيرا هذا النوع من البديهيات؛ نظرا لوجودهم في بيئة ثقافية كان العقل فيها يمثل أحد مظاهر التحدي الحضاري، كما يمثل الوجدان بالنسبة لنا في الدورة الثانية للحضارة تحديا بالنسبة للحضارات المجاورة. وليست الوجدانيات مجرد عواطف وانفعالات ذاتية فردية نسبية، بل هي تجارب حية تظهر فيها الماهيات التي يمكن إدراكها بالعقل، وفي نفس الوقت ينكشف فيها الواقع العريض. تشمل الوجدانيات الاجتماعيات والسياسيات والاقتصاديات وكل الإنسانيات لما كان الوجدان أساسا تعبيرا عن وجود الإنسان في العالم. (4) إثبات العلم النظري
وكما أنه لا يمكن إنكار العلم الفطري البديهي، فإنه أيضا لا يمكن جعل العلم كله ضروريا فطريا بديهيا، وإنكار العلم النظري الاستدلالي الاكتسابي كما هو الحال عند أصحاب المعارف بالعلوم الضرورية أو أصحاب الطبائع. فالضروري أساس الاستدلالي، والفطري مقدمة للكسبي، والبديهي شرط النظري. لا يمكن أن تكون التصورات كلها ضرورية وإلا لاستحال البحث والنظر، ولم يطلب أحد شيئا من العلوم والمعارف. لا يمكن جعل التصورات الفطرية دون اكتساب؛ فكثير من التصورات تنشأ من الأوضاع الاجتماعية والثقافات السائدة.
32
وإثبات العلم الضروري كشرط للعلم وكنقطة يقينية أولى «لأن المطلوب إما مشعور به، فلا يطلب، أو غير مشعور به، فيطلب.» يجعل العلم كله درجة واحدة من اليقين. قد يكون المطلوب في البداية شعورا عاما أو افتراضا أو ظنا أو وهما أو شكا أو تخيلا، ثم يتحقق بعد العلم النظري ويصبح علما يقينيا؛ فالشيء قد يكون معلوما من وجه ومجهولا من وجه. إن إثبات العلم الضروري وحده كبداية أولى؛ لأن الماهية لا تعرف إلا بنفسها، وهذا يتطلب تصورها مسبقا أو بأجزائها، وهي لا تعرف إلا بعد معرفة الكل الذي تنطوي تحته أو في الخارج، وهو لا يمكن معرفته إلا إذا كان شاملا لكل الأفراد مما يحتاج إلى تصور مسبق، افتراض خالص يقوم على تركيب الماهية، في حين أنها كل بسيط لا وجود له في الخارج إلا على سبيل الاختصاص. كما أن معرفة الماهيات أحد أنواع المعارف بالإضافة إلى بناء الماهيات الذي يحتاج إلى استدلال وعلم نظري. إن إثبات العلوم الاستدلالية ضد أصحاب المعارف القائلين بالعلوم الضرورية والمعارف القطعية إنما يتم من خلال العلوم الضرورية ذاتها. فلا يوجد علم بلا مبادئ أولية؛ وبالتالي ينتفي الجهل. وإذا انتفت المبادئ، كان الجهل ضروريا ونفي العلم. كما يقتضي التكليف العلم بالمبادئ الأولية، فلا يكلف على جهل. والتكليف بالمعرفة قائم على العلم بها ولا يمكن العلم بها نظرا لاحتياج ذلك إلى تكليف يوجب العلم بها ضرورة؛ وبالتالي تستحيل المعرفة ويستحيل التكليف. العلم ضروري وحده بلا علم نظري يدور حول نفسه، ويقع في الدور، ويغلق الذهن معه، ويتحجر العلم.
33
يمكن الجمع بين المعارف الضرورية والنظرية؛ فالأولى «بطبع المحل»، والثاني بكسب الجهد والإرادة. ولا يعني القول بالأولى الانتفاء للثانية، بل وجود مقدمات أولية للنظر. المعارف الضرورية ابتداء من المقدمات الضرورية. النظر وسيلة البرهان، وتحليل الواقع تحليلا معرفيا. يتوقف العلم الاستدلالي الكسبي على العلم الضروري؛ وبالتالي فهو يحتاج إلى روية وتدبر بعد بدايته اليقينية في العلم الضروري. لا استدلال بغير ضرورة ولا ضرورة بغير استدلال، بل يكون الاستدلال ضرورة إذا توافرت له المقدمات الضرورية اللازمة. والعلم الاستدلالي، أيضا علم شعوري؛ فالفكر، والروية، والنظر، والحجة، وامتناع الشك في متعلقه، كلها أفعال شعورية. ليس الاستدلال عملا عقليا صوريا، بل هو نظر القلب أو عمل الوجدان فيما غاب، من ضرورة الحس.
34
تحدث المعرفة الاستدلالية بالقياس، وهي المبادئ التي يتصور العقل طرفيها بواسطة، وهي تعادل الفطريات التي يحكم فيها بواسطة لا تغرب عن الذهن، وهي قضايا قياساتها معها. وإثبات الأصل بقياس يقوم على الحسيات أو العقل أو التواتر.
وكما أن العلم «الإلهي» لا يدخل كنموذج للمعارف الضرورية في هذه المرحلة من تأسيس العلم، فإنه لا يدخل أيضا كموضوع للعلم النظري من أجل إثبات ضرورته. فإذا كانت المعارف الضرورية هي المعارف الفطرية التي يجدها كل إنسان من نفسه، فإنها تكون بمثابة أوليات العلم والتي تقوم عليها نظرية العلم فيما بعد بالنظر كفعل من أفعال الشعور. صحيح أن هذه الفطرة تحتاج إلى بيئة طبيعية تظهر فيها دون تغليب للهوى والمصلحة. ولكن يظل أيضا هذا الاستعداد الطبيعي للفطرة أيضا نتيجة للأفعال الحرة للشعور. وإذا كان العلم الفطري عند البعض دون البعض الآخر ليس نتيجة لتدخل إرادة خارجية، فكذلك العلم النظري؛ نظرا لضرورة وجود مقياس للاختيار وإلا كان الاختيار عشوائيا. لا يمكن أن يكون إلا طبقا لاختيار عادل؛ مما يجعل «الإرادة الخارجية» نفسها تخضع لمبدأ العدل، خاصة إذا نتج عن هذه المعارف الضرورية أو النظرية التكاليف، فيكون من لديه هذه المعارف مكلفا والآخرون غير مكلفين، فيخرق مبدأ العدل مرة ثانية. لماذا لا تخلق المعارف الضرورية للبعض وينتج عنها تكليف، ولا تخلق للبعض الآخر ولا يكون لديهم تكليف؟ وإن كان للذين لم تخلق لديهم المعارف الضرورية «تكليف»، فإنهم يكونون أسوأ حظا ممن لديهم هذه المعارف. وتفعل «الإرادة الخارجية» إيجابا عند البعض وسلبا عند البعض الآخر بلا مقياس للاختيار أو للاستحقاق. إن المعارف الضرورية والنظرية شاملة وعامة لا تعرف تحيزا ولا محاباة. أما العمليات والشرعيات فإنها مشروطة بالإرادة الحرة وبخلق الأفعال وبقانون الاستحقاق. وهذه كلها تالية على مرحلة تأسيس العلم وليست جزءا منه. ولا يمكن أن ندخله في هذه المرحلة من تأسيس نظرية العلم.
35
وإذا كانت المعارف الضرورية لا تحدث إلا بعد نظر واستدلال ، فذلك ما يجعلها خاضعة لأفعال الإنسان الحرة مثل أفعال النظر، وبالتالي لا تكون ضرورية إلا من حيث الاستعداد والإمكان. والقول بأنه ما دامت المعارف تقع بالطبع لا يجوز التكليف بها يفترض أن التكليف يقع فقط من خارج الطبع مع أنه ما دامت المعارف طبيعية يجوز التكليف بها طبيعيا؛ أي عن طريق التكليف الذاتي. الطبع لا يناقض التكليف، وكلاهما لا يناقضان حرية الأفعال. المعارف الطبيعية مثل المعارف «بالتوليد» تعتمد أساسا على طبيعة النفس البشرية وقدرتها على كشف الحقائق المباشرة كالبديهيات أو المتولدة كالاستدلاليات.
36
كما لا يعني القول بالطباع رفض الدواعي والمقاصد؛ فالطبع لا يفعل إلا بعد التنشيط والفاعلية. البواعث حياة الشعور، والقصد بناؤه، والدوافع محركاته. فلا نظر بلا غائبة، والطبع ليس حتميا أو ضرورة عمياء، بل مقدمة للنظر وبداية للغائية؛ لذلك لا يعني القول بالطباع اتباع الشهوات والغرائز والميول، فالطبيعة خيرة، خاصة إذا ظهرت المعارف الطبيعية مع صدق النفس، والتوحيد بين الداخل والخارج، والإحساس بالغاية والهدف، والالتزام بموقف. يعني القول بالطبائع رفض كل ما هو آت من خارج الطبيعة والمناقض لها سواء في المعارف أو في الأفعال، سواء في الإنسان أو في الطبيعة. القول بالمعارف الضرورية إذن مقدمة للنظر وليس نفيا له، ولا فرق في ذلك بين التمكن من النظر وإتيان النظر بالفعل، بين إتيانه مرة واحدة على الانقطاع أو مرات عديدة على الاستمرار. وغالبا ما يكون النظر مستمرا في الأوقات، الأول، والثاني، والثالث ... إلى ما لا نهاية، ما دام «متولدا في الشعور». قد يكون المانع من النظر أحيانا الظروف النفسية والاجتماعية التي يتكون فيها الإنسان، ويكون ذلك في وقت محدود فحسب؛ فالنظر قادر على اختراق الظروف، وإدراك الحقائق.
رابعا: النظر يفيد العلم
لما كان العلم قسمين: علم ضروري وعلم استدلالي، أصبح النظر طريقا للعلم. فالاستدلال يقوم على النظر، وشهادة الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان كلها تستخدم في الاستدلال والنظر. فما النظر؟ (1) تعريف النظر
أعطى القدماء تعريفات عديدة للنظر؛ فالنظر هو «الفكر الذي يطلب به علم أو غلبة ظن.» وقد أثيرت حول هذا التعريف عدة إشكالات خاصة بالظن؛ لأن الظن غير المطابق جهل، والجهل لا يطلب، ولأن الظن غير أصل الظن، ولأن هذا التعريف ليس للماهية بل لأقسامها. والفكر لفظ زائد يمكن الاستغناء عنه. والحقيقة أنه تعريف مقبول لأن باقي التعريفات مذهبية خالصة، مثل: «اكتساب المجهول بالمعلومات السابقة» أو «ترتيب أمور معلومة أو مظنونة للتأدي إلى آخر»، وهو تعريف غير جامع كما أنه يصح لمطلق النظر وليس للصحيح منه، ويكون أشبه بالاستدلال. وقد تحول هذا التعريف في علم أصول الدين المتأخر إلى تعريف منطقي، فأصبح إحضار أصلين في الذهن وطلب التفطن إلى حصول أمر ثالث منهما؛ أي ترتيب تصورات للحصول على تصديقات. وقد يكون هو مجرد التوجه إما بتجريد الذهن عن الغفلات أو بتحديق العقل في المعقولات. الأول تحريك عدمي والثاني وجودي. وهو وصف لنشاط الذهن وتجرد الشعور، وليس للنظر ذاته؛ إذ إن النظر لغة هو الإبصار. الأول موجه نحو الداخل والثاني نحو الخارج. الأول تنبيه للذات ويقظة لها من غفلتها، والثاني توجيه لها نحو الموضوع وقصدها إليه. والانتظار لا يعني حضور الشيء من الخارج، بل قد يعني حضوره في الشعور. وقد يعني العطف والرحمة لا بمعنى خلقي بل بمعنى معرفي. وقد يعني المقابلة، مقابلة الذات للموضوع أو التفكر بالقلب؛ أي اكتشاف الموضوع في الشعور. النظر إذن تحول الموضوع من البصر إلى الشعور، ومن الرؤية الخارجية إلى الرؤية الداخلية. النظر حياة الشعور، والموضوع الخارجي ما هو إلا الباعث على النظر وليس جزءا من النظر بعد أن يتحول الموضوع الخارجي إلى موضوع داخلي. النظر حركتان للنفس: الأولى نحو المطلوب قصدا وغاية؛ أي اتجاه من الذات نحو الموضوع، والثانية من المطلوب ترتيبا ومراجعة اتجاها من الموضوع نحو الذات. الأولى من أجل الحصول على المادة، والثانية من أجل الحصول على الصورة. العلم الحاصل من النظر علم شعوري يتم في الشعور، ويشمل الشعور الحس للحصول على المادة، والعقل لتحليلها. النظر إذن هو حال الناظر وعمل شعوره، كما أن العلم حالة العالم وعمل شعوره، وكما أن الإرادة حال المريد، والفعل حال الفاعل. لا يعني الحال مجرد حديث داخلي للنفس، بل يعني خروج هذا الحديث على مستوى التأمل والتفكر، حال طمأنينة النفس وسكونها إلى ما تعتقد بعد البحث والبرهان.
1 (2) قسمة النظر
ينقسم النظر إلى صحيح وفاسد. ولما كان لكل نظر صورة ومادة؛ أي كيفية ترتيب المقدمات ثم المقدمات ذاتها، فقد يفسد النظر من خطأ في الصورة أو من خطأ في المادة أو من خطأ في كليهما. والنظر الصحيح هو كل ما يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل. فصحة النظر من صحة الدليل. وكل فساد يطرأ على الدليل يطرأ على النظر. وفي علم أصول الدين المتأخر عندما تتحول نظرية العلم إلى نظرية في المنطق يصبح النظر صحيحا بصحة مادته وصورته. يصح النظر إذا ما أدى إلى معرف في التصور وإلى دليل في التصديق. وصحة مادة التصور أي المعرف أن يكون الجنس جنسا والفصل فصلا، وأن يكون الحد التام من الجنس والفصل القريب، وهي شروط الحد التام. وصحة الصورة أن يتقدم الأعم على الأخص. ويصح النظر في التصديق إذا كانت المقدمتان في حادثة متناسبتين للمطلوب قطعا أو ظنا أو فرضا. ويصح في صورته إذا كانت على ما هو موصوف في أبواب القياس والاستقراء والتمثيل. وهنا تتحول نظرية الصدق في العلم إلى نظرية الصدق في المنطق، فيحتوي على المنطق، وهو من علوم الحكمة، علم العقائد، وهو علم أصول الدين. وأحيانا تستعمل لغة المطابقة دون تحديد طرفي التطابق هل هما الفكر مع نفسه أم الفكر مع الواقع.
2
وقد ينقسم النظر إلى خفي وجلي؛ وبالتالي يكون النظر في حاجة إلى منهج في الإيضاح.
3
تتفاوت مراتب النظر في الوضوح؛ هناك الجلي الواضح الذي يلوح من غير بحث، يدركه الناظر البعيد والقريب. وهناك النظر الخفي وهو ما يدق ويتخصص، ولا يدركه إلا الناظر الداني. وهي القسمة الأصولية المعروفة للقياس إلى الجلي والخفي. وذلك طبيعي في حركة العلم في الشعور وسكون النفس إليه. قد يكون هناك نظر خفي يحتاج إلى تدقيق، وهنا تأتي مهمة الإيضاح كفعل من أفعال الشعور لتوضيح الخفي، وتحويله إلى جلي. والخفاء والجلاء مقولتان من حيث درجة البداهة ومستوى الحدس. الجلي يستند إلى الضروري استنادا مباشرا، والخفي يستند إليه استنادا غير مباشر، ويحتاج إلى مزيد من النظر والبحث والاستدلال. ويوجد الجلاء والخفاء إما في الصورة أي في طرق الاستعمال وإما في المادة أي في مقدمات الاستدلال، وتفاوتها في مستوى التجريد. ومع ذلك أنكر بعض القدماء قسمة النظر إلى جلي وخفي؛ لأن النظر لا يكون جليا أو خفيا؛ النظر مجرد آلة أو وسيلة تؤدي إلى نتيجة أو غاية. الجلاء والخفاء يوجدان في الدليل أو في الشبهة دون البحث والنظر. وكما لا يوصف النظر عند القدماء بالجلاء والخفاء كذلك العلم، لأن العلم ضد الخفاء. ولا يوجد علم أبين من علم، لا فرق في ذلك بين العلم الضروري والعلم النظري أو بين علوم الأنبياء وعلوم الصديقين وعلوم البشر. ومع ذلك، لما كان العلم يشمل بداية وهو التصور، ونهاية وهو التصديق، ومسارا وهو سكون النفس، فإن حركة العلم تتم باستمرار بأفعال الشعور، ويتراوح بين الجلي والخفي. وتكون من مهام الشعور عملية الإيضاح المستمرة من أجل الحصول على الجلي الدائم؛ فيحدث اليقين في العلم وتطمئن النفس. لا يكون الخفاء والجلاء في العلم من حيث هي نتيجة، بل من حيث سكون النفس إليه ومن حيث بداهة الرؤية. فالمقصود هنا نظرية العلم أو علم العلم وليس العلم في ذاته من حيث هو مجموعة من النتائج والقوانين. قد يتفاوت الخفاء والجلاء من لحظة إلى أخرى، ومن تجربة إلى أخرى، ومن فرد إلى آخر. وفي العلوم الضرورية تتفاوت البداهة الحسية والعقلية والوجدانية بين القوة والضعف أو بين الوضوح والخفاء، ويكون التفاوت هنا في الدرجة لا في النوع. (3) النظر الصحيح يفيد العلم
بالرغم مما يبدو على ذلك من تحصيل حاصل، إلا أنه في حاجة إلى إثبات؛ نظرا لأن العلم ضروري ونظري، وردا على احتمال الوقوع في الدور؛ نظرا لإثبات العلم النظري بالنظر.
4
وقد يتحول إلى سؤال عن طريق القلب فيصبح: وهل النظر الفاسد يستلزم الجهل؟ وتكون الإجابة: إذا كان النظر الصحيح يفيد العلم، فالنظر الفاسد يستلزم الجهل مطلقا، سواء كان الفساد من المادة أو من الصورة.
5
لا يورث النظر الفاسد علما أو رأيا من مضاداته مثل الشك والظن والوهم والجهل والتقليد، سواء كان الفساد في صورة الدليل أم في مادته. وذلك لأن الجهل اعتقاد جازم غير مطابق، في حين أن النظر الفاسد نقص في معرفة الدليل أو وجه الدلالة أو وقوع في شبهة. واعتبار النظر الفاسد يفيد الجهل تأكيد على أهمية النظر الصحيح وتحذير من الوقوع في النظر الفاسد الذي لا يكون فقط سبيلا إلى نقص في العلم بل إلى وجود الجهل. هو حماس للنظر الصحيح وحرص عليه. أما اعتبار النظر الفاسد لا يؤدي إلى الجهل فهو تحليل موضوعي لعلاقة النظر بالعلم. النظر آلة والعلم نتيجة، وعيب الآلة لا يؤدي إلى النتيجة المضادة. الجهل سابق على النظر، ولكنه لا يتلو النظر الفاسد. النظر الفاسد خطأ يمكن تصحيحه، وإعمال النظر في حد ذاته جهد بصرف النظر عن نتائجه. أما اعتبار النظر الفاسد مؤديا إلى الجهل من حيث المادة وليس من حيث الصورة؛ لأن الصورة يمكن تصحيحها دون المادة، فذاك إعلاء من شأن الصورة على المادة وتحويل نظرية العلم إلى نظرية صورية خالصة كما هو الحال في المنطق القديم، في حين أن المادة أيضا يمكن تصحيحها بإكمالها وجعلها ممثلة للمجموع، ومن ثم تتأسس نظرية العلم بجانبيها الصوري والمادي على السواء.
والحقيقة أن هذه القضية، أن النظر الصحيح يفيد العلم، موجهة عند القدماء ضد مذاهب وفرق معينة تنكر أن يكون النظر مؤديا إلى العلم، وهي السمنية التي تجعل المعرفة مقصورة على الحس،
6
والمهندسون في الإلهيات الذين يجعلون النظر مفيدا للعلم في الهندسيات وحدها، والقائلون بالعلم دون النظر، والصوفية القائلون بالإلهام، والفقهاء أهل الأثر الذين يرون في الوحي بديلا عن النظر. (أ)
وقد وجهت السمنية ثلاث حجج ضد النظر: الأولى أن العلم الحاصل بالنظر إن كان ضروريا بان خلافه، وإن كان نظريا لزم التسلسل. وبعبارة أخرى إن العلم الضروري لا يحتاج إلى نظر وإن احتاج إلى نظر لزم الدور لإثبات العلم النظري. والحقيقة أن العلم الضروري لا يحتاج إلى إثبات من العلم النظري وإلا لما كان ضروريا. فهناك بداهة الحس، وأوائل العقل، ومعطيات الوجدان التي لا خلاف عليها. أما العلم النظري فهناك اتفاق على وجوده بإجماع العقلاء، يستند إلى الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر؛ وبالتالي فلا وقوع في الدور. والثانية أن المطلوب إذا كان معلوما فلا طلب له، وإن لم يكن معلوما فكيف نعرفه؟ وبتعبير آخر، إذا كان المطلوب معلوما فلا فائدة في طلبه، فإن وجد فكيف يعرف أنه المطلوب؟ والحقيقة أن المطلوب يعلم كافتراض ثم يطلب التحقق من صحته بصرف العموم وطلب التخصيص، أو يعرف المبدأ النظري ويطلب كيفية التحقيق العملي له. والثالثة أن الذهن لا يقوى على استحضار مقدمتين، وبالتالي يستحيل النظر. والحقيقة أن العلم بحضور مقدمتين لا تستلزم نتيجة إلا بعمل الشعور وحصول تجربة؛ إذ لا تحصل النتائج من المقدمات حصولا آليا حتميا بمجرد حضور المقدمتين. لا بد من توجيه الوجدان، فالذهن والوجدان شيء واحد مع الموضوع. الذهن مجرد قدرة على تحليل الموضوع في الشعور ورؤية حدسية له. وهناك حجج أخرى عديدة للسمنية تفصيلا لهذه الحجج الرئيسية الثلاث. منها ما يعتمد على ضعف الأدلة، في حين أن ضعف الأدلة لا يعني خطأها؛ فهناك أدلة يقينية برهانية، ومنها ما يعتمد على وجود المعارض؛ لأن النظر يفيد العلم فقط في غياب المعارض لا في حضوره، مع أن النظر يقتضي غياب المعارض والرد عليه. والمعارضة في نهاية الأمر جزء من النظر أو النظر المقابل. ومنها أنه إذا وجب النظر المؤدي إلى العلم وجب التكليف، والتكليف غير مقدور، وهذا إعلان لعجز العقل وضعف الإرادة؛ فالإنسان مكلف بعقله على النظر وبإرادته على الفعل، وفي حقيقة الأمر إن معظم الحجج التي تقدمها السمنية حجج صورية خالصة، هدفها إثبات القضية والدفاع عن المذهب، وتعبر عن موقف مسبق، ولا تؤسس نظرية متكاملة في العلم. فلا تعني المعرفة الحسية إقصار المعارف كلها على الحس. بل إن الحس نفسه يشمل العقل والبديهة والوجدان والمشاهدة والحدس والتواتر ومجرى العادات، وليس فقط ما يأتي من الحواس الخمس. كل البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما اختلف الناس فيه منشؤها الحس. إن الاقتصار على المعرفة الحسية والشك في المعرفة العقلية إنكار لليقين الحسي والعقلي والوجداني في آن واحد. وإنكار ليقين التواتر الذي يقوم على شهادات الحس والعقل والوجدان. هناك أوليات العقل التي تمنع من التسلسل إلى ما لا نهاية، وهناك العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر، وهناك العلم الحدسي الضروري والعلم النظري الاستدلالي الموصل إلى اليقين. ويثبت يقين العلوم باجتماع المعارف الحسية والعقلية والحدسية والوجدانية والمتواترة إن كان الذهن لا يقوى على استحضار المقدمات أو نشأ منه خلاف. والشك في المعارف اليقينية الأخرى في نهاية الأمر ليس من قبيل المعرفة الحسية، بل معرفة تثبت أن المعارف ليست كلها معارف حسية.
7
ولم يقتصر القدماء بالرد على حجج السمنية، بل وجهوا إليهم حججا، شافعين الدفاع بالهجوم، ومكملين السلب بالإيجاب؛ فالعلم بفساد النظر ليس من قبل المحسوسات، بل يحتاج إلى نظر، والعلم بفساد النظر ليس إما ضرورة أو بالنظر، ولما امتنعت الضرورة لم يبق إلا النظر. ومهاجمة النظر نظر، إما أنه لغو لا يعتد به، أو أنه يتم بالنظر، وهذا إثبات للنظر. كما أن مهاجمة النظر تحتاج إلى نظر، ومعارضة الفاسد للفاسد يحتاج إلى نظر. ولا يمكن أن تتم مهاجمة النظر عنادا وإنما تتم بالنظر. والشك في النظر أنه مؤد للعلم يذهب بالدليل ويعتمد عليه، والدليل يؤدي إلى النظر، والنظر يفيد العلم. ومن ثم ثبت بالدليل أن النظر يفيد العلم ثم وقع إنكار لذلك، فإنما يكون مجرد عناد.
8
قد يكون هدف السمنية من حصر المعرفة في الحسية وحدها، وإنكار أن النظر يفيد العلم هو إثبات استحالة ثبوت «الصانع»؛ فالصانع ليس موضوعا حسيا حتى يدرك بالحس، والنظر لا يفيد العلم، وبالتالي لا يمكن معرفة الصانع أو إثباته. وإذا ثبت بالوحي مثلا ظل متوقفا على الدليل العقلي؛ وبالتالي فرض المذهب العقائدي نفسه على نظرية العلم فبترها. ليس لدى الإنسان إلا تأسيس نظرية في العلم، وبعد ذلك لا يهم الموضوعات التي تتأسس في هذه النظرية. وقد يثبت العلم النظري ويظل إثبات الصانع مستحيلا، فلا صلة بين إثبات العلم النظري وإثبات الصانع ضرورة. و«الصانع» الذي لا يثبت بالنظر الذي يفيد العلم يكون خارج نطاق العلم الإنساني. وإن توقف «الصانع» على العلم بالدليل توقف إنساني. ليس لدى الإنسان وسيلة لإثبات أو لنفي إلا النظر المفرد للعلم، والعلم بالدليل وبوجه الدلالة. الموضوعية خارج نطاق العلم ادعاء خالص، وهدم للعلم، وإفساح المجال للإيمان، وبالتالي ترسب الجهل ثم الطغيان.
9 (ب)
أما المهندسون في الإلهيات فإنهم يثبتون أن النظر يفيد العلم في الهندسيات، خاصة والعلوم الرياضية عامة، ولكن قد لا يفيده في الإلهيات. وإن أقصى ما يستطيع النظر أن يفيده في الإلهيات هو الظن والأخذ «بالأحرى أو الأخلق»؛ أي بالأولى، وبالمقارنة، والأجدى، وهي براهين نفسية خالصة تقوم على التعالي أو المفارقة. وهي تجربة شعورية أصيلة للتجاوز والبحث عن الصوري والعام والشامل. إذا كان موضوع الإلهيات هو «ذات الله»، فإن أقصى ما يستطيع أن يصل إليه النظر هو الظن إما عن طريق التشبيه لإثبات شيء أو عن طريق التنزيه لنفي شيء آخر. ولهم في ذلك حجتان، الأولى أن الحقائق الإلهية لا تتصور وبالتالي يستحيل التصديق. وكل ما يمكن تصوره هي أعراضها وصفاتها وآثارها وتجلياتها. وبالتالي ليس أمامنا إلا الظن والتقريب، وقياس الغائب على الشاهد إن شئنا معرفة إيجابية تقريبية أو عن طريق التنزيه إن شئنا معرفة مجردة خالصة. الأولى معرفة أدبية تقوم على التشبيه والقياس، والثانية معرفة عقلية تقوم على التنزيه ورفض القياس. الأولى تقرب بين المتشابهين والثانية تفرق بين المتمايزين. الأولى تقوم على التقريب والمحايثة أو الحلول والثانية تقوم على الإبعاد والتعالي أو المفارقة. بل إن «قياس الأولى» الذي يدل على التعالي والمفارقة هو قياس يقوم على التعظيم والتبجيل والاحترام، وهي العواطف الإنسانية التي تكمن وراء عملية التأليه، والتي تكشف عن موقف اجتماعي هو التقديس للأشخاص، وعن وضع سلوكي في العالم وهو التحقيق عن طريق التزلف وليس عن طريق الفعل. والثانية أن أقرب الأشياء إلى الإنسان وهي هويته غير معلومة بحيث كثر عليها الخلاف، ولم يعد من الممكن الجزم بأحد الأقوال المتنازعة، فما بالنا بأبعد الأشياء عنا؟ وأن مقالات الإسلاميين وغير الإسلاميين في «ذات الله» قد اختلفت وتباينت وتضاربت حتى لم يعد الإنسان قادرا على التمييز بين الحق منها والباطل. ويشهد على ذلك علم الكلام نفسه. والكل يدعي النظر والحجة ويقدم الدليل والبرهان بينما الاتفاق على العلوم الرياضية وارد وموجود يتفق عليها العقلاء والناظرون. وبالتالي فالنظر لا يؤدي إلى علم واحد في الإلهيات. والحقيقة أن ذات الإنسان ليست مجهولة، فكل منا يشعر بوجوده، ونفسه أقرب الأشياء إليه. أما ذات الله فإنها لم تدخل بعد في نظرية العلم حتى يمكن الحديث عنها. فإذا ما تأسست نظرية العلم يمكن الحديث بعد ذلك عن «الوعي الخالص» أو الذات، وليس قبلها.
10
والوعي الخالص إذا ما تم إثباته يكون أقرب الأشياء إلى النفس لأنه وعي الوعي أو الوعي بالنفس. فإذا كانت «ذات الله» صورة تشبيهية لوعي الإنسان بذاته، فإن معرفتها تتم بالرجوع إلى هذا الوعي. وإذا كانت ذات الإنسان مضاعفة إلى ما لا نهاية، فإنها تكون معروفة لديه قدر معرفته بذاته. يكفيه استرداد ما خرج منه دفعا أو قصرا. ويمكن للناظرين والعقلاء الاتفاق على الوعي الخالص وصفاته وأفعاله مهما تباينت بشرط العود إلى الوضع الشرعي للإنسان في العالم والقضاء على اغترابه فيه.
11 (ج)
أما القول بالمعلم كبديل عن النظر، فإنه لا يؤدي إلى تأسيس العلم.
12
وقد اعتمد القدماء لرفضه على حجة جدلية، وهي أن المعلم يحتاج إلى معلم، وهذا إلى ثالث، حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، أو ينتهي إلى مصدر للعلم هو العقل أو الوحي. وافتراض عقل كامل لا يحتاج إلى تعليم هو نفسه افتراض النبي أي الوحي وليس المعلم. ولما كان الوحي يعلم بالعقل كان العقل نقطة البداية في نظرية العلم وليس المعلم. القول بالمعلم إنكار لقدرة العقول على الوصول إلى الحقائق وإنكار للنظر، مع أن الوحي قد حث على النظر ورفض اتباع أي شخص حتى ولو ادعى العلم والإلهام وبلغ به الأمر حد ادعاء الألوهية. إن القول بأن النجاة لا تتم إلا بمعلم بدليل وجود النبي عن طريق الإيمان؛ يستلزم صدق المعلم كصدق النبي. فإذا كانت المعجزة - وهي دليل صدق النبي - ليست أصلا من أصول العلم، فالعلم لا يقوم على حوادث تاريخية، فما الدليل على صدق المعلم؟ والوحي الذي أتى به النبي يدعو إلى النظر والإيمان عن طريق البرهان، وهو طريق المعلم إن أراد التشبه بالنبي. والإلهام ليس طريقا لمعرفة صدق المعلم؛ لأن الإلهام ذاته في حاجة إلى تصديق، وبالتالي لا يكون أساسا للعلم.
13
وإن حاجة الناس إلى المعلمين في العلوم العويصة لا يمنع من وجوب النظر. فمهما أوتي المعلم من مهارة دون نظر من المتعلم فلن يحدث العلم، ولن يتعدى العلم التقليد دون الفهم، والنقل دون الإبداع، والحفظ دون الاجتهاد. إن الخلاف في النظر لا يقدح فيه؛ لأن هناك مقاييس للصواب والخطأ. كما أن الخلاف بين المعلمين لا يقل شأنا عن الخلاف بين النظار خاصة وأنه لا توجد مقاييس للاختيار بين المعلمين إلا التقليد. إن الخلاف في النظر سواء كان في أسهل الأمور أم أصعبها لا يدحض النظر؛ لأن النظر الصحيح لا يؤدي إلى الخلاف. والبرهان قادر على حسم التعارض بين الآراء والتمييز فيها بين الصواب والخطأ، وصعوبة النظر لا تنفي النظر. يمكن للمعلم أن يزيح بعض أسباب الشكوك وأن يوضح بعض جوانب الصعوبة ولكنه لا يعلم من الألف إلى الياء وإلا كان الإنسان مجرد متلق للعلم. ومن أين يأتي علم المعلم؟ لا يأتي من وحي خاص؛ فذاك طريق النبوة، ولا من تفسير الوحي؛ فذاك مشاع للجميع بالعلم بقواعد اللغة وأسباب النزول، ولا من الإلهام؛ فذلك ليس طريقا للعلم. لم يبق إلا النقل والتقليد والوراثة وهو ما يغيب عنه التحقق من صدقه. والعلم بلا نظرية في التحقق أو الصدق لا يكون علما. صحيح أن النظر وحده قد لا يكون نجاة، ولا بد من معلم عملي يهدي ويرشد. ولكن النظر ليس هو النظر الخالص، بل هو مقدمة للعمل، فالعمل جزء من النظر. وكان كبار معلمي الإنسانية من النظار الذين يوحدون بين النظر والعمل.
14
قد يكون المعلم عاملا مساعدا على النظر ولكنه لا يكون بديلا عنه وإلغاء له. التعليم أقرب إلى الإرشاد والتوجيه نحو الحقائق منه إلى إعطاء هذه الحقائق نفسها. مهمته مساعدة الإنسان على كشف الحقائق بنفسه دون أن يعطيها له جاهزة بالتلقين. وقد يكون ما نعاني منه في مناهج تعليمنا وتربيتنا من تلقين وفرض للوصايا على العقول من آثار هذا التصور للمعلم مع أنه ليس هو التصور «السني».
15
ولكن يبدو أن طبيعة المجتمع المتخلف تتفق مع هذا التصور «الشيعي التاريخي» الذي كانت له ظروفه الخاصة في مجتمع المضطهدين. إن اتباع الإمام في كل ملة فيما يتعلق بنظرية العلم كبديل عن النظر لدليل على التخلف، ويمثل التيار المحافظ الموجود في كل جماعة. وكلما جهلت الجماعة قوى احتمال ظهور المعلم، تظهر وظيفة المعلم في جماعة تقسم أفرادها بين الدهماء الجاهلة والمعلم الواحد الملهم المعصوم، الرئيس القائد الزعيم المجاهد. وقد تسرب هذا التصور أيضا إلى علوم الحكمة من الفكر «الشيعي التاريخي». فهو أقرب إلى الإمام المعصوم من الولاية العامة في الفكر «السني النمطي». وقد تتقدم المجتمعات «السنية» تاريخيا برفض سلطة الإمام المعصوم الذي يظهر في صورة رئيس ملهم، ورفع الوصايا النظرية والعملية عن الناس كما حدث في كثير من حركات الإصلاح الديني في كل الديانات والملل. إن طاعة الناس للقائد الإمام ليس لأنه معلم معصوم، بل لأنه يمثل قيادة ثورية تقود نضال الشعوب، وتعبر عن مصالح الجماهير، وتحقق أهدافها القومية. اتباع المعلم أو الإمام المعصوم تقليد، وتعويض عن غياب اليقين بالتبعية، واستبدال اليقين الداخلي؛ يقين التصديق، بيقين خارجي؛ يقين الاتباع، وبالتالي ترك النظر والبحث إلى الطاعة والتبعية، وهو ما تقوم عليه كل أنظمة الحكم التسلطية باسم السلطة الدينية تدعيما للسلطة السياسية. إن التقليد بين مضادات العلم مثل الجهل، وليس أساسا لنظرية في العلم؛ يؤدي إلى التهلكة إذا ما أخطأ المعلم ما دام لا توجد مراجعة عليه. ولا يبقى أمام الناس إلا الثورة عليه، والانقلاب من الطاعة المطلقة إلى العصيان المطلق. أما النظر، فإنه طريق النقد وبالتالي سبيل التحرر، على عكس المعلم الذي يؤدي إلى التسليم والقبول ثم إلى الطاعة والإذعان.
16 (د)
أما أصحاب الإلهام مثل الصوفية، فإنهم ينكرون أيضا أن يكون النظر مفيدا للعلم، ويجعلون الإلهام طريقا للمعرفة، ويعنون به فيض المعرفة على القلب دون إعمال نظر أو تدبر أو روية. ولم يظهر في علم أصول الدين إلا مؤخرا عندما ازدوجت الأشعرية بالتصوف؛ نظرا لتوحيد بعض العلماء المتأخرين بين العلم والمعرفة.
17
والحقيقة أن الإلهام قول بلا برهان، وذاتية خالصة فارغة لا تعتمد على أوائل العقول بل على نقائضها، كما لا يمكن التعبير عنه أو البرهنة عليه أو إيصاله إلى الآخرين أو التحقق من صدقه أو مراجعته وتكراره واطراده. يمكن اعتبار ما يأتي من الإلهام على أقصى تقدير مجرد افتراض يمكن التحقق من صحته بالبرهان عن طريق النظر؛ لذلك فنده القدماء بحجة جدلية مؤداها أنه لا يمكن معرفة الإلهام بالإلهام وإلا تسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، وهي نفس الحجة الموجهة ضد المعلم. لا يعرف الإلهام إلا بالنظر وذلك إثبات للنظر طريقا للعلم. ولما كان الإلهام كل ما يفيض على القلب دون نظر أو رؤية، فهل كل ما يحدث في قلب الإنسان من جحود وإنكار للحقائق وخيانة وعمالة وبيع للبلاد يكون إلهاما؟ وبالتالي يؤدي الإلهام إلى إنكار الحقائق بدلا من إثباتها، وأن كثيرا مما أصابنا من شكوك في مبادئنا الوطنية ومشروعنا القومي إنما حدث نتيجة لدعاة الإلهام والأنوار الربانية في الوادي المقدس، وأثناء الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أو فوق قمم الجبال بالقرب من السماء، وهو حتما خداع في خداع. فكثيرا ما تتم الحوادث بالزيارات والترتيبات والتنسيق والتدبير بالفعل، ويكون الإلهام آنذاك أشبه بالسحر الذي يخفي الحقائق الفعلية من أمام المشاهدين وأن وجود الشك والتردد والظن في حياة الإنسان ليمنع من الإلهام لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب فهو اعتقاد جازم ويقين ثابت أقرب إلى مضادات العلم منه إلى العلم. وإذا كان الإنسان قادرا على التمييز بين الخطأ والصواب في المعتقدات، فإنها لا تكون إلهاما يقذفه «الله» في القلب، لا يقف أمامه تريث أو رؤية أو قدرة على التمييز بين الأشياء. وإذا بطلت بعض المعتقدات مثل التجسيم والتشبيه فإنها لا تكون إلهاما؛ لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب طبقا لمدعيه. يصعب إذن التمييز بين الإيهام والإلهام، وإن ارتداد الإنسان كلية عن موقف إلى موقف مناقض أو ترجيح أحدهما على الآخر لا يمكن أن يحدث بالإلهام؛ لأن الإلهام لا يتغير في حقائقه المعطاة. ولما كان الإلهام يأتي من أعلى فإنه يجعل الإنسان مجتث الجذور في الواقع؛ إذ يجعل مصدر معرفته خارج العالم، وبالتالي يعمى عن الواقع وعما يحدث فيه، ويعيش الإنسان مغتربا في العالم، نافيا وجوده، ومصدر علمه، جاهلا بقوانينه. أما استعمال العقل فإنه عود إلى الواقع واكتشاف لقوانينه، واستعمال لمنهج التحليل والمراجعة والإحصاء. وهذا ما يحدث في حياتنا المعاصرة التي يسودها الإلهام كمصدر رئيسي للمعرفة إن لم يكن مصدرها الأول حتى في قمة السلطة السياسية التي بيدها قرار السلم والحرب والتي عليها مهمة تحرير الأرض. وهو أقرب إلى الارتجال والعشوائية ونقص العلم وادعاء البطولة منه إلى الإلهام الشعري أو الصوفي. بل يوجد الإلهام عند كل صاحب إمارة وعند كل رئيس مصلحة. وهنا يكون الإلهام تعويضا عن نقص في المعرفة أو رغبة في التسلط على رقاب الناس. إن رفض الإلهام كطريق للمعرفة ووسيلة للعلم وبديل عن النظر هو في نفس الوقت استمرار لموقف القدماء وتأكيد على ضرورة النظر في حياتنا المعاصرة درءا لأخطار والوهم والإيهام - ورفضا لكل الوصايا النظرية والعملية عن الجماهير، وإنهاء لتبعيتها لغيرها وردها إلى ذاتها، وأخذها لمصائرها بيدها. وعلى هذا النحو تعود الجماهير إلى الوحي الذي يقوم على النظر، ويكون الوحي قد عاد إليها، وهي القادرة على النظر فيه.
ولا يعني ذلك إنكار الحدوس من حيث هي رؤى مباشرة للواقع تؤدي إلى نوع من المعارف الضرورية؛ وذلك لأن الحدس يقوم على الاهتمام بالموضوع والتركيز عليه، وليس مجرد فيض في القلب بلا مقدمات. ويمكن تحليله بعد حدوثه بالعقل، والتحقق من صدقه بالحس، ومطابقته للواقع بالرؤية. الحدس إحدى وظائف العقل الرئيسية من داخله وليس من خارجه، ابتداء من الحس المباشر إلى الحدس وما بينهما من مدركات حسية وتصورات عقلية واستدلالات نظرية؛ العقل هو الحياة الواعية للشعور. كما لا يعني ذلك إنكار المعارف الضرورية أو العلوم الذوقية والأدبية كالشعر والتصوف؛ فالتجربة الشعرية تعطي معرفة مباشرة، وللشعر قدرة على تصوير الواقع ورؤيته. ولا تقل التجربة الشعرية صدقا عن الاستدلال النظري، بل إن الشعراء أحيانا أصدق رؤية من كثير من المنظرين، ومع ذلك يأتي علم العروض والأوزان ليحول هذه التجربة الشعرية إلى علم عقلي استدلالي له قوانينه ومقاييسه المحددة. تجد التجربة الشعرية أحكامها في فن الشعر وصناعة الألحان، كما أن التجربة الصوفية لم تحدث بغتة، بل سبقتها مقدمات هي الرياضات والمجاهدات حتى يتحقق شرط العلم، ومع ذلك، تجد التجربة الصوفية كمالها في تنظيرها وتحويلها إلى علم عقلي؛ لذلك اجتمعت علوم الذوق وعلوم النظر معا في «حكمة الإشراق». يمكن للتجربة الصوفية أن تكون موطنا لظهور الدلالات، وتكون حينئذ التجربة الإنسانية العامة الفردية والاجتماعية والتاريخية وليس فقط التجربة الخلقية، بل إنه يخشى من التجربة الخلقية أن تكون قائمة على أساس مرضي، ونقص في الشجاعة، وضعف في السلوك أو على حرمان وكبت غالبا ما يكون جنسيا أو سياسيا؛ نظرا لحاجة الإنسان إلى الحب والثورة. قد تعني التجربة الصوفية تصفية القلب، وسلامة الطوية، وحسن النية، وظهور عاطفة نبيلة تجعل الإنسان قادرا على إدراك الدلالات؛ نظرا لما تحدث المشاعر النبيلة من إرهاف للحس، وتبصرة بالمدركات مثل عواطف الحب والإخلاص والتضحية والوفاء. هناك إذن فرق بين الإلهام الصوفي وحدس الشعور أو تجربة الوجدان؛ الأول ذاتية خالصة لا يمكن التحقق من صدقها إلا بإعادة التجربة ذاتها من الآخرين، في حين أن حدس الشعور موضوعي يمكن التحقق من صدقه؛ الإلهام الصوفي لا عقلي ولا يخضع لتحليل العقل، في حين أن الشعور حدس عقلي يمكن تحليله بالعقل؛ لأن موضوعه معان ودلالات مستقلة وماهيات. يحدث الذوق الصوفي نتيجة للمجاهدة والرياضة في حين يحدث حدس الشعور نتيجة للشعور اليقظ وتوافر الدواعي والمقاصد والاهتمام والصدق مع النفس والالتزام بموقف اجتماعي وحركة التاريخ. (ه)
أما نفي النظر بدعوى النقل والأثر والوحي والنبوة والنص والحكم والأمر، فإن ذلك هدم للوحي ذاته وقضاء للنبوة ذاتها؛ فالعقل أساس النقل، ومن يقدح في العقل يقدح في النقل. وطالما أثبت الفقهاء «اتفاق صحيح المنقول لصريح المعقول».
18
لا يعني اكتمال الوحي انتفاء النظر، بل يعني نهاية الوحي بعد تطور طويل، ومراحل متعددة حتى تحقق استقلال الإنسان عقلا وإرادة. أصبح قادرا بعقله على الوصول إلى الحقيقة ومستقلا بإرادته على تحقيق فكره ومثله، ورفضه جميع الوصايا عليه من السلطتين الدينية والسياسية باسم الإيمان مرة وباسم الزعامة مرة أخرى. كما يعني ثانيا وضع الشريعة باعتبارها نظاما للحياة دائما، وليس لمكان معين أو زمان محدود أو لفترة تاريخية بعينها أو لشعب خاص أو دفاعا عن مصالح طبقة ضد أخرى. ويكون دور العقل استنباط هذه الشريعة من أدلتها الشرعية وتفصيلها طبقا للمجتمعات المختلفة. لقد أعطى الوحي الأسس العامة وترك التفصيلات لعمل الأجيال واجتهاداتها. كما يعني ثالثا بداية عملية الفهم والتفسير والتأويل. الوحي صامت لا يتحول إلى فكر أو سلوك إلا بالفهم والعمل، الوحي ذاته يتأسس في العقل وفي الواقع وفي الجماعة وفي التاريخ؛ ومن ثم كان الفهم هو موطن الوحي ومحله. ومن خلال الفهم يتحول الوحي إلى واقع، وبناء اجتماعي، وحركة تاريخ.
ولا يعني بيان الوحي لكل شيء انتفاء النظر، بل يعني أن الوحي قد حوى كل الأسس العلمية التي يمكن عليها إقامة نظام في الحياة، وأنه لم يترك أساسا إلا بينه. وقد يعني البيان أيضا إعمال النظر وحدوث البيان بالعقل. وظيفة العقل تحويل هذه الأسس العامة إلى نظام معين لجماعة معينة في عصر معين. وتلك وظيفة الاجتهاد كأصل من أصول الشريعة، بيان الأصل يتطلب استنباط الفرع، ولا استنباط بغير نظر، لا يعني إثبات النظر أي تطاول على النبوة. صحيح أن النبوة تفصيل للوحي وتبيان له كنموذج أول وكنمط يمكن الاسترشاد به، ولكن الواقع يتغير، ويحتاج كل عصر إلى تفصيل أكثر نظرا لما يحتويه الواقع من جدة مستمرة. فإذا كان للوقائع الجديدة ما يشابهها في الوقائع النمطية في الوحي، في الكتاب أم في السنة، أخذت أحكامها. ولا توجد واقعة جديدة إلا ولها أصل في الوحي. النظر إذن زيادة بيان وتفصيل بالقياس إلى بيان النبوة وتفصيلها بالنسبة إلى الوحي، خاصة وأن الوحي ذاته يقوم على النظر، والنبوة أيضا تقوم على النظر قياسا على الوحي. ليس النظر إذن تعديا على النبوة، بل هو قياس عليها وعلى الوحي في آن واحد.
19
ولا يعني ما يبدو في الوحي أحيانا من إشارات إلى خطأ بعض الأقيسة خطأ كل قياس، وبالتالي انتفاء النظر، بل يعني رفض النظر الفاسد والدعوة إلى النظر الصحيح.
20
وهناك مقاييس لصدق النظر وصحته. بل إن الحجج النقلية ذاتها مدعاة للخطأ نظرا لارتباطها بالنقل والرواية وباللغة والفهم وبأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ وبعدم وجود المعارض العقلي.
21
وكما أن مناهج تفسير النصوص تؤدي إلى ضبط استعمالها، فكذلك منطق النظر يؤدي إلى ضبط النظر.
ولا يعني عدم معرفة الثواب بالعقل عدم وجوب المعرفة بالعقل؛ وذلك لأن الوجوب العقلي وجوب مبدأ وليس وجوب نتيجة أو واقعة، وجوب في ذاته بصرف النظر عما يترتب عليه من نتائج. ويمكن معرفة نتائج الأفعال، ثوابا أم عقابا، بالحس والمشاهدة، وبأوائل العقول، وباستقراء حوادث التاريخ. كل من يعمل النظر يكون واعيا حرا، وكل من يتخلى عنه يكون غافلا عبدا. يؤدي وجوب النظر إلى العلم وفهم العالم وتقدم الجماعة، في حين يؤدي انتفاؤه إلى الجهل والغفلة والتخلف. يحتوي النظر على ثوابه من داخله، وهي حياة العقل والحرية والتقدم، كما يتضمن انتقاؤه جزاءه من داخله؛ حياة الجهل والعبودية والتخلف . كما لا يعني الرجوع إلى الأوامر الإلهية إنكار النقل؛ لأنه لا يمكن تنفيذها قبل فهمها ، ولا يمكن فهمها إلا بالنظر. وتنفيذ الأوامر بلا نظر يجعل الإنسان مجرد آلة صماء، في حين أن الوحي أتى للإفهام وللامتثال قبل أن يأتي للتكليف، على ما يقول علماء أصول الفقه.
22
الوحي قائم على النظر، يعطي معرفة وسلوكا، ولما كان النظر أساس العمل وجب النظر.
لا يعني تحريم السؤال تحريم النظر، بل تحريم أنواع معينة من موضوعات النظر لا يرجى منها فائدة. ولا يمكن الوصول فيها إلى يقين. بل على العكس ينتج عنها ضرر، ولا تؤدي إلا إلى التشعب والتشتت والتضارب والمحن أو على أقل تقدير إلى الشك والريبة والتردد والظن. وفي كلتا الحالتين يترك العمل، ويصبح النظر مطلبا في ذاته وليس وسيلة لتحقيق العمل. القصد من التحريم هنا توجيه الإنسان إلى الحياة العملية بعيدا عن التشعيبات النظرية التي لا ينتج منها أي أثر عملي. إن كراهية السؤال في موضوعات متعالية إنما هو من أجل توجيه الجهد إلى العمل، وترك التفكير فيما وراء العالم إلى ما في العالم. النظر موجه إلى العمل، والفكر متجه إلى الواقع بعيدا عن الموضوعات المتعالية التي لا ينتج عنها أثر عملي أو لا تكون منطقة لوجود أو تصور لتحليل خبرة.
23
تشير النصوص التي تفيد هذا التحريم إلى هذا المعنى؛ أي توجه الإنسان نحو العمل ووقايته ضد كل إغراق في العالم واغتراب عن الواقع. رفض الحديث عن القدر تأكيد لحرية الإنسان وتحقيق لها من حيث هي قوة فاعلة وليس من حيث هي مسألة نظرية ترتبط بشيء خارج عنها يكون طرفا لها مثل إرادة «الله»، في حين أن العالم هو طرفها وميدانها، والعقبة مانعها وحدها.
24
ولا يعني وجود المتشابه من الآيات نفي النظر؛ لأن التشابه له قواعد تحيله إلى محكم فتسكن النفس إليه. ليس التشابه إنكارا للنظر، بل دعوة لإعمال النظر من أجل ترجيح المعنيين طبقا لحاجات العصر ومقتضيات الواقع ولاختيار الإنسان للأفضل والأصلح. وليس إرباكا للعقل وتخديرا له عن مواطن الشبهات . التشابه له دور إيجابي في إبراز دور العقل وليس في إيقاف نشاطه. والإنسان قادر على إحكام المتشابه بما لديه من قرائن. فما الفائدة من متشابه لا يعلمه الإنسان؟ إن القدح في النظر لوجود المتشابه هو أيضا قدح في المحكم؛ لأن المحكم لا يمكن فهمه إلا بالنظر، ولا يمكن التمييز بينه وبين المتشابه إلا بالنظر والفهم.
ولا يعني الرجوع إلى النص كحكم بين وجهات النظر المختلفة إنكار النظر؛ لأن النص نفسه الذي نحتكم إليه لا يفهم إلا بالنظر، ويتأسس في العقل بمعناه الواسع الذي يشمل الحس والمشاهدة. بل إن مقياس فهم النص هو مدى تطابق هذا الفهم مع العقل والحس. النص مرتبط باللغة وبأسباب النزول، ولا يمكن فهم معناه إلا بالرجوع إليهما، وذلك لا يتم إلا بالنظر. لا يعني تعدد وجهات النظر نفي النظر لأن هذا التعدد يمكن التحقق من مدى صحته بالرجوع إلى الحس والمشاهدة. فالعقل أحد أطراف المطابقة. إذا ما تعددت وجهات النظر من حيث العقل فإنه يمكن اختيار أكثرها تطابقا مع الحس. يضع العقل عديدا من الآراء، والواقع يختار أصلحها له.
ولا يعني الوقوع في الخطأ نتيجة النظر نفي النظر. فالنظر يؤدي إلى الخطأ كما يؤدي إلى الصواب. النظر أداة للصواب والخطأ على السواء. والخطأ في القياس لا يهدم القياس، بل يصحح القياس الفاسد كي يصبح صحيحا. والنظر قادر على تصحيح أخطاء النتائج بمقاييس الصدق المعروفة في المنطق؛ لذلك جعل علماء أصول الفقه للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين؛ لأن المخطئ أعمل العقل ومارس النظر. ليس النظر قولا بلا علم أو دليل، بل هو أساسا نظرية في الدلالة، في سكون النفس للدليل. وفيما لا دليل عليه يجب نفيه. ليس النظر اتباعا لهوى أو مصلحة، وليس قولا بظن أو رجما بغيب، بل بداية للعلم اليقيني. لا يؤدي النظر إذن إلى أي مخاطر أو يوهم الوقوع في الخطأ واعتقاد الكذب؛ فالإقدام على النظر خير من الإحجام عنه. بل إن نفي النظر هو الذي يؤدي إلى الوقوع في الخطأ. ولا صواب في التقليد أو التسليم. وإذا كان في الإقدام على النظر خطورة الوقوع في الخطأ، فإن الامتناع عن النظر فيه خطورة أكبر، وهو عدم الوصول إلى اليقين على الإطلاق إلا مصادفة أو عشوائيا. ولكن الإقدام على النظر فيه احتمال الوصول إلى اليقين دون الامتناع عن النظر؛ وبالتالي فالإقدام على النظر خير من الإحجام عنه.
ولا يدل تغير الرأي أو المنهج أو المقدمات أو النتائج على انتفاء النظر، بل يدل على أن النظر هو البحث الدائب عن الدليل. إذا تغير الدليل أو كانت هناك أدلة معارضة أو زادت الأدلة وضوحا، فقد تتغير النتائج وإلا وقع الإنسان في الدجماطيقية؛ أي الاعتقاد بشيء مع وجود أدلة مناقضة لما يعتقده، وجحد الدليل، وبدأ بمقدمات خاطئة، وانتهى إلى استنتاجات باطلة. لا يدل السعي وراء الدليل حيثما كان على انتفاء النظر، بل على تأكيد النظر. بل إن تغيير الرأي هنا ترك للباطل ورجوع إلى الحق واستبعاد للخطأ والانتهاء إلى الصواب. لا يعني الانتقال من مذهب إلى مذهب انتفاء النظر، بل انتقال المكلف من الباطل إلى الحق بعد العلم بوجه الدليل، وإذا انتقل من باطل إلى باطل فإنه يحدث لاستمرار الشبهة وغياب الدلالة. لا يعني الرأي حدوث تغير طبقا للهوى أو المزاج أو المصلحة وإلا كانت المواقف الإنسانية كلها لا عقلية، تقوم على الإرادة والنزوع أكثر مما تقوم على العقل والروية. وللإنسان علم ضروري يقوم على البداهة الحسية وأوائل العقول ومعطيات الوجدان. ولديه سكون النفس إلى الدليل، وبالتالي القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وإلا وقعنا في تكافؤ الأدلة والشك، وهما من مضادات العلم وليسا من مكوناته.
25
إن كل إبطال للنظر اعتمادا على الحجج العقلية إنما يثبت وجوب النظر لأنه لا يمكن نفي النظر إلا بنظر. وإذا بطل النظر بالحجج النقلية؛ فإنه لا يمكن فهمها إلا بالنظر. فالنظر واجب في كلتا الحالتين. كما أنه يمكن قلب الحجج النقلية فيثبت النظر. فلا يعقل وجود وحي يستعصى على الأفهام، يتجاوز حدود العقل ولا يعلمه إلا «الله» بالرغم من وجود قرائن يمكن معرفته بها. النظر شرط في فهم الكتاب والسنة. ولولا النظر لظل الوحي صامتا. إن كثيرا من الحجج النقلية التي توحي ببطلان النظر، إما خاصة ترد مورد العموم أو عامة ترد مورد الخصوص. وإن ظاهرها ليدل على غير ما استعملت فيه؛ لذلك كانت الحجج النقلية عند علماء أصول الدين ظنية لتوقفها على اللغة والاستعمال، ووجود حجج نقلية أخرى معارضة يثبت بها النظر وتستعمل في محلها طبقا لقواعد اللغة وأسباب النزول، ولا يمكن قلبها إلى ضدها؛ واضحة لا تحتمل التأويل أو التخريج.
26
لا يترك النظر إلا عندما يترك الإنسان نفسه عن وعي أو عن غير وعي إلى التقليد أو الهوى أو المصلحة طلبا للرئاسة أو سعيا وراء منصب أو إيثارا للسلامة والسكون، ودرءا للمخاطر التي قد يتعرض لها النظر من قوى التسلط والطغيان. قد يترك النظر عنادا للحق أو حبا في شخص أو جهلا بالسمع أو اعتقادا بتكافؤ الأدلة أو تحرزا عن الدخول في المعارك الفكرية. إن ترك النظر قد تكون له أسباب سياسية صرفة لدى الحكام الذين يهمهم إبعاد الشعوب عن النظر أو من الشعوب لإيثارها السلامة وحرصها على لقمة العيش تمثلا واستشهادا لبعض الأمثال العامية التي تكون دينها الشعبي تكوين النصوص الدينية له.
27
خامسا: كيف يفيد النظر العلم؟
وهو سؤال نظري خالص، أقرب إلى «ميتافيزيقا» العلم منه إلى نظرية العلم؛ لأنه يبحث في البناء النفسي للعلم ويحوله إلى عمليات ارتباطية خالصة، ويغرق فيها مع التضحية بكل بناء العلم العقلي الواقعي. وقد اشتد الخلاف حول أمور ظنية خالصة، لا يمكن فيها الوصول إلى يقين إلا عن طريق الاستبطان. هذا بالإضافة إلى أن الخلاف في النتائج لا يؤدي إلى انهيار نظرية العلم؛ لأنه خلاف في التفسير وليس في الشيء. (1) نظرية التوليد
وقد انحصرت النظريات في كيفية إفادة النظر للعلم في أربع؛ كل اثنتين منها متصارعتان، ولكن الصراع الثاني بين الاثنتين الأخريين أهم وأشد من الصراع الأول بين الاثنتين الأوليين: (أ)
يفيد النظر العلم عن طريق إعداد النفس لتقبل الفيض أو الإلهام. النظر يعد الذهن، والنتيجة تفيض عليه وجوبا. وفي حقيقة الأمر إن هذا الافتراض خروج على النظر ودخول في الفيض والإلهام الذي هو إنكار للنظر. ويجعل مصدر العلم من خارج الشعور وليس من داخله، ويقلل من دور الذهن والنظر. فقد يحدث النظر ويبخل «صاحب» الفيض. وما دام صاحب الفيض كريما، فلماذا النظر؟ صحيح أن هناك معارف حدسية، ولكنها تتم من خلال من النظر ومن داخله قفزا على المقدمات وليست مستقلة عنه، وتتم من داخل الشعور وليس من خارجه. وهذا هو تصور الحكماء الذي يجمع بين تصوري المعتزلة والأشاعرة؛ لأنه يقوم على الوجوب مثل المعتزلة؛ أي وجوب إفادة النظر للعلم ضرورة، ولكنه وجوب من «العقل الفعال» الذي منه يفيض العلم إلى داخل الشعور نقشا عليه بدلا أن ينشأ من داخل الشعور نبتا فيه. صحيح أن الشعور به استعداد وتهيؤ، ولكن العلم لا ينشأ من «العقل الفعال» الذي حوى كل العلوم. وهو افتراض يجعل نظرية العلم أقرب إلى الأسطورة أو التشبيه الأولي منها إلى تحليل العلم. أين «العقل الفعال»؟ ما هي العلوم المخزونة فيه؟ من الذي وضعها؟ هل هي مدونة (اللوح المحفوظ) أم شفاهية؟ وكيف تنزل إلى عالم الأرض؟ وكيف تدخل في شعور الإنسان؟ وكيف تنقش فيه؟ وهل هي مقولات (تصورات) أم ألفاظ أم معان؟ وكيف يتم الحصول عليها؟ وهل هناك اتفاق عليها كما وكيفا، فهما وتفسيرا؟ إذا كان المقصود وجود الحقائق كأبنية مستقلة في العقل، فإن «العقل الفعال» يكون داخل الشعور وليس خارجه.
1 (ب)
وقد يفيد النظر العلم عن طريق الوجوب لا عن طريق التولد، يعني الوجوب لزوم النتائج عن المقدمات ضرورة، ويعني عدم التولد أن تكون هذه الضرورة خارجية وليست داخلية؛ لأن الممكنات كلها مستندة إلى «الله»، والله لا يجب عليه شيء. يقوم هذا الافتراض، في واقع الأمر، بخطوة إلى الأمام في الربط الضروري بين النظر والعلم، ثم بخطوة إلى الخلف في رفض أن يكون هذا الارتباط داخليا في الشعور. كما أنه يدخل افتراضا أكبر لا حاجة له حتى الآن في بناء نظرية العلم، وهو إسناد هذا الارتباط الممكن إلى «الله»، والله لم يثبت بعد كذات أو صفات أو أفعال. ما زال في هذا الافتراض حساسية ضد الاعتراف بالطبيعة وقوانينها المستقلة؛ وبالتالي فإنه يعبر عن نظرة متطهرة دينيا مدمرة للعالم علميا. وكل قضاء على الضرورة الداخلية في العالم هدم لنظرية العلم، وقد شاء هذا الافتراض أن يقدم حلا وسطا بين الوجوب والتوليد، فقال بالوجوب غير المتولد، والحلول الوسط لا تؤدي إلى حل الإشكال المنهجي أو إلى إعطاء نظرية جديدة تبين نسبة النظر إلى العلم. القول بالوجوب مع نفي التوليد قول بالوجوب العقلي الصوري دون الوجوب الطبيعي المادي، وهو الوجوب المنطقي الخالص عن طريق إحضار مقدمتين في الذهن ولزوم نتيجة ثالثة منهما. ولكن هذا الوجوب الصوري الآلي يغفل التيار الحي للشعور، كما أنه يجعل العلم قضايا تتداخل فيما بينها عن طريق الاستغراق، وليست دلالات أو معاني جديدة تحدث في الشعور. كما أنه يغفل نظرية الحدس والرؤية المباشرة للدلالات. إن القول بإفادة النظر للعلم وجوبا ثم إسناد هذا الوجوب إلى «الله»، وهو تحويل هذا الوجوب إلى إمكان خالص وبالتالي القضاء على الوجوب ذاته، وهو المقصود، ويتفق مع مذهب الأشاعرة.
2
ولكن الإفادة بلا وجوب لا تعني هدم الضرورة بين النظر والعلم، بل تعني أن العلاقة بينهما غير لازمة أو لازمة بالضرورة، فقد يحدث النظر دون العلم لأن النظر ما زال جاريا ولأن الدلالة لم تنكشف بعد. وقد حصل العلم بأقل قدر ممكن من النظر، وتنكشف الدلالة بسرعة وربما سابقا لأوانها. يتم النظر والعلم في الشعور، وعمل الشعور أوسع بكثير من النظر والعلم؛ النظر مقدمات الشعور، والعلم نتائجه، وبينهما تحدث الرؤية التي لا تحدد متى يحدث العلم بالنظر والتي قد تجعل العلاقة بين النظر والعلم علاقة غير ضرورية من حيث الكم أو من حيث الضرورة. ولكن العلاقة الكيفية ممكنة ومحتملة. لا يعني ذلك إنكار النظر وإثبات حصول العلم بالإلهام، بل إدخال رؤية الشعور لإدراك الدلالة. ليس عمل الشعور النظر والعلم فقط، الوسيلة والغاية، المنهج والقانون، فهناك الدلالة وإدراك الدلالة.
3 (ج)
يفيد النظر العلم عن طريق العادة، بمعنى الإعداد أو الإفادة أو التضمن أو الاقتضاء. طالما مارس الإنسان النظر أفاد العلم. فارتباط النظر بالعلم عن طريق العادة والتكرار.
4
والحقيقة أن ذلك ينفي وجود حقائق علمية مستقلة عن تكوينها، ويخلط بين مستوى النشأة والتكوين ومستوى الماهية والدلالة، ويرد الثاني إلى الأول، مع أن التعالي أو المفارقة له وظيفة علمية هو الحرص على التمييز بين المستويات. أما افتراض أن «الله» هو سبب العادة، وأنه هو الخالق للاقتران بين النظر والعلم، فهو افتراض سابق لأوانه عن تأسيس نظرية العلم؛ لأن «الذات» لم يتم إثباتها بعد. كما أنه خلط بين موضوع تأسيس العلم وموضوع خلق الأفعال، وتصور كل واجب ممكن وإسناده إلى «الله» وبالتالي القضاء على استقلال قوانين الطبيعة. وكيف يمكن المحافظة على التنزيه و«الله» يقرن بين النظر والعلم كما يقرن بين الاحتراق والنار؟ وقد يكون هذا الاقتران عادة صرفة أو عادة مع الكسب؛ مما يدل على الخلط بين موضوعي العلم وخلق الأفعال. وقد يكون لزوما عقليا محضا، ولكن أيضا بخلق «الله» وليس عن طريق قوانين العقل. وبالتالي يكون هذا الافتراض هدما لقانون العلية وهدما لأوائل العقول.
وقد تصور الأشاعرة أن القول بالتوليد يعني القول بالوجوب، أي وجود علاقة ضرورية بين العلة والمعلول؛ أي بين النظر والعلم، وبالتالي النيل من «الإرادة الإلهية» التي لا يجب عليها شيء، فأنكروا التوليد وجعلوا النظر يتضمن العلم ولا يولده أو يوحده، هو شرط وليس علة موجبة، على عكس التوليد عند المعتزلة الموجب للعلم إيجاب العلة إلى معلولها. وهنا ينشأ الصراع بين نظرية العلم كتحليل للعقل بصرف النظر عن «الإلهيات» وبين نظرية العلم التي تريد أن تكون مقدمة للإلهيات. إن إنكار توليد النظر للعلم وإيجاب وجود العلة للمعلول هو في الحقيقة تفكير «إليه» مقنع؛ إذ لا يجب على «الله» شيء حتى في العلم، في حين أن الوجوب في العلم ضروري لأنه ربط النظر بالعلم عن طريق الدليل هو أيضا وجوب؛ لذلك كانت المشكلة جزءا من خلق الأفعال وليست مسألة علمية خالصة. وسواء كان النظر بفعل الإرادة القديمة أو كسبا للعبد، فإن إحداث النظر للعلم يتم بفعل إرادة خارجية عند الأشاعرة - بالرغم من أن الكسب اقتراب من أفعال الشعور الداخلية - وليس بأفعال الشعور. وبالتالي فإن إدخال افتراض «الله» لتأسيس نظرية العلم سابق لأوانه، بل وهدم للعلم لأنه أوسع بكثير من موضوع العلم. وما زال السؤال: هل النظر يفيد العلم «بالله»؟ لم يطرح بعد داخل نظرية العلم. ومن ثم فكل استباق للفكر «الإلهي» قبل تأسيس نظرية العلم هدم للعلم.
5
فضل الأشاعرة - بدافع الإيمان ودون نظر لتأسيس العلم ما دام الإيمان يعطي اليقين والعلم، ما هو إلا مبرر سطحي له لترويجه وسط العامة - فضلوا إفادة النظر للعلم عادة وخلقا. كلما حدث النظر أفاد العلم، وبالتكرار تنشأ العادة على ربط النظر بالعلم، وعلى وقوع العلم بعد النظر. وهو تصور آلي خالص، ينكر عمل الشعور الداخلي. أما الخلق، فإنه يحدث بتدخل إرادة خارجية تجعل النظر يفيد العلم، وهو التصور المعارض للعادة. يؤدي إنكار التوليد إذن إلى التصور الآلي الذي ينكر حياة الشعور، وجعلها قاصرة على الانطباعات الحسية أو إلى التصور الإرادي الخارجي الذي يجعل الشعور محلا لأفعال أخرى خارجية عنه. وكلا التصورين إنكار لحياة الشعور واستقلاله؛ التصور الآلي تصور ميت لا حياة فيه، يجعل الشعور في حالة من السلب الدائم، لا ينفعه تدخل إرادة خارجية لإحيائه؛ لأنه لا يقوى على ردها، ما هو إلا مستقبل لها، عاكس لما تريد. وكأن الشعور أصبح محاصرا بين طبيعة ميتة وإرادة خارجية لا تفعل إلا في الأموات، والإنسان نفسه لا وجود له كحياة وشعور وأفعال.
6
إنكار التوليد هدم للعلم وللرابطة الضرورية بين المقدمات والنتائج، وإلا فإنه يمكن سماع الخبر دون حدوث العلم. ولما كان الوحي قد أتانا بالخبر، فإن إنكار التوليد يؤدي إلى إنكار العلم بصحة الكتاب وبصدق الوحي. إيجاب النظر إذن إيجاب للعلم، ولا وجود لسبب دون المسبب. كمال النظر بتوليد العلم، وكلاهما مقدور للإنسان حسب الدواعي. ولو لم يكن الإنسان قادرا على النظر والعلم لما كان قادرا على أضدادهما من النظر والشك. وإذا كان النظر واجبا بالاضطرار فإن المعرفة واجبة بالاستدلال، وجوب النظر ليس متعذرا؛ فهو في الأول مناط التكليف وفي الثاني مولد للعلم.
7
ولا ينفي وقوع التوليد بطريقة لا شعورية وقوع التوليد؛ لأن إدراك التوليد يتطلب قلب النظرة من الخارج إلى الداخل، ورؤية عمل الشعور رؤية مزدوجة. ومع ذلك فالعلم بالعلم ممكن اضطرارا، بل إن العلم بالعلم أساس العلم. يمكن معرفة وجوب النظر للعلم، وهي نظرية العلم ذاتها، وتتبع أحوال الشعور ووصف أفعاله التي بها يتأسس العلم. توليد النظر للعلم هو علم العلم ويحتاج إلى نظر واستدلال، ولا يكون بالضرورة علما ضروريا.
8
ولا يعني ارتباط العقل بالحس ونشأة جزء من مادة النظر من الحس الشك في توليد النظر للعلم؛ فالنظر قادر على إحضار الغائب، وهو ما لا يستطيعه الحس، وقادر على تأمل ما يغيب عن الحس. والعقل قادر على تصحيح أي خطأ في المادة الحسية، وهو قادر كما وكيفا على تجاوز الحس. ويصعب الشك في صحة الإدراك الحسي؛ لأن الحس أحد مصادر المعرفة وأحد وظائف الشعور، والشك فيه يفصله عن عالم الشعور، ويصبح الشعور مجرد وعي فارغ بلا عالم. ولا يمكن رد كل النظر العقلي إلى الحس لأنه أوسع نطاقا وأشمل منه، وكلاهما من أفعال الشعور مع معطيات الوجدان. والكل داخل الشعور المعرفي الذي هو في نفس الوقت إحساس بموقف وإدراك لطبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها الجماعة.
9
ولا ينفي الوقوع في الخطأ توليد النظر للعلم؛ إذ يمكن معرفة أسباب الخطأ وتصحيحها ومراجعة النظر في مقدماتها واستدلالاته. الخطأ شائع ويمكن تصحيحه بمقاييس الصدق مثل سكون النفس، والمطابقة مع الواقع واتساق الفكر مع نفسه وانكشاف ماهيات الأشياء في الشعور. فقد يحدث الخطأ من الحواس أو العقل أو الوجدان، ولكن حدوث خطأ في وظائف الشعور يصحح بعضها بعضا، وبالتالي لا ينفي توليد النظر للعلم.
10
ولا ينفي إفادة القياس الظن توليد النظر للعلم؛ لأنه على قدر المقدمات تكون النتائج؛ التوليد عملية استخراج المعاني بصرف النظر عن درجة يقينها، وقد يتحول الظن إلى يقين بعد النظر في الأدلة من أجل الحصول على البرهان.
11
ولا يعني تفاوت العلم بين الخفاء والجلاء أو الضعف والقوة أو القلة والكثرة أن النظر لا يولد العلم، فالنظر بطبيعته نتيجة لأفعال الشعور أو فعل له. والشعور حالات متغيرة، وتيار حي دائم، يتفاوت النظر فيه بين الخفاء والجلاء. وتكون مهمة الإيضاح هي الانتقال من الخفاء إلى الجلاء، ومهمة أنماط الاعتقاد الانتقال من الظن إلى اليقين حتى يتأسس العلم في الشعور. والوضوح والجلاء في النظر والعلم يكتسبان أثناء عملية التأسيس ولا يحدثان في البداية. فإذا كان اليقين في العلوم الرياضية صوريا بتطابق العقل مع نفسه، وفي العلوم الطبيعية ماديا بتطابق العقل مع الواقع، فإنه في العلوم الإنسانية، في علوم الشعور، تتفاوت المراتب طبقا لحالاته. بالإضافة إلى أن نظرية العلم هي في الحقيقة تحليل لعلم العلم أو تأسيس للعلم السابق على كل علم خاص، تحليل لأفعال الشعور في العلم من حيث هو علم ووصف لحركة الشعور الداخلية.
12
والنظر لا يفسد الشعور؛ لأن الشعور محل النظر، ويعطيه أساسه ومادته وتولده الذي هو خلق العلم وإبداعه. كما أن الشعور لا يفسد النظر، بل يحميه من التشعب والصورية، ويحرص عليه من الوقوع في التجريد والشكلية. ولا ينفي الإجهاد الناشئ من النظر صحته وتوليده للعلم؛ فالإجهاد يتم في الحس والعقل والوجدان والسمع (الخبر). ولكن يتم النظر في حدود الطاقة الإنسانية وعلى قدر الجهد الإنساني. ويمكن التخفيف من حدة الإجهاد بالنظر في أوقات متفاوتة بعد راحة البدن ومع حدوث الاطمئنان في النفس، وبوجود البواعث، وبالإحساس بالغاية، والالتزام بالموقف، والعمل من خلال الجمعيات المتخصصة، والعمل السياسي المنظم، والعمل الجماهيري بدعوة الناس إلى استرداد الحقوق، والعمل اليومي بالأمر المعروف والنهي عن المنكر، والتجرد والنقاء والعطاء الكلي للهدف القومي؛ كل ذلك يجعل النظر حاضرا دائما نشطا خلاقا مولدا للعلم دون إجهاد أو ملل، بحسن نية، وبلحظات صدق، وبتذوق للجمال، وبمشاعر حب للناس، وبضم للعالم كله.
13
ولا يعني حدوث العلم لفرد دون آخر بالرغم من ممارسة كليهما للنظر نفي التوليد؛ لأن شعور كل فرد متميز عن غيره بدرجة في اليقظة والانتباه والتوتر وسرعة إدراك الدلالة. فاختلاف العقلاء في العلم لا يقضي على توليد النظر للعلم. والاختلاف بين الناظرين لا يقضي على موضوعية العلم؛ إذ يرجع الاختلاف إلى تباين القراءات أو الفهم أو التحصيل أو التعبير أو حتى المصالح والأهواء التي يصعب التجرد منها، أو ظروف العصر أو القدرة على اكتشاف وجه الأدلة أو طرق الاستدلال من المقدمات إلى النتائج، أو إدراك العلوم الضرورية أو درجات الاكتساب للعلوم النظرية. ينشأ الاختلاف بين العلماء نظرا لاختلاف أنظارهم في الأدلة، وتفاوتها لديهم بين الغموض والوضوح، والضعف والقوة، والظن واليقين، والشك وسكون النفس، والقدرة على دفع الشبهات، والتفريق بينها وبين الحجج. ولا يختلف العقلاء على شهادة الحس وأوليات العقل ومعطيات الوجدان. ومقاييس الصدق واحدة عند الجميع.
14
وأخيرا فإن القول بأن إعمال النظر بالرغم عن توافر كل الشروط لا يولد العلم؛ إنكار للنظر وللعلم على السواء، وهدم للعقل وللحقائق معا، ووقوع في اللاأدرية والشك أو في السر كموضوع للإلهام أو في التقليد والتسليم. إذا ما توافرت الدواعي على النظر يتم النظر، وإذا ما حدث القصد إلى النظر وتوافرت الأدلة تولد العلم. وإن لم يتولد العلم يكون العيب في غياب الأدلة. النظر نظر في الدليل. وإدراك لوجه الدلالة والاستدلال بها على المطلوب. لذلك كان في النظر ما يولد وما لا يولد طبقا للنظر في الدليل والعثور على وجه الدلالة.
15 (د)
لم يبق إلا أن النظر يفيد العلم عن طريق التوليد؛ أي أن فعلا يوجب فعلا آخر. النظر فعل للإنسان يتولد منه فعل آخر هو العلم. النظر فعل من أفعال الشعور الداخلية، القصد إليه فعل الإنسان، ولكن النظر كفعل من أفعال الشعور لا دخل للإرادة فيه إلا من حيث القصد والنية والتوجه والفعل.
16
والتوليد حادث في الشعور، فالشعور تيار مستمر، تتوالى أفعاله فيتولد العلم. وهو الاستنباط الصوري القديم، استنباط النتائج من المقدمات، ولكن على مستوى أفعال الشعور. أما التذكر، فبالرغم من أنه يبدو غير مولد للعلم؛ لأن التذكر ليس فعلا إراديا مباشرا، إلا أنه في الحقيقة كالنظر، كلاهما فعلان من أفعال الشعور ومولدان للعلم. فالقصد إلى التذكر ممكن وبالتالي يكون فعلا إراديا كالنظر حين التوجه إليه. والنظر قد يكون مثيرا للتذكر، يأتي النظر بمادة المعرفة من الحاضر، ويأتي التذكر بمادة المعرفة من الخبرات المختزنة، وكلاهما يشترك في الدلالة. النظر يستدعي التذكر كما يستدعي الحاضر الماضي، وكلاهما يتحرك بالبواعث وينشط بالمقاصد والغايات. إذن فقد يولد التذكر العلم، فبالتذكر يمكن العثور على دلالات كانت غائبة ثم حضرت. وينشأ قياس النظر على التذكر أو قياس التذكر على النظر من أن كليهما من أفعال الشعور التي تحضر الدلالات وتولد العلم. ولا يعني القياس هنا إفادة الظن أو اليقين، بل يعني التماثل في أن كليهما من أفعال الشعور. التذكر نوع من النظر المفاجئ؛ إذ يتذكر الإنسان بغتة أو ينظر إلى الوراء إذا ما استرجع ذكرياته ورأى دلالاتها. ولا تتزاحم الذكريات فيكون إحداها أولى بالتوليد من الأخرى، لأن الذاكرة لا تعمل إلا بالدواعي، والدواعي أساس التكليف. لا يتذكر الإنسان إلا ما هو مدفوع نحوه، وما هو في حاجة إليه، وما يحياه في شعوره الحاضر من تحقيق المطالب أو تطلعه نحو المستقبل مثل الخوف من ترك النظر. وطالما أن العلم لا يتولد إلا بتذكر الأدلة وعدم نسيانها، فذلك يدل على أن التذكر كالنظر، كلاهما يولد العلم.
17
والمتولدات لا تروك لها، بل تتسم بالاستمرارية والتواصل، وإلا استدعى الأمر تولدا جديدا في كل حالة وانقطاع الذاكرة. وباصطلاح القدماء يولد الاعتماد الأكوان. النظر إذن واجب حالا بعد حال، ويولد العلم، ويستحق المكلف الثواب بفعله والعقاب بتركه. الزمان متصل، والواجب أيضا متصل، ولا حاجة إلى تجديد التكليف. الأمر على الدوام وليس على الانقطاع. تتوالد المعارف من بعضها البعض حتى ولو بدت منقطعة في لحظات. إن التصور الأشعري لأفعال الشعور الداخلية والخارجية يحتاج إلى تدخل إرادة خارجية مشخصة في كل لحظة من لحظات الشعور، وهو يقوم بأفعاله لأنه غير قادر بطبيعته على الاستمرارية والدوام. لا يتوقف الواجب إلا بوجود الموانع، وامتناع الشروط مثل الغفلة والنوم أو الجنون والبله والاخترام (الموت)، وعدم توافر الدواعي ووجود الصارف. لا يعني ذلك وقوعا في الجبرية، إذا حدث السبب حدث المسبب، بل يعني الاعتراف باستمرارية أفعال الشعور من البداية إلى النهاية. الارتباط وجوبي وليس ارتباطا عليا ماديا فحسب. الارتباط الأول هو الأساس والجوهر والثاني هو الفرع والظاهر. لا يعني ذلك «وجوب توبة الرامي قبل أن تصل الرمية» بل وجوبها عن قصد الرماية وهو قصد موجود. إذا كان المكلف قادرا على النظر فهو فاعل النظر، وهو القاصد إليه بحسب إرادته ودواعيه. بل إن أفعال الشعور مرتبطة بالدواعي والمقاصد. فالسهو طارئ، والترك عرضي.
18
ليست علاقة النظر بالعلم إذن علاقة صورية خارج الزمان، بل علاقة تنشأ في الزمان. يحتاج التوليد إلى زمان حتى يحدث النظر العلم. قد يحدث التوليد في اللحظة، وقد يحدث في التأني أو باصطلاح علماء أصول الفقه قد يحدث على الفور وقد يحدث على التراخي. ويرتبط الزمان بالاستعداد الطبيعي. يحتاج الشعور اليقظ إلى زمان أقصر مما يحتاجه الشعور البليد. كما يختلف إحساس كل منهما بالزمان من حيث الشدة والتوتر.
19
ولما كان النظر يتم في الوقت، فإنه قد يقع في الحال بعد حدوث الخاطر دون أن يكون محددا بوقت التكليف مثل الصلاة حاضرا أو قضاء، على الفور أو على التراخي، في الوقت المضيق أو الوقت الموسع. لا يعني ذلك أنه يحدث في أي وقت، بل في الوقت الأول للوجوب وفي الوقت الثاني لتوليد العلم، وفي الوقت الثالث للممارسة والفعل. ومع ذلك فقد يكون الأفيد للشعوب التي لا تشعر بوجوب النظر عليها أن يجب عليها في الحال، على الفور دون التراخي، وحاضرا دون قضاء، وفي الوقت المضيق دون الوقت الموسع، حتى يتم إيقاظها من سباتها.
ليست صلة النظر بالعلم إذن صلة آلية، بمجرد وجود النظر يحصل العلم، بل لا بد من التوليد وهي الحالة الشعورية التي يحصل فيها النظر، ويتولد منها العلم إذا توافرت شروط التوليد. ليس كل من علم قواعد الشعر شاعرا، ولا كل من علم قواعد اللغة كاتبا، يمكن معرفة كيفية التوليد ولو أن ذلك ليس شرطا ضروريا لتوليد النظر العلم. ولكن يستطيع فيلسوف العلم أو مؤسسه وصف أفعال الشعور ويبين كيفية التوليد. قد لا يعلم الشاعر ضرورة كيفية حدوث عملية قرض الشعر، ولكن عالم الفن قادر على ذلك بوصفه لعمليات الخلق الفني. وقد لا يتم هذا الوصف قبل توليد النظر العلم. الوصف هو وصف لشيء. يحدث الشيء أولا ثم يتم وصفه ثانيا. لا يعني ذلك أن النظر لا يولد العلم؛ لأن العلم بكيفية التوليد قد يحصل بعد التوليد ذاته عن طريق الاستبطان، ولكن عدم العلم بكيفية الشعور لا ينفي حدوث التوليد.
20
التوليد إذن هو طريق الحصول على الدلالة بعد النظر في الدليل. الدلالة بداية اليقين واستبعاد مضادات العلم من شك وظن ووهم وجهل وتقليد. ولا تحدث إلا في الشعور اليقظ المنتبه دون شعور النائم والغافل، ولا تقع إلا في الشعور العاقل دون شعور الطفل أو الصبي أو المجنون. لا يعني التوليد ارتباطا عليا بين النظر والعلم دون أي شروط، بل يعني انكشاف الدلالة في الشعور ورؤية الماهية بتوافر الشروط. الشعور خالق للمعاني وواهب للدلالات، يتولد فيه العلم. لا يوجب النظر العلم آليا بل بواسطة الدليل. النظر في الدليل يؤدي إلى العلم بالمدلول، وإذا ما عثر الناظر على المدلول فعليه إعادة النظر حتى يعثر على الدليل؛ فلا مدلول بلا دليل.
21
والتوليد شرط صحة النظر. إذا طال النظر ولم يحدث العلم فإنه يكون حتما قد توجه بعيدا عن الأدلة. ولا يمنع وقوع الشبهات في النظر نفي التوليد؛ فالشبهات تجيء وتذهب، والناظر قادر على التمييز بين الشبهة والدليل، وذلك بسكون النفس إلى الدليل وطردها للشبهة. كما تنبه الدواعي والخواطر على صحة النظر وتوليده للعلم. إن الوعي الدائم بوجوب النظر يولد العلم ضرورة بالحدس أو الاستدلال. ولا يؤدي عدم النظر إلى الجهل؛ لأن عدم النظر ليس فعلا بل ترك، والترك لا يتحول إلى فعل. كما لا يولد النظر الشبهات؛ فالتوليد طريق العلم ونفي الجهل عن طريق الدلالة، والدلالة محو للشبهة ولا يتضمن بالضرورة توجيه الشك والظن ؛ فالجهل عدم العلم، وهو إدراك العلم ابتداء ولو بطريق النفي، والشك لا يولد العلم. ولا يعني احتمال أن يؤدي إلى جهل انتفاء النظر؛ فالنظر لا يولد الجهل لأن الجهل اعتقاد جازم غير مطابق يحدث من غير نظر، بل لمجرد الاعتقاد، وهو ضد العلم.
22
وهناك فرق بين العلم الضروري في التوليد والعلم الضروري في الإلهام. يتم العلم الأول بأفعال الشعور الداخلية بعد النظر، في حين أن الثاني يحدث بالإلهام الناتج عن الطبيعة دون نظر. ويتم الأول بطريقة الرؤية والحصول على الأدلة، في حين يتم الثاني فجأة وبلا مقدمات ودون حاجة إلى دليل. ويمكن مراجعة الأول والتحقق من صدقه، في حين لا يمكن مراجعة الثاني أو التحقق من صدقه، بل يكون تعبيرا عن طبيعة، ويكون صدقه مرهونا باطراد الطبيعة.
23 (2) شروط النظر
لا يحدث النظر إلا بشروط هي نفسها شروط العلم؛ من حياة ويقظة وانتباه ونظر. فالحياة شرط العلم لأن العلم حالة للشعور.
24
وكذلك شرط النظر مطلقا هو الحياة؛ لا نظر بدون حياة، وانتهاء الحياة معناه انتهاء النظر، الأحياء الذين لا يعملون النظر أموات، والأموات الذين ما زلنا نتعامل مع نظرهم أحياء. ليست الحياة فقط شرط النظر بل نتيجته، ليست فقط مقدمته بل ثمرته، وليست الحياة فقط شرطا للعلم، بل هي الشرط العام الشامل لليقظة والانتباه والنظر والعلم والمعرفة. هي شرط القدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة. وقد دعا ذلك البعض إلى إخراج هذا الشرط من حد العلم، ومع ذلك تظهر الحياة كشرط للعلم في الإلهيات كما تظهر في الطبيعيات؛ ففي الإلهيات الحياة شرط العلم والقدرة في صفات الذات، وفي الطبيعيات الحياة شرط وجود الأجسام.
25
وقد يتميز شرط النظر أكثر فيصبح العقل. فالنظر يتم بالعقل، ومن له عقل له نظر، ومن لا نظر له لا عقل له. وقد يتميز شرط العقل بشرطي الانتباه واليقظة لما كان العقل هو حياة الشعور اليقظ المنتبه. الانتباه من الغفلة، واليقظة ضد النوم. فالعلم مظهر من مظاهر الحياة، والحياة هي اليقظة والانتباه. لا علم لميت أو نائم أو غافل . والعلم أيضا يبعث على الحياة واليقظة والانتباه؛ هناك إذن علاقة متبادلة بين الشرط والمشروط. لا يحدث العلم إلا بالحياة واليقظة والانتباه، وفي نفس الوقت يبعث العلم على الحياة واليقظة والانتباه. وما يحدث في عالمنا هذا من تجاوز العلم والغفلة يجعلنا نشك في صحة العلم. لو كان العلم صحيحا لما حدث إلا باليقظة ولا حدث الانتباه.
26
وقد يجعل البعض النظر ليس فقط شرطا للعلم، بل مضادا له؛ لأنه عدم حصول العلم. والحقيقة أن التضاد هنا غياب وليس تعارض وجود. ومن ثم كان النظر أقرب إلى الشرط منه إلى التضاد. العلم يحدث بالنظر، والذي يضاد العلم هو الشك والظن والوهم والجهل والتقليد. وقد يجعل البعض الآخر النظر مؤديا إلى العلم دون أن يكون شرطا له؛ فشرط العلم هو الحياة مقارنا للمشروط، ولا يتصور مقارنة النظر للعلم. والحقيقة أن هذا إما إقلال لشأن النظر أو مجرد خلاف لفظي واستبدال لفظ شرط بلفظ آخر هو مؤدى، الأول يدل على الثبوت، والثاني يدل على الحركة، الأول يدل على عدم وجود الضد مثل غياب الإدراك، والثاني يدل على ضرورة وجود المنهج وهو النظر.
27
ولا يحتاج النظر إلى علم مسبق؛ إذ أنه سابق على أي علم. بل إن عدم العلم شرط صحة النظر لأن النظر يؤدي إلى العلم. وإذا كان هناك نظران بعد العلم بالمنظور الأول، فإنه يدرك وجها آخر من الدليل لم يدركه النظر الأول؛ فلا يمتنع وجود فكرين في حالة واحدة. وعند من يمنع ذلك يقضي النظر الثاني على ذهول الناظر من العلم بالنظر الأول. وإذا أمكن العلم بالمدلول دون نظر يكون النظر ضروريا لإيجاد البرهان، ويكون النظر هنا تراجعيا من النتائج إلى المقدمات أو من الحدس إلى البرهان. والحدس أحد مراحل النظر، وكذلك التأمل الباطني أو الانتباه المستمر أو رؤية الواقع، كلها لحظات للنظر بشرط ألا يؤدي الجزم بالمطلوب أو بنقيضه إلى تحجر البحث وتعثر النظر، فالجزم اعتقاد قاطع مضاد للنظر.
28
في حين يرى البعض الآخر أن العلم بالمطلوب أو الجهل المركب به يبطل النظر؛ إذ كيف يتم النظر فيما علم من قبل؟ وعلى هذا النحو يبطل النظر في وجود «الله» ممن يعلمه مسبقا صحة النظر. وإدخال «الله» كافتراض مسبق قبل إثبات وجوده في أي نظرية في العلم يبطل النظرية. كما أن الجهل المركب يبطل النظر، أي عدم العلم بالعلم أو عدم العلم بالنظر، ومن لا يعرف أن النظر يفيد العلم فإنه لن ينظر، والجهل المركب هو ألا يعلم الإنسان أنه لا يعلم.
ونظرا لقسمة النظر إلى صحيح وفاسد، هناك شروط خاصة للنظر الصحيح، وعلى رأسها اثنان: الأول أن يكون النظر في الدليل دون شبهة، والثاني أن يكون النظر في الدليل من جهة الدلالة، وهذا كله أدخل في نظرية الاستدلال. أما البحث في الدليل والدلالة ووجه الدلالة، هل هي شيء واحد أم أشياء متغايرة، فذلك كله ما يخرج عن نطاق نظرية العلم ويدخل في ميتافيزيقا العلم.
29
وهي أقرب إلى المشكلات الميتافيزيقية الخالصة التي تنشأ من خارج نظرية العلم، مثل هل صفة الشيء هي الشيء أم غيره أم لا هو الشيء ولا هو غيره. يكفينا في نظرية العلم أن يكون وجه الدلالة هو الرابط بين الدليل والمدلول. أما قضية هل يقتضي الإثبات بالدليل إثبات المدلول أم إثبات العلم بالمدلول (أو بتعبير لاحق على نظرية العلم وأدخل في نظرية الوجود: هل يؤدي الدليل على حدوث العالم نفسه أم إلى العلم بحدوث العالم؟ أو بتعبير لاحق على نظرية الوجود وأدخل في نظرية الذات: هل يؤدي الدليل على وجود «الله» إلى إثبات وجود الله، أم إلى إثبات العلم بوجود الله؟) فإن الأمر ما دام يتعلق بنظرية العلم وحدها، فالدليل يؤدي إلى المدلول من حيث هو علم لا من حيث هو واقع؛ ومن ثم لا ينقسم المدلول إلى وجود وعدم أو قدم وحدوث، ولا يمكن أن تتحول نظرية العلم إلى نظرية وجود، أو تكون تقسيمات الوجود هي تقسيمات العلم؛ أي أحكام عقلية عن المعلوم . إن الانتقال من الدليل العقلي إلى المدلول الواقعي يقوم على حكم مسبق هو تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان، وهو الموقف الأشعري وموقف الحكماء الذي لا يفترض الدليل الأنطولوجي العام في صلة الفكر بالواقع على عكس الموقف الاعتزالي وموقف الفقهاء الذين يميزون بين عالم الأذهان وعالم الأعيان، بين مقولات الذهن وبين الأشياء في العالم، بين بناء الذات وتكوين الموضوع.
30
لقد اكتفى القدماء بمطالبة الناظر بالدليل الإجمالي دون التفصيلي، بينما اشترط البعض الآخر التفطن لكيفية الاندراج، وتركيب المقدمات ولزوم النتائج منها، ومنعه آخرون إلا بتصديق ثان وهو ما يلزم بالتسلسل أو لأنه متفاوت في الجلاء والخفاء.
31
والحقيقة أن ترتيب المقدمات ولزوم النتائج وكيفية الاندراج كل ذلك جزء من نظرية العلم، ولكن في طرق النظر وليس في النظر ذاته الذي يفيد العلم. ومنهج الإيضاح أحد طرق النظر. ونظرا لأهمية الأساس الشعوري للعلم أصبح من شروطه هذا التفطن لكيفية الاندراج والترتيب.
سادسا: وجوب النظر
النظر واجب إجماعا. ولكن الخلاف في طريق ثبوته سمعا أم عقلا.
1
لا خلاف إذن على وجوب النظر، وكل من لا نظر له فقد أخل بالواجب الذي أقره الإجماع بصرف النظر عن موضوع النظر.
2
ويرتبط موضوع الوجوب السمعي أو الوجوب العقلي بموضوع الحسن والقبح العقليين نفيا أو إثباتا؛ فالوجوب السمعي يقوم على إنكار الحسن والقبح العقليين، الحسن ما حسنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، في حين أن الوجوب العقلي يقوم على إثباتهما، فالنظر حسن في ذاته، وعدم النظر قبيح في ذاته. يعلم المكلف حسن النظر وقبح عدم النظر كما يعلم حسن المعرفة وقبح الجهل. يقوم وجوب النظر إذن على صفة في النظر، فهو وجوب موضوعي. وهذا لا يعني الوجوب الجبري لأنه قائم على الدلالة وهو حسن النظر.
3 (1) الوجوب السمعي
تشهد له آيات كثيرة تحث على النظر والتفكر، وكذلك الأحاديث.
4
ولكن هذه الشواهد النقلية معارضة بشواهد أخرى يوردها المنكرون للنظر، حجة بحجة، ونقلا بنقل وسمعا بسمع. كما نقلت روايات عن النبي تنهى عن الخصام والجدل في مسائل القدر تقابلها روايات أخرى تحث على النظر.
5
والحقيقة أن وجوب النظر يختلط بموضوع النظر، فليس السؤال عن موضوع النظر ، «الله» أم القدر بل النظر ذاته كمنهج أو كطريق للمعرفة بصرف النظر عن موضوع المعرفة.
والحقيقة أن جعل الوجوب الشرعي متوقفا على النبوة، والنبوة على المعجزة، يجعل الدليل كله متوقفا على التبليغ الذي لا يتم إلا عن طريق التواتر. ومن ثم أصبح الدليل خارجيا ثلاث مرات. يتوقف الوجوب على النبوة أولا وعلى صدقها بالمعجزة ثانيا، وعلى صحة نقل المعجزة ثالثا. أما افتراض الوجوب كمجرد إمكانية قبل التبليغ فهو افتراض ما لا يطاق.
6
كما يقوم الوجوب السمعي على أساس النظر والفهم؛ فإنكار النظر إنكار للوجوب السمعي، والعقل أساس النقل بإجماع الأصوليين. ولا يمكن الدفاع عن الوجوب السمعي بأن الوجوب لا يتوقف على العلم بالوجوب حتى يلزم الدور ويتوقف على الإدراك وسلامة الآلات؛ لأن العلم بهذا الوجوب عقلي خالص؛ إذ لا يدرك الإنسان الوجوب إلا بالنظر أي بالعقل، كما لا يمكن الدفاع عنه على أساس أن الوجوب العقلي يعتمد على مقدمات لا يمكن الوصول إليها بالعقل؛ لأن الوجوب العقلي لا يحتاج إلى نظر سابق يعرف به وجوب النظر، وذاك إلى نظر آخر إلى ما لا نهاية؛ لأن النظر بداية أولى وحكم بديهي، وبرهان وجداني. وافتراض أن يقوم النظر على مقدمات غير نظرية هو تسليم بأن مضمون النظر سابق على النظر، ومضمون النظر عند الأشاعرة هي العقائد الدينية، فكيف تكون هي المقدمات الأولى، وهو المطلوب تأسيسها؟ ألا يكون ذلك مصادرة على المطلوب؟ هذا بالإضافة إلى أن هذه المقدمات النظرية الأولى مثل: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، مقدمات يعتمد عليها الأشاعرة أيضا في إثبات الوجوب السمعي، وإنكارها إنكار لبدايات العقول، واعتبار العقل «صفحة بيضاء» إلا من مضمون الإيمان؛ أي العقائد الدينية. إن حكم العقل من حيث المبدأ ليس حكما باطلا؛ لأن هذه هي بدايات العلم، كما أنه ليس مستحيلا لأن إمكانية العلم مرهونة بحكم العقل. ولا يهم تحديد بداية لحكم العقل في الزمان قبل البعثة أو بعدها، ولكن بعد انتهاء آخر مرحلة من مراحل الوحي وإعلان استقلال الشعور الإنساني عقلا وإرادة يتوحد فيه العقل والوحي ويصبح زمان البعثة أو بعدها بغير ذي دلالة، فحكم العقل هو حكم الوحي.
7
لا يتم الوجوب الشرعي إلا بالعقل، وذلك لأن الإنسان لن ينظر الوجوب الشرعي ما لم يعلم ذلك بالنظر؛ فالنظر هو أول الواجبات. وما دامت المعرفة واجبة شرعا وتحصل أولا بالنظر، فإن الوجوب الشرعي يكون للنظر وليس للمعرفة الواجبة شرعا، وتكون المعرفة مشروطا والنظر شارطا.
8
ولا بد من معرفة مصدر الوجوب، وكيف نشأ، بالعقل أو بالسمع، لأن الاكتفاء بالوجوب وحده بصرف النظر عن مصدره تسليم بحجة السلطة دون مبرر، وبالتالي فهو موقف تعسفي يؤدي إلى هدم الوجوب من أساسه سواء كان عقليا أم سمعيا. يقوم الوجوب على التأسيس، وإلا خدم الوجوب أوضاع التسلط والطغيان التي نشأت في القرون الأخيرة إثر الخلط بين الواجب الديني وطاعة السلطان.
9
إذن لا يمكن أن يكون النظر واجبا شرعا؛ لأن وجوب الشرع لا يتم إلا بالنظر وإلا تسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، ومن ثم، لزم الوجوب العقلي.
وكما يكون الوجوب الشرعي بالسمع يكون بالإجماع، وكما أن الوجوب السمعي خاضع للنظر، لأن النص يحتاج إلى فهم وتفسير وذلك لا يتم إلا بالنظر مع افتراض صحته وتواتره، وهو ما لا يثبت أيضا إلا بالنظر؛ فإن الإجماع لا يتم إلا فيما لا نص فيه. وما دام النظر قد وجب بالسمع أي بالنص؛ فدور الإجماع هنا زائد لا لزوم له. وما دام النظر كطريق للمعرفة قد علم بالعقل، فتركيب قياس يدخل فيه النص والإجماع تركيب زائد؛ لأن معرفة النظر كطريق للعلم بالعقل تجعل النظر واجبا بالعقل. هذا فضلا عن أن الإجماع ليس حجة عقلية، بل هو مجرد حجة تعتمد على السلطة، سلطة الجماعة، وأن الإجماع غالبا ما يكون له معارض من داخل الجماعة، ويتغير من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل إلى آخر ما هو معروف من نقد لحجية الإجماع في علم أصول الفقه وعند أصحاب المعارف الضرورية في علم أصول الدين. لا يوجد إجماع مطلق، بل إجماع منقوض، بل ويوجد إجماع مضاد. هذا بالإضافة إلى خضوع الإجماع لمناهج النقل والرواية، إما استحالة نظرا لانتشار المجتهدين في كل مكان، أو احتمالا للخطأ، وهو وارد في النقل.
10
وأحيانا يكون الوجوب الشرعي بالنص والإجماع معا. وفي هذه الحالة يظل النص ظنيا ولا يتحول إلى يقين إلا بالإجماع. الدليل السمعي ظني لأن الحجج النقلية حتى لو تكاثرت وتضافرت فإنها تظل ظنية ولا تتحول إلى يقين إلا بالحجج العقلية ولو واحدة.
11
ومن ثم فالوجوب السمعي ليس وجوبا، بل هو مجرد ظن. والوجوب لا يكون إلا يقينا، ولا يقين إلا وأساسه العقل. إثبات معرفة «الله» لا تتم إلا بالنظر، والنظر هو الأصل، ومعرفة «الله» هو الفرع. ومن ثم يحتاج دليل الأشاعرة إلى إثبات الأصل أولا قبل إثبات الفرع. فإذا كانت معرفة «الله» تتوقف على إفادة النظر العلم، وأنه لا يمكن معرفة وجوب النظر سمعيا إلا بالنظر وهو سابق على السمع، فإن النظر يكون أول الواجبات. ولما كانت المعرفة بالدليل تتطلب النظر يكون الدليل تحصيل حاصل؛ لأنه يثبت النظر للناظر أو يكلف غير الناظر بالأمر ولا يثبت له النظر بالدليل. الوجوب إما للذات وهو تحصيل حاصل أو لغيره وهو تكليف لا يتم إلا بالنظر حتى يفهم الفهم أو بالطاعة العمياء دون فهم، وهو أيضا ما يتطلب الفهم من أجل الطاعة. كما أن المعرفة لا تحصل بالنظر ضرورة، بل قد تحصل بوسائل أخرى سواء كانت مؤدية إلى العلم أم مضادة لها مثل التعليم والتصفية. والدليل كله يقوم على افتراض النظر، في حين أن النظر منقوض لاحتمال الشك والظن والوهم والجهل والتقليد كمضادات للعلم. كما أن الدليل يقوم على مسلمة «ما لا يتم إلا به الواجب فهو واجب»، وهي مسلمة لا يقبلها الأصوليون؛ لأن الواجب تكليف وليس استدلالا، وإلا وصلنا بالواجبات إلى ما لا نهاية، ونرزح تحت عبء الواجبات.
12
كما أن هذا الدليل يدخل في مقدمته الأولى معرفة «الله»، وموضوع «الذات» لم يثبت بعد في هذه المرحلة من تأسيس نظرية العلم. يقفز على نظرية العلم ويستبق الموضوع، وبالتالي فهو دليل إيماني لأن المقدمة الأولى ما زالت إيمانية.
13
وقد رفض بعض القدماء هذا الدليل لأسباب، منها أن تكليف الغافل غير واجب، وصعوبة اطراد الإجماع؛ نظرا لتفرق المجتهدين، وعدم سلامة النقل، ووجود إجماع مناقض. كما لا يمنع أن تتم المعرفة بالنظر دون الإلهام أو التعليم أو التصفية. كما أن الدليل منقوض بعدم المعرفة وبالشك، وأن القول بأن «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.» حكم صوري عقلي وليس حكما شرعيا. وهي كلها حجج تخضع لضعف الحجج النقلية من النص أو من الإجماع.
وقد حاول بعض القدماء الجمع بين الوجوب السمعي والوجوب العقلي، ولكن ظلت الأولوية للوجوب السمعي. وتقتصر وظيفة العقل هنا على تبرير السمع، ويكون الموقف كله أقرب إلى الوجوب السمعي من الوجوب العقلي. لا يكون الوسط في المنتصف الحسابي، بل يكون أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر، كما هو الحال في الوسط في الحياة الاجتماعية، وفي المواقف التاريخية عندما يكون أقرب إلى الفعل أو إلى رد الفعل. إن قبول الوجوب العقلي والوجوب السمعي معا دون تفضيل أحدهما على الآخر يقضي على فاعلية كلا الحكمين، ويغفل طبيعة المرحلة التاريخية التي يمر بها كل مجتمع وأي الحكمين أصلح له؛ لذلك يتبع هذا الجمع إنكار اعتبار النفع والضرر مقياسا للوجوب.
14
لقد أفاض علم الكلام المتأخر في مرحلة الركود والتوقف في تحليل هذا الموضوع دفاعا منه عن نفسه، وتأكيدا لموقف الأشاعرة القديم. وقولهم بالوجوب الشرعي تثبيتا للأمر الواقع في إنكار النظر حتى تستمر السلطة الدينية والسياسية في ترؤسها، وحتى تظل الجماهير العريضة في طاعتها، مع أنه لم يأخذ كل هذا الاهتمام من القدماء عندما كان الحوار ما زال مفتوحا بين الاتجاهات الفكرية المختلفة بين الوجوب العقلي والوجوب السمعي.
15 (2) الوجوب العقلي
النظر إذن واجب بالعقل. وقد اعتمد القدماء لإثبات هذا الوجوب إما على تفنيد الحجج النقلية أو العقلية المعارضة أو على إيراد حجج جدلية جديدة أو على مقاييس النفع والضرر، ما ينتج عن وجوب النظر من نفع وعن عدم وجوبه من ضرر.
لا يعني وجوب النظر عقلا إنكار النبوات والمعجزات، بل القول بأقصر الطرق الذي يتفق عليه كل الناس، وهو العقل وعدم اللجوء إلى السمع إلا إذا دعت الحاجة إليه. هذا بالإضافة إلى أن يقين النبوة يقين خارجي عن طريق المعجزة وليس يقينا داخليا عن طريق التصديق؛ لأن التصديق بالنبوة يحتاج إلى نظر. ومن ثم كان وجوب النظر سابقا على وجوب التصديق بالنبوة. لا يعني وجوب النظر إذن إنكار النبوة بل يعني البداية بالأساس أولا، وهو النظر قبل ما يتأسس عليه وهي النبوة موضوع التأسيس.
16
ولا يؤدي الوجوب العقلي للنظر إلى إفحام الأنبياء؛ فليس طريق إثبات النبوة هو إنكار وجوب النظر، بل إن النبوة يمكن أن تثبت بطرق أخرى تقوم على إثبات ضرورة الوحي. النبوة ما هي إلا طريق الوحي، وليست غاية في ذاتها. بل إن وجوب النظر بالشرع فيه إفحام للأنبياء؛ إذ يقول المكلف: «لا أنظر ما لم يجب، ولا يجب ما لم يثبت بالشرع، ولا يثبت بالشرع ما لم أنظر»، فالنظر إذن واجب عقلا.
17
ولا يؤدي الوجوب العقلي قبل البعثة إلى أن يجعل البعثة زائدة لا لزوم لها؛ فالعقل أساس النقل، والطريق إلى فهم الرسالة ومعرفة الوجود الشرعي. كما لا يقتضى القول بالوجوب العقلي للنظر بوجوب التكليف قبل البعثة في حين أن الوجوب السمعي ينفي وجوب مثل هذا التكليف؛ لأن العقل أساس النقل. والقول بالوجوب العقلي قائم على التسليم بوجود معارف ضرورية في الذهن بصرف النظر عن بعثة الرسل. في حين أن الوجوب السمعي للنظر ينكر وجود مثل هذه المعارف ويجعل الذهن صفحة بيضاء قبل بعثة الرسل.
18
ويمكن إثبات وجوب النظر عقلا ببعض الحجج الجدلية التي تعتمد كلها على برهان الخلف، منها: لو كان النظر باطلا لما كان واجبا، والنظر واجب بالفعل. لو كان النظر باطلا لما كان كافيا في معرفة «الله»، والنظر كاف في معرفة «الله» بالعقل والسمع، وهذه حجة تدخل موضوع النظر سابقا لأوانه وتفترض أنه «الله» مع أنه لم يثبت بعد.
19
ولو كان النظر باطلا لاستحال إثبات ذلك ؛ لأن هذا الحكم يحتاج إلى نظر ومن ثم واجب بفعل النظر. وهي نفس الحجة التي توجه ضد مذهب الشك اللاأدري. لو كان النظر باطلا لما استحق غياب النظر العذاب والخوف؛ فالخوف من ترك النظر دليل على وجوبه. وهي حجة تقترب من النفع والضرر عن طريق البعد النفسي أولا.
20
ولا ضير أن يكون الحكم على وجوب المعرفة بالعقل حكما بالوجوب العقلي؛ فالحكم العقلي هو نقطة البداية من داخل العلم، والعقل قادر على أن يكون ذاتا وموضوعا في نفس الوقت. ليس الوجوب العقلي استحالة من حيث الحكم أو من حيث المبدأ أو من حيث إمكانيات العقل. الحسن والقبح العقليان أمران مبدئيان في العقل. لا يحتاج المكلف إلى معرفة مسبقة بحسن الحسن وقبح القبح وإلا تسلسلنا إلى ما لا نهاية. لا يبدأ المكلف إذن بالبحث أو المصادفة أو الاختيار العشوائي لوجوب النظر، بل يبدأ ببداهات العقول. ولا مانع من وجوب النظر على المكلف وهو يعلم بالوجوب؛ وذلك لأن التكليف يقوم على الوجوب العقلي وليس الأمر الإلهي الذي لا سند له ولا أساس في العقل. وليس ذلك تحصيل حاصل بل تأكيد لأوليات العقل وتأسيس للوحي. من شرائط التكليف إذن أن يكون هناك أساس للتكليف، والأساس في العقل أو في الواقع، للفهم أو للنفع، وهو أساس يقيني يقوم على مسلمات العقول، وبداهات الحس، ومعطيات الوجدان. ليس من الضروري أن يرد التكليف بصيغة الأمر، بل يمكن أن يكون شرط أداء الواجبات، وشرط الواجب واجب. هذا بالإضافة إلى أن الأمر صيغة لغوية للأمر ذاته الذي قد تكون له صيغ أخرى مثل الحث والإيحاء والاستعجاب والدهشة.
21
وتتفاوت درجة الوجوب بين الإجمال والتفصيل طبقا للحاجة، وطبقا للاستعدادات الفطرية للإنسان، وطبقا لاتساع المدارك عند كل فرد ومعرفته بقوانين الحياة. فالنظر الإجمالي واجب على الجميع لأنه هو الذي يعطي التصور العام للحياة، ويجعل الإنسان يعيش في هذا العالم ناظرا ومفكرا أي واعيا وداريا. أما النظر التفصيلي فقد يتفاوت من فرد إلى فرد، وطبقا لدرجة التفقه والقدرة على النظر، وحاجة الإنسان إلى البيان. وفي علم أصول الدين المتأخر، في مرحلة التوقف والركود أصبح الدليل المجمل دون المفصل قائما على قصر العقل وحدود المعرفة الإنسانية وليس على مدى الحاجة إليه. كما تحول الدليل الإجمالي إلى مجرد إيمان بالنص الديني. فإذا استطاع البعض البحث عن الدليل التفصيلي، فإنه يكفي الجماعة الدليل الإجمالي. ولكن بزيادة الوعي، ونشر العلم، يمكن لكل فرد أن يقدر على الدليلين معا، الإجمالي والتفصيلي، على حد سواء. وتمحي التفرقة بين فرض العين وفرض الكفاية، وتصبح الخاصة هي العامة، والعامة هي الخاصة. ويمكن ذلك بسهولة إذا كان موضوع البحث يخص عامة الناس، وما يعانون منه ليل نهار؛ أي أحوال معاشهم وليس موضوعا متعاليا لا يقدر عليه إلا قلة منعزلة أو مترفة لا صلة لها بالجماهير وواقعها إن لم تتكسب من ورائها وتدعي لنفسها العلم، وتعطي لنفسها حق الأمر، وللجماهير واجب الطاعة.
22
ويعلم كل عاقل وجوب النظر، كما يعلم أن ترك النظر قبح يجب تجنبه لما ينشأ عنه من أضرار ومفاسد. قد يحصل العلم إذن بوجوب النظر عن طريق الاكتساب إذا ما ترك المكلف النظر مرة فأصابه الضرر، وإذا ما قام به مرة أخرى فعاد عليه بالنفع. فيكتسب العلم بوجوب النظر إن لم يعلم وجوبه ضرورة. يقوم وجوب النظر على تحقيق المصلحة ودفع الضرر، وأي مصلحة في دعوة الناس الآن إلى إبطال النظر؟ إذا كنا نعاني من غياب النظر وسيادة التقليد، والتسليم بالأمر الواقع، فإن وجوب النظر يحث الناس على التفكير ويدعوهم إلى رؤية واقعهم والمطالبة بحقوقهم. إذا غاب النظر ساد التسليم ورسخت التقاليد، وانتشرت الخرافة، وعم الجهل، وقويت شوكة السلطة فتجبرت وطغت. فما أسهل قيادة الجماهير المستسلمة والشعوب المقلدة والجماعات الجاهلة.
23
الوجوب العقلي إذن ليس وجوبا صوريا خالصا، بل هو أيضا وجوب واقعي مادي؛ تحقيق المصلحة والفائدة للناظر؛ إذ لا تستقيم الحياة بدون نظر. ومن لا يشعر بفائدة النظر يكون عديم الشعور والإحساس. فائدة النظر فائدة فعلية وليست متوهمة. إن كل من يتوهم ضررا من النظر وفائدة من منعه يكون خاطئا ظانا أو متعمدا. إن منع النظر يعني أن الأبله والمجنون والصبي والغبي أفضل حالا من العاقل الفاهم المستنير المدرك. وما أحلى عند السلطة القاهرة أو الشعوب الغافلة من نعيم الجهل وجحيم المعرفة! لا ينشأ الضرر من الخوف من العقاب في عالم آخر بترك النظر، بل مما يلحق الإنسان في حياته الدنيوية من أخطار ناجمة عن غياب النظر مثل تسلط الآخر عليه ووضع الوصايا على الجماعة وتسييره كالأنعام. الخطر هو فقدان الحرية وضياع الشخصية المستقلة. إن رفض مقياس المصلحة والمفسدة ضياع للأساس الموضوعي للوحي ولعلة وجود الشرع، وأن تصور ضرورة البعثة على غير أساس المصلحة هو جعل البعثة مجرد عطاء لا أساس له ولا غاية، مجرد عبث يسهل بعد ذلك اجتزازه، وتبقى مصالح الناس بلا أساس.
والسؤال الآن: أي المواقف أصلح للبلاد النامية؟ الوجوب السمعي بشرط العقل أم الوجوب العقلي للنظر وحده دون سائر الأحكام أم الوجوب العقلي على الإطلاق؟
24
إن ثبوت الأحكام كلها بالشرع، ولكن بشرط العقل؛ يجعل دور العقل هذا هو فهم الشرع وتفسيره أو تبريره والدفاع عنه دون أن يكون هو المشرع والمنظر والموجب. وإذا كانت البلاد النامية تعاني من وظيفة العقل في التبرير والدفاع عن شيء آخر يتم التسليم به عن طريق السلطتين الدينية والسياسية، فإن هذا الموقف الأول يكون تثبيتا للوضع القائم في البلاد النامية، وهو جعل العقل تابعا لا متبوعا، وفرعا لا أصلا.
25
وثبوت النظر وحده دون سائر الأحكام بالفعل موقف نسبي يريد إثبات النظر كحقيقة أولى وترك باقي الأحكام كمسلمات يمكن للنظر فهمها وتفسيرها، أي تبريرها والدفاع عنها. قد يكون الهدف من هذه الازدواجية استقلال النظر ووجوبه حتى يحدث أثره المرحلي، ثم تأتي أجيال أخرى فتجعل باقي الأحكام واجبة بالنظر بعد أن تكون الجماعة قد تعودت عليه. وبالتالي يتحول الإصلاح إلى نهضة، والنهضة إلى ثورة، وهو المنهج الإصلاحي في التغيير.
26
أما وجوب الأحكام كلها بالعقل بما في ذلك النظر، فإن من شأنه إحداث يقظة في البلاد النامية، وثورة فكرية تحدث هزة في النفوس، وتدفع بالجماعة إلى الطفرة، والانتقال من التقليد إلى النظر. ولما كانت مجتمعاتنا تغلب الشرع على العقل نظرا لسيادة الأشعرية منذ القرن الخامس وازدواجه بالتصوف حتى الآن، كان البديل العقلي يكاد يكون معدوما؛ فالقول بالوجوب العقلي إذن إيقاظ للجماهير ورد فعل طبيعي على سيادة الوجوب الشرعي، في حين أن الموقف الإصلاحي الوسط لا يحدث نفس الأثر الفوري في الجماعة؛ لأنه يخدم الوضع القائم باستثناءات الأحكام من النظر، كما يخدم التغيير في المستقبل بجعله النظر واجبا عقلا. أما الانحياز إلى الوجوب العقلي فما هو إلا رد فعل على الانحياز إلى الوجوب الشرعي. ولا يغير من الانحياز إلا الانحياز المقابل حتى يحدث التوازن في الأجيال القادمة. أما الحلول الوسط في المواقف التي تستدعي انحيازا، فإنها تنفصل إلى طرفين؛ إذ يجذب كل طرف الوسط لصالحه. ولا وجود للوسط إلا بعد أن يتحقق الطرفان في الجماعة كفعل وكرد فعل، ثم يأتي الوسط وقد أثبت كل من الطرفين وجوده.
27
وتتحول نظرية الوجوب إلى نظرية في التكليف. فالإنسان لا يقوم بالنظر فقط بالوجوب العقلي، ولكنه مكلف به بالتكليف الشرعي. النظر جزء من التكليف، والتكليف هنا معرفي خالص؛ أي النظر المؤدي إلى المعرفة أو النظر المؤدي إلى العلم. إذا حصل العلم بالمنظور؛ وهنا تبدو نظرية العلم كنظرية في التكليف. وجوب النظر يجعله تكليفا لأن الوجوب تكليف أي التزام. النظر واجب أي تكليف مثل الصلاة والصيام. وإن حصر الواجب أي التكليف في الصلاة والصوم هو أخذ جزء من الواجبات الشرعية، وهو الأسهل، وترك جزء آخر منها، وهو الأصعب. وهو ما تحاول السلطتان الدينية والسياسية التركيز عليه في المجتمع المتخلف. يقوم أداء الواجبات الشرعية على الطاعة ويؤدي إليها، في حين يقوم واجب النظر والتكليف به على الوعي ويؤدي إليه. وإذا ما وعى الناس فكروا في أوضاعهم الاجتماعية والسياسية، وشعروا بمدى القهر الذين هم واقعون تحته.
ويتضمن التكليف جهدا ومشقة، ومن ثم فهو عمل عقل وإرادة معا، عقل للفهم والامتثال وإرادة للعمل والالتزام. والنظر أيضا به جهد ومشقة. فهو معاناة للفكر، ومقاومة للتقاليد الموروثة، ودفع للشبه، وترك للشكوك، ودفع للظنون والأوهام، وابتعاد عن الجهل، وسعي وراء العلم.
28
التكليف علم وعمل، والعلم أساس التكليف، والتكليف قائم على العلم. وهذا لا يعني أن العلم لا يحدث أثناء العمل، وهو العلم عن طريق الممارسة، من خلال تجارب المحاولة والخطأ؛ فالعلم النظري الأول الذي يقوم على يقين صوري علم عملي يقوم على يقين عملي. التوحيد أساس نظري للسلوك، وهو المبدأ الذي على أساسه تقوم وحدة الذات بين الداخل والخارج، ووحدة الجماعة بلا تمايز طبقي، ووحدة الإنسانية بلا تفرقة عنصرية. يمثل التوحيد مجموعة من القيم، يعمل الفرد والجماعة على تحقيقها.
29
التوحيد بين العلم والعمل؛ أي بين وجوب النظر والتكليف بالنظر، هو تحقيق لهذا العلم وتحويله إلى أثر في الحياة، وهو ما سماه القدماء الثواب. وهو أيضا سبيل التعلم؛ إذ يتعلم الإنسان من العمل قدر تعلمه من النظر، ويعمل في النظر قدر عمله في العمل. وهو أيضا تبليغ للعلم ونشر له، ليس فقط عن طريق الكلام سماعا، بل أيضا عن طريق العمل رؤية. تحب الجماهير أن تسمع وترى، وتنصت وتشاهد. والعلم الذي لا يتحقق يدخل من أذن ويخرج من الأذن الأخرى.
30
والمكلف هو البالغ العاقل الذي بلغته الدعوة؛ احترازا عن الصبي والمجنون ومن لم تبلغه الدعوة من أهل الفترة؛ أي الذين لم يلحقوا بالنبي الأول أو الثاني. لا فرق في ذلك بين ذكر أو أنثى، بين غني أو فقير، بين رئيس أو مرءوس، حاكم أو محكوم؛ يعم التكليف إذن كل إنسان على هذه الأرض، أما أصحاب المعارف الضرورية، فإن معرفة «الله» لديهم ضرورية لا يحتاجون فيها إلى نظر. وهذا لا يمنع من أن استدلال الأنبياء وحوارهم مع غيرهم من أجل إثبات المعرفة ودحض الجهل.
31
أما الذي اخترمته المنية أثناء النظر فقد حكم عليه القدماء بالعصيان في حين أنه قصد إلى النظر، ونوى البحث، وسعى إلى المعرفة، والأعمال بالنيات. لا يهم الوصول إلى المعرفة بقدر ما يهم السعي إليها. فلو كان صادق العزم وحسن النية في البحث والنظر، وكان النظر هو أول الواجبات، فإنه يكون مؤمنا. فإن امتد به العمر ووصل إلى المعرفة، فقد اجتهد وأصاب؛ فهو مؤمن وإن لم يصل، فإن يكن قد اجتهد وأخطأ يكن أيضا مؤمنا؛ العبرة بالاجتهاد، هذا بالإضافة إلى أن الذي اخترمته المنية لم يعد موضوعا للتساؤل لأن الأحياء هم المكلفون بالنظر، والحال أولى من المآل، وإيقاظ الأحياء أولى من إحياء الأموات.
32
ولما كان النظر تكليفا، فإنه يأخذ بأحكام التكليف من ثواب وعقاب. النظر به مشقة، وكل عمل فيه مشقة يقع تحت قانون الاستحقاق. ولا يعني وقوع النظر بطريقة التجريب من خلال المحاولة والخطأ نفي قانون الاستحقاق. النظر بطبيعته ليس شيئا يوجد أو لا يوجد، بل هو قصد للنظر ثم إعمال للنظر بأفعال الشعور. النظر عملية نظر وليس واقعة نظر، عملية تقوم على أفعال الشعور من شك وظن ويقين ومطابقة وإيضاح وبداهة ... إلخ. وينطبق قانون الاستحقاق دائما طالما أن النظر فعل أو ترك قائم. إذا وجد السبب وجد المسبب. لا ينطبق قانون الاستحقاق على أول النظر فقط سواء أكان قصدا أم فعلا؛ نظرا لوجوب استمرارية الأفعال، وإلا كانت الأفعال مجرد بدايات أفعال أولى لا تستمر ولا تنتهي إلى شيء. وذلك لأن الأفعال للتكرار كما قال علماء أصول الفقه. قد يعني الثواب والعقاب مجرد الكمال الإنساني، فالنظر يؤدي إلى الكمال، وغيابه يؤدي إلى النقص. ليس الدافع على الوجوب إذن الذم أو المدح أو الثواب والعقاب، بل هو عمل العقل ذاته وما يحققه من كمال إنساني بالإضافة إلى ما ينتج عنه من تحقيق للمصلحة العامة. ثواب النظر هو الحياة التي يسودها العقل، وعقابه هي الحياة التي يسودها التخبط والضياع.
33 (3) أول الواجبات
إذا كان النظر واجبا سمعا أو عقلا، فهل النظر أول الواجبات؟ تتراوح الإجابة بين مقدمات النظر وحركة النظر ونتائج النظر؛ أي ما يأتي قبل النظر، وما يقع مع النظر، وما يحدث بعد النظر ابتداء من أفعال الشعور الداخلية إلى عمل العقل ثم إلى أفعال الشعور الخارجية، وابتداء من الخارج إلى الداخل. يبدو النظر وكأنه الحلقة المتوسطة بين أفعال الشعور الخارجية كالعمل والقول حتى أفعال الشعور الداخلية كالاعتقاد والخاطر والدافع والقصد.
ليس أول الواجبات وظيفة الوقت كصلاة ضاق وقتها فتقدم. هذا واجب عملي يسبقه واجب نظري وهو الإحساس بالزمان. وهذا لا يأتي إلا بالنظر الذي يكشف للإنسان تحمله للرسالة. تقوم الواجبات العملية على الواجبات النظرية. ولما كان علم أصول الدين يهدف إلى تأسيس النظر، في حين أن علم أصول الفقه يهدف إلى تأسيس العمل، فإن جعل وظيفة الوقت الضيق أول الواجبات هو تأسيس العمل قبل تأسيس النظر. أما إذا كان المقصود هو الشعور الداخلي بالزمان، والشعور بالذات من حيث هي وجود في الزمان فإننا نتجه بالأفعال الخارجية للشعور إلى الأفعال الداخلية، ونكون أقرب إلى المقدمات منا إلى النتائج. وإذا كانت مأساتنا في البلاد النامية عدم الإحساس بقيمة الزمان وعدم إحساسنا بالتاريخ، وضياعنا للحاضر في سبيل الماضي العريق أو المستقبل البعيد في الدنيا أو خارجها قد يكون في اعتبار الإحساس بالوقت الضيق كأول الواجبات نفع وصلاح. ويكون في هذه الحالة مقدمة للنظر، وشرطا للمعرفة. وإذا كان المقصود بالصلاة هو الإتيان بفعل الوقت، وكانت مأساتنا في تأجيل الأفعال إلى الغد، فإن اعتبار الفعل في الوقت أو وقت الفعل أول الواجبات فيه أيضا خير وصلاح لما نحن فيه.
34
ليس أول الواجبات النطق بالشهادتين؛ فالنطق حركة للشفاه وراءها معنى في الذهن، وشعور في الوجدان، وتصور للعالم، وفعل في الواقع. حركة الشفاه ما هي إلا ظاهر لشيء آخر خفي هو ما وراءها من معان وتصورات ومتطلبات وبواعث ومقاصد. ولا يمكن للمكلف أن ينطق بالشهادتين دون أن يعي معناهما أو يتمثل تصوراتهما أو يفعل بمقتضاهما أو يتحرك ببواعثهما أو يتجه نحو مقاصدهما وإلا لحولنا التكليف إلى مجرد حركات باللسان وتمتمات بالشفاه كما هو الحال في هذه الأيام لدى الحاكم والمحكوم. ليس الإقرار بالشهادتين أول الواجبات على المكلف؛ فذلك هو الوضع في علم أصول الفقه وهذا هو موقف الفقهاء . أما في علم أصول الدين، فأول الواجبات هو النظر لأن النطق بالشهادتين ينبني على معرفة «الله» والتسليم بوجوده والإيمان بالرسول - بعد تأسيس نظرية العلم - وذلك لا يتم إلا بعد حدوث تحول في الشعور واعتقاد بالنظر. وإذا كنا نعاني في حياتنا المعاصرة من كثرة التمتمات، وحركات اللسان والشفاه دون أن نعي ما نقول أو نحقق متطلباته؛ فإن جعل النطق بالشهادتين أول الواجبات لا يؤدي إلى نفع أو صلاح، بل يثبت الأمر الواقع ويشرع لما هو موجود. فإذا كان الجواب الأول عن أول الواجبات عملا فإن الجواب الثاني قول. وكثيرا ما صاحت حركتنا الإصلاحية الأخيرة: «ما أكثر القول وأقل العمل!»
35
ليس أول الواجبات هو الإيمان؛ لأن الإيمان وضع داخلي للشعور يقوم على أساس النظر في موضوع الإيمان. النظر سابق على الإيمان، بل إن علم أصول الدين كله يهدف إلى تأسيس الإيمان على النظر. وإذا كنا في مجتمعات مؤمنة، تعطي الأولوية للإيمان على النظر، فإن اعتبار الإيمان أول الواجبات يثبت الأمر الواقع، ولا يحقق أي نفع أو صلاح. وقد تم اختيار الإيمان أول الواجبات في القرون الأخيرة في فترات التخلف والتوقف والانهيار كدعوة صريحة إلى التسليم وإغفال النظر كمقدمة إلى التسليم للسلطة السياسية وإسقاط المعارضة. بل إن مضمون الإيمان مضمون غيبي خالص حتى يقضي على أية فرصة للنظر والتصديق والتحقق في الواقع من صحة هذا المضمون، والتسليم الخالص دون مراجعة أو بيان أو حتى طلب دليل أو برهان. ولو ظهر فإنه يكون مقدمة للتسليم، وليس مراجعة له، وبابا يدخل منه الإيمان، وليس وسيلة للتحقق من صدقه.
ليس أول الواجبات هو الإسلام؛ لأن المكلف لا يؤمن بالإسلام إلا بعد النظر وتدبر وإعمال للعقل والروية، وإلا كان إسلاما عن طريق العادة والتقليد. يتطلب الإسلام المعرفة به؛ فالمعرفة سابقة على الإسلام، والمعرفة لا تتم إلا بالنظر؛ فالنظر سابق على المعرفة. وإذا كنا نعيش في عصر يغلب على الجميع فيه الإسلام عن طريق العادة أو التقليد، فإن جعل الإسلام أول الواجبات تثبيت للوضع القائم على ما هو عليه دون تغييره إلى ما هو أفضل.
ليس التقليد هو أول الواجبات، فالتقليد من مضادات العلم وليس من طرقه. ولما كان النظر طريق العلم كان أول الواجبات. بل إن النظر يأتي دائما معارضا للتقليد، ونقدا للموروث، ومراجعة للمسلمات. التقليد اعتقاد جازم مطابق لا عن سبب طبقا للعادة أو للموروث، وكلاهما خارج النظر؛ لذلك جعل علماء أصول الدين المقلد عاصيا آثما. يستحيل إذن أن يكون التقليد أول الواجبات، بل هو أول المحرمات؛ لأنه نفي للنظر، والنظر أول الواجبات.
36
ليس الاختيار بين التقليد والمعرفة أول الواجبات؛ إذ كيف يتم الاختيار بين نقيضين، ويكون كلاهما صحيحين في آن واحد؟ المعرفة ضد التقليد، والتقليد ضد المعرفة. ولما كان التقليد نفيا لعلم أصول الدين الذي يهدف إلى تأسيس العلم، وكان المقلد عاصيا، إنما كانت المعرفة هي الاختيار الأوحد. ولما كانت المعرفة لا تتم إلا بالنظر كان النظر هو أول الواجبات.
37
ليست المعرفة وحدها أول الواجبات؛ لأن المعرفة لا تتم إلا بالنظر. المعرفة نتيجة للنظر والنظر مقدمة لها. ولا تعني المعرفة بالضرورة معرفة موضوع معين، متعال على وجه الخصوص، بل مجرد إمكانية العلم والوصول إليه. هذه الإمكانية التي لا تحدث إلا بالنظر. وإن افتراض المعرفة قبل النظر ثم افتراض المعرفة بموضوع متعال سبق للنظر مرتين، وبالتالي وقوع في حكمين مسبقين لا يفترضهما النظر. وأحيانا تصبح المعرفة هي العلم، ويكون ذلك حكما مسبقا ثالثا. ليست كل معرفة بالضرورة علما؛ وعلى هذا النحو يختلط موضوع النظر بموضوع المعرفة كما يختلط موضوع المعرفة بموضوع العلم. وقد جعل القدماء «معرفة الله» أصل المعارف الدينية، فمنها يتفرع كل وجوب. ولكن «معرفة الله» أصل المعارف الدينية، فمنها يتفرع كل وجوب. ولكن «معرفة الله» مرحلة تالية لبناء المعرفة ذاتها، وهذه مرحلة تالية لبناء نظرية العلم، وهذه مرحلة تالية لتأسيس النظر كطريق للعلم. قد تكون «معرفة الله» خارج نطاق نظرية العلم وإمكانياتها، وبالتالي لا يكون النظر طريقا إليها.
38 «الله» موضوع مفارق لا يمكن تصوره أو إصدار حكم عليه كما قال المهندسون في الإلهيات.
39
ولكن مطلق المعرفة واجب أو المعرفة بالموضوعات الحسية؛ معرفة النفس، ومعرفة الآخرين، ومعرفة الأشياء، ومعرفة الأوضاع الاجتماعية والسياسية، ومعرفة حركة التاريخ ومساره. يحدث خلط إذن بين وجوب النظر ووجوب «معرفة الله». فالسؤال يتعلق بوجوب النظر كطريق للعلم وليس بموضوع النظر كموضوع للعلم. وعندما يتحول موضوع وجوب النظر إلى وجوب «معرفة الله»، فإنه يدخل في موضوع لاحق على تأسيس نظرية العلم وهو موضوع «العقل والنقل». وفي هذه الحالة يجعل الوجوب العقلي معرفة الله واجبة بالعقل؛ فالعقل أساس النقل أو يجعل الوجوب السمعي معرفة الله واجبة بالسمع، فالنقل أساس العقل.
40
إن الحديث عن وجوب النظر قد يكون نفسه حديثا في وجوب المعرفة، في حين أن النظر شيء والمعرفة شيء آخر. والمعرفة هي النهاية. النظر هو المنهج والمعرفة هي الموضوع، النظر هو المقدمة والمعرفة هي النتيجة. لا يهم في الوجوب العقلي للنظر وجوب موضوع معين، سواء كان ماديا أم صوريا، بل الوجوب العقلي ذاته من حيث هو نظر وتحليل وفهم وإدراك؛ أي من حيث الذات العاقلة. بعد ذلك يمكن إدراك مقدمات النظر ونتائجه وطرق الاستدلال كما يمكن إدراك بداية الموضوع ومساره ونهايته. وأحيانا تتجه المعرفة نحو الدليل أكثر مما تتجه نحو الموضوع من أجل إظهار المعرفة البرهانية عن طريق الدليل الإجمالي. كما تتجه أيضا نحو الوقت المضيق، فتكون المعرفة مطلوبة في الحال وليس في المآل، على الفور وليس على التراخي. والواجب المضيق هو الخاص الضروري الذي لا بديل عنه، بعكس الواجب الموسع الذي يمكن تأجيله وإيجاد بدائل له. المعرفة إذن، بصرف النظر عن مضمونها، واجب مضيق لا بديل عنها؛ لأنه يقبح تركها. ولما وجب بالعقل ضرورة التحرز من القبيح، فإنه لا يمكن التحرز منه إلا بالنظر. ولا نخشى على هذه المعرفة الفورية من أن تتحول إلى حدس أو إلهام أو رؤية؛ وبالتالي لا يضيع النظر.
41
النظر إذن هو أول الواجبات؛ لأن موضوع المعرفة لا يعرف ضرورة أو مشاهدة، بل بالنظر الذي تكون الضرورة والمشاهدة إحدى مراحله. ونظرا لأن سائر الشرائع النظرية لا تعرف إلا بعده، وأن هذه المعرفة لا تتم إلا بالنظر، فإن سائر الواجبات يمكن أن تتأخر بعد النظر. أما وجوب النظر فمقدم عليها جميعا.
42
النظر أول الواجبات بشرط التكليف وهو العقل، فيخرج الصبي والمجنون.
43
وقد يسبق النظر القصد إلى النظر أو إرادة النظر أو اعتقاد النظر. أول النظر ومقدمته الأولى القصد إليه أو الإرادة له أو الوعي به أو الإحساس بالموقف والحاجة إليه، وهنا تبدو نظرية العلم كنظرية في القصد والاتجاه نحو الوضوح وهو النظر. وقد اعتبر البعض القصد إلى النظر تكليف ما لا يطاق؛ إذ يجب النظر وقد يعاق القصد إليه. والحقيقة أنه ليس تكليفا بما لا يطاق؛ لأن أي فعل من أفعال الشعور ما هو إلا قصد، ولا يمكن وجوب النظر دون القصد إليه. القصد مقدمة النظر وشرطه؛ لأن النظر في نهاية الأمر عمل العقل، والعقل صورة من صور الشعور. لا يمكن أن يكون النظر مجرد الفعل؛ فالنظر عمل الشعور، ولا يتم مصادفة بل بوعي بالموقف وبإحساس بضرورة الحاجة إليه. يحدث النظر بعد درجة من الوعي ثم يزيد الوعي ويجعله أكثر برهانا. وذلك ليس تكليفا بما لا يطاق. القصد إلى شيء هو الذي يكشف أهمية النظر؛ فالنظر لا يكون إلا نظر الشيء.
44
وقد يسبق النظر أو يحدث معه البحث في مقدمات النظر، وهو أول جزء في النظر. قد يكون هو الدليل أو العقل أو عمل العقل. وقد يكون هو النظر في وجوب النظر، فيكون النظر سابقا على النظر؛ إذ يسبق الأنا أفكر عملية الفكر. ولكن هذا السبق ليس أوليا مثل القصد إلى النظر، بل هو تابع للقصد، ويكون جزءا من عملية النظر، وهو الخاص بالاستدلال مع العلم بأن النظر واجب أولي لا يسبقه واجب نظري آخر. المعارف الضرورية هي بداية النظر. وقد يضم النظر والمعرفة والقصد معا في محاولة لوصف النظر في كل مراحله؛ مما يدل على أن النظر ليس مقصورا على مقدماته أو على مساره أو على نتائجه، بل عملية واحدة تشمل الحس والوجدان والشعور والواقع؛ وبالتالي يكون الخلاف لفظيا في أن كل رأي يصف عملية النظر ككل بأحد أجزائها، ويطلق عليه لفظ مثل المعرفة والنظر والقصد والإرادة والاعتقاد.
45
وقد يكون الخوف من ترك النظر هو أول الواجبات؛ نظرا لما ينتج من ترك النظر من مضار. والخوف لا ينشأ إلا بعد إدراك أهمية النظر وقيمته، وقد ينشأ بعد النظر، بعد التحقق من فائدته. كما أن النظر لا ينبني على الخوف ضرورة بل هو تعبير عن طبيعة الإنسان وكماله من حيث هو موجود عاقل، وتعبير عن وجود الدواعي والمقاصد والغايات.
46
وقد يسبق النظر الشك، وبالتالي يكون الشك أول الواجبات. صحيح أن الشك من مضادات العلم، ولكنه في هذه الحالة يكون الشك اللاأدري الذي ينكر وجود الحقائق، أو الشك العنادي الذي يؤمن بوجودها ولكن يعاند في التسليم بها وفي إمكانية معرفتها، أو الشك العندي الذي يؤمن بوجود الحقائق وإمكانية معرفتها ولكن يجعلها نسبية. هذا الشك شك مذهبي يجعل الشك غاية في ذاتها.
47
أما الشك هنا باعتباره بداية للنظر، فإنه يعني تطهير الذهن من الموروث حتى يمكن النظر ابتداء من أوليات العقل وبداهة الحس. فهو شك منهجي يجعل الشك وسيلة لا غاية. الشك هو الدافع على النظر والهادم للتقليد. لا يمكن النظر مع الجزم؛ لأن الجزم ناف للنظر ومستغن عنه. يتوجه الشك أساسا ضد الجزم من أجل القضاء على القطيعة التي لا تقوم على أساس؛ حتى يمكن للنظر حينئذ أن يعيد تأسيس المعرفة وبناء العلم. يحتاج النظر إذن، وهو خطوة إلى الأمام، إلى الشك، وهو خطوة إلى الخلف. وظيفة الشك هنا التخفيف من حدة الموروث، والإقلال من ضغط قوالبه الذهنية التي قد تمنع سيطرتها من النظر ومن البحث الحر. الشك متضمن في النظر، فلا ينظر الإنسان إلا إذا كان فاحصا وباحثا وغير مسلم بالأفكار المسبقة. الشك في القديم الموروث إذن، وفيما جرت عليه العادة والعرف أولى مهام النظر. ولا يقال إن الشك غير مقدور؛ لأن الشك هو البداية الطبيعية للنظر، وبداية الانتقال من القديم إلى الجديد. لا يتم النظر إلا في وضع اجتماعي، ولا يتحقق إلا في مرحلة تاريخية؛ أي إنه نظر في الزمان وبالتالي يكون مقدورا للناظر بل وباعثا له على النظر. الشك نظر مقلوب أو نظر إلى الوراء أو نظر ناف أو تحرر للنظر من الأحكام المسبقة والعقائد الموروثة. ولا يعني إيجاب الشك نفي إيجاب النظر من حيث هو قوة للرفض. ليس الشك قبيحا؛ لأن الناظر لا يعلم صحته، فالشك منهج وليس موضوعا، وسيلة لا غاية، بداية وليس نهاية. ويقبح فقط إذا انقلب إلى موضوع وغاية ونهاية، وتحول من نظر إلى علم. يحدث الشك في البداية كمقدمة للنظر، والنظر طريق العلم، فالشك إذن طريق للعلم. وإذا ظل الشك بداية ونهاية، فإنه يكون قبيحا مضادا للعلم.
48
فإذا كان القصد إلى النظر أو الشك سابقا على النظر، فإن الخواطر توجد مع النظر. وقد توسع المعتزلة وحدهم في موضوع الخواطر لأنهم هم الذين يوجبون النظر عقلا، ويصفون مسار النظر ابتداء من القصد إلى النظر حتى توليد النظر للعلم. والخاطر هي البارقة التي تظهر في الشعور. يستطيع الإنسان بها أن يدرك الدلالة إدراكا مباشرا، وقد يكون مجرد فرض علمي يحتاج إلى برهان أو نظرية جزئية في حاجة إلى نظرة أعم وأشمل. الشعور موطن الخواطر، يعطي البرقات، وهذه تتوالد في الشعور تلقائيا؛ نظرا لطبيعة الشعور المعطي الواهب. ويرجع إنكار الخواطر إلى رد هذه الدلالات إلى كمال العقل وطبيعة عمله، وليس إلى خلق الشعور المستمر وعمله المتجدد. وبصرف النظر عن إثبات الخاطر أو كمال العقل، فإن الناظر ترد عليه الخواطر وهي الدلالات التي يتم رؤيتها. شعور الناظر في حركة دائبة وبحث مستمر عن الحقيقة، وهذه الحركة تجعل شعوره خالقا لدلالات وواضعا لمعان في مقابل النافي للنظر الذي يتحجر شعوره ويصبح مصمتا بليدا، غافلا راكدا. ولا يقال إن الخواطر والدواعي غير ضرورية ما دام الإنسان يعرف أحواله بنفسه؛ لأن معرفة أحوال النفس لا تتم إلا بالخواطر والدواعي.
49
يرد الخاطر على النفس بأفعال الشعور الداخلية وليس من أفعال خارجية أو من إرادات مشخصة متعددة أو واحدة. الشعور بطبيعته وهاب للمعاني. لا يأتي الخاطر من «الله» لأن الخواطر ظنون وافتراضات تتحول إلى براهين فيما بعد، و«الله» لا يوحي بظنون طبقا لهذا الافتراض الذي لم يدخل بعد في نظرية العلم تحت التأسيس. الخاطر معنى غامض وخفي وإلا كان معرفة بديهية، اضطرارا أو استدلالا.
وقد يكون الخاطر اعتقادا أو كلاما؛ فالخاطر برد على النفس من تداعي الذكريات، ومن حديث النفس الداخلي، ومن حياة الشعور الدائبة. الشعور إدراك وتذكر وتخيل بل وتوهم. وقد يتم الإدراك داخليا وخارجيا معا. كما قد يرد الخاطر من الكلام مسموعا أو مقروءا أو من رؤية إشارة أو تعبير في الوجه بالعين أو بلون البشرة أو بحركة الجسم. يتم الخاطر هنا بحضور المدرك، ومع أن الكلام أخص من الخاطر إلا أنه لا يتم فهمه إلا بالخاطر. فالخاطر أيضا سابق على الكلام، وشرط فهمه. ولا يمكن فهم الكلام إلا بفهم قصد المتكلم، وهذا لا يتم إلا بالخاطر. وكون الخاطر كلاما يعني ارتباطه باللغة. ولكن لا يعني ذلك عدم تعميمه على العقلاء جميعا لأنه لا دليل على وجود عقلاء قد جهلوا اللغات. ولا يكفي في الخاطر أن يكون معنى يرد على النفس أو اعتقاد ظن، بل لا بد أن يكون معبرا عنه في كلام مسموع أو مقروء. ولا ضير أن يحل الكلام في الجسم، فالكلام لا يكون محمولا إلا على جسم، الأذن أو اللسان أو الشفاه أو الهواء. ولا يعني التباس الكلام في الفكر، كما هو الحال عند النائم، ألا يكون الخاطر كلاما؛ إذ يمكن بعد الانتباه التمييز بين الكلام والفكر. فإذا لم يكن الخاطر مجرد ظن أو اعتقاد ونابع من ذاتية خالصة، وإذا لم يكن كلاما حسيا ماديا لبشر أو لغفير بشر فإنه يكون معنى. المعنى هو الجامع بين الذاتية والموضوعية، إما أن يرد على النفس بفعل من أفعال الشعور أو بفعل من أفعال الجوارح. الأول لا يكون إلا ظنا أو اعتقادا لأنه مجرد خاطر لم يتحول بعد إلى يقين في حين أن التالي مرئي محسوس مثل الكلام والكتابة. أما الإشارة فإنها تتوقف على قصد المشير، وبها حضور المتكلم، وبها الموقف، وبها العلاقات بين الذوات في حين أن الكتابة مصمتة يغيب فيها الكاتب، وليست موقفا حيا، ولا توجد فيها علاقات بين الذوات.
50
وقد تحولت الخواطر لدينا إلى إلهامات ورؤى منفصلة عن النظر مصدر العلم تحت تأثير التصوف وازدواجه مع الأشعرية، وأصبحت أقرب إلى البرقات والمكاشفات عند الصوفية.
ولا يرد الخاطر على النفس إلا بشروط، منها: أن يفيد الوجه الذي يدل على وجوب النظر وحسنه بأن يساعد الشعور على إدراك المعاني وعلى رؤية عالم يحكمه الفكر، وأن يتضمن وجوب المعرفة التي يؤدي إليها النظر؛ فالنظر ليس هدفا في ذاته، بل وسيلة للحصول على المعرفة، وأن يتضمن وجه الخوف من ترك النظر ورؤية قبحه، وذلك بالإشارة إلى الأمارات والعلامات التي تبعث على الخوف، وأن يتضمن ترتيب النظر حتى يكون منتجا. وورود الخاطر دون بيان دلالاته يقبح عقلا؛ لأنه يكون بلا فائدة. وإذا كان الخاطر من «الله»، فإن حكمته تبين وجه النفع والضرر فيه. والخاطر من حيث هو تنبيه على الدليل قد يكون عاملا مرجحا بين احتمالين، وهو ما يقوم مقام «المعجزة» عند الأشاعرة.
51
وهناك شروط أخرى غير واجبة، مثل أن يكون هناك خاطر مقابل ضد الخاطر الأول حتى لا يكون هناك إلجاء من خاطر واحد. والحقيقة أن الخاطر الواحد لا يلجئ بل يدفع ويحث. الخواطر لا تتعارض ولا ينفي بعضها بعضا، بل تجتمع وتتآزر لتؤسس الفكرة. ولا يأتي الخاطر مستمرا بل متقطعا، ولا يأتي ممن ظهرت «المعجزات» عليه؛ لأن الخاطر يحدث من كلام أو اعتقاد، وكلاهما من أفعال الشعور. الخاطر ظن يتحول إلى يقين بالبرهان بعد النظر، فلا يحتاج إلى يقين خارجي عن طريق المعجزات. ولا ينتج عن الخاطر معرفة بالضرورة؛ لأنه لا يصبح معرفة إلا بعد النظر.
52
وتدخل مسألة الخاطر أيضا في حرية الأفعال؛ أفعال الشعور الداخلية نظرا لارتباطها بالدواعي. فمرة يكون الخاطر أقرب إلى المنبه على الدلالة، ومرة يكون هو الدافع على النظر فيكون كالدواعي مثل الخوف من ترك النظر؛ لما يترتب عليه من ضرر يدرك العقل قبحه في حين أن الداعي هو الباعث على النظر. أما الخاطر فهو ما يرد على الذهن بعد توافر الدواعي التي تتوافر عند العاقل دون الصبي أو المجنون أو الساهي أو الغافل. ولا تصل قوة الداعي إلى حد الإلجاء وإلا انتفى النظر. الدواعي هي التي توجه الإنسان وتدفعه نحو إعمال الذهن، الداعي هو الأمارة التي تنبه الإنسان على ضرورة النظر وتحذر من مضار تركه، ولا يكون التنبيه إلا عند أمر حادث؛ أي في موقف اجتماعي يكون هو المسبب للدواعي والخواطر، فيبدأ حديث النفس. وهذا كله يجعل المعرفة ممكنة. فإمكانية المعرفة تعادل وجود الحوادث والدواعي والتنبيه والخواطر. وذلك كله ينتفي بالسهو وبالغفلة وبآفات السمع وبفقدان الحواس، ومع ذلك، السهو طارئ، والغفلة عرض، وآفات السمع لا تقضي على التنبيه. الداعي من النفس، والخاطر حديث النفس، وكلاهما مرهون بحياة الشعور، كما أن النظر والعلم مرهونان بيقظة الشعور،
53
ولا يقوم الخاطر مقام الداعي أو الداعي مقام الخاطر؛ فلكل منهما عمله في الشعور. الداعي هو الباعث، والخاطر ما يرد على النفس أو بعد استدلال. وإن كان الداعي سابقا على الخاطر، فإن ورود الخاطر بعد الداعي لا يجعله زائدا، بل يكون نتيجة طبيعية لوجود الداعي. وإن كان الداعي أقوى حضورا فالخاطر أيضا يكون أقرب إلى النفس والدلالة من مجرد الباعث النفسي. ولا خوف أن يكون الداعي كاذبا أو ماجنا أو هازلا، وألا يكون مخبرا بالنفع والضرر؛ لأن الداعي أمر خطير يمكن التحقق من صدقه بالرجوع إلى الموقف الاجتماعي وليس فقط إلى صدق المخبر إذا ما كان الداعي خبرا.
54
والداعي أساس التكليف؛ إذ لا يوجد تكليف بلا داع. ولما كان النظر تكليفا، فإنه يقوم على الدواعي، وهي أشبه بالعلم الضروري الذي يحدث في الشعور؛ إذ إنها مثل الباعث العاقل، يدفع الإنسان إلى أفعال الحسن ويصرفه عن أفعال القبح. وقد يكون أيضا استدلاليا بوقوع نوع من حديث النفس الباطني ومقارنة الدوافع والصوارف. ولكن الغالب عليه أن يكون ضرورة وإلجاء. ويختلف في ذلك فرد عن آخر دون أن ينال هذا الاختلاف من وجود الداعي وما نلجأ إليه من وجوب النظر.
55
قد يكون الداعي إذن للفعل أو الترك، للإقدام أو الإحجام، والذي يحدد ذلك حال الشعور صفة في الشيء. ولا يعني وقوع الأفعال عن الدواعي وقوع القبيح ابتداء؛ لأن الدواعي مجرد البواعث على الأفعال بعدها تحدث الخواطر ثم يأتي النظر من أجل التحقق من صدقها. الداعي هو الباعث وليس صفة الحسن والقبح في شيء. ولا يعني انتفاء الثواب والعقاب على الصغائر انتفاء قبحها وإلا كان هناك داع لفعلها وإغراء عليها.
56
وعلى هذا النحو يتحول موضوع النظر كأول الواجبات إلى مقدمة للفعل وأساس نظري للسلوك من خلال الخواطر والبواعث والدواعي. فالنظر متجه بطبيعته نحو العمل، والداخل مفتوح على الخارج؛ مما يجعل النظر يتحول بسهولة إلى موضوع النظر معلنا عن قرب نهاية نظرية العلم وبداية نظرية الوجود كموضوع للعلم.
57 (4) موضوع النظر
لما كان كل نظر هو نظر في شيء، فما هو موضوع النظر؟ يتراوح موضوع النظر عند القدماء بين «ذات الله وصفاته» وبين المخلوقات من أجل الاستدلال على وجوده وبين شئون الدنيا؛ أي أحوال الناس الاجتماعية ومعاشهم. موضوع النظر إذن إما «الله» أو العالم أو الإنسان.
58
وقد ظهرت هذه الموضوعات الثلاثة في بداية تكوين نظرية العلم، وكانت مرتبطة معا باعتبارها ما يجب على المكلف الإيمان به. ولكن بعد تكوين نظرية العلم تمايزت هذه الموضوعات الثلاثة، وأصبحت موضوع النظر بعد أن كانت موضوعا للإيمان. فعندما يتطور الإيمان ويصبح علما يكون العلم هو الوريث الوحيد للإيمان.
59 (أ)
هل يمكن اعتبار «الله» موضوعا للنظر؟ «الله» موضوع متعال لا يمكن أن يكون موضوعا للنظر من حيث هو كائن مشخص له ذات وصفات وأفعال.
60
ولكن يمكن النظر فيه من حيث هو مبدأ معرفي خالي قبل أن يكون تحققا في الواقع؛ أي باعتباره فكرة محددة كما هو معروف في المنطق، أو نموذجا كما هو معروف في العلوم الصورية، أو مثالا كما هو معروف في العلوم الأخلاقية. قد يعني أيضا البحث المستمر عن الخالص وهو ما سماه القدماء التنزيه الذي تعنيه آية
ليس كمثله شيء ، أو
سبحان الله عما يصفون . كما أنه يشير إلى مضامين إنسانية مثل وحدة الذات بين القول والعمل، والفكر والوجدان. ووحدة المجتمع بلا طبقات، ووحدة الإنسانية بلا تفرقة عنصرية أو معسكرات أو مجموعات دول كبرى وصغرى، غنية وفقيرة. يبدو أن القدماء قد شخصوا موضوع العلم، وبالتالي لم يتأسس علم التوحيد على أنه علم صوري خالص أو على أنه أيديولوجية اجتماعية وسياسية. وظهر ذلك إما في العلوم الرياضية عند الرياضيين والحكماء أو في العلوم الشرعية عند الفقهاء.
61
وقد أشار القدماء إلى هذه الحقيقة وذلك بتأكيدهم على استحالة معرفة «الله» في ذاته وإمكاننا معرفة الواجب والممكن والمستحيل في حقه.
62
وبالتالي تحولت معرفة «الله» إلى نظرية في أحكام العقل الثلاثة. كما أشاروا أيضا إلى دلالة التوحيد الخلقية والاجتماعية والسياسية في اقتران التوحيد بالعدل عند المعتزلة، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فالأصول الخمسة عند المعتزلة هي التي تمثل كيفية تحول التفكير «الإلهي» إلى فكر اجتماعي وسياسي، وكيف يتحول موضوع «الله» إلى التوحيد الذي ينشأ منه العدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
63 (ب)
وقد يكون موضوع النظر هي المخلوقات؛ أي آيات «الله» في الكون من أجل الاستدلال بها على وجوده؛ وبالتالي الاغتراب عن الطبيعة ونفيها وهدمها والخروج عليها.
64
فليس المقصود من النظر في الطبيعة البحث عن قوانينها من أجل السيطرة عليها والاستفادة منها، بل الانتقال منها إلى إثبات شيء آخر غيرها هو «الله». الطبيعيات هنا ما هي إلا مقدمة للإلهيات كما هو الحال في علوم الحكمة، أو سلم يرتقى عليه من أجل الوصول إلى إثبات وجود «الله» ذاتا وصفات وأفعالا؛ أي العود إلى الموضوع الأول من جديد. الطبيعيات هنا إلهيات «مقلوبة» والإلهيات هي طبيعيات «مسقطة». فإذا كان الموضوع الأول انتقالا من الله إلى العالم، فإن الموضوع الثاني هو انتقال من العالم إلى الله. لا يعني النظر في الطبيعة الدخول في فروع مسائلها مثل الجزء والطفرة والكمون ، بل التأمل فيها والبداية بها، مع أن هذه المفاهيم الطبيعية ذاتها لها دلالات وبواعث في الفكر «الإلهي».
65
وقد يكون الموضوع «أمور الدين» كحلقة متوسطة بين الفكر «الإلهي» والفكر الطبيعي. فإذا كان النظر في أمور الدنيا نظرا اضطراريا، فإن النظر في أمور الدين يعلم قياسا.
66
تدفع أمور الدنيا المكلف إلى النظر؛ إذ يعيش الإنسان في وضع اجتماعي يدفعه إلى النظر دفاعا عن حقوقه الضائعة. يكتسب الإنسان النظر إذا ما دعا الموقف، وتعود على النظر فيصبح حقا له. النظر في أمور الدين لا يتم إلا قياسا على أمور الدنيا، والنظر في أمور الدنيا هو نفسه نظر في أمور الدين. الأول بمنهج استقرائي والثاني بمنهج استنباطي. الخلاف في المنهج وليس في الموضوع. والمصلحة أساس للنظر والشرع على السواء. ولا يعني ذلك أن الأول ظني والثاني يقيني؛ إذ يمكن الوصول إلى اليقين في أمور الدنيا، كما أن كثيرا من أمور الدنيا تظل ظنية. ولما كان قياس الظن على اليقين ممكنا، فإنه يمكن الوصول في أمور الدين إلى اليقين قياسا على أمور الدنيا. واليقين هنا نظر وعملي معا. وإن استحال النظري يكفي العملي. الدين هو الدنيا، والدنيا هي الدين، لا فرق بين المنهج الصاعد للنظر في أمور الدنيا والمنهج النازل للنظر في أمور الدين. إن تحليل الواقع تحليلا علميا يؤدي إلى نفس النتيجة لفهم النصوص فهما سليما اعتمادا على اللغة والحدس وأسباب النزول والموقف الاجتماعي، حتى ولو كان إدراك المصلحة ظنيا في أمور الدنيا، فإن ذلك يحدث تبعا لتغير المصالح من مجتمع لآخر، ومن مرحلة تاريخية لأخرى. يمكن قياس أمور الدين على هذا الواقع الظني، ويكون ذلك تفسيرا للدين. فالتفسير تصور اجتماعي للدين في لحظة تاريخية معينة. ومع ذلك فإدراك المصلحة ليس ظنا بل يقين عملي.
67
قسمة موضوع النظر إذن إلى أمور الدين وأمور الدنيا قسمة ثنائية لا تقوم على واقع. أمور الدين هي أمور الدنيا، وأمور الدنيا هي أمور الدين. هناك موضوعات شعورية واحدة يحللها الشعور بصرف النظر عن مستواها من المادية أو الصورية ، وبصرف النظر عن اتجاه القصد. الإنسان واحد له شعور واحد، يعيش في عالم واحد. كما أن قسمة أمور الدين إلى قسمين شبهة ودلالة؛ قسمة تتعلق بتحليل الشعور أكثر مما تتعلق بالموضوع. فالشبهة تقع في الدليل (النص) والدلالة أيضا تأتي من تخريج النص فيما يتعلق بالحجة النقلية، وقد تعني الشبهة إزالة لبس منطقي. والدلالة هي الفطنة إلى كيفية الانتقال من أمرين إلى ثالث. ولا يعني ذلك انحيازا إلى المثالية، وتفسير الفكر بالفكر، وذلك لأن الشعور باعتباره ذاتا وموضوعا وصف لواقع حياته وتكوينه.
68 (ج)
موضوع النظر إذن هو التفكير في شئون الدنيا لما كانت شئون الدين قياسا عليها، قياسا للمعقول على المحسوس، وللغائب على الشاهد. والنظر في أمور الدنيا يقوم على دفع الضرر وجلب المصلحة. ومن ثم لا فرق بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه؛ إذ يقوم كلاهما على تحقيق المصالح العامة.
69
ولا يعني ذلك وقوعا في النفعية الخالصة، وذلك لأن المصالح العامة من موجبات العقول. هناك إذن مقياسان لصحة النظر: العقل والواقع، البداهة النظرية والمصلحة العملية. ولا يقال إن النظر في أمور الدين لا يجب إلا بدليل، ولا يجب إلا إذا أدى للعلم؛ ولأن الناظر فيه لا يأمن من الهلاك بعكس النظر في أمور الدنيا التي يعلم الضرر فيها؛ وذلك لأن النظر في أمور الدين يؤدي إلى الظن، ويعتمد على الأمارة لا الدليل، ولا يؤدي إلى هلاك أكثر مما يؤدي إليه النظر في أمور الدنيا. يقوم النظر في أمور الدين على التجربة والعادة مثل النظر في أمور الدنيا؛ لأن الداعي له تجربة الخوف من تركه عادة. ولا فرق بينهما من أن النظر في أمور الدين يخشى منه مضرة آجلة وليس عاجلة بعكس النظر في أمور الدنيا. فلا فرق بين المتأخر والمتقدم إلا من حيث الفور والتراخي على ما يقول علماء أصول الفقه. ولا فرق بينهما أيضا من أن النظر في أمور الدين يعتمد على دليل قاطع مثل قول الأنبياء، ولأن المعارف الضرورية لا تقل قطعا عن دليل الأنبياء.
ويصعب أن يكون النظر في أمور الدين موافقا ل «إرادة الحكيم»؛ لأنه يصعب معرفتها إلا من خلال الوحي؛ أي مناهج التفسير؛ أي باللجوء إلى علوم الدنيا، وهي أساس علوم الدين. ولا يتطلب النظر في أمور الدين وضوحا أكثر مما يتطلبه النظر في أمور الدنيا؛ فالبداهة الحسية والعقلية والوجدانية هي أساس الوضوح في أمور الدين والدنيا معا. ولا يتطلب النظر في أمور الدين كل الفروع في المسائل النظرية الواردة في النظر في أمور الدنيا، فالنظر في كليهما واحد من حيث الأسس العامة. ولا يعني وجوب النظر عند وجود الدواعي أن قول الداعي حجة، بل قد يتم الوجوب للفعل طبقا لمقتضيات الحاجة؛ فالضرر الواقع من ترك النظر في أمور الدين وأمور الدنيا واحد، ويعلم قبحه ضرورة. ولما وجب عقلا النظر في باب الدين، فوجب النظر في جميع الأفعال. ولا ينفي وجود معارف ضرورية عن طريق الإلجاء وجوب النظر؛ فالمعارف الضرورية أولى مراتب النظر.
70
سابعا: طرق النظر
بعد وجوب النظر أصبح آخر جزء في نظرية العلم طرق النظر أو مناهجه. فالطريق هنا يعني المنهج، طرق النظر هي مناهج النظر التي يمكن التوصل بها إلى المطلوب. ويبدو أن هذه المناهج كلها قد تم استعارتها من المنطق؛ فنظرية العلم هي في صورتها الأخيرة نظرية في المنطق، لذلك لما كان الإدراك تصورا أو تصديقا فكذلك المطلوب. إن كان تصورا يكون هو المعرف وإن كان تصديقا يكون هو الدليل سواء كان ظنيا أم قطعيا. وقد يخص بالقطعي وحده وفي هذه الحالة يسمى الدليل الظني أمارة. وقد يخص بما يكون من المعلول إلى العلة، فيسمى عكسه تعليلا؛ أي الانتقال من العلة إلى المعلول. وواضح أن التصديق عند القدماء ليس حكما، بل مجرد الدليل على التصور؛ أي ما يحقق التصور. وإذا كان الدليل بحسب اليقين ظنيا أم قطعيا، فإنه بحسب الدلالة يكون إما برهان دلالة أو برهان علة. ويلاحظ على تصور القدماء لطرق النظر سيادة نظرية المنطق على نظرية العلم، وقبول القسمة التقليدية في المنطق عند الحكماء إلى تصور وتصديق، وأن التصور ينال بالحد وأن التصديق ينال بالبرهان. وهي القسمة التي رفضها الفقهاء وفندوها وبينوا تهافتها وسطحيتها بالرغم من دخولها أيضا كمقدمة في علم أصول الفقه.
1
والتركيز أكثر على الدليل، وهو ما يعادل الحكم المنطقي، وكان أهم شيء في علم أصول الدين ليس التصورات أو الأحكام بل الأدلة. ومن البداية يتم التمييز بين الدليل الظني والدليل القطعي من أجل تأسيس العقائد. والخشية أن تكون الأدلة ظنية ويظنها المتكلم قطعية. كما يبرز برهان العلة كأحد الأدلة وهو ما سيتحول فيما بعد إلى نظرية الوجود في مبحث العلة والمعلول كجزء من المباحث الطبيعية أكثر منه جزءا من نظرية المنطق. تبدو القسمة عقلية بديهية بصرف النظر عن موضوع علم الكلام، وهو «الذات والصفات والأفعال»، وكأن الموضوع كان مجرد وسيلة لصياغة المنهج ووضع نظرية في المنطق.
2 (1) التعريف
هو الطريق إلى التصور. ولما كان عالم أصول الدين لا يعرف تصوراته فلم يركز على التعريف قدر تركيزه على الأدلة، في حين أن «التراث والتجديد» يركز على التصورات قدر تركيزه على الأدلة لمعرفة هل يمكن تصور «الله»؟ قبل «هل يمكن البرهنة عليه؟» وقد تحدث القدماء في موضوعات ثلاث في التعريف: (أ)
معرفة المعرف به تسبق معرفة المعرف، ويكون غيره وأجلى منه، ويكون مساويه في العموم والخصوص. ويكون التعريف بالخصائص المميزة. فإن كان التمييز ذاتيا فهو الحد، وإن كان غير ذاتي فهو الرسم. وإن كان الذاتي بالجنس القريب فهو التعريف التام، وإلا فهو تعريف ناقص. ويحد المركب دون البسيط؛ لأن البسيط لا حد له. وواضح أنه يستحيل تطبيق هذا التعريف المنطقي في الإلهيات؛ لأن «ذات الله» لا تساوي أحدا في العموم المطلق، ولا يمكن تعريفها بالجنس القريب والفصل البعيد؛ لأن لا جنس لها، فهي جنس الأجناس ونوع الأنواع. كما أنها ليست مركبة حتى يمكن حدها. وأقصى ما يمكن عمله هو التعريف الناقص عن طريق الصفات العرضية وهو الرسم، أقل درجة في التعريف. خاصة وأنه لا يمكن إحصاء الخصائص المميزة لها لصياغة حد لها. ويبدو أن التعريف وضع للمنطق، للموضوعات العقلية الخالصة وليس لأي موضوع «إلهي» خاص.
3 (ب)
التعريف بالمثال، وهو تعريف بالمشابهة مثل التعريف الناقص أو الرسم وهو الوارد عادة في معرفة «ذات الله»؛ إذ لا يمكن معرفتها بالحد التام، ولكن يمكن فقط عن طريق القياس والشبه، قياس الغائب على الشاهد الذي يؤدي إلى التشبيه، وهو المستعمل في علم الكلام عن قصد أو عن غير قصد، بوعي أو عن غير وعي. ويكون التنزيه بطبيعة الحال هو رد الفعل. ولكن التنزيه أيضا متعلق بالتشبيه لأنه رد فعل عليه، ورفض سالب له، وما زال يستعمل المفاهيم الإنسانية حتى في صورها الأكثر تجريدا. ولكن يبدو أن المتكلم في خطابه كان يظن أنه يتحدث بالتعريف الأول وهو في حقيقة الأمر لا يتحدث إلا بالتعريف الثاني. فلا سبيل إلى الوصول إلى الأول على الإطلاق إلا عن طريق الثاني. (ج)
التعريف اللفظي، وهو توضيح دلالة لفظ بلفظ آخر أوضح دلالة. ويستعمل في التعريف العام. وتستبعد الألفاظ الغريبة الوحشية، وكذلك الألفاظ المشتركة والمجازية بلا قرينة. ومن ثم يعرف ألفاظ «الذات والصفات والأفعال» وباقي ألفاظ علم الكلام. والحقيقة أنها في غالبيتها ألفاظ مشتركة مجازية، تفيد معاني إنسانية، ثم أطلقت على «الله» على طريق المجاز، بلا قرينة إلا من قياس الغائب على الشاهد. فالإنسان له ذات وصفات وأفعال، ثم أطلقت على «الله» فأصبحت ألفاظا مشتركة مجازية، أصلها الحقيقي في الإنسان.
4 (2) الاستدلال
هي طريقة الانتقال من المقدمات إلى النتائج، وهو المعنى العام للاستدلال، ويتم هذا الانتقال بعدة طرق: (أ)
الاستدلال بالكلي على الجزئي، وهو القياس، وفي هذه الحالة يتم الانتقال من «ذات الله» إلى غيرها باعتبار أنها الكلي. والحقيقة أن ذلك مستحيل؛ لأنها لا يمكن أن تعرف، ولا يوجد أعم من «ذات الله» يمكن أن يستدل به على ذات الله باعتباره كلا أخص أو جزءا؛ وبالتالي فالقياس المنطقي بهذا المعنى لا يمكن استعماله في معرفة «ذات الله». (ب)
الاستدلال بالجزئي على الكلي، وهو الاستقراء. فإن كان الاستقراء تاما فهو استدلال يقيني، وإن كان ناقصا فهو استدلال ظني. وهو طريق الانتقال من الإنسان إلى «الله»؛ أي من الجزء إلى الكل، طريق التشبيه وقياس الغائب على الشاهد. ويستحيل أن يكون تاما لأن الإنسان لن يستقرئ كل الجزئيات للاستدلال بها على «ذات الله» باعتبارها كل الكليات بالإضافة إلى أنه خطأ في اتجاه المعرفة. فالانتقال من الجزئي لا يكون إلا لجزئي مثله، دخولا في العالم وليس خروجا منه.
5 (ج)
الاستدلال بالجزئي على الجزئي، وهو التمثيل أو القياس الفقهي، أي مشاركة الجزأين في علة الحكم. وهو يجوز في الأشياء والأفعال، ولكن لا يمكن معرفة «ذات الله» به؛ لأن الله ليس جزءا ولا يقاس على جزء. أما الاستدلال بالكلي (طبقا للحالة الرابحة في القسمة العقلية)، فالكليان جزئيان لدخولهما تحت عنصر ثالث مشترك. ولا يمكن «لذات الله» ككل أن يساويها كل آخر وإلا كان شركا. ومن ثم يستحيل استعمال هذه الاستدلالات المنطقية في الفكر «الإلهي».
6 (3) القياس
وهو المنهج الرئيسي في الاستدلال، وقلب المنطق وعمدته. وتأتي معظم أشكاله من المنطق الصوري. وكأن المتكلمين قد اعتمدوا على منطق الحكماء أكثر من اعتمادهم على منطق الأصوليين بالرغم من اشتراكهم معهم في «علم الأصول»؛ أصول الدين عند المتكلمين وأصول الفقه عند الفقهاء. وأهم صور القياس خمس: (أ)
الانتقال من حكم إيجابي أو سلبي لكل أفراد الشيء إلى شيء آخر كله أو بعضه، وثبوت نفس الحكم له قطعا. وبلغة المنطق الصوري، الانتقال من الكلية الموجبة أو السالبة إلى الكلي أو الجزئي الموجب أو السالب. وهو ما يستحيل في معرفة «الله» باعتبارها كلا موجبا (إثبات صفات الكمال) أو كلا سالبا (نفي صفات النقص). ولأنه غير معرف بعد فكيف يمكن الانتقال منه إلى موجب أو سالب آخر، كلي أم جزئي؟ (ب)
الانتقال من حكم لكل أفراد الشيء وحكم مقابل لشيء آخر كلي أو جزئي، فيعلم سلب الحكم الأول عن الشيء الثاني؛ أي الانتقال من الكلية الموجبة إلى الكلية أو الجزئية السالبة عن طريق القلب أو التضاد، ولا يمكن معرفة «الله» أيضا عن هذا القياس؛ لأن «الله» لا يمكن معرفته ثم الانتقال منه إلى معرفة الآخر. ولكن يمكن افتراضا تعريف «ذات الله» تعريفا كليا موجبا، ثم قلبه إلى عكسه كلا أو جزءا وسلب الحكم عنه. إذا كان «الله» حيا يكون الإنسان ميتا، سواء كان الإنسان الكلي أو هذا الإنسان المتعين. (ج)
الانتقال من ثبوت أمرين لثالث إلى ثبوته فيه سواء كان كليا أم جزئيا. وبلغة الرياضة المساويان لثالث متساويان أو بتعبير أدق المتساويان مع ثالث يكون مساويا لهما. وعلى افتراض معرفة «ذات الله»، فإنه لا يمكن الانتقال منها إلى معرفة شيء آخر؛ نظرا لعدم اشتراك الله مع غيره في صفاته المطلقة، وإلا وقعنا في الشرك في مفهوم المتكلمين. (د)
الانتقال من ملازمة شيئين، ومن وجود الملزوم إلى وجود اللازم، ومن عدم اللازم إلى عدم الملزوم. وبلغة التعليل إذا ثبت وجود رابطة علة بين شيئين، إذا وجدت العلة وجد المعلول، وإذا وجد المعلول وجدت العلة، وهو ما يسمى بقياس العلة بلغة الأصول. وهذا يقتضي أولا معرفة «الله» ثم معرفة أن علاقة «الله» بالعالم علاقة علة بمعلول؛ حتى يمكن استخدام قياس العلة لإثبات وجود «الله»، طالما وجد العالم، وهو المعلول، وجد «الله» لاعتباره علة. (ه)
الانتقال من المنافاة بين أمرين من وجود أحدهما إلى عدم الآخر، وهو إثبات وجود الشيء ثم نفي ضده، وهو ما يقوم عليه التنزيه بإثبات صفات الكمال «لله» ونفيها عن الإنسان وإثبات صفات النقص للإنسان ونفيها عن «الله».
ويستمر التشعيب في أنواع القضايا وقسمتها إلى استثنائية واقترانية، وقسمة الاستثنائية إلى متصلة ومنفصلة. ثم تظهر أشكال القياس الأربعة وضروب كل منها سلبا وإيجابا، كلية وجزئية كما هو الحال في المنطق الصوري.
7
ويلاحظ أن كل هذه الأشكال من القياس مستمدة من المنطق الصوري الذي كان نموذجا لنظرية العلم في علوم الحكمة التي طغت على علم الكلام في مرحلة البناء الكامل ودخلت فيه، وليست مستمدة من المنطق الأصولي على ما هو معروف في علم أصول الفقه ونقده لأشكال القياس القديم وتفضيله القياس الشرعي. كما أنها معروضة على نحو نظري خالص دون بيان وجه استعمالها في «الإلهيات»؛ مما جعل نظرية العلم مقطوعة الصلة بموضوع العلم، وكأنها غاية في ذاتها وليست وسيلة لشيء آخر وهو موضوع العلم «الإلهي». تفصل المنهج عن الموضوع وتستعمل المناهج في الاستدلال على موضوع مفترض سلفا مع أنه هو المطلوب إثباته وتأسيسه بنظرية العلم. وتخرج من نظرية العلم ولا تبدأ ببدايات يقينية أولى لا تسبقها بدايات أخرى؛ نظرا لاستخدامها في افتراضات مسبقة مستمدة من «الإلهيات». وهل يتم التعبير عن الفكر الديني بمثل هذا الوعي النظري المنطقي؟ هل يقوم المتكلم بالتعبير عن خطابه واضعا إياه في هذه الأشكال الصورية للقياس؟ ألم يقع الخطاب الكلامي، بالرغم من نظرية العلم هذه كنظرية في المنطق، في منطق الخطابة والجدل بعيدا عن منطق البرهان؟ وهل يمكن استعمال هذا القياس بصرف النظر عن مادة نظرية العلم أي التجارب التي يخوضها المتكلم والواقع الذي يعيش فيه؟ قد تكون الميزة الوحيدة لهذا القياس هو بيان إمكانية وضع الخطاب الكلامي في قضايا منطقية حتى يكون لها معنى، وكأن الخطاب «الدين» لا يحصل على معناه إلا بتحليل القضايا.
8 (4) القياس «الديني»
ونعني به ثلاثة أدلة أخرى تعرض القدماء لها وحكموا عليها بالضعف مع أنها دعامة الفكر الديني. أشار علماء أصول الدين إلى الاثنين الأولين منها، بينما أشار علماء أصول الفقه إلى الثالث. ويظهر فيها إبداع نظرية العلم وقدرة الحضارة الجديدة على صياغة منطق جديد في مقابل المنطق الصوري القديم، وهي: (4-1) قياس الغائب على الشاهد
وهو قياس إنساني معرفي؛ إذ لا يعرف الإنسان ما لا يعرف إلا قياسا على ما يعرف، ولا يتصور اللامرئي إلا قياسا على المرئي، وبالتالي قياس «ذات الله» على ذات الإنسان، و«صفات الله» على صفات الإنسان، و«أفعال الله» على أفعال الإنسان، وهو طريق التشبيه، طريق الأشاعرة والمشبهة والمجسمة بوجه عام، لا فرق بين الصفة أو الموصوف أو بين الصورة والجسم، ويقوم على إثبات علة مشتركة بين الغائب والشاهد حتى يمكن القياس عليها. والحقيقة أن ذلك مستحيل وإلا وقع المتكلم في الشرك؛ «فالله» في عرف المتكلمين يتفرد وحده بالذات والصفات والأفعال، فكيف تكون المشاركة؟ قد تكون خصوصية الأصل شرطا مثل صفات «الله» المطلقة مثل الخلق والرزق والإماتة والإحياء والحساب، وقد تكون خصوصية الفرع مانعا، مثل صفات النقص والموت والفناء والعدم والنصب، ولهذا القياس صور منطقية ثلاث: (1)
الطرد والعكس: أي وجود الصفة في الشيئين أو غيابها عن واحد وحضورها في الآخر. والأفضل وجودهما معا. وهما مبحث العلة عند الأصوليين، فبلغتهم دوران العلة والمعلول وجودا وعدما، إذا حضرت العلة حضر المعلول وإذا غابت العلة غاب المعلول. وهو مبحث أصولي خالص لا يتم إلا في الأفعال الحسية والأمور المرئية التي تخضع للتجريب. (2)
السبر والتقسيم: أي الحصر ثم القسمة، حصر الصفات الذي قد يكون تاما أو ناقصا، ثم التقسيم للبحث عن الصفات المشتركة، وهل يمكن حصر صفات الله؟
9 (3)
الإلزامات: وهو القياس على ما يقول الخصم لعلة فارقة. وهو لا يفيد اليقين ولا الإلزام؛ لأنه يعتمد على أقوال الخصم الذي قد يمنع علة الأصل وحكمه، ويجعله واضع الدليل، ويقيم اليقين على الظن. والحقيقة أن هذا وارد في علم الكلام في منهج الجدل الذي يعتمد في مقدماته على مسلمات الخصوم ما دام في ذلك إفحام له، وانتصار عليه.
10
وعلى هذا النحو يبدو قياس الغائب على الشاهد مستعارا كلية من علم أصول الفقه دون مراعاة لطبيعة الموضوعين «ذات الله وصفاته وأفعاله» في علم أصول الدين والأحكام الشرعية في علم أصول الفقه، وإلا كنا قد افترضنا سلفا أن موضوع علم أصول الدين موضوع حسي خاضع للتجريب والقياس، وبالتالي لا يفترق الأشاعرة عن المشبهة والمجسمة في شيء، أو الاعتراف والتسليم بأنه لا يمكن معرفة «ذات الله وصفاته وأفعاله» إلا قياسا على ذات الإنسان وصفاته وأفعاله عن قصد أو عن غير قصد، عن وعي أو عن غير وعي. والاعتراف بالحق خير من التمادي في الباطل.
11 (4-2) قياس الأولى
ولم يذكره علماء أصول الدين في نظرية العلم كجزء من النظرية كما ذكره علماء أصول الفقه في نقدهم للمنطق الصوري القديم ووضع منطق أصولي جديد بدلا عنه. ولكن يظهر معناه في نظرية العلم في عرض موقف «المهندسين في الإلهيات»؛ إذ إن الغاية فيها (الإلهيات) «الظن والأخذ بالأحرى والأخلق ». وهو أقرب إلى فعل الشعور منه إلى القياس ذي القواعد والأصول. إذا كان الإنسان عالما «فالله» أولى بالعلم، وإذا كان الإنسان قادرا «فالله» أولى بالقدرة، وإذا كان الإنسان حيا «فالله» أولى بالحياة، وإذا كان الإنسان سميعا بصيرا متكلما مريدا «فالله» أولى بالسمع والبصر والكلام والإرادة، وهكذا في باقي الأوصاف والصفات.
12
فإذا كان قياس الغائب على الشاهد أصل التشبيه، فإن قياس الأولى أصل التنزيه، ولو أن بدايته في الحس ولكنه يجعل اللامحسوس أولى بصفات المحسوس؛ فهو في حقيقة الأمر تشبيه مقنع أو تشبيه يصارع نفسه في صورة تنزيه، وتكون قمة انتصاره في تأكيد التعالي المستمر
تعالى الله عما يصفون
الذي يكمل القياس نهائيا ويطلقه من بدايته الحسية.
13 (4-3) ما لا دليل عليه يجب نفيه
ويتفق عليه علماء الأصول؛ أصول الفقه وأصول الدين. فالدليل على الشيء وجوده. وما الفائدة من وجود شيء لا دليل عليه؟ وجود الشيء هو البرهان عليه، والبرهان على الشيء هو الذي يوجده. فالبرهان علة الوجود، والدليل أساسه؛ لذلك كان العلم أساسا هو الاستدلال إثباتا أو نفيا، بالعقل أم بالواقع. وكان هم المتكلمين نقد أدلة المثبتين لشيء وبيان ضعفها عقلا أو حصرها، ثم نفيها واقعا. ولولا ذلك لانتفت الضروريات لجواز أن تكون هناك أشياء لا نراها ولا دلائل عليها، ولانتفت النظريات لجواز معارض للدليل لا نعلمه. ولما كان ما لا دليل عليه لا متناه كان إثباته محالا؛ إذ إن قدرات الإنسان تمنع من إثبات شيء لا دليل عليه. وإذا كان عدم الدليل في نفس الأمر ممتنع، فذلك يكون دافعا على البحث الدائب عن الدليل وعدم إثبات شيء لا دليل عليه، وعدم الرضا بالعلم الظني والمشكوك فيه والجهل، والوهم، ودفع المعارض؛ لأن ذلك ضروري في القطعيات. والدليل هو الدليل العقلي الخالص الذي يشمل الحس والوجدان والذي لا يعتمد على الإيمان بشيء مسبقا وإلا كان حكما وابتسارا. وذلك يتطلب قدرا من الشجاعة والاعتراف، فوجود الأشياء معرفتنا لها ؛ ومن ثم تكون الأولوية المطلقة للمعرفة على الوجود.
14 (5) المقدمات
وهي مادة العلم التي يتم الاستدلال عليها وهي على نوعين: قطعية وظنية. (5-1) المقدمات القطعية
وهي المقدمات التي تنشأ منها نتائج قطعية، إذا صح الاستدلال، وتأتي القطعية من طبيعة مادة المقدمات اليقينية، وكأن الصواب والخطأ ليس من صورة العلم وحدها، ولكن أيضا من مادته، وهي سبع. (1)
الأوليات: وهي البداهات التي لا تخلو أي نفس منها بعد تصور الطرفين، مثل المسلمات والبديهيات. وتعتمد عليها نظرية العلم في بداية العلم، وذلك مثل وجود الإنسان ووجود العالم والحقائق الضرورية النظرية أو العملية ومنها شهادات الوجدان التي لا تقل بداهة عن أوائل العقول. (2)
الحدسيات: وهي البديهيات العقلية الخالصة، مثل دلالة إتقان الصنعة على الصانع. وهي استدلال مباشر بلا مقدمات وتوسط، بل بالقفز من المقدمات إلى النتائج مباشرة. وهي مثل الأوليات، ولكن مع قدر من الاستدلال الحدسي أو مثل القضايا التي قياساتها معها دون أن تكون متضمنة فيها. وهو ما يدركه الحس أو العقل أو الوجدان مرة واحدة بلا تأمل أو انتظار أو تكرار أو تحقق. وقد يكون وجوديا كوجود الإنسان، أو بدنيا كالصحة والمرض، أو «فزيولوجيا» كاللذة والألم، أو عاطفيا كالغم والفرح، أو إراديا كالقدرة والعجز، أو نزوعيا كالإرادة والكراهة، أو إدراكيا كالإدراك والعمى.
15
وهناك معارف ضرورية حدسية تخبر عن الواقع بالخطاب الذي يلقيه المتكلم على السامع. والعلم بالانفعالات النفسية عن الآخرين علم بديهي بشرط وجود الأمارة مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل. والعلم بالمبادئ الخلقية أيضا علم بديهي. (3)
قضايا قياساتها معها: وهي البديهيات المركبة التي يمكن حلها إلى بديهيات بسيطة مثل أن الأربعة تساوي اثنين واثنين؛ أي الاستدلال الصحيح الذي يقوم مقام بديهية ويعادل المعارف الفطرية. والحقيقية قد تختلف درجة البداهة لهذه القياسات باختلاف درجة الوضوح والبساطة فيها، وهي أشبه بالقضايا التحليلية في الرياضة بصرف النظر عن درجات التحليل ومدى خطواته. (4)
المشاهدات: وهي المدركات الحسية التي يحكم العقل بصحتها مع الحذر من خداع الحواس. وظاهر الحس منها يسمى حسيات، وباطن الحس منها يسمى وجدانيات. فبالرغم من خداع الحواس، إلا أن الإدراكات الحسية موجودة.
16
وهنا تتكرر الوجدانيات مرة ثانية، فكأنها في أوائل العقول، وفي الحدسيات وفي القضايا التي قياساتها معها، وكأنها هي الشامل لمجموعة المعارف البديهية بصرف النظر عن مستوى البداهة، العقل أم الحس أم الرؤية الحدسية. (5)
المجربات: وهي المدركات الحسية التي يحكم العقل بصدقها مع تكرارها وتحولها إلى عادات وقوانين ثابتة؛ لذلك أصبحت المشاهدة ومجرى العادات حد مقاييس الصدق في علم الأصول وتكرار المدركات الحسية، مثل تكرار المقدمات في الاستدلال، كلاهما يؤدي إلى اليقين.
17 (6)
الوهميات في المحسوسات: وهي المدركات الحسية العادية أو أحكام الحس مثل الحسيات على مستوى العقل مثلا كل جسم في جهة. ويمكن تسميتها الحدوس الحسية التي قد يكذبها العقل، ولكنها جزء من المعرفة البشرية ومادة العلم. (7)
المتواترات: وهي الأخبار التي يمتنع في رواتها تواطؤهم على الكذب. ويدخل موضوع التواتر كما هو وارد في علم أصول الفقه في نظرية العلم، وليس فقط باعتبار الأدلة النقلية أو العقلية النقلية. فالتواتر يؤدي إلى العلم الضروري، مثل العلم بوجود المدن أو العلم الاستدلالي مثل العلم بالتوحيد. يفيد العلم على عكس أنصار المعارف الحسية أو العقلية أو الذين يجوزون اجتماع الأمة على الخطأ، وبالتالي يمنعون أن يكون التواتر أساسا لعلم ضروري.
18
وقد فصل علم مصطلح الحديث وعلم أصول الفقه شروط التواتر وإفادته لليقين، وهي أربعة: اتفاق المتن مع شهادة الحواس ومجرى العادات؛ منعا للأسرار والخرافات، وأن يكون السند متعدد الرواة مستقلين عن بعضهم البعض؛ ليمنع تواطؤهم على الكذب، وأن يكون العدد كافيا؛ حتى يزيد من احتمال اليقين، وأن يكون انتشار الرواية متجانسا في الزمان؛ منعا لانتحال الأخبار أو لمؤامرات الصمت حول الخبر الصحيح. والمشهور خبر ينقصه تجانس الانتشار في الزمان إذا كان أولا محصورا ثم انتشر ثانيا، وربما كانت المصلحة سببا في انتشاره. فالمتواترات هي الروايات التاريخية الصحيحة بالاشتراك مع دلائل الحس والعقل، بل إنها لا تفيد اليقين بمفردها إلا باعتمادها على الحس والعقل. وقد أتى الوحي كمقدمات من هذا النوع. والتواتر ليس جمع آحاد وآحاد، بل هو خبر مستقل واحد، له وحدته وبناؤه الداخلي؛ لأن مجموع ظنين لا يكون يقينا. يقين خبر الواحد في عدالة الراوي وضبطه وصدقه. وله شروط خاصة. ولا يهم اعتبار العلم الناشئ عن التواتر ضروريا أم كسبيا، فهو ضروري بمعنى أنه معرفة بديهية كمعرفة الحس وبداهة العقل، وهو كسبي لأن التواتر يقوم على شروطها مجموعها دليل الحس والعقل والوجدان.
19
ويدخل التواتر نفسه كجزء في نظرية أعم، وهي نظرية الخبر وقسمته إلى تواتر وآحاد ومتوسط بينهما، وهو ما فعله علماء أصول الفقه في باب الأخبار. ويظهر أثر هذه القسمة في النظر والعمل على السواء؛ فالتواتر يورث اليقين في النظر والعمل، في حين أن الآحاد يورث اليقين في العمل فقط، ويكون النظر ظنيا. وإذا كان التواتر يورث علما ضروريا والآحاد علما مكتسبا، فإن التوسط بينهما يقوم على قرائن واستدلالات أخرى. والأخبار كلها من تواتر وآحاد ومستفيض تدخل في قسمة أعم للخبر من حيث هو خبر إلى خبر صادق وخبر كاذب. فالخبر الصادق مطابق للواقع، والخبر الكاذب غير مطابق للواقع. والخبر هو المعلن بلسان شخص حي مرئي وليس رسالة أو تبليغا باطنيا أو خارجيا؛ أي إنها الروايات التاريخية الشفاهية أو المدونة، وهي أساس المعرفة التاريخية.
20
وقد اختلف القدماء في ترتيبها، أو في عددها.
21
والحقيقة أنه يمكن تصنيفها في مجموعات ثلاث: الحس، والعقل، والخبر؛ فالحس يشمل الأوليات والحدسيات والقضايا التي قياساتها معها. ثم يأتي الخبر في النهاية الذي لا يستقل بذاته ويعتمد على مقدمات الحس الثلاث ومقدمات العقل الثلاث.
22
لم يغفل القدماء تحليلات الشعور ولم تكن تحليلات الشعور غائبة عندهم؛ فالنظر حركة للنفس نحو المبادئ وترتيبها نحو المطلوب، النظر عمليتان شعوريتان، الفكر حركة النفس في المعاني، حديث النفس، والعلم الضروري علم بداهة الأشياء في النفس، والاستدلال نظر القلب للمطلوب، والإيمان تصديق النفس. وهي عظيمة النفع في العلوم، مشتركة بين الناس، يسهل إقناع الآخرين بها. ليس النظر تحليل العقل لذاته والتفكير في موضوعات صورية خالصة، بل هو التأمل والتفكر في النفس وفي الطبيعة وفي معاني النصوص والآيات. فالموضوع إما نص لغوي أو ظاهرة طبيعية، والإنسان جزء من الطبيعة. النظر نظر في موضوع، والموضوع الخارجي يتحول إلى موضوع داخلي وجودا وعدما. النظر هو الاعتبار؛ أي رؤية الدلالة في الشعور، وموضوعات علم أصول الدين موضوعات شعورية أساسا، يمكن تأسيسها عقلا أو بناؤها واقعا. هي موضوعات إنسانية. التوحيد بناء شعوري، والحرية تجربة شعورية، والفعل تحقيق شعوري، والعمل تحليل شعوري، والنبوة بعد شعوري، والمعاد اتجاه شعوري. فبالرغم من أن شهادات الوجدان لم يكن لها قسم خاص في المقدمات القطعية إلا أنها موجودة في كل نوع وكأن الحس والعقل والخبر أبعاد للشعور، وكأن الشعور يتخارج في الحس والعقل والخبر.
23
وفي حياتنا المعاصرة تأخرنا عما عرضه القدماء، فغلبنا الخبر على شهادات الحس وأوائل العقول، وأصبح الدليل الوحيد هو: «قال الله» و«قال الرسول»، في حين أن الخبر له شروط وفي مقدمتها الاتفاق مع شهادات الحس وبداهات العقل. وأسقطنا المدركات الحسية والتحليلات العقلية من مقدماتنا النظرية، وتحولت شهادات الوجدان إلى انفعالات عامة تنم عن ضيق النفس وتبرمها بالبيئة ورفضها للواقع ورغبتها في الثأر والانتقام. فضمر الوحي، وتحجرت النبوة، وتقوقع النص داخل نفسه. يتحدث المؤمنون لبعضهم البعض دون ما قدرة على الحوار مع غيرهم، وأصبحت المقدمات القطعية في العلم هي مسلمات الإيمان أو موضوعات الغيب التي تدخل فيها روايات الدين الشعبي وخيالاته، والتي تكون أكبر دعامة للسلطة السياسية وللنظم القائمة. وفي علم الكلام المتقدم كانت هذه المقدمات السبع التفصيلية مجرد أقسام للعلم الضروري الذي يشمل: (أ)
العلم بالذات وبوجودها؛ فهذه هي الضرورة الوجودية أو البداهة المباشرة، مثل: أنا أفكر، أنا أحيا، أنا أكتب، أنا أتنفس، أنا أحس، أنا موجود. (ب)
العلم بالمدركات الحسية، مثل: أرى الورقة أمامي، أحس بالقلم في يدي، أسمع صوتا في الخارج. وعند بعض القدماء قد تحصل بعض المدركات من غير طريق، مثل حصول إبصار من غير بصر أو سمع من غير أذن، وهذا جائز في المدركات العقلية وحدها التي ليس لها حاسة، بل تلك التي تنتج من تحليل العقل أو رؤية الشعور ، وهما طريقان للمعارف. وإن إدراك الدلالات إدراكا مباشرا لا يعني تدخل أفعال خارجية في الشعور ، بل يعني أن الشعور مفتوح بطبعه وخالق بطبعه وقادر على رؤية المعاني رؤية مباشرة. ويستحيل خلق مدركات حسية بلا حواس. ليس كل إحساس إدراكا، فالإحساس يلزمه الانتباه حتى يتحول إلى إدراك، والمادة الحسية تحتاج إلى دلالة. الشعاع الخارجي من الموضوع إلى الذات هو الانطباع الحسي يقابله شعاع آخر داخلي من الذات إلى الموضوع، وهو الإدراك، وذلك عمل الشعور وحده.
24 (ج)
العلم بأحوال الذات، فالذات لها أحوال مثل الهم والانفطار، وهي المدركات الوجدانية.
25
وبالتالي تكون المعارف أوائل العقول وشهادات الحس ومعطيات الوجدان، كما وضح في علم الكلام المتقدم.
وفي علم الكلام المتأخر أيضا قد ينقسم العلم الضروري طبقا لكمال العقل إلى علمين: (أ)
ما يعد من كمال العقل ويستند إلى ضرب من الخبر، مثل تعلق الفعل بفاعله. (وهذا لا يحتاج إلى خبر، بل الخبر في حاجة إليه). وعلم آخر لا يستند إلى ضرب من الخبر، مثل العلم بوجود الذات. والحقيقة أن العلم الأول ليس خبريا، بل هو علم بديهي ضروري، وإذا كان الخبر هنا يعني النظر والاستدلال، فإن هذا العلم يظل بديهيا. (ب)
ما لا يعد من كمال العقل ويختلف فيه العقلاء، وهذا ليس علما.
26
كان المتقدمون على هذا الربط بين الحس والعقل والخبر كمقدمات ضرورية لمادة العلم، وما دون ذلك لا يكون علما. وكانت المقدمات القطعية نموذجا للعلم الضروري وأولها المعرفة الحسية الناشئة من الحواس السليمة، المشاهدات والحسيات، وتكون إحدى المقدمتين في القياس، وتسمى أحيانا مدارك العلوم أو وسائل المعرفة لا المعرفة ذاتها، وهي ليست الحواس العضوية، بل الإدراكات الحسية، ولا الأجسام المدركة كجواهر مستقلة، بل الإدراكات التي من فعل الذات.
27
والعلم الشعوري علم اضطراري بديهي كالعلم الحسي، وهو ما يجده كل إنسان بنفسه ويشعر به دون أدنى شك، وقد يسمى أحدهما بالآخر فيتساوى العلم بالمدركات مع علم المرء بنفسه مع استحالة جميع المتضادات.
28 (5-2) المقدمات الظنية
أما المقدمات الظنية فهي أربع: (1)
المسلمات: وهي التي تقبل على أنه قد تمت البرهنة عليها من قبل في مكان آخر. فعلم الكلام ليس علما مستقلا بذاته عن باقي العلوم، بل يبني مقدماته على غيره، وهي أقل المقدمات الظنية خطورة؛ إذ عليها يعتمد الدعاة. ولذلك تعددت فروع علم الكلام وأساليبه ومستوياته؛ فهناك علم الكلام العلمي أو الرياضي أو الإنساني الذي يبدأ بمسلمات أحد هذه العلوم ويعتمد عليها. وفي هذه الحالة يكون الفضل للعلوم الأخرى، ويكون علم الكلام مجرد «متسلق» عليها، علم كل العصور وكل المفكرين وكل العلوم. ولما كانت مقدمات العلوم متغيرة طبقا لاكتشافات كل عصر تغيرت مادة علم الكلام وأصبح مشاعا كالمرأة المشاع. ليست وظيفة علم الكلام اكتشاف علوم أو وضع نظريات، ولكن الاعتماد على العلوم والنظريات القائمة لدعوة الناس؛ فهو مجرد علم إقناعي خطابي جدلي ليس له مادة من ذاته ولا يقدم إلا الأسلوب والمحاجة. (2)
المشهورات: وهي التي يتفق عليها الجم الغفير من الناس، أي المسلمات الاجتماعية المقبولة في كل مجتمع، والتي تعبر عنها الأمثال الشعبية وحكم الشعوب. وهي أيضا متغيرة من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، ومن أمة إلى أمة. وقد لا يتفق البعض منها مع المقدمات القطعية، مقدمات الحس أو العقل أو الخبر. وقد لا يتفق مع المقدمات الظنية الأخرى مثل المسلمات. وقد تتغير كلية بعد أن يتم نقدها ورفضها ووضع مقابل لها أقرب إلى الصلاح وأكثر تعبيرا عن روح كل عصر. ويقوم بذلك عادة الرواد والمفكرون الأحرار في كل عصر. وهي غير محصورة في عدد معين، ومتنوعة وعلى جميع المستويات. كثيرا ما تتعارض فيما بينها كما هو الحال في الأمثال العامية.
29 (3)
المقبولات: وهي التي تؤخذ ممن حسن الظن فيه وتصديقه وامتناع الكذب عليه. وهي أقرب إلى التقليد لأنها تقوم على التصديق بمصدر الحكم وليس بالحكم ذاته، كما أنها أقرب إلى الخبر الذي يعتمد على صحة النقل، وفي الأخبار من الأنبياء غنى عنه. وهي الأقوال المأثورة والسير والملاحم، المشهورات إذن عبارة لغوية تكشف عن عمليات شعورية سابقة عليها، مثل التشبيه والتنزيه. وتدل على أنه لا يمكن الحديث عن «الله» أو عن العقائد إلا من خلال الثقافة الشعبية أو ثقافة الجماهير والأعراف والعادات والصور الذهنية المتوارثة في تراث الأمم والشعوب. (4)
المقرونة بقرائن: مثل نزول المطر بوجود السحاب، وهي الاستدلالات الحسية والمشاهدات والمجربات وأكثر المشهورات قبولا، ولكنها ظنية لاعتمادها فقط على القرائن الحسية دون بداهات العقول أو الخبر؛ مما يدل على أن مادة علم الكلام مستمدة من مشاهدات الحوادث ومجريات الأمور.
30
وهنا تمحى التفرقة بين صورة المنطق ومادته. فلا فرق بين القياس الذي يعطينا صورة الفكر وبين الحسيات والمتواترات التي تعطينا مادة الفكر. ولا فرق في مادة الفكر بين المقدمات القطعية والمقدمات الظنية. الكل معارف «كلامية»، فرق بين صورة الفكر ومادته، ولا بين مادة ومادة. وهو ما يميز المنطق الكلامي عن المنطق الصوري.
ثامنا: مناهج الأدلة
وتبلغ نظرية العلم ذروتها في الأدلة؛ إذ إن نظرية العلم في نهاية الأمر هي نظرية في الدلالة. فالدليل يؤدي إلى المدلول، والمدلول إلى الدال، والدال إلى المستدل، وكلها عمليات شعورية تتم بأفعال الشعور.
1
الدليل هو ما أمكن أن يتوصل بصحيح النظر فيه إلى معرفة ما لا يصح باضطرار.
2
فالعلم الحاصل هو المطلوب أو المدلول، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل، والعلم بوجه اللزوم هو العلم بوجه دلالة الدليل. وقد يكون الدليل علة أو معلولا أو الاستدلال بأحدهما على وجود الآخر؛ لذلك تحول موضوع العلة والمعلول إلى مبحث مستقل في «نظرية الوجود». ويكون النظر في الدليل إجماليا أو تفصيليا، والواجب على المكلف معرفة العقائد بالدليل الإجمالي. وأما التفصيل ففرض كفاية. وقد يكون الدليل هو المرشد إلى معرفة الغائب عن الحواس، وهو ما يعرف باسم الأمارة أو الإيماءة أو الإشارة أو العلامة أو القرينة أو الحال. ويسمى دليلا مجازا؛ نظرا لتشابهه في الوظيفة مع الدليل. وقياس الغائب على الشاهد يقوم على أدلة من هذا النوع. والفرق بين الدليل والأمارة هو أن الدليل يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، أما الأمارة فهي التي يلزم من العلم بها ظن وجود المدلول.
3
وقد يكون الدليل عقليا خالصا؛ أي الفكر والتأمل، وقد يكون لغويا نصيا، فتكون العبارة أو النطق هي الدليل لأنها تعبر عن النظر والتأمل،
4
والبحث في الدليل العقلي وهو الذي أدى إلى البحث في أنواع الأدلة ووجه الدلالة. فالدليل العقلي يلزم من وجوده وجود المدلول. وقد يحدث اللزوم من طرف إلى آخر، فيكون الاستدلال بالمشروط على الشرط أو بالمعلول على العلة أو بالعلة على المعلول. كما يمكن من البحث عن البرهان إبطال النقيض وهو ما يسمى ببرهان الخلف.
والأدلة ثلاثة: أدلة نقلية خالصة، وأدلة نقلية عقلية أو عقلية نقلية، وأدلة عقلية خالصة.
5
فالمطالب ثلاثة أنواع: الأول ما لا يمتنع عقلا إثباته ولا نفيه، فهذا لا يمكن إثباته إلا بالنقل؛ أي الخبر، مثل وجود الأشخاص والمدن. والثاني ما يتوقف عليه النقل، مثل وجود «الله» ووجود الرسول، وهذا لا يثبت إلا بالعقل وإلا لزم الدور لأن الوحي يتطلب وجود «إله» يرسل رسولا، ومن هنا يكون العقل أساس النقل ليس فقط من حيث قصد الوحي، بل أيضا من حيث مضمون الوحي والتصديق به وصدقه في الواقع، وفي هذه الحالة يكون الدليل مركبا من العقل والنقل أو من النقل والعقل. والثالث مثل الحدوث والوحدة وسائر الأمور العامة، فهي أمور يمكن إثباتها بالعقل؛ إذ تمتنع معارضته بالدليل كما تمتنع معارضته بالنقل لأنها غير متوقفة عليه.
6 (1) نقد الدليل النقلي
والحقيقة أن الدليل النقلي الخالص لا يمكن تصوره لأنه لا يعتمد إلا على صدق الخبر سندا أو متنا، وكلاهما لا يثبتان إلا بالحس والعقل طبقا لشروط التواتر ... فالخبر وحده ليس حجة ولا يثبت شيئا على عكس ما هو سائد في الحركة السلفية المعاصرة من اعتمادها شبه المطلق على «قال الله» و«قال الرسول» واستشهادها بالحجج النقلية وحدها دون إعمال للحس أو للعقل، وكأن الخبر حجة، وكأن النقل برهان، وأسقطت العقل والواقع من الحساب في حين أن العقل أساس النقل، وأن القدح في العقل قدح في النقل، وأن الواقع أيضا أساس النقل بدليل «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». ولا يمكن إثبات صحة الخبر بالمعجزة وحدها، ولا يمكن تصديقه فقط بإثبات الصحة التاريخية عن طريق النقد الخارجي دون الاهتمام بالنقد الداخلي أي بفهمه وتفسيره وإيجاد تطابقه مع الحس والعقل، مع التجربة البشرية الفردية والاجتماعية. الدليل النقلي في حقيقة الأمر هو في نفس الوقت دليل حسي وعقلي، فالوحي متعدد الأطراف متشعب في الحس والعقل. وهو وحي وعقل وواقع، ثلاثة جوانب لشيء واحد، الوحي أحدها، يقوم على العقل ويرتكز على الواقع. ليس العقل مغلقا على نفسه بل يضم الوحي، والوحي ليس صوريا بل يقوم على الواقع، والواقع ليس ماديا مصمتا ولكنه يتقبل الوحي كما يتقبل تنظير الواقع له. بل إن ما يعلم بالقياس والنظر أو بالحس والمشاهدة لا يعلم بالخبر. فالحس والعقل من شروط التواتر. ولا يعطي الخبر جديدا مستقلا عن المعارف الحسية والعقلية. ما عرف بالحس أو النظر أو الاستدلال لا نحتاج إلى معرفته بالخبر، باستثناء «الشعائر» وهي بالنسبة للعقلاء العمل الصالح؛ لأنها بواعث على التقوى. قد يؤثر الخبر وحده في العامة لأنها لا تقدر على استعمال العقل وتؤثر الخيال، ولا تقدر على فعل الحسن لذاته وتجنب القبح لذاته وحاجتها في ذلك إلى الخبر. يقين التواتر ليس من الخبر باعتباره خبرا، بل من شروط التواتر وفي مقدمتها التطابق مع شهادة الحس والعقل والوجدان وامتناع التواطؤ على الكذب. فالتواتر يتضمن يقينه الداخلي دون حاجة إلى صدق خارجي، خاصة ولو كان عن طريق هدم قوانين الطبيعة أو مناقضة أوائل العقول أو اضطراب في المعارف الحسية عن طريق المعجزات.
7
والدليل النقلي يقوم على التسليم المسبق بالنص كسلطة أو كسلطة إلهية لا يمكن مناقشتها أو نقدها أو رفضها؛ فهو دليل إيماني صرف، يعتمد على سلطة الوحي، وليس على سلطة العقل، وبالتالي فلا تلزم إلا المؤمن بها سلفا، تلزم المسلمين المؤمنين وحدهم دون المسلمين (غير المؤمنين)، ودون سائر أهل الملل والنحل الذين لا يؤمنون بسلطة الوحي. وبالتالي يفقد العلم بهذا الدليل قدرته على الحوار مع الخصوم، سواء من الداخل أو من الخارج، وهو الذي أتى للدفاع عن العقيدة ضد منتقديها من أهل الزيغ والبدع والأهواء الضالة. في هذه الحالة لا تنفع إلا حجة العقل وحده الذي يشارك فيه الجميع ويسلم ببراهينه وحججه. فإذا كانت المدارك الحسية والعقلية عامة مع كافة الخلق إلا من لا عقل له ولا حس، وكان الأصل معروفا، فإن التواتر بنفسه لا يفيد علما ولا ينفع إلا من آمن به ووصل إليه، كما أن السمعيات لا تنفع إلا من يثبت السمع عنده.
8
وقد جعل ذلك مهمة المفسر الدفاع عن حقوق «الله» مصدر النص دون حقوق الإنسان. نصب نفسه مدافعا عن حقوق الله ناسيا حقوقه هو كإنسان وغير عالم بأن الدفاع عن حقوق «الله» ليس من مهمته، وبأن الدفاع عن حقوق الإنسان هو في نفس الوقت دفاع عن حقوق «الله»، وأن إثبات حقوق «الله» دون إثبات حقوق الإنسان هو في حد ذاته إنكار لحقوق «الله»؛ إذ لا تثبت حقوق «الله»، وفيها إنكار لحقوق الإنسان.
ويصطدم الدليل النقلي بمشاكل اللغة والتفسير والفهم؛ فالنص ليس حجة عقلية بديهية، بل هو خاضع لقواعد التفسير ولأصول الفهم ولشروط الإدراك، النص بذاته ليس حجة بل هو مقروء ومفهوم ومفسر ومحول إلى فكرة في زمان محدد أو مكان معين. لا يكون الدليل النقلي دالا إلا بعد المواضعة، ومن جهة المعنى المستخرج من المنطق ظهرت اللغة كأحد مكونات الفكر، وظهر الدليل اللغوي دالا من جهة المواطأة على معاني الكلام. والدلالة اللفظية لا تفيد اليقين في علم أصول الدين على عكس ما قد تفيده في علم أصول الفقه. ومن ثم فالدلائل النقلية كلها لا تفيد اليقين؛ نظرا لاعتمادها على اللغات. ولما كان الدليل مكتوبا فقد ظهرت الرموز والحروف كأحد مكونات الدليل.
9
كما يرتبط الفهم بمعرفة قواعد التفسير، سواء في منطق الألفاظ مثل الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، إلى آخر ما وضعه علماء أصول الفقه. ويساعد ذلك منطق السياق من فحوى الخطاب ولحن الخطاب، وصلة النص بالواقع في «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». وبالتالي فإن الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق؛ لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ولو بحجة عقلية واحدة، وذلك لاعتمادها على اللغة والرواية والأقيسة ولاحتمال وجود المعارض العقلي. ولا تتحول إلى يقين إلا بقرائن من الحس والمشاهدة. والقرائن الحسية ليست فقط تدعيما للحجة النقلية بل للحجة العقلية كذلك. فالواقع أساس النقل والعقل على السواء.
10
يبدأ الدليل النقلي من خارج العقل وتكون وظيفة العقل مجرد الفهم في أحسن الحالات أو التبرير في أسوأ الحالات. الدليل النقلي إذن يقضي على وظيفة العقل في تحليل الوقائع وعلى طبيعته المستقلة. وكيف يكون العقل وسيلة للمعرفة ويبدأ الدليل النقلي؟ وكيف يبدأ الدليل النقلي وحجته لم تعلم إلا بالدليل العقلي؟ وكيف إذا تعارض العقل والنقل فمن الحكم؟ لا يكون إلا العقل. وكيف إذا تعارض النقل والعقل؟ يكون إثبات العقل وتأويل النقل، فالعقل أساس النقل. إن النص لا يثبت شيئا، بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه. لا مفر إذن من البداية بالدليل العقلي، فالعقل أساس النقل. وكون النقل حجة بداية عقلية.
11
إن النقل لا يعطي إلا افتراضات يمكن التحقق من صدقها في العقل ومن صحتها في الواقع، كما يعطي حدوسا يمكن البرهنة على صدقها بالعقل وعلى صحتها في التجارب اليومية، ويكون المحك في النهاية العقل والواقع. العقل وحده وسيلة التخاطب، والواقع وحده هو القدر المشترك الذي يراه جميع الناس، فالاستدلال العقلي والإحصاء الاستقرائي دعامتا اليقين.
وكلما تطور علم الكلام قل اعتماده على النص وزاد اعتماده على العقل، كما حدث بعد القرن السادس عندما اعتمد اعتمادا كليا على العقل حتى أصبح وريثا لعلوم الحكمة مستمدا مادته ومنهجه ونظريته في العلم ومصطلحاته منها. وكأن نقد علوم الحكمة في القرن الخامس والدعوة إلى التصوف أدى إلى هروب الحكمة، فتلقفها التوحيد في علم الكلام المتأخر ثم تلقفها التصوف في القرنين السادس والسابع في التصوف الإلهي. وقد كان هذا الاعتماد وقتيا لأن علم التوحيد اعتمد فيما بعد على أصول الفقه وعلى علوم التصوف. وكما اختلطت مقدماته من قبل بالمنطق والحكمة فقد اختلطت فيما بعد بأصول الفقه وبالتصوف.
12
وفي الشروح والملخصات ظهر العقل من أجل إيجاد اتساق الخطاب مع نفسه بمزيد من الاستدلال دون إضافة واقع جديد حتى انزوى العقل في النص ولم يخرج منه. اتسق الفكر، وأمكن التعبير عنه في قضايا عقلية معدودة والإسهاب فيها بإيجاد الدلالة العقلية عليها ثم التدليل على الأدلة ثم التدليل على التدليل إلى ما لا نهاية حتى أصبح العقل بلا موضوع إلا ذاته. فالاعتماد على العقل الخالص بلا واقع اجتماعي للناس صورية خالصة تعبر عن البيئة الثقافية القديمة. بل لقد تحول التصوف إلى حجة مضادة للعقل وهادمة له، وبالتالي تم القضاء على أساس العلم.
ويعطي الدليل النقلي الأولوية للنص على الواقع، فهو بداية من خارج الواقع وكأن النص هو الواقع مع أن النص في بدايته واقعة معروفة في أسباب النزول. يغفل الدليل النقلي ليس فقط الواقعة الجديدة المشابهة، بل أيضا الواقعة الأولى؛ وبالتالي يستخدم النص طائرا في الهواء بلا محل، يخلقه واقعه من نفسه، فيظل فارغا بلا مضمون. ينغلق النص على ذاته أو يستعمل في غير موضعه طبقا للهوى والمصلحة كواقع بدليل. إن النص بطبيعته مجرد صورة عامة تحتاج إلى مضمون يملؤها. وهذا المضمون بطبيعته قالب فارغ يمكن ملؤه من حاجات العصر ومقتضياته التي هي بناء الحياة الإنسانية التي عبر فيها الوحي في المقاصد العامة. ومن ثم فالتأويل ضرورة للنص. ولا يوجد نص إلا ويمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به. لا يعني التأويل هنا بالضرورة إخراج النص من معنى حقيقي إلى معنى مجازي لقرينة، بل هو وضع مضمون معاصر للنص؛ لأن النص قالب دون مضمون. التأويل هنا ضرورة اجتماعية من أجل تحويل الوحي إلى نظام بتغيير الواقع إلى واقع مثالي. حتى النصوص الجلية الواضحة التي لا تحتاج في فهمها إلى تأويل أو إلى سبب نزول، بل إلى مجرد الحدس البسيط، حتى هذه النصوص لفهمها حدسا تحتاج إلى مضمون معاصر يكون أساس الحدس. وبدون هذا المضمون المعاصر لملء النص الجلي لا يمكن رؤيته حدسا . وقد حوت النصوص أنماطا مثالية للوقائع يمكن أن تكون أصولا لمجموع الوقائع الجديدة اللامتناهية، وتلك هي مهمة القياس الشرعي. العلاقة إذن ليست بين العقل والنقل وحدها ولكنها علاقة ثلاثية بإدخال طرف ثالث هو الواقع يكون بمثابة مرجع صدق وتحقيق لو حدث أي تعارض بين العقل والنقل. ولا يكاد يتفق اثنان على معنى واحد للنص في حين أن استعمال العقل أو اللجوء إلى الواقع يمكن أن يؤدي إلى اتفاق. ولا تستطيع اللغة وحدها أن تكون مقياس فهم النص والتوفيق بين المعاني. تحتاج اللغة إلى حدس وهو عمل العقل أو إلى تجربة وهو دور الواقع. فالواقع واحد لا يتغير. ولا يمكن الخطأ فيه لأنه واقع يمكن لأي فرد أن يتحقق من صدق الحكم عليه. وإن كل اختلافات الأحكام على الواقع إنما ترجع في الحقيقة إلى اختلافات في مقاييس هذه الأحكام وأسسها وليس إلى موضوع الحكم. وغالبا ما تكون هذه الأسس ظنونا أو معتقدات أو مسلمات على أحسن تقدير أو مصالح وأهواء ورغبات وسوء نية على أسوأ تقدير. وفي حقيقة الأمر الفكر هو الواقع، والواقع هو الفكر، وليس لأحدهما أولوية زمانية على الآخر أو أي نوع من الأولوية من حيث الشرف والقيمة. الفكر واقع متحرك والواقع فكر مرئي. وكل فكر لا يتحقق في الواقع لا يكون إلا هوى أو انفعالا ذاتيا، وكل واقع لا يتحول إلى فكر يكون واقعا مصمتا أو واقعا ناقصا.
وأولوية النص على الواقع تعطي الأولوية للتقليد على التجديد، وللماضي على الحاضر، وللتاريخ على العصر.
13
يرجع التاريخ إلى الوراء لأنه ما زال يعتمد على سلطة الوحي وأمر الكلمة، وما زال يتطلب الطاعة المطلقة لمجرد الأمر، في حين أن اكتمال الوحي يعني بداية العقل وأن الوحي ما هو إلا تعبير عن كمال الطبيعة وكمال الإنسان. منهج النص يحيل الشعور إلى شعور سلبي خالص، يجعله مجرد آلة لتنفيذ الأوامر دون تعقيل لها أو حتى إيمان شخصي بها .
14
والتقليد ليس منهجا عقليا أو نقليا، بل هو من مضادات العلم. وتقدم العلم مرهون برفع التقليد.
15
ولما كان النص فارغا إلا من الوقائع الأولى التي سببت نزوله، فإن كثيرا ما تتدخل الأهواء والمصالح الشخصية والظنون والمعتقدات لتملأ النص وليست مقاصد الوحي ذاتها. ومن ثم يتحول النص إلى مجرد قناع يخفي وراءه الأهواء والمصالح والنزعات والرغبات والميول. وتتمثل الخطورة أكثر فأكثر في موضوعات السياسة كما يبدو ذلك في استعمال منهج النص في الإمامة عند القائلين بأن الإمامة بالنص. فقد نص الكتاب على إمامة شخص بعينه وجعلها في سلالته؛ ومن ثم يعارض منهج النص مبدأ الوحي في الشورى والخروج على الإمام العاصي. والنص سلاح ذو حدين. يمكن استعماله وتوجيهه ضد قائله وقلب الحجة النقلية عليه. يستطيع صاحب كل مذهب أن يعتمد على نص وأن يجد له نصا في الكتاب يؤيده، بل يستطيع أنصار المذاهب المتعارضة أن يجدوا جميعهم نصوصا لتأييدهم إما عن حسن نية أو سوءة نية مهما كانت هناك من مناهج للتعارض والتراجيح. وفي حقيقة الأمر يخضع منهج النص للاختيار الاجتماعي والسياسي للنصوص. فقد حوت النصوص كل شيء. ويمكن لكل فرد أن يجد فيه ما يبغي وما يهوى. صحيح أن هناك مقاييس موضوعية، مثل مبادئ اللغة وأسباب النزول والمصالح العامة، ولكن مع ذلك لا يخلو استعمال النص عن هوى أو رغبة أو ميل أو مصلحة بصرف النظر عن درجتها خاصة أم عامة. ولا يعني ذلك بالضرورة سوء النية، ولكن كل فرقة تود نصرة آرائها بالاعتماد على سلطة النصوص فتختار ما يوافق هواها. النص في الحقيقة تابع لشيء آخر هو الرأي أو الهوى أو المزاج؛ فهو يستعمل خادما لا مخدوما، وتابعا لا متبوعا. وعموم النص يعطيه القدرة على خدمة الجميع على قدم المساواة، يعرض النص خدماته على الجميع، ويمكن إثبات شيئين متعارضين من فريقين مختلفين بنفس النص، كل منهما يرى فيه نفسه ويسقط عليه ما يريد.
16
لذلك يؤدي استعمال منهج النص إلى إحساس باليقين المطلق والحق المسبق، فيؤدي إلى التعصب وعدم الاستعداد للتنازل عن شيء أو تغيير الموقف أو الفهم المتبادل أو السماع للغير. وكثيرا ما يؤدي إلى القطيعة في النظر. يوجه السلوك فيؤدي إلى الامتثال والتحزب والفرقة والحمية والتكفير. يؤدي إلى ضيق الأفق والحنق وإلى سرعة اتهام المخالفين بالكفر والإلحاد والخروج على الدين وعلى الدولة ويستحيل معه تجميع الأمة على فكرة أو هدف؛ فيقضي على الوحدة الوطنية.
مع ذلك فقد يكون لمنهج النص أحيانا وفي فترات تاريخية محددة بعض الأثر والفاعلية؛ فالعكوف على النص يؤدي إلى العثور على إمكانياته اللامحدودة وفهم معانيه المتضمنة فيه والتدقيق في هذه المعاني وإخراج الكامن منها دون نسيانه أو لفظه أو إهماله جانبا باعتباره تاريخا مدونا أو تراثا مكتوبا أو أساطير الأولين. ويؤدي ذلك إلى إيجاد منطق للنص، منطق لغوي يكون وسيلة لإحكام المعاني حتى لا يقال فيه بالظنون، ومنطق عملي لتوجيه السلوك، ومنطق واقعي لفهم العالم وتغييره. وربما يؤدي ذلك إلى عثور على منطق داخلي للنص يكون منطقا للوحي ثم استعماله لنقد كل أنواع المنطق الأخرى صورية أو مادية أو كشفية؛ لذلك قام الفقهاء، حملة النص، بنقد المنطق القديم ووضع منطق جديد باسم النص.
17
وقد يمتاز منهج النص بأنه يبدأ ببداية تجعل عمل العقل قائما على أساس يقيني، وتحمي نشاط العقل من التشعب والتشتت والتقلب والتذبذب، كما تحميه من الظنون والأوهام والمعتقدات والشكوك والمصالح والأهواء. يقوم النص هنا بدور الأوليات أو البديهيات. هذه الوحدة الفكرية الأولى تظهر في الالتزام العلمي بوحدة الأمة وبمنهج الجماعة وعدم اللجوء إلى الرأي الشخصي إلا بعد مشورة الجماعة؛ فالآخر له وجود معرفي وله وظيفة معرفية. والحقيقة تكون أكثر يقينا في شعور الجماعة وتكون أكثر قابلية للتحقيق والتصديق والمراجعة.
وقد يعطي منهج النص بعض الشجاعة والقوة على الرفض الحضاري إذا ما تخلت الجماعة عن النص واتبعت التقليد، وابتعدت عن المركز وقبعت في المحيط. يقوم منهج النص هنا بعملية تطهير، ويعيد المجتمع إلى القلب من الأطراف، ويعود إلى الناس الإيمان بالنص في مواجهة إعمال العقل، وترجع الحضارة إلى الأنا في مواجهة الآخر ، تحافظ على الهوية ضد «التغريب» أو «التغريق»، والدفاع عن الأصالة في مواجهة دعوى المعاصرة والتحديث . يكون منهج النص عاملا مطهرا كلما تكاثرت النظريات العقلية وتراكمت فوق الواقع حتى أوشك النص على النسيان، فينتفض النص ويقوم بحملة نقدية ضد تراكمات العصور. وينشط العقل من جديد ناقدا نفسه أو مدافعا عن حقه في البداهة أو منظرا من جديد. وهذه الانتفاضات عمليات حضارية طبيعية تجدد بها الحضارة نفسها من ذاتها ثم تنشأ المشكلة من جديد إلى أن يسير النص إلى العقل (علوم الحكمة) أو إلى القلب (علوم التصوف) أو إلى الواقع (علم أصول الفقه) أو إلى العقائد (علم أصول الدين). عملية «الامتداد الحضاري» ليست تقليدا وتبعية للآخرين، وعملية «الانكماش الحضاري» ليست رجعية ومحافظة وتخلفا، بل هما عمليتان ضروريتان في كل حضارة، كل منهما تعبر عن ضرورة وواقع وحاجة، وتدرأ أخطارا مخالفة للأخرى.
18
أما الدليل النقلي العقلي أو العقلي النقلي، فإنه لا وجود له لأن كل وسط أقرب إلى أحد الطرفين، وهو أقرب إلى النقلي منه إلى العقلي وينتهي في الغالب في حالة التعارض إلى تغليب النقل على العقل وهدم العقل. ويصعب التركيب بين النقل والعقل لأنهما متضادان. النقل به كل حدود الرواية واللغة والتفسير والعقل موطن البداهة والوضوح والتمييز. والاتساق الفكري للخطاب العقلي لا يسمح بكسره أو قطعه بأدلة خارجية. واليقين الداخلي مكتف بذاته لا يحتاج إلى يقين خارجي زائد. (2) الدليل العقلي
لم يبق إذن إلا الدليل العقلي، والعقل هنا بمعناه الشامل الذي يشمل الحس والعقل والخبر. غرض التحليل العقلي هو عرض النص ذاته على المستوى العقلي الخالص ودفع المعارض العقلي، بل وتخيله والرد عليه سلفا حتى ليعد تحليل العقل من أدق ما قدمه علماء أصول الدين من اتساق نظري. تقوم القسمة العقلية بعرض الموضوع أولا على المستوى النظري واحتمالاته المختلفة ثم يقوم العقل بتفنيد كل احتمال حتى يبقى احتمال واحد ممكن بضرورة العقل. وهو ما يحدث أيضا على مستوى التجربة في الأصول ومناهج البحث عن العلة والمعروفة بطريقة السبر والتقسيم أي تحليل العوامل ثم عزل العوامل غير المؤثرة لمعرفة العامل المؤثر؛ لذلك دخلت نظرية «العلة والمعلول» ضمن «الأمور العامة» في «العلوم». والقسمة العقلية هي في الحقيقة الجوانب المختلفة للموضوع والذي ينكشف في الشعور بعد تحليله.
ميزة الدليل العقلي أنه يبدأ ببداية يقينية هو وضوح العقل وبداهته، فلا يحتاج إلى إيمان مسبق بأي نص. يقضي العقل على كل لبس في فهم النصوص كما يقضي على كل تفسير حرفي أو مادي له أو أي تفسير يضع المبادئ الإنسانية العامة موضع الخطر. العقل هو الوريث الشرعي للوحي. ولما اكتمل الوحي فإن العقل هو التطور الطبيعي له. منهج العقل إذن هو الاستمرار الطبيعي للنبوة، والتطور الطبيعي لها. العقل هو الوسيلة لفهم السلوك حتى لا يكون الإنسان مجرد آلة لإطاعة الأوامر. يفهم العقل أساس السلوك ودافعه وباعثه حتى ينبعث منه السلوك عن طبيعة، ويصدر منه الفعل عن تمثل واقتناع. منهج العقل منهج إنساني مهمته الدفاع عن حقوق الإنسان، العقل والحرية والشورى والالتزام. لا توجد خطورة للقضاء على موضوعية الوحي فالموضوعية لا تعني وجود وقائع مادية وذوات مشخصة بل تنبع الموضوعية من طبيعة العقل وإمكانية تحويل الوحي إلى سلوك ونظام. منهج العقل هو العامل الفكري الذي تنبني عليه الحضارة. العقل هو منشئ الحضارة، وتقاس درجة تقدم كل حضارة بدرجة عقلانيتها. وهو القادر على استيعاب كل الصدمات الحضارية واحتواء كل النظريات الغازية، وإعادة بنائها داخل النظرية العقلية العامة. لمنهج العقل قدرة فائقة على الامتصاص الحضاري للثقافات الواردة، ويغلب منهج العقل الجديد على القديم، ويهمه الحاضر أكثر من الماضي. ويقوم على نوع من الشجاعة العقلية والثقة بالنفس دون استناد إلى القديم استناد الخائف المضطرب أو الهارب الفار. ويؤدي منهج العقل في النهاية إلى الانفتاح على الآخرين بما لديه من قدرة على الحوار. فيحمي من الوقوع في التعصب؛ فالدليل هو الطريق لإثبات الحقيقة، والبرهان هو المحك في اختلاف الناظرين.
وبالرغم من مزايا منهج العقل إلا أنه نظرا لاستخداماته العديدة وتفريغه أحيانا من بعديه الآخرين الشعور أي الداخل والواقع أي الخارج، فإنه يتحول إلى مجرد آلة صورية تدرك أشكال القياس دون مادة العلم. يستعمل أحيانا للتبرير أكثر من استعماله للتحليل. تبرير المادة المعطاة سلفا لإيجاد اتساقها الداخلي دون تحليلها إلى عناصرها الأولية، وبيان مدى تطابقها مع التجربة الحية ومع الواقع العريض. ربما يقف العقل أمام بعض الموضوعات مثل «السمعيات» قابلا لها، جاعلا أقصى عمله هو تأويلها وفهمها بما يتفق معه وليس بيان نشأتها؛ أي الدخول في تكوين الموضوع ذاته. وإن قدرة العقل على التمثل والرغبة في البحث عن الاتساق العقلي جعلته قادرا على التمثل الحضاري لكل التراث العقلي المعاصر له، فخفت قدرته على النقد وعلى الرفض؛ لذلك خرج نقد المنطق «الأرسطي» القديم على يد الأشاعرة والفقهاء أكثر مما خرج من أيدي المعتزلة والحكماء. بل إن الرغبة في بناء اتساق العقل واحتواء المعارض قد وصلت إلى حد التشعب الفكري والتجريد الخالص حتى ضاعت الموضوعات المبدئية، وتحولت إلى موضوعات صورية خالصة. تحول الوحي إلى جدل، وتحولت الموضوعات إلى حجج، وأصبح التفكير مجرد محاجة ومماحكة. وقد لا يستطيع العقل الحصر في القسمة وبالتالي يكون بناء الموضوع ناقصا. وقد تند بعض الموضوعات عن القسمة العقلية وذلك لأن الحياة أحيانا لا تقبل القسمة ولا يمكن تحويلها إلى موضوعات صورية خالصة وإلا فقدت وجودها كمضمون. وأحيانا تكون القسمة العقلية كاملة نظرا من حيث الفكر، ولكنها غير مرضية عملا من حيث السلوك. يمكن تحليل إمكانيات السلوك في موقف إلى إمكانيتين أو ثلاث وكل منها لا يمكن استعمالها وكأن القسمة العقلية أضيق نطاقا من الموقف الوجودي ذاته. العقل دون نص أو تجربة أو واقع ينتهي إلى تأمل نظري خالص يبحث عن الحكمة لذاتها، وتصبح الفضائل كلها نظرية، وقد يغالى في العقل فيكون المطلق، ويكون المطلق عقلا وعاقلا ومعقولا في وقت واحد.
19
فإذا تحول كل نص إلى حجة عقلية قائمة بذاتها حتى أصبحت قوة النص تتمثل في قوة الحجة التي تعبر عنه، فإن الحجة العقلية لا تمس إلا الذهن، ولا ترمي إلا إلى الاتساق المنطقي. وتترك الشعور نفسه وربما الواقع أيضا دون اقتناع أو توجيه، وتمثل نظرا للوجود الشعوري والواقعي لموضوع الحجة. لذلك كان التحليل الشعوري الواقعي لهذا الموضوع هو الطريق لمعرفته أو الحكم عليه إثباتا أو نفيا. وإذا اشتدت التعريفات العقلية، وتشعبت الحجج لإثبات الدعوى أو نقيضها واستحال الفصل بينهما إن لم يكن قد صعب الفهم من قبل؛ يمكن الحسم باللجوء إلى تجربة شعورية واقعية تكون هي المادة التي تسمح للشعور بالتحليل وللواقع بالرؤية من أجل إصدار حكم، وذلك لأن الحجج الصورية تماما عاجزة عن أن يكون العقل منها حكما دون «أسباب النزول» أي دون واقع معاش وتجارب فردية واجتماعية. والإفاضة في أنواع الأدلة العقلية الخالصة جزء من علم المنطق. لذلك يؤثر القدماء الاقتصار على وجوه الاستدلال من استنباط واستقراء وتمثيل دون دخول في موضوعات المنطق العامة. ولكنها تستعمل استعمالا جدليا كما تستعمل في حجج البحث عن العلة في أصول الفقه استعمالا جدليا.
20
ويؤثر القدماء تعدد الأدلة بتعاضدها نظرا لاختلاف الأذهان في درجة التعلم وقبول اليقين. وقد لا يقنع الاعتماد على دليل واحد الجمهور.
21
لذلك تدخل مناهج الأدلة سواء في البداية في علم الكلام المتقدم أو في النهاية في علم الكلام المتأخر في موضوع أعم وهو الأدلة الشرعية. ففي نظرية العلم في المؤلفات المبكرة تبدو كأنها خارجة من ثنايا علم أصول الفقه، كما أنها تعتمد على الأدلة الشرعية كمصدر للعلم وتزيد عليها دليل العقل.
22
وقد تجتمع هذه الأدلة مع أدلة المنطق من استنباط وقياس وتمثيل.
23
فالعلوم الشرعية قسم من العلوم النظرية؛ لأن صحة الشريعة مبنية على صحة النبوة، وهذه لا تعلم إلا بطريق النظر والاستدلال.
24
فالعلوم النظرية نوعان: عقلي وشرعي، وكلاهما مكتسب بالنظر والاستدلال.
والأحكام الشرعية مأخوذة من أربعة أصول: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. وهنا يدخل علم الأصول كجزء من نظرية العلم. وتمتد نظرية العلم حتى تحتوي المنطق والأصول والتصوف والفلسفة والحديث.
25
فالكتاب يحتوي على الوحي، وهو اليقين المطلق. ولكنه وحي مدون، ومن ثم يحتاج إلى تفسير واستدلال قائم على طبيعة اللغة واستعمالها في التعبير، وإنكار النبوة قضاء على هذا الأصل.
26
والسنة على خلاف الكتاب، منها المتواتر الذي يورث العلم الضروري، والمستفيض الذي يورث العلم المكتسب، في حين أن الكتاب يورث العلم الضروري. التواتر يورث اليقين في العلم والعمل، في حين أن الآحاد يورث اليقين في العمل فقط ويبقي العلم ظنيا.
27
وأما الإجماع فهو اتفاق كل عصر، وهو استدلال جماعي يعطي يقينا أكثر من الاستدلال الضروري، ويكون أقل عرضة للخطأ.
28
وأما القياس فهو استدلال فردي في واقعة ليس فيها نص من كتاب أو سنة أو إجماع، وهو على درجات متفاوتة من اليقين.
وهكذا تنتهي نظرية العلم بعد أن بلغت ذروتها في نظرية المنطق وصبت في النهاية في نظرية الأدلة في علم أصول الفقه، وكأن نظرية الأدلة الشرعية في علم أصول الفقه أوسع نطاقا من نظرية العلم في علم أصول الدين؛ نظرا لاحتوائها على دور الجماعة في الاستدلال ودور الواقع والمصالح العامة من خلال شعور المجتهد وإحساسه بمصالح الأمة. جمعت بين المعرفة الحسية والعقلية والوجدانية، وضمت إليها المعرفة التاريخية من خلال التواتر، ولكن نقصها شيئان يمكن إكمالهما من المعاصرين حتى تكتمل نظرية العلم.
الأول تحليل اللغة؛ لغة العلم ومصطلحاته، فهذه تركها القدماء وكأن لغة العلم مفترضة سلفا، خاصة وأن علم العقائد له مصطلحاته الخاصة مثل: «الله»، «الإيمان»، «الآخرة»، منها ما هو حسي عقلي مثل الإيمان والعمل والإمامة، ومنها ما هو تاريخي مثل النبوة، ومنها ما هو غيبي مثل: «الله» و«الآخرة».
29
والثاني تحليل الواقع الذي منه نشأ علم العقائد ووصف الآثار الفعلية للعقائد في حياة الناس وكيفية توجيهها لسلوكهم. وهل يمكن تغيير التصورات لإحداث تغيير مماثل في الأفعال. فالتوحيد عند القدماء ليس فقط توحيد نظر بل توحيد عمل. يبدو أن التركيز عندهم كان على الأول دون الثاني في حين أنه عندنا قد يكون التركيز على الثاني دون الأول.
30
مع ذلك يظل الدرس المستفاد من القدماء هو أنه لا يمكن تأسيس علم للتوحيد دون تأسيس مسبق لنظرية في العلم. فليس المهم هو الموضوع بل المنهج، بل إن طبيعة الموضوع والنتائج فيه والحكم عليه إنما هي مشروطة بالمنهج المتبع ونوعية الأدلة فيه. نظرية العلم في النهاية هي التي تحدد موضوع العلم.
الفصل الرابع: نظرية الوجود
أولا: نشأة نظرية الوجود وتطورها
(1) مصطلح نظرية الوجود
تشير نظرية الوجود إلى كل المباحث النظرية بعد نظرية العلم، وهي المباحث التي تضم أساسا طبقا لعلم الكلام المتأخر مبحثي الأعراض والجواهر. ولما كانت الأعراض والجواهر تمثل الأجسام أو الموجودات وضعت تحت مصطلح «نظرية الوجود»، ولأن «الأمور العامة»؛ أي المقدمة النظرية لمبحثي الأعراض والجواهر تجعل الوجود أهم مباحثها. وتعني نظرية الوجود «المعلوم» في مقابل نظرية العلم. فإذا كانت نظرية العلم تجيب على سؤال: كيف أعرف؟ فإن نظرية الوجود تجيب على سؤال: ماذا أعرف؟ وبالتالي يدل سبق نظرية العلم على نظرية الوجود سبق المعرفة على الوجود. فالموجود هو المعلوم وليس المجهول. الموجود هو موضوع العلم وليس له وجود مستقل عن العلم؛ لذلك تتداخل نظرية الوجود في بداياتها مع نظرية العلم وكأنها تنشأ من داخلها فينفصل المعلوم عن العلم، ويتخلق الموضوع من الذات. ولا يذكر اسم الموجود بل المعلوم. نظرية العلم تعرض لكيفية العلم من ناحية الذات، ونظرية الوجود تتناول المعلوم من حيث الموضوع. وتبدأ نظرية الوجود كلها من قسمة المعلوم إلى معدوم وموجود، ثم قسمة الموجود إلى قديم وحادث، ثم قسمة الحادث إلى جوهر (جسم) وعرض.
1
وفي المصنفات الاعتزالية والأشعرية معا تتداخل نظريتا العلم والوجود لإثبات حدوث العالم وأن له محدثا، فالغاية إثبات وجود «الله» ومعرفة الطريق الذي يتوصل فيه إلى العلم «بالله»، وأنواع الدلالة، وأن معرفة «الله» لا تكون إلا بالعقل وبالنظر إلى أفعاله، وهنا يكون دليل الحدوث أقرب إلى نظرية العلم منه إلى نظرية الوجود.
2 (2) غياب نظرية الوجود
تغيب نظرية الوجود بل وكل المقدمات النظرية بوجه عام من كتب العقائد المتقدمة منها أو المتأخرة، ففي الأولى لم ينشأ بناء العلم بعد، وفي الثانية اختفى بناء العلم. وفي كلتا الحالتين يصبح العلم موضوعا للإيمان الخالص بلا حاجة إلى نظرية في العلم أو نظرية في المعلوم أي الوجود. تعرض هذه المصنفات ما يجب على المؤمن الاعتقاد به فرضا دون أي مدخل نظري أو إقناع عقلي أو تأصيل بديهي للأسس العامة التي تقوم عليها العقائد.
3
كما تغيب نظرية الوجود في العقائد المبكرة عندما تصاغ ضد العقائد المضادة، وتدخل مباشرة في الصراع العقائدي دون إرساء أية قواعد مشتركة للحوار ودون وجود أية أسس نظرية مشتركة تكون الحد الأدنى للجمع بين المتحاورين، عقائد في مواجهة عقائد، وعقائد «أهل سنة» في مواجهة عقائد «أهل بدعة» حتى العصور المتأخرة. كما تغيب نظرية الوجود في المصنفات المبكرة للعقائد المضادة للرد على عقائد أهل السنة مثل: عقائد المعتزلة؛ إذ إن غرضها هو عرض عقائد الفرق والرد على هجوم الفرق المخالفة، سواء كانوا أهل السنة أو الشيعة أم فرق المشبهة والمجسمة أو الجبرية.
4
وتغيب نظرية الوجود كذلك من المصنفات التي ما زالت تتأرجح بين العقائد وتاريخ الفرق.
5
فالغرض ليس تأسيس العقائد العامة التي يتفق عليها المسلمون جميعا، بل عرض عقائد الفرق، والتركيز على أوجه الاختلاف وليس على أوجه الاتفاق، وكأن التشتت والتبعثر والتشرذم أولى بالرصد من الوحدة والائتلاف. كما تغيب نظرية الوجود من مصنفات العقائد التي تعرضها في صيغة تساؤلات وتبدأ بالإلهيات مباشرة، مثل الله وصفاته، ودون أي تأصيل نظري مسبق.
6
ولا تغيب نظرية الوجود عن كتب العقائد المتقدمة والمتأخرة فحسب، بل تغيب أيضا من مصنفات علم الكلام التي تعتمد على الحجج النقلية وحدها ودون البناء النظري المحكم. وبالرغم من حضور بعض مسائل نظرية العلم إلا أن موضوعات الوجود تختفي تماما؛ لأن «الله» لا شأن له بالعالم.
7
وأقصى ما تظهر فيه في بدايات النظر في ذات «الله» تعالى والأدلة على وجوده باستعمال دليل الحدوث.
8 (3) نشأة نظرية الوجود
نشأت نظرية الوجود ابتداء من دليل الحدوث الذي تتداخل فيه نظرية العلم ونظرية الوجود بداية. فهو دليل والأدلة جزء من نظرية العلم، يعتمد على الحدوث، والحادث هو الجسم الطبيعي. ليس لنظرية الوجود في هذه الحالة وجود مستقل، بل هي جزء من النظر في ذات «الله»؛ أي من صلب العلم وليس من المقدمات النظرية، فالطبيعيات هنا مقدمة للإلهيات، والطبيعية سلم إلى ما بعد الطبيعة، فبراهين وجود «الله» كلها براهين كونية بعدية استقرائية طبيعية. يتم الانتقال إذن من نظرية العلم إلى التوحيد مارا ببرهان الحدوث كمقدمة لإثبات وجود «الله» وليس بحثا مستقلا في الطبيعة، ويدخل ضمن موضوع «الذات».
9
كان الدافع إذن على نشأة نظرية الوجود هو «بيان حدوث العالم». ولأجل ذلك تم بيان معنى العالم وأجزائه المفردة، وإثبات الأعراض والأجزاء المركبة من العالم وما يحدث ابتداء لا عن نسل وما يحدث عن تناسل من الحيوانات، ثم بيان أقسام الأعراض واختلافها عن الأجناس واستحالة بقائها، وتجانس الأجسام والرد على الدهرية والثنوية، ثم إثبات حدوث الأعراض وإبطال الظهور والكمون، واستحالة تعري الأجسام من الألوان والأكوان والطعوم والروائح، ثم إثبات الهيولى ووقوف الأرض ونهايتها، ووقوف السموات وأعدادها، وإثبات نهاية العالم وجواز فنائه، كل ذلك قبل معرفة الصانع ونعوته الذاتية، وكأن البحث في العالم والدخول فيه شرط البحث فيما وراء العالم والخروج عنه، وكأن المتناهي في الصغر يؤدي بالضرورة إلى المتناهي في الكبر، وكلما أوغل المتكلم في «الطبيعة» رأى «الله».
10
وعلى هذا النحو استطاع علماء الكلام إنشاء «اللاهوت الطبيعي» على نحو فيزيقي مادي خالص وكأنه علم «فيزياء». وظهر ذلك أيضا في علوم الحكمة وعلوم التصوف، بل وفي علم أصول الفقه.
11
وتبدو أحيانا نظريتا العلم والوجود معا كمقدمتين لدليل الحدوث. فكما ينقسم العلم إلى قديم ومحدث؛ أي إلى علم «إلهي» وعلم إنساني، كذلك ينقسم الوجود إلى قديم ومحدث؛ أي إلى وجود «إلهي» ووجود طبيعي.
12
لذلك تبدو نظرية الوجود وكأن الهدف الأساسي منها هو إبطال القول بقدم العلم قبل صياغة دليل الحدوث، وكأن معارضة قدم العالم هي التي أدت بالمتكلمين إلى إثبات حدوث العالم وأن له محدثا.
13
وأول ما يظهر من الأبحاث هو مبحث الأعراض دون أن تسبقه «الأمور العامة» أو «أحكام الموجودات» من أجل الاستدلال بالأعراض على «الله» بعد إثباتها وإثبات حدوثها وحاجتها إلى محدث، ثم إثبات الأكوان وحدوثها وعدم خلو الأجسام منها، وهي تدخل ضمن النسب في مبحث الأعراض، ثم الرد على شبه قدم العالم وإثبات احتياج الأجسام الحادثة إلى محدث، ورفض نظريات القائلين بالنفس والعقل والعلة وأصحاب النجوم والتي ستتحول فيما بعد إلى أقسام الجوهر في مبحث الجوهر.
14
وقد تظهر أبواب في إثبات المحدثات الدالة على «الله» وإثبات الأعراض والأكوان كنهاية لنظرية العلم دون أن تكون مستقلة عنها وكبداية لأصل التوحيد. ولا يظهر من نظرية الوجود إلا حدث الجسم والاستدلال عليه، وأن الحوادث لا أول لها لتخصيص «الله» وحده بصفة القديم، دون أي بناء نظري محكم لمباحث نظرية خالصة، وكأن صفات «الله» كانت موجهات لا شعورية لعلم الطبيعة مما يقضي على موضوع العلم الطبيعي ويجعله مجرد إيمان خالص أو افتراض مسبق.
15
وأحيانا تبدو نظرية الوجود كلها وكأنها مقدمة لإثبات حدوث العالم. حينئذ تصعب التفرقة بين نظرية الوجود ودليل الحدوث. وفي هذه الحالة يقال مباشرة بيان حدوث العامل وليس أقسام المعلوم. ثم يتركز الدليل كله على قسمة العالم إلى أعراض وجواهر، ثم إثبات حدوث الأعراض في حين أن القسمة إلى جوهر وعرض في نظرية الوجود هي مجرد قسمة للحادث.
16
ويظهر إذن مبحث الجواهر والأعراض في نظرية الوجود وكأنه جزء من مقدمات الإلهيات، حتى إنه ليستحيل التفريق بين التوحيد والطبيعيات؛ إذ تحلل الجواهر والأعراض تحت كتاب التوحيد.
17
وكثيرا ما يكون العالم وحدوثه مباشرة كمقدمة لموضوع «الله» وصفاته دون نظرية للعلم ودون أي عرض نظري لمباحث الوجود بالرغم من استعمال مصطلحات الجوهر والأعراض والحدوث والقدم؛ فالقول في حدث العالم أقرب إلى أن يكون مقدمة للذات والصفات مع استعمال مصطلحات نظرية الوجود مثل الأكوان والسكون والحركة والاجتماع والافتراق والجوهر والأعراض والحدوث والقدم.
18
ويتركز المبحث كله على دليل الحدوث واستحالة عدم القديم. يبدأ حدث العالم قبل البداية بالعقائد وكأنه مقدمة لها.
19
ولما كانت نظرية الوجود أكثر تطورا من نظرية العلم وتحليل المعلوم بعد تحليل العلم، فإن بعض المصنفات المتقدمة مقتصرة على نظرية العلم، وتنتقل من نظرية العلم إلى دليل الحدوث كمقدمة للإلهيات دون ذكر لنظرية الوجود. ومبحث الجواهر والأعراض ذاته مقدمة للإلهيات وتحديد للأدلة على وجود «الله».
20
ويستمر إثبات حدوث العالم كباعث أساسي لظهور مباحث الوجود حتى في علم الكلام المتأخر، وكأن القول بقدم العالم ما زال خطرا قائما. ويستحيل الفصل بين نظرية الوجود وبداية الإلهيات في موضوع «القول في حدث العالم ووجود الصانع جل جلاله».
21
وقد تكون وسيلة إثبات حدوث العالم وأن له محدثا مجرد حجج نقلية دون العقلية؛ مما يدل على أن دليل الحدوث تعبير عن إيمان مسبق أكثر منه تأصيلا عقليا.
22
وأحيانا تكون نظرية الوجود جزءا من مادة المعلوم وتنفصل عن المقدمات النظرية وتكون نظرية العلم وحدها هي المقدمة. أما نظرية الوجود فتدخل جزءا من بناء العلم.
23
وقد دخلت الطبيعيات في كتب التوحيد المتأخرة في المقدمات؛ أي في أبحاث القدم والحدوث، الجوهر والعرض، الكم والكيف في نظرية الوجود. وفي المقدمات المتأخرة حدث فصل بين نظرية الوجود والإلهيات، في حين أنه في المقدمات المبكرة لا يوجد مثل هذا الفصل، بل تؤدي نظرية الجوهر والأعراض تلقائيا بطريق مباشرة إلى إثبات الصانع القديم الواحد الباقي الذي لا شبيه له.
ثم يظهر موضوع ثالث مع مبحثي الأعراض والجواهر، وهو أحكام العقل الثلاثة: الوجوب والإمكان والاستحالة، لتنصهر فيها نظريتا العلم والوجود معا. فهي أحكام عقلية وبالتالي تتعلق بنظرية العلم، وفي نفس الوقت تتعلق بالموجودات، وبالتالي ترتبط أيضا بنظرية الوجود. وأخذت الموضوعات الثلاثة عنوانا آخر هو «الأمور العامة» أو «أحكام الموجودات». فإذا اعتبر دليل الحدوث أقرب إلى الأحكام الثلاثة فهو أدخل في نظرية الوجود، وإذا اعتبر أنه بداية لموضوع الذات فهو أدخل في الإلهيات. وقد أظهرت أحكام العقل الثلاثة من قبل في نظرية العلم قبل أن تتحول إلى «الأمور العامة» في نظرية الوجود. وقبل بناء العلم النهائي يتم تفصيل نظرية الوجود كله تحت «القول في حدث العالم» في مباحث متفرقة دون بناء نظري محكم.
24
فمسألة حدوث العالم هي نقطة الالتقاء بين نظرية الوجود ومبحث الذات الهدف منها إثبات وجود «الله» أول صفة للذات وهنا يدخل تحليل مقدمات الدليل عن حدوث الأعراض.
25
ولا تتعدى بعض المصنفات المتأخرة إلى إثبات الواجب بذاته وكأن الفكر الطبيعي لا وجود له.
26
تكتمل عناصر نظرية الوجود إذن بظهور «أحكام الموجودات»، وفيها يجتمع الركن الأول من أركان نظرية العلم «أحكام النظر». وفي هذا العنصر تنفصل مباحث أحكام الموجودات مثل الوجود والحال، وتقسيم الموجودات إلى واجب لذاته وممكن لذاته أو إلى القديم والمحدث، وتفصيل القول في الجوهر والعرض والأجسام قبل الدخول في ركني الإلهيات والسمعيات.
27
وأحيانا تسمى «أحكام المعلومات» بعد المباحث المتعلقة بالعلم والنظر أي نظرية العلم. وتضم نفس موضوعات الوجود والعدم والحال والماهية والأحكام العقلية الثلاثة ثم مباحث الأعراض من حركة وسكون كما تظهر الكيفيات الحسية دون تفصيل في مبحث الجواهر.
28
وفي بعض كتب العقائد تظل أحيانا نظرية الوجود قائمة قبل أن تغيب نهائيا وكأنها حديث عن العلم بأجزائه من محدث وأعيان وأعراض وجواهر مركبة أو بسيطة.
29
وهو أيضا الغالب على الكتب المدرسة من ذكر لموضوعات متناثرة لا بناء فيها قبل تقسيم المعلوم إلى وجود وعدم وحال، والجوهر والعرض قبل الانتقال إلى أدلة إثبات الصانع.
30
لم تكن الطبيعيات في نظرية الوجود من المسائل المختلف عليها نظريا في نشأة الحضارة أو حتى من اختلاف الأصول أو عمليا في الفروع.
31
ولا تظهر في الموسوعات الكلامية أو في كتب العقائد الاعتزالية؛ فالأصول الخمسة خالية من الطبيعيات.
32
بل تظهر في ذكر آراء ممثلي الفرق في شتى المسائل المتفرقة وليست غالبا في كتب العقائد.
33
وقد تظهر في آخر كتب العقائد كتذييل.
34
كما تظهر إذا ما عرض التوحيد على أنه موضوعات لا فرق ويكون الاختلاف في «الدقيق» أو «اللطائف». فما وضعه المعتزلة في النهاية وضعه الأشاعرة في البداية، وما جعله المعتزلة نتيجة جعله الأشاعرة مقدمة، فالعلم عند المعتزلة نتيجة للتوحيد وعند الأشاعرة مقدمة له.
35 (4) بناء نظرية الوجود
وفي مرحلة اكتمال العلم في القرنين السادس والسابع بلغت نظرية الوجود تقريبا نصف العلم. وتضم ثلاثة أبحاث: «الأمور العامة»، «الأعراض»، «الجواهر»، طبقا لقسمة الوجود إلى الواجب، والعرض، والجوهر.
فالأمور العامة أقرب إلى المبادئ العقلية العامة التي يتوحد فيها العقل والوجود، والتي يصعب فيها التفرقة بين الميتافيزيقا والأنطولوجيا لأنها تتعرض للواجب أو لواجب الوجود، وهو مبدأ ميتافيزيقي وواقع أنطولوجي في آن واحد. هي بمثابة مقدمات عامة لمفاهيم الوجود الأساسية مثل: الوجود والعدم والماهية، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول. البعض منها يقوم بذاته مثل الماهية والبعض الآخر عن طريق الثنائية المتقابلة، مثل: الوجود والعدم، الوحدة والكثرة، العلة والمعلول، والبعض منها ثلاثي الوجوب والإمكان والاستحالة. ويمكن اعتبار الوجود والعدم قسمة ثلاثية إذا أدخلنا بينهما الواسطة، وهو الحال. البعض منها أقرب إلى الفلسفة وربما إلى الفلسفة «الإلهية» في التصوف مثل الوجود والعدم، والماهية، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة، والبعض الآخر أقرب إلى أصول الفقه مثل العلة والمعلول. وقد تكون الأمور العامة ما لا يختص بقسم من أقسام الوجود، بل منطق الوجود كله الذي يشمل الواجب والعرض والجوهر،
36
أي أحكام الوجود الصوري أو العقل الوجودي وكأن «الأمور العامة» تقوم على افتراض ميتافيزيقي مسبق هو الهوية بين العقل والوجود، بين الفكر والواقع، بين الروح والطبيعة.
ولكن يظل قلب نظرية الوجود هما مبحثا الأعراض والجواهر، يمثلان لب المقدمات النظرية كلها وثلاثة أرباعها كما؛ إذ لا تمثل الأمور العامة إلا ربعها.
37
وقد كانت من قبل لا تمثل إلا أقل من ثلثها.
38
كما أن مبحث الأعراض وحده لب نظرية الوجود، ويمثل نصف مباحث الوجود كلها، ومرة ونصف مبحث الجوهر.
39
والأعراض في صيغة الجمع في حين أن الجوهر في صيغة المفرد وكأن هناك أعراضا كثيرة وجوهرا واحدا في مبحث الأعراض والجواهر. وأحيانا الجوهر والأعراض وكأن الجواهر العديدة المنقسمة وغير المنقسمة ذاتها من نفس وعقل تنتهي كلها إلى جوهر واحد. والبداية بالأعراض قبل الجوهر، وكأن الحدوث والتغير والانتقال فيهما سابق على الجواهر ومؤد إليها؛ مما يدل على البداية بالظواهر قبل الحقائق، واكتشاف العالم الطبيعي كما يبدو قبل اكتشاف الأشياء ذاتها. فالإنسان يعرف الظواهر قبل الأشياء ولا يدرك الأشياء إلا من خلال مظاهرها. وتبدو القسمة الرباعية مع الثلاثية في أبحاث الأعراض (الكم، والكيف، والنسبة، والإضافة)، وفي أبحاث الكيف (الحسية، والنفسية، والكمية ، والاستعدادية)، وفي أبحاث الجوهر (الجسم، عوارض الأجسام، النفس، العقل)، وفي أبحاث الجسم (الأفلاك، الكواكب، العناصر ، المركبات). ولما كان الغالب على الأعراض الكم والكيف والنسبة والإضافة، وأطولها الكيف، وأهمها الكيفيات المحسوسة والنفسانية والكمية والاستعدادية، فقد ظهر الإنسان قاصدا نحو العالم. ولما كان الغالب على مبحث الجواهر؛ أي عالم الأجسام النفس والعقل، فقد ظهر العالم قاصدا نحو الإنسان. وبالتالي يكون مبحث الأعراض والجواهر هو مبحث «الإنسان في العالم» أو مبحث الإحالة المتبادلة بين الإنسان والعالم. وإذا كانت «الأمور العامة» هي بحث في «الواجب» طبقا لقسمة الوجود إلى واجب وعرض وجوهر كانت نظرية الوجود مركزة أساسا على الإنسان بين الواجب والعالم؛ أي الإنسان بين عالمين، بين المقال والواقع، أو بين الفكر والوجود، أو بين الروح والطبيعة. وبالتالي يظهر بناء نظرية الوجود الثلاثي في: «ميتافيزيقا الوجود» أو «الأمور العامة» (الواجب)، وفي «فينومينولوجيا الوجود»؛ أي ظواهر الوجود (الأعراض) وفي «أنطولوجيا الوجود»؛ أي الأجسام (الجوهر).
فما يسمى المباحث الطبيعية في علم أصول الدين هو في حقيقة الأمر نظرية الوجود، وبوجه خاص مبحثا الأعراض والجواهر، الغرض منها دراسة المعلوم، أي الموجود أو المعدوم إذا كان المعدوم شيئا وليس الغرض منه المبحث الطبيعي من أجل تأسيس علوم الطبيعة. قد يأتي المبحث الطبيعي على نحو غير مباشر بدراسة المعلوم والمبحث في الوجود والتجرد نهائيا عن المبحث الديني في «الله» كذات وصفات وأفعال التي تتلو المقدمات النظرية كلها، وليست سابقة عليها، وكأن تأسيس العلم الطبيعي ممكن بالاستقلال عن الفكر الديني، ثم يأتي الموضوع الأول في الفكر الديني تاليا عليه. وإن شئنا يكون البحث الطبيعي هو المدخل للفكر الإلهي. وقد بلغ مبحثا الأعراض والجواهر حدا من الاستقلال لدرجة أنه أمكن التأليف فيهما تأليفا مستقلا، سواء من القدماء أو من المحدثين.
40
ولكننا أسقطناها من وجداننا المعاصر، فغاب العلم الطبيعي وضاع منا الإحساس بالعالم ولم يبق إلا الواجب الشخصي، وأصبح الإنسان معلقا في الهواء بلا أرض تحت قدميه، يناجي الواجب الشخصي ويستمد منه العون والبقاء؛ ففقد التوازن حتى أمكن تعليقه بعد ذلك في غياهب السجون، قدماه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل وهو يصرخ من آلام التعذيب وما من مجيب!
وفي نظرية الوجود المتأخرة يشار صراحة إلى المباحث الفلسفية، وتوضع لها الأقسام الخاصة وتذكر إما بتأييد أو المعارضة، ويقوم الجدل بين علم أصول الدين وعلوم الحكمة، بين المتكلمين والفلاسفة. وتتشعب التقسيمات بين المتكلمين والحكماء. وتسود تقسيمات الفلسفة فهي أشد تنظيرا وأوسع أفقا وأكثر اتفاقا مع العقل. فإذا كان علم الكلام العقلي قد قضي عليه مبكرا، فإن الفلسفة قد أتت في النهاية وأعطت الكلام ما فقده من قبل من تعقيل وتنظير، ولو أنه كان التعقيل الفلسفي بما فيه من إشراقيات وخيال.
41
لم تتوقف الحركة العقلية إذن في القرن الخامس بعد القضاء على الحركة الاعتزالية. ظهر العقل متخفيا في علم الكلام السني بعد القرن الخامس في هذه المقدمات النظرية، نظرية العلم وخاصة نظرية الوجود. ولم تزد نظرية الوجود في المصنفات المتأخرة شيئا من مباحث الوجود المتقدمة إلا التفريعات والحجج الواردة من الفلسفة عن الوجود والماهية والممكن والجوهر والعرض، وكأنها أبحاث لذاتها، وفقدت دلالاتها الأولى في الفكر الديني وأصبحت أبحاثا منطقية وجودية خالصة.
42
وقد يكون سبب الاتصال بالمباحث الفلسفية أن الفلسفة ذاتها أصبحت تمثل خطرا على العقيدة؛ فبعد أن راجت الفلسفة في الحضارة تحول علم الكلام إلى هذا الخصم الداخلي بعد أن أقام معركته من قبل مع الخصوم الخارجية أو البدع الأولى. فبقدر ما استفاد منها نقدها، وقام معها بعملية الاحتواء،
43
وبإدخال المادة الفلسفية، دخلت الثقافات الأجنبية التي كانت الفلسفة قد تمثلتها من قبل، خاصة الفلسفة اليونانية وعلى وجه أخص الطبيعيات منها، فيقتبس منها في الشروح. وكثيرا ما تؤخذ كلية كما هو الحال في المنطق، وتحتوي داخل المقدمات إما في العلم أو في الوجود أو في النفس الناطقة.
44
كان هناك وعي تام بأن هذه التحليلات الجديدة مستمدة من علم آخر هو علوم الحكمة؛ فهي تقسيمات لعلم آخر. فتتجاوز تقسيمات المتكلمين مع تقسيمات الحكماء. وما سماه المتكلمون المحدث سماه الحكماء الممكن. والقديم عند المتكلمين هو الواجب عند الحكماء ، والجسم عند الحكماء هو الجوهر عند المتكلمين. كما يستعمل المتكلمون «الجواهر المفارقة» لإثبات بعض الموضوعات السمعية. وبالتالي نشأت عملية «تشكل كاذب» داخلي بين علم أصول الدين وعلوم الحكمة. وبالرغم من اعتماد علم الكلام المتأخر على أقوال الحكماء إلا أن الاختلاف بين العلمين واضح، والاختلاف بينهما أكثر من الاتفاق طبقا لرصد المتكلمين.
والآن ما هي دلالة هذه المقدمات النظرية الخالصة؟ هل هو تفكير ديني مجرد، وبالتالي استطاع الفكر الديني أن يصوغ نفسه صياغة عقلية مجردة؟ هل هي قسمة عقلية مجردة لها آثار على الفكر الديني؟
45
هل هي قسمة عقلية مجردة، بحث في الميتافيزيقيا والفينومينولوجيا والأنطولوجيا العامة؟ هل هو فكر ديني مقنع لا بد من القضاء عليه كما يفعل الفقهاء والعودة إلى علم الكلام الأشعري أو إلى عقائد السلف القائمة على النصوص الخام؟ توحي الألفاظ المستعملة بأنها كلها تتبع قسمة عقلية واحدة تعبر عن تجربة دينية واحدة، يعبر عنها مرة بلغة الوجود مثل الواجب والممكن والمستحيل، ومرة بلغة المنطق مثل الإثبات والنفي، ومرة ثالثة بلغة الميتافيزيقا مثل الواحد والكثير ومرة رابعة بلغة الفلسفة مثل الوجود والماهية، ومرة خامسة بلغة الطبيعة مثل الجوهر والعرض، ومرة سادسة بلغة اللاهوت مثل القديم والحادث، وهي القسمة المباشرة التي تعبر عن التجربة الدينية، نقطة البداية والنهاية. والحقيقة أن كل هذه التقسيمات تشير إلى بعد واحد، وهو البعد الرأسي الذي يستقطب فيه الوجود بين طرفين موجب وسلب، وجود وعدم، واجب وممكن، واحد وكثير، ماهية وجوهر، قديم وحادث، جوهر وعرض. فنظرية الوجود التي قدمها علم الكلام كمقدمة لمادته هي في الحقيقة خادمة للإلهيات أو تعبير عن الإلهيات في صورة عقلية خالصة.
46
ولكن ما مدى صدق نظرية العلم أو نظرية الوجود على المعطيات الدينية الأخرى؟ هل تصلح هذه النظرية أو تملك أن تكون أساسا نظريا لمجموع العقائد في كل دين؟ يبدو أن المتكلمين يبحثون في الممكنات على «قانون الإسلام». فهل استطاعت هذه المقدمات النظرية بالفعل أن تكون مبادئ أولانية لكل عقيدة؟
47
هل بلغت من الشمول بحيث يمكن أن تكون علما أولانيا لكل معطيات دينية؟
48 (5) اختفاء نظرية الوجود
ثم انحل البناء في عصر الشروح والملخصات وتحولت نظرية الوجود إلى مجرد تجميع لمواد القدماء عن الصفة والموصوف والعلة والقوة الجسمانية والتضايف والوحدة والكثرة والأعراض والجواهر والقدم والحدوث دون إحكام نظري، وانفصل المنطق عن الطبيعة وأصبح الانتقال من الوجوب إلى الحدوث مجرد استدلال صوري.
49
ثم عادت مصنفات العقائد كما بدأت بلا مقدمات نظرية،
50
وأنه يجب على المؤمن أن يؤمن بخمسين عقيدة أو عشرين صفة، وأصبح عد العقائد أو الصفات بديلا عن الأحكام النظري.
51
وغابت مسائل الطبيعيات من العقائد كما وصفها أهل السنة إلا من العلم بحدوث العالم في أقسامه من أعراض وأجسام كمقدمات لإثبات الصانع وصفاته، وكأن العلم الطبيعي ليس جزءا أساسيا في العلم الديني، وكأن عقلية التوحيد لا تبدو في تصور الطبيعة. ويبدو ذلك في بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة (خمسة عشر أصلا) ليس من بينها الطبيعيات.
52
ولا تظهر الطبيعيات في كتب التوحيد المتأخرة كموضوع مستقل مثل الإلهيات والسمعيات.
53
ولا تدخل في المسائل الكبرى لعلم التوحيد كالتوحيد والعدل والوعد والوعيد والسمع والعقل.
54
وقد ظل هذا الاعتقاد سائرا إلى الآن.
55
ولكن قد تختفي نظرية الوجود بدافع إصلاحي ويوجه النص مباشرة إلى الواقع دون ما حاجة إلى عرض نظري.
56
ومع ذلك تظل أحكام العقل الثلاثة هي كل ما تبقى من نظرية الوجود في العقائد المتأخرة، وفي بعض الحركات الإصلاحية. فلم تبق إلا أحد موضوعات خمسة من الأمور العامة أو ميتافيزيقا الوجود. وقد حاولت بعض مصنفات العقائد الإصلاحية العودة إلى بعض المقدمات النظرية فلم تجد إلا مبحثا واحدا من الأمور العامة أو الكلية وهي الأحكام الثلاثة وحولته من أبحاث في الوجوب والإمكان والاستحالة يتحدى فيها العقل بالوجود إلى أحكام العقل الثلاثة دون وجود، وبالتالي سقطت مباحث القدم والحدوث، وانتهت مباحث الأعراض والجواهر، وكأن أحكام العقل الثلاثة تكفي كمقدمة نظرية للعقائد، وتطبيقها في الله وفي الرسول، ما يجب اعتقاده في الله وما يستحيل وما يجوز، وما يجب اعتقاده في الرسول وما يستحيل وما يجوز .
57
تقلصت نظرية الوجود كلها إلى أحكام العقل الثلاثة التي تجمع بين العلم والوجود كما كان الحال في البداية.
58
بل تسقط معظم الحركات الإصلاحية المعاصرة في رسائل التوحيد الطبيعيات، وقد تسقط الأحكام الثلاثة كلية، ويكفي عرض العقائد في الله وفي الرسول ما يجب منها وما يستحيل وما يجوز.
59
وعندما يبدأ العلم بأحكام العقل الثلاثة تأتي نظرية الوجود مباشرة دون العلم كنظرية صورية خالصة يجتمع فيها العلم والوجود معا في نسق صوري. فأحكام العقل الثلاثة الواجب والممكن والمستحيل هي في نفس الوقت وصف للوجود. فالعقل والوجود واحد. ومن ثم يختفي هذا الفصل التقليدي التعسفي بين المعرفة والوجود. وقد يتداخل دليل القدم والحدوث مع دليل الوجوب والإمكان، ثم يسقط في النهاية ويتحول دليل الوجوب والإمكان إلى أحكام العقل الثلاثة، وتصبح المقولات ثلاثة بدل اثنتين. وقد تكون الأحكام الثلاثة لا هي أحكام وجود ولا هي أحكام عقل بل تصبح مجرد أحكام إيمان؛ فالإيمان بالله على ثلاثة أقسام: واجب ومستحيل وجائز، كما أن الأحكام الشرعية خمسة وقواعد الإسلام خمسة وأركان الإيمان ستة، وكأن مجرد العدد يكفي كإطار نظري
60
أو السؤال عن الإيمان المباشر أو الجمع بين عقائد الإيمان وأحكام العقل.
61
وقد يفيض الشراح المتأخرون في شرح أحكام العقل بشرح كلمة «العقل» واعتباره سرا روحانيا تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، عمله في القلب، ونوره في الدماغ، وابتداؤه من حيث نفخ الروح في الجنين، وأوله كمال البلوغ؛ أي تفسير العقل على أنه شيء، وضياع التأسيس النظري لوظيفة العقل؛ فيصبح عقلا نورانيا إشراقيا بلا موضوع وبلا وجود.
62
ثانيا: ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة»
(الواجب)
تشير ميتافيزيقا الوجود إلى الأمور العامة أو الأحكام الكلية، أو «الممكنات» التي يتحد فيها العقل والوجود دون تشخيص عقلي في «واجب الوجود»، كما هو الحال عند الحكماء. أي أن نظرية الوجود تبدأ بأكثر المبادئ عقلية وشمولا، وفي نفس الوقت تمحى التفرقة بين المبدأ والواقع، بين الفكر والوجود. وهي ممكنات لأنها ما زالت في نطاق العقل والأحكام الصورية الخالصة دون إثبات شيء بالفعل وكأنها تصف عمل العقل في الوجود أو عمل العقل في نفسه أو رؤية الوجود لذاته.
1
وتشمل ميتافيزيقا الوجود أو «الأمور العامة» خمسة مباحث: الوجود والعدم، والماهية، والوجوب والإمكان والاستحالة (الامتناع)، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول. لبها مبحث الوجود والعدم، وأقلها مبحث الوحدة والكثرة. وتتساوى الأبحاث الثلاثة الأخرى كما.
2
ولأول مرة في القرن السادس تظهر بناءات عقلية جديدة مستمدة من الحكماء مثل الوحدة والكثرة والعلة والمعلول، وهي موضوعات ميتافيزيقية خالصة تجمع بين الفكر والوجود، وتساعد على تطوير علم التوحيد من علم معرفي إلى علم وجودي صوري بالرغم من أنها أبنية عقلية تطهرية تسمح بظهور الفكر الديني التقليدي. فالعلة هو «الله» والمعلول هو العالم، والوحدة هو «الله» والكثرة هو العالم. ويبدو أن إسقاط هذا البعد الأول من نظرية الوجود إنما كان نتيجة لتشخيص الفكر الديني الذي استمر في الأشعرية السائدة والتي أصبحت حتى الآن مقياسا للقراءة والاختيار. (1) الوجود والعدم
لما كانت نظرية العلم إجابة على سؤال كيف أعلم؟ فإن نظرية الوجود إجابة على سؤال: ماذا أعلم؟ وإذا كان السؤال الأول قد أجاب عن سؤال ما العلم؟ فإن السؤال الثاني يجيب عن سؤال ما المعلوم؟ موضوع العلم إذن هو المعلوم. وعلى هذا النحو تتحول نظرية العلم إلى نظرية الوجود، وكأن نظرية العلم لم تكن إلا تحليلا للذات العارفة، في حين أن نظرية الوجود تحليل لموضوع المعرفة ولأقسام المعلومات. وفي علم الكلام المتأخر يصبح لنظرية الوجود الصدارة المطلقة على نظرية العلم، فينتقل المنطق كله من نظرية العلم إلى نظرية الوجود. فبعد أن كان منطقا نظريا أصبح منطقا وجوديا، ويأخذ ذلك كله اسم «الممكنات»؛ فالممكن هو الجامع للمنطق النظري وللمنطق الوجودي على السواء.
3
المعلومات هي الموجودات، وتحليل الموجودات يأتي عن طريق الأحكام العقلية؛ فالعقل وسيلة لتحليل الوجود. (1-1) قسمة المعلوم
ويأتي تحليل المعلومات عن طريق القسمة عند المتكلمين والحكماء على السواء؛ فالمعلوم عند المتكلمين إما موجود أو معدوم؛ لأن المعلوم أعم من الموجود لأنه قد يكون موجودا أو معدوما. وينقسم الموجود إلى قديم وحادث، ثم ينقسم الحادث إلى جسم وجوهر وعرض. وهنا تبدو القسمة العقلية تعبيرا عن إيمان ديني خالص؛ لأن مقولة «القديم » استباق لموضوع الصفات وافتراض ديني إيماني مسبق؛ إذ لا يوجد إلا الحادث كوجود عيني. أما القديم فهو افتراض ذهني خالص يأتي عن طريق القلب أو التضاد بالاقتران أو التضايف. فالموجود القديم كالعلم القديم، كلاهما مطلوب إثباته، وبالتالي فلا يدخلان في نظرية العلم أو في نظرية الوجود كبناء أولاني نظري خالص. فكما تداخلت الإلهيات في نظرية العلم في قسمته إلى قديم وحادث تدخلت أيضا في نظرية الوجود في قسمته إلى قديم وحادث، وهي القسمة المبدئية التي لا مبرر حسيا لها، بل تعبر عن مجرد الإيمان الخالص وتتخلى عن التعقيل من أجل تأسيس العلم وتأصيل الوجود. قسمة الوجود إلى قديم وحادث افتراض مسبق، وهو المطلوب إثباته، أي إنه استدراك على المطلوب، واعتباره مسلمة. أما قسمة الحادث إلى جسم وجوهر وعرض، فإنها تقوم على مفهوم التحيز؛ أي الوجود في المكان؛ فالحادث إما أن يكون متحيزا وهو الجوهر أو حالا في متحيز وهو العرض أو لا هذا ولا ذاك. فالجوهر والأعراض هما ببساطة الشيء وصفاته. أما الجسم فهي مقولة ثالثة لإفساح المجال للأفلاك والأجرام والكواكب طبقا لعلم الفلك القديم. فإذا كانت القسمة الأولى الجوهر والأعراض لها ما يبررها في علوم الطبيعة في الصفات الأولى والصفات الثانية، فإن القسمة الثالثة وهو الجسم حكم مسبق مفروض على الطبيعة لخدمة غرض ديني خالص. كما أن الذي منع القسم الثالث من الوجود الذي لا يكون متحيزا أو حالا في متحيز هي عاطفة التأليه ورفض مشاركة الموجودات العينية في صفات الموجود القديم وهو «الله». قسمة المتكلمين إذن في بدايتها علمية، وفي مقصدها ليست علمية؛ لأنها تدخل المطلوب إثباته كأحد فرعي القسمة، وهو الموجود القديم، كما أنها تجعل القسمة الثالثة فارغة لإعطاء الفرصة للذهن لنفيها خشية الشرك، وكأن وظيفة العقل هو إفساح المجال لتأسيس العقيدة.
4
هذا بالإضافة إلى أن إعمال العقل على هذا النحو لا يخدم العقل ولا الإيمان؛ لأنه يتنازل عن حق العقل في التنظير الخالص ويضعف التنزيه. فلا العقل يقبل ولا الإيمان يرضى وضع «الله» مع الأجسام والجواهر والأعراض، وأن يفسح له مكان لمزاحمة الأشياء، وأن يكون طرفا في قسمة عقلية محدودة. فهذا مضاد للعقل ولعواطف التنزيه على السواء. وأن أقصى درجات التنزيه وضع «الله» في «قمة الكون» وفي أعلى رتبة كملك للملوك، وهي إحدى صور التشبيه.
5
فالتفكير في «الله» وإدخاله في قسمة الموجود هو قلب للوجود عن طريق التشابه أو التضاد، فيكون الله موجودا وليس جسما أو جوهرا أو عرضا. وينتهي الأمر إلى أنه لا يمكن التفكير في «الله» إلا كطرف للعالم، فيكون في مقابل الحادث لا في محل، ولا يحتاج إلى محل بفعل عواطف التأليه.
والمعلوم عند الحكماء أيضا هو الموجود. ولكن ينقسم الموجود إلى وجود ذهني يظل جزءا من نظرية المعرفة وإلى وجود عيني خارجي بناء على القسمة المشهورة بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. وينقسم الموجود العيني إلى واجب وممكن وممتنع أو ضروري وجائز ومستحيل، وهنا تبدأ القسمة في الاضطراب. فالموجود العيني الواجب لا وجود له لأن واجب الوجود ليس عينيا بل ذهني خالص، والوجود الممتنع أو المستحيل ليس وجودا عينيا، فالمستحيل لا وجود له، ولكنه افتراض عقلي ثان. ويبقى القسم الثالث الوحيد الممكن وهو الوجود العيني الممكن. ويبدو أن الإيمان عاود الظهور من ثنايا العقل ففرض الوجود والواجب أو الضروري وجعله وجودا عينيا لإفساح المجال لإثبات «الله»، ثم انقلب عن طريق الضد إلى الوجود الممتنع المستحيل دون أن يستلزم بذلك وجودا عينيا له إلا إذا كان «الشيطان» في الأذهان؛ فهو القادر على فعل المستحيلات. والبداية كلها في كلتا الحالتين الواجب والممتنع، الضروري والمستحيل هو الممكن أو الجائز، فهو الوسط الذي له وجود بين طرفين لا وجود لهما إلا افتراضا بفعل الإيمان في العقل وزحزحته إياه عن وظيفته في العلم لإفساح المجال للمعلوم الإيماني الخالص الذي استعصى على العقل وشرع بفرض نفسه عليه قبل أن يتأسس فيه. تصح القسمة عندما يعمل العقل في الحس ويدرك الوجود العيني الممكن ثم تفسد عندما يتدخل الإيمان، فيدفع العقل إلى طرفين فيوقعه في افتراضين لا عقليين ولا وجوديين، وهما الواجب والممتنع أو الضروري والمستحيل، فإذا كشفت هذه القسمة البداية بالوجود العيني أي العالم الحسي، فإنها تكشف أيضا على أن النهاية أي الواجب أو الضروري هو مجرد يقين إيماني أو أخلاقي أو معنوي أو مجرد افتراض معرفي وليس وجودا حسيا مرئيا، نشأ عن طريق التضايف أو التضمن أو الالتزام كعلاقة الابن بالأب أو الكبير بالصغير. واليقين الديني أو الأخلاقي أو المعرفي مطلب حقيقي. ولكن الإشكال هو هل يتحقق هذا المطلب من داخله فيكون فارغا بلا مضمون، ذاتا بلا موضوع، متقوقعا على النفس، نرجسية، وانعكاسا مجردا، أم أن يكون له مضمون من العالم وفي العالم كبناء للشعور الفردي وكنظام اجتماعي وكقانون لحركة التاريخ؟
أما قسمة الممكن إلى جوهر وعرض، فعلى الأقل لم تفترض قسما ثالثا وهو الجسم لإفساح المجال لعالم الأفلاك القريب من «الله» والمشارك له في الصفات! ولكن يعود الإيمان ليقصي العقل، وذلك بقسمة الجوهر إلى قديم، وهو ما لا أول لوجوده ومحدث وهو ما له أول. وفيها تظهر الغاية من هذه التقسيمات المتتالية في نظرية الوجود والتي تبدو عقلية طبيعية يخرج كل منها من الآخر خروجا طبيعيا منطقيا وهو إثبات وجود «الله» أو استنباطه من تحليل عقلي وجودي مسبق.
أما قسمة الممكن إلى جوهر وعرض فهي قسمة طبيعية تدل على وجود عنصري الثبات والتغير في الطبيعة، الجوهر هو الثابت والعرض هو المتغير، ثم تتحول هذه القسمة إلى تصور عام للإنسان والمجتمع والتاريخ. وهو التصور القائم على القلب والأطراف أو المركز والمحيط، والتي ارتكز عليها الفكر الديني وهو في أعلى درجات التنزيه.
6
بل ويمكن أن يقال إن قسمة الجسم إلى جوهر وأعراض قسمة عقلية افتراضية لا تأتي من طبيعة الجسم؛ فالجسم جسم، يتغير لونه وشكله، ثقله وخفته، حرارته وبرودته، وضعه ومكانه، هيئته وملامحه، خشونته ونعومته. لماذا افتراض أن هذه التغيرات أعراض تقوم على جوهر هو الثابت والحامل؟ إن افتراض الجوهر نابع من إيمان عقلي بوجود الثابت وراء المتغير، وأن هناك مركزا ثابتا لكل المتغيرات تدور حوله كما تدور نقط المحيط حول مركز الدائرة. وهو تصور عقلي خالص أو صورة فنية تعبر عن نوع معين من العلاقات الاجتماعية أو الطبيعية من بين عدد آخر من التصورات الممكنة مثل أن الجسم يتغير شكله ولونه ووضعه وهيئته طبقا للاستعمال أو المجال؛ أي أن الجسم يدخل في علاقة مع الإنسان كطرف مقابل له، ومن ثم فلا مكان للطبيعيات المجردة بل الطبيعيات للاستعمال. وقد حاول القدماء إيجاد هذه العلاقة مع الطبيعيات ولكنهم جعلوها رأسية لإثبات وجود «الله» في حين أن علاقات الطبيعيات بالإنسان علاقة أفقية تجعل الإنسان والطبيعيات معا جزءا من التاريخ وبعدا للزمان. لما كانت علاقة الطبيعيات «بالله» بعد الخلود، ومن ثم لزم الجوهر الثابت فهو المؤشر لوجود «الله» الثابت في مقابل الأعراض المتغيرة فهي المؤشر لوجود العالم المتغير.
وقد انحاز المتكلمون المتأخرون لموقف الحكماء بالرغم من إنكارهم الوجود الذهني؛ فقسموا الوجود العيني إلى إما ما لا أول له وهو القديم، أو ما له أول وهو الحادث؛ لإفساح المجال لنظرية الخلق وإثبات قدم «الله». وقسموا الحادث إلى متحيز وهو الجوهر؛ أي الجسم الحسي والحال في المتحيز وهو العرض، ومنعوا قسمة ثالثة لوجود لا متحيز ولا حال في متحيز؛ حتى لا يشارك «الله» أحدا في وجوده، فهذه القسمة تصدق على «الله» وحده. قبل المتكلمون قسمة الحكماء في الجزء الذي يسمح لهم بإدخال مضمون الإيمان في القسمة العقلية على نحو متسرع دون انتظار للتأصيل النظري له على نحو عقلي طبيعي خالص. (1-2) هل المعدوم معلوم أو موجود؟
إذا كان المعلوم إما موجودا أو معدوما، وكان الموجود كما بان عند المتكلمين والحكماء معلوما، فهل المعدوم معلوم مثل الموجود؟ المعدوم معلوم وتدل عليه نظريات المتكلمين واختلاف الحكماء فيه. فالشيء قد يكون معلوما من وجه، مجهولا من وجه آخر سواء كان ذلك في الطبيعيات أم في الإلهيات. وبالتالي يكون الإنسان عالما جاهلا في نفس الوقت وقد يكون علمه وجهله في نفس المحل أو في محلين مختلفين. وإن اختلاف مناهج التحليل وتضارب وجهات النظر إنما يدل على أن العلم الإنساني تعبير عن مواقف مختلفة أكثر منه علما محايدا. فالعلم منظور اجتماعي بل علاقات أقوى، وجدل بين الموجود والمعدوم، بين المعلوم والمجهول.
7
قد يكون الموجود أو المعدوم كلاهما معلوما من وجه ومجهولا من وجه آخر، أما من حيث الإجمال والتفصيل فيكون الإجمال علما بوجه وغياب التفصيل جهلا بوجه آخر. والأولى معرفة الشيء إجمالا وتفصيلا خاصة في مجتمعات يغلب على فكرها القومي العموميات دون التفصيلات مثل المجتمعات النامية أو في مجتمعات أخرى يغلب على فكرها الجزئيات دون الكليات كما هو الحال في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وإما من حيث مستوى التحليل ومنظور البحث؛ وبالتالي يكون نفس الشيء موضوعا لعدة علوم. الإنسان موضوع لعلم وظائف الأعضاء من حيث هو وظائف بيولوجية وموضوع لعلم النفس من حيث هو حياة، وموضوع لعلم الاجتماع من حيث هو في علاقة مع الآخرين، وموضوع لعلم الاقتصاد من حيث هو كائن منتج، وموضوع لعلم السياسة من حيث هو كائن منظم. وإنكار أن يكون الشيء موضوعا لعلمين حرص على العلم «الإلهي» أن يشاركه علم آخر في نفس الموضوع، في حين أن نظرية العلم هي فقط نظرية في العلم الإنساني، بما في ذلك الوحي بعد التنزيل، ومن ثم فهو تخوف لا أساس له.
8
ولا يعني ذلك أن يكون المعلوم بالضرورة شيئا؛ فقد يكون شيئا وقد يكون معنى الشيء أو صفته أو دلالته. ولكن لا بد من حضور الشيء الدال أو استنباط معان جديدة من دلالات أشياء موجودة بالفعل حتى يكون للمعلوم وجود وبالتالي يصح البحث في الأمور الذهنية وفي الموجودات في الخارج على حد سواء. والنزاع في المعدوم الممكن لأن الممتنع منفي اتفاقا.
9
وهو معلوم عند جمهور المتكلمين بمعنى أن انتفاءه معلوم.
10
وهو ثلاثة أقسام: الأول ما كان موجودا، فعدم ومعرفته ممكنة مثل الآثار المندثرة والحوادث الماضية، والثاني ما لم يوجد وليس مما يوجد وهو الممتنع وهذا لا يمكن معرفته لأنه ليس معلوما أي موضوعا للعلم، والثالث ما لم يوجد وسيوجد وهذا يمكن معرفته، وهو ما نعنيه اليوم بالدراسات «المستقبلية». معرفة المعدوم إذن ممكنة لأن عدم الوجود معلوم بالبديهة ولأنه مقدور أي يمكن إحضاره ولأن المعارف الممكنة أشمل من المعارف الواقعة ولأن معرفة النفي والسلب ممكنة، بل إن الموضوع كله من «الممكنات»، وإلا وقعنا في الغياهب والأساطير والخرافات واتبعنا في ذلك سبل السحر والشعوذة والإلهام.
11
فإذا كان المعدوم معلوما فهل هو موجود؟ وإذا كان موجودا فهل هو شيء؟ وإذا كان شيئا، فماذا يعني الشيء؟ والحقيقة أن المعلوم قد يكون موجودا وقد يكون معدوما، وقد يكون شيئا وقد يكون لا شيئا. فالمعلوم أعم من الموجود ومن الشيء؛ إذ يمكن العلم بالصفر في الحساب وبالنقطة في الهندسة وبالعدم في الفلسفة. كلها موضوعات صورية؛ إذ لا يعني الوجود بالضرورة الوجود الحسي، بل قد يعني الوجود الصوري أو الوجود الشعوري. كما يمكن العلم بالمستحيلات والمتناقضات والمتضادات وهي من المعدومات. فهناك منطق للمستحيلات والمتناقضات والمتضادات وهي من المعدومات. فهناك منطق للمستحيل ومنطق للتضاد ومنطق للتناقض. فإذا قيل العدم موجود، فقد يعني الوجود هنا السلب أو الحرمان أو النقص أو الغياب أو الفراغ أو العدم الخالص، وهي كلها أنماط وجود. هناك ميتافيزيقا للعدم، وحساب للمجهول في الرياضيات وحساب الصفر. واعتبار المعدوم موجودا وموضوعا للعلم يجعل العلم صوريا خالصا كما يجعله مطلقا لا حدود له (المعتزلة)، في حين جعل المعدوم عدما لا يكون موضوعا للعلم هو إيثار للعلم الموضوعي الذي لا يتناول إلا الموجود (الأشاعرة).
12
ويبدو أن المزايدة في الدين تؤدي إلى الوقوع في المادية، في حين أن الفكر النزيه يؤدي إلى الصورية ويكون أكثر تنزيها من الفكر الديني الصريح. والحقيقة أن موضوع العلم الذي يتفاوت بين المعدوم والموجود هو أساسا موضوع شعوري. ففي الشعور وجود وعدم، حضور وغياب، ملاء وفراغ، عطاء وأخذ، إرسال واستقبال، إيجاب وسلب. ويقارب موقف الحكماء موقف المعتزلة في إثبات المعدوم لاعتمادهم عليه في قسمة الموجود إلى تحقق في الخارج وهو الموجود الخارجي، والتحقق الذهني وهو الموجود الذهني. والموجود الخارجي إن كان لا يقبل العدم لذاته فهو الواجب لذاته، وإن كان يقبله فهو الممكن لذاته؛ فتعريف الموجود لذاته قائم على الضد وهو امتناع العدم لذاته، وتعريف الممكن لذاته قائم على الشبيه وهو إمكان العدم لذاته؛ مما يدل على استحالة الحديث عن الوجود لذاته دون قلبه من الضد أي العدم لذاته. فالوجود لذاته أو واجب الوجود من المفاهيم المتضادة منشؤها العدم والتغير والإمكان؛ أي العالم الحسي المتغير. ويرتبط إثبات المعدوم أو نفيه بمسألة تأثير الفاعل المختار ومسألة جعل الماهيات بناء على أن الجعل هو التأثير.
13
ولا يعني ذلك بالضرورة وجود إرادة خارجية مشخصة، بل يمكن أن يكون من إرادة الإنسان وفعله واختياره الذي يوجد من عدم ويعدم بعد إيجاد. ويصعب الحديث عن المعدوم هل تتساوى ذواته وهل تتمايز لأنه نقص محض لا وجود فيه، بل هو سلب وجود، ولا تمايز في السلب.
14
وقد تكون علاقة الموجود بالمعدوم علاقة لغوية منطقية صرفة يعبر عنها بلغة الإثبات والنفي. فالمعلوم إما أن يكون متحققا في الخارج وهو الوجود أو غير المتحقق في الخارج وهو المعدوم. المعلوم متحقق في الخارج وليس مجرد وجود ذهني وإلا كان معدوما. فالمعرفة والوجود متطابقان. وتدخل في هذا التطابق نظرية الحكم. ومن ثم يكون الوجود هو الثابت والمعدوم هو المنفي، فالثابت أعم من الموجود والمنفي أعم من المعدوم. يدخل الوجود والعدم إذن في نظرية أعم هي نظرية الإثبات والنفي. وبالتالي ترجع نظرية الوجود إلى نظرية الحكم، وهي التي تجمع بين نظرية الوجود ونظرية المعرفة.
15
وتتفاوت درجات المعدوم من العدم المنطقي المطلق وهو التناقض إلى العدم الناشئ عن غياب القدرة، ولكن يمكن أن يوجد إن وجدت. وقد ينشأ العدم من الزمان كالأشياء التي وجدت في الماضي ثم لم تعد توجد في الحاضر، أو من الأشياء التي لا توجد في الحاضر، ولكنها قد توجد في المستقبل؛ فالعدم يحيل إلى القدرة والزمان؛ أي إلى البعد الشعوري في العدم باعتباره أحد عناصر الموقف الإنساني في علاقاته بالأشياء وبالآخرين.
16
أما أحكام العدم فيقع فيها الاختلاف طبقا لتصور العدم؛ فعند البعض المعدوم ليس بثابت وعند البعض الآخر المعدوم ثابت. في الحكم الأول الذات هي الماهية، إذا عدمت الذات عدمت الماهية. وفي الحكم الثاني الذات زائدة على الماهية، إذا عدمت الذات بقيت الماهية.
17
الحكم الأول أقرب إلى نفي العدم كشيء، والثاني أقرب إلى إثباته. أما الأحكام المنطقية الأخرى فهي ذاتها أحكام الوجود ولكن بصيغة النفي مثل: عدم المعلول يؤدي إلى عدم العلة، وعدم المشروط يؤدي إلى عدم الشرط، وعدم الضد يؤدي إلى صحة الضد الآخر.
18
والحقيقة أنه لا يمكن إدخال الوجود والعدم كمادة للحكم في قضايا محلية دون تجارب شعورية للوجود والعدم. حينئذ لا تكون أحكام الوجود والعدم أحكاما عقلية صورية بل أحكام شعورية. ولا يكون صدق الحكم مطابقة عالم الأذهان مع عالم الأعيان، بل مطابقة الحكم مع مضمون الشعور. الوجود والعدم تجربتان شعوريتان وليسا موضوعين صوريين أو منطقيين.
19
وقد يكون الخلاف بين الإنكار والإثبات لا يصدق على نفس المعنى، فالإنكار يتصور العدم سلب إيجاب، والإثبات يتصوره عدم ملكة. فقد يكون النزاع في نهاية الأمر لفظيا.
20 (1-3) هل المعدوم شيء؟
عند المعتزلة المعدوم الممكن شيء؛ لأن الماهية غير الوجود. ومنعه الأشاعرة لأن الوجود عندهم نفس الحقيقة. وعند الحكماء الشيئية تساوق الوجود فالمعدوم في الذهن معدوم في الخارج، فهم أقرب إلى الأشاعرة.
21
ويعتمد إثبات العدم على سببين. الأول: أن المعدوم متميز وأن كل متميز ثابت. والحقيقة أن العدم نفي كالممتنعات والخيالات وليس ثابتا. والثاني: أن المعدوم متصف بالإمكان وأنه صفة ثبوتية. والحقيقة أن الإمكان ليس ثبوتا، بل مجرد إمكانية وجود. كما يعتمد على حجة دينية خالصة مؤداها أن المعدوم في الأزل ليس «الله» وهو غيره، والغيران شيئان! والحقيقة أن ذلك كله من عمل الخيال فلا يوجد أزل كواقع وشيء، ولا يوجد «إله» مغاير له؛ فهذه كله افتراضات مسبقة وتمرينات عقلية لتأصيل العواطف الدينية التي تعبر عن نقص في التعقيل وعن ضعف في الوعي الاجتماعي، وعن قصور في رؤية الواقع. ويعتمد نفي العدم على حجج صورية منطقية مثل أن الثبوت أمر زائد على الذات والعدم ليس كذلك أو أن العدم أقل تناهيا من الوجود أو أن العدم قبل الوجود صفة نفي أو أن العدم صفة نفي أو أن العدم زوال للتمايز، وكلها تنزع العدم من مجرد موقف شعوري إلى إثبات وجود موضوعي له. فالإثبات والنفي حكمان منطقيان، والعدم غياب وجود وليس أقل منه تناهيا. الإثبات أعم من الوجود والنفي أعم من العدم. في الإثبات والنفي صدق وكذب واتساق وتناقض لا وجود لهما في الوجود والعدم؛ لذلك انتهى جمهور المتكلمين إلى أن القول بثبوت المعدوم ينفي المقدورية؛ أي قدرة الفعل على التغير وعجزه أمام العدم وافتراض العدم أساس الوجود، والوجود قائما عليه. ولو كان العدم ثابتا لانتفت القدرة التي تريد تحويل العدم إلى وجود ولكان العدم واجبا لا يمكن تغييره وتحويله إلى وجود ممكن أو إمكان وجود. ولو ثبت المعدوم لكان أعم من النفي وأقوى منه؛ وبالتالي استحال رفضه أو تحويله إلى وجود أي إلى أساس. المعدوم ليس شيئا وإلا خشي منه الناس وأثبتوه عجزا عن مقاومته، وسلموا به ضعفا وخورا، يأسا واشمئزازا، كرها للنفس وللآخرين، وبصاقا على العالم. لا يمكن أن تكون للمعدومات الممكنة قبل وجودها ذوات وأعيان وحقائق، فهذا إيهام للناس بوجود المعدومات كحقائق، بل هو غياب الوجود ونقص الهبة وضعف الفعل وتخاذل الناس على تحقيق الوجود. الذوات في العدم معراة من الصفات ولا توصف بصفات الأجناس لأنها ليست وجودا مثل الحياة أو الجواهر أو الأعراض.
22
إن خطورة إثبات المعدوم هو العدم على نفس درجة الوجود كالوجود، وبالتالي إعطاء العدم وجودا يصعب نفيه، وهو نوع من التشاؤم والاعتراف بالأمر الواقع والاستسلام للهزائم كما هو الحال في «الوعي الأوروبي» المعاصر وفي فلسفات القدماء عند المانوية خاصة، بل وفي الديانة المسيحية بفعل الخطيئة الأولى.
23
العدم ليس وجودا، بل هو مجرد غياب أو نقص، الأصل هو الوجود، والعدم طارئ عليه، الوجود حضور والعدم غياب. الوجود ملاء والعدم خلاء، الوجود عطاء والعدم غثيان، الوجود انفتاح والعدم انغلاق، الوجود حياة والعدم موت؛ ومن ثم يستحيل وجود العدم. «وإنما بقاء الباطل في غيبة الحق عنه.»
24
وإذا كان الدافع عند قدماء الأشاعرة لنفي كون العدم شيئا هو وجود «الله» القادر على كل شيء، على نفي الوجود والعدم على السواء، فلا الوجود ولا العدم ثابتان، فإن الدافع لدينا هو القدرة المتولدة عن نفي كون العدم شيئا على تحريك الشعوب والثقة بالنفس وتغيير الواقع ورفض الاستسلام وما يبعثه في الروح من تفاؤل وأمل، وما يثيره في النفس من خيال على الإتيان بالمستحيلات. إن إثبات كون العدم شيئا يحول الغياب إلى حضور، والعدم إلى وجود، والاستثناء إلى قانون. المعدوم ما لا تحقق له في نفسه وهو المنفي، أو له تحقق وهو الثابت؛ فالعدم أخص من النفي، العدم مجرد نفي ولا يوجد نفي له تحقق يكون عدما ثابتا. الاحتلال غياب للاستقلال، والطغيان غياب للحرية، والرأسمالية غياب للاشتراكية، وسلبية الجماهير غياب لنشاطها، والتخلف غياب للتقدم، والتجزئة غياب للوحدة، والتغريب غياب للهوية، فالوجود استقلال وحرية واشتراكية وتقدم ووحدة وهوية وتجنيد للجماهير، وما دون ذلك مجرد طارئ عرض حادث أي مجرد عدم. هناك وجود ولا وجود. والعدم هو اللاوجود، أي إنه ليس وجود عدم بل عدم وجود. العدم طارئ نتيجة لغياب الوجود. الأصل هو الوجود وغيابه عدم. العدم غياب وجود وليس وجود غياب.
ولكن هل المعدوم شيء؟ وماذا يعني الشيء؟ لقد استطرد القدماء في وجود العدم ومعرفة نوعية وجوده صوريا منطقيا أو ماديا حسيا.
25
والحقيقة أن هذه إطالة في موضوع فلسفي صرف دون أن تكون له دلالة مباشرة في موضوع الوجود والعدم الذي هو أحد موضوعات «الأمور العامة» في نظرية الوجود. قد يوجد الشيء صوريا، وقد يوجد ماديا، وقد يوجد شعوريا. فالمعدوم إن لم يكن له وجود صوري أو مادي فله على الأقل وجود شعوري، وهو الشعور بالعدم وما يولده في النفس من غثيان وقرف في موقف اجتماعي وسياسي محدد، في حالة ضعف وعجز أو هزيمة واستسلام. وهو موقف طارئ في حياة الشعوب.
26 (1-4) هل هناك واسطة بين الوجود والعدم (الحال)؟
وضع القدماء التقابل بين الوجود والعدم، وجعلوا الواسطة بينهما هو الحال بين منكر ومثبت.
27
والحال انتقال وحركة من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود؛ أي أن الصلة بين الوجود والعدم هي الصيرورة. فالحال صيرورة والصيرورة حال. ولكن خلط القدماء بين موضوع ثبوت العدم والحال كواسطة في موضوع واحد، مع أنهما موضوعان متمايزان.
28
ويثبته الحكماء لأنه لما كان الشيء موجودا في الخارج ومعدوما، فإن هناك واسطة بينهما، والتي هي الوجود في الذهن بين الوجود والعدم أو الإمكانية أو الحال أو الوجود في حالة مشروع أو تضمن أو قوة، وجود بالقوة يتحول إلى وجود بالفعل عن طريق الخلق والإبداع والتحقق الذاتي. ولما كان موضوع العلم عند القدماء هو المعلوم، فإن المعلوم إما الموجود أو المعدوم أو الحال.
29
وينكر جمهور الأشاعرة الحال لإنكارهم الوسط بين الوجود والعدم. ليست هناك حاجة إلى الانتقال من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود؛ لأن «الله» قادر على كل شيء. ومن ثم انتهوا إلى إنكار الصيرورة، ووقعوا في الثنائية المتعارضة بين الوجود والعدم. ويشاركهم في ذلك جمهور المعتزلة بالرغم من إثباتهم العدم ونفي الأشاعرة له. وبالتالي أصبح نفي الحال هو الرافد الأساسي والمكون الرئيسي لوعينا القومي. ويؤدي نفي الحال أولا إلى إنكار الواسطة بين الوجود والعدم والانتقال من طرف إلى آخر عن طريق القلب والعنف والتحول من الشيء إلى ضده وعدم الثبات على شيء والوقوع في جدل الكل ولا شيء وقسمة الناس إلى مؤمنين وكافرين والزعماء إلى خونة وأبطال، كما هو الحال في وجداننا المعاصر. كما يؤدي ثانيا إلى إنكار الصيرورة والحدوث والتغير والزمان والحركة والتاريخ ودور الفعل الإنساني فيه. ويؤدي ثالثا إلى إعطاء الأولوية للفعل الخارجي على الفعل الداخلي لتفسير الحركة والتغير بعد أن تخلى الإنسان عن دوره في التاريخ، وتخلت الأمة عن فعلها ووجودها فيه. ويخشى المنكرون للأحوال من أن إثبات الحال قد يؤدي إلى التسلسل، والتسلسل «يسد باب إثبات الصانع» مع أنه يجوز امتناع التسلسل في الموجودات وعدم امتناعه في الأحوال. كما أن إثبات الصانع ليس هدفا مسبقا يحدد نتائج العلم؛ مما يدل على أن علم الأشعرية خصوصا ليس علما ، بل هو تكييف للمادة العلمية وللنتائج العلمية وللمواقف العلمية طبقا لأهداف معروفة سلفا وعلى رأسها إثبات الصانع.
30
أما إثبات الحال، فإن القدماء قد اعتمدوا فيه على بعض الحجج الصورية، منها أن الوجود ليس موجودا وإلا زاد وجوده وتسلسل، ولا معدوما وإلا اتصف بنقيضه؛ من ثم فهو أقرب إلى الواسطة بين الوجود والعدم وهو الحال. ومنها أن السواد مركب من اللونية وفصل يمتاز به وهو قابضية البصر فرضا، ومن ثم يكون اللون حالا للذات بمناسبة الموضوع أو حالا للموضوع بمناسبة الذات. والحقيقة أنه ليس المهم إعطاء حجج صورية لإثبات الحال، بل تكفي التجارب الشعورية التي تكشف عن الوجودات في حالة انتقال من وجود إلى عدم أو المعدومات في حالة انتقال من عدم إلى وجود. يكفي ملاحظة حركتي الإعدام أو الإيجاد مثل الحالات المتوسطة بين الصحة والمرض وهي النقاهة، أو بين الحياة والموت وهو الاحتضار، أو بين الطفولة والرجولة وهي المراهقة، أو بين الاحتلال والاستقلال وهي الحماية والوصاية والتبعية والأحلاف ومناطق النفوذ والانحياز. قد يكون الحال أقرب إلى الوجود منه إلى العدم، أو أقرب إلى العدم منه إلى الوجود؛ إذ يصعب إيجاد الحال كوسط متناسب بين طرفين. فالحال انتقال وحركة وليس حسابا ونقطة. كما تتمايز الذوات الإنسانية المتساوية بالأحوال. الوجود الإنساني واحد، ولكن الأحوال هي التي تختلف.
31
ويؤدي إثبات الحال إلى عكس ما يؤدي إليه نفيه؛ يؤدي أولا إلى إثبات الصيرورة والحركة والفعل والزمان والتاريخ والتحقق والإبداع والخلق، ويؤدي ثانيا إلى التدرج دون الوقوع في جدل الكل ولا شيء وإدراك المراحل وإعداد الخطط، ويؤدي ثالثا إلى إفساح المجال للفعل الإنساني في العالم ودور الأمة في التاريخ. وقد قسم القدماء الحال إلى نوعين: الأول معلل بصفة موجودة كتعليل القادرية بالقدرة، أو غير معلل مثل اللونية للسواد؛ مما يجعل الحال ليس مجرد عرض بل علة؛ أي إنه حال مؤثر وفعال. وقد يكون الحال علة وجود وعدم؛ وبالتالي تكون الأحوال موجدة وعامة، والثاني عندما تتساوى الذوات وتتمايز بالأحوال. فالحال هو الذي يميز الذات عن الأخرى ؛ مما يدل على أن الذات هي أحوالها. وتوصف الأحوال بالتماثل والاختلاف كصفات وكأحوال، وتكون أقرب إلى الأحوال النفسية أو الوجودية منها إلى «أحوال» الأشياء.
32 (1-5) ماذا يعني «الوجود»؟
تصور الوجود بديهي، والدليل على ذلك أني موجود، وأن الوجود تصور وتصديق في آن واحد. كما أن قسمة الوجود إلى وجود وعدم قسمة بديهية. ولا يمكن أن يكتسب بالحد لأن الوجود بسيط لا أجزاء له أو بالرسم لأن الرسم ليس تعريفا بالمهية وأنه لا أعرف ما الوجود. وإذا كان الوجود لا يتصور، فإن ذلك لأنه إحساس بديهي وإن لم يتحول إلى تصور عقلي. وقد صاغ القدماء حجتين صوريتين ضد تصور الوجود: الأولى أن يكون التصور بتميزه عن غيره، وهو ما لا يعقل إلا بعد الوجود، فيلزم الدور. والثانية أن التصور حصول الماهية في النفس وهو حدوث وجود في وجود، فيجتمع المثلان. والحقيقة أن بداهة الوجود لا تحتاج إلى حجج صورية منطقية جدلية، فالوجود تجربة حية وليس تصورا.
33
ويبدو أن مبحث الوجود والعدم عند القدماء ليس نظرية مستقلة للوجود، بل جزء من مبحث التصورات ويطغى أحيانا عليه. وهنا يكون الوجود جزءا من المعرفة لم يستقل عنها، ولكنها المعرفة المنطقية، وكأن المنطق هو الوسط بين المعرفة والوجود، وهو الذي يضمهما معا. فتصور الوجود بديهي لأنه جزء من الوجود الشخصي المتصور بداهة، ولأن التصديق البديهي بأن النفي والإثبات لا يجتمعان قائم على تصور الوجود والعدم. فتصورهما أولا بالبداهة، وبداهة التصديق متوقفة على العلم بالجزء؛ لذلك تحتاج إلى دليل.
34
وإذا كان الوجود مبحثا من مباحث التصور، وكان تصورا بديهيا، فإن الحكم عليه يكون كسبيا استدلاليا.
35
ولا يمنع كون الوجود بديهيا ثم الاختلاف في كونه جزئيا أم كليا، واجبا أو ممكنا، عرضا أو لا عرضا، جوهرا أو لا جوهرا، موجودا أو اعتباريا، لا تحقق له في الأعيان أو واسطة، وأفراده عين الماهيات أو زائدة؛ لأن هذه الاختلافات تحليل العقل لتجربة الوجود البديهي. ويمكن تجاوز هذه الاختلافات بتحليل العقل للموضوعات ذاتها واتفاق نتائج هذا التحليل مع تجارب عديد من الأفراد. وهداية «الله» لا تحل هذه الاختلافات؛ لأنها ليست خطأ أو صوابا، بل تتناول مستويات مختلفة من الوجود.
36
ومعظم الأحكام المنطقية على الوجود كتصور بديهي تقوم على إسقاط مقولات أخرى مثل الكل والجزء والبسيط والمركب على الوجود لتحديده، وهي طريقة لا تؤدي إلى شيء بل إلى وضع أشياء ثم نفيها أو إثباتها أو خلق مشاكل لفظية من نفس النوع المثالي القائم على القسمة العقلية ثم تمرين العقل المتطهر عليها. ويكون الحكم في النهاية هو اختيارا لما تقتضيه درجة الطهارة! الوجود ليس صفة في الشيء بل هو الشيء الذي يحياه الإنسان، يراه ويحميه، يراه ويحسه ويلمسه. والصفة مجرد تجريد عقلي للاستعمال والتعبير.
37
والوجود أيضا رابطة في القضية تتكون من ثلاثة عناصر، الموضوع والمحمول والرابطة. ولا تحتاج القضية في اللغة العربية إلى ظهور الرابطة لأن الوجود متضمن في الموضوع؛ إذ يثبت الوجود بمجرد ثبوت الموضوع، لا يوجد موضوع إلا وهو موجود، الوجود بداهة وجود لا تحتاج إلى إثبات بفعل الكينونة.
38
ومع ذلك قيل في تعريف الوجود عدة تعريفات منها أنه الثابت بالعين؛ فالوجود رؤية حسية ومشاهدة عيانية. ومنها: أنه المنقسم إلى فاعل ومنفعل، أو إلى حادث وقديم، والفاعل والمنفعل غير الحادث والقديم، الأولى: طبيعية، والثانية: تعتمد على الأولى لإثبات فاعل قديم كما يقتضي بذلك الإيمان. ومنها: أنه ما يعلم ويخبر عنه، فالوجود هو المعلوم الذي يأتي علمه عن طريق الخبر، فالوجود لا يوجد إلا من خلال المعرفة، وهي مرحلة التعبير والإيصال للآخرين عن طريق اللغة.
وفي حقيقة الأمر أن الوجود لفظ مشترك بين عديد من الموجودات، الإنسان والأشياء والعالم وما يفترضه على أنه «الله»، وذلك لعدة أسباب، منها التردد في وصف الموجودات به وعدم الجزم في الاستعمال؛ مما يوحي بأنه يفيدها جميعا. كما يقال على الواجب والممكن والجوهر والعرض لاشتراك في صفة واحدة هي الوجود أكثر من اشتراك لفظ العين للعين والبئر. وكما أن العدم مفهوم واحد لا تمايز فيه فكذلك الوجود. والاشتراك قضية ضرورية إذ إننا نعلم بالضرورة الشركة بين الموجودات ، وأن نفي الاشتراك يثبت الاشتراك لأن تصور مفهوم واحد غير مشترك يلزم إثبات ذلك في كل موجود، ولا يجوز إثبات دعوى عامة في كل موجود على حدة ولو لم يكن مشتركا لما تميز الواجب عن الممكن؛ فالتمايز يعني الاشتراك بقدر ما يعني الاختلاف.
39
وبالتالي فالإنسان موجود، والشيء موجود، والعالم موجود، و«الله» موجود باشتراك الاسم. ويكون السؤال: كيف تبدأ تجربة الوجود وتصوره؟ لا ريب أن الأشياء لا تعي الوجود. و«الله» لا يتحدث عن نفسه إلا من خلال الوحي؛ أي اللغة وبالتالي لزم فهمه وتفسيره ابتداء من الوعي الإنساني. الإنسان وحده إذن هو الموجود حقيقة وكل ما سواه موجود بالمجاز. وهو المعني الأول باللفظ ثم يطلق الوجود على كل شيء آخر سواء العالم أم «الله» قياسا على وجود الإنسان.
وقد انتبه لذلك القدماء عندما قرروا أن الوجود أيضا لفظ مشترك أو متواطئ أو مشكك. فالوجود قد يكون عينيا أو ذهنيا، خطيا أو لفظيا. الوجود العيني وجود متأصل وهو حقيقة الشيء، والثاني غير متأصل بمنزلة الظل من الجسم؛ أي صورة الشيء. والآخران مجازيان يكون الوجود بهما اسم الشيء وصورة اسمه والكل لاحق على السابق. فالوجود يطلق على الشيء وعلى الصورة الذهنية. وهو لفظ منطوق وكلمة مكتوبة؛ فالاشتراك واضح في هذه المعاني الأربعة للفظ الوجود.
40
ثم تأتي بعد ذلك عاطفة التأليه لتجعل وجود الله سابقا على كل هذه الموجودات دون تحديد مسبق لمعنى اللفظ هل حصل الوجود العيني أم الذهني أم الخطي أم اللفظي. أي إن المتكلم بعد أن ميز الاشتراك في اللفظ تمييزا علميا دقيقا عاد واستعمل علمه من أجل المزايدة «بالله» على العلم، واعتبار «الله» فوق قسمة العلماء لا يدخل في أحدها. وتحدث هذه المزايدة عادة في الشروح على المتون وفي الحواشي على الشروح؛ لأن صاحب المتن يضع العلم عن طريق القسمة العقلية، والشارح أو صاحب الحاشية ليس أمامه إلا المزايدة عليها بعواطف التأليه التي تظهر في غياب العلم والتحليل والقسمة العقلية المحكمة.
41
ولا يعني الاشتراك الاتحاد في الوجود كما هو الحال في نظريات الحلول والاتحاد ووحدة الوجود عند الصوفية، بل يعني مجرد الاشتراك في اللفظ ثم حدوث الخلط في المعنى ثم دخول عواطف التأليه للفصل في هذا الخلط وإعطاء الأدنى للإنسان وللعالم وتشخيص الأعلى في «الله».
42
ومع ذلك فإن ظهور الوجود كمفهوم مشترك هو بداية لإدخال تحليلات اللغة مع الفكر والوجود، وأن معظم الخلط يقع بسبب هذا الاشتراك اللفظي في الماهية؛ فالوجود يحكم عليه بالإثبات والنفي ويمكن تقسيمه إلى واجب وممكن أو جوهر وعرض. ويخشى من ذلك على الماهية التي هي أساس الحكمة والقسمة وعلى زحزحتها عن الوجود.
43
ويصعب حينئذ التفرقة بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي لأن الاستعمال والجدل يجعلان الاشتراك اللفظي يقود حتما إلى الاشتراك المعنوي.
44
ويصعب جعل الوجود حقيقة واحدة تختلف بالإضافات والقيود والاعتماد على تمايز الماهيات لأن اللغة قادرة على إحداث هذا الاشتراك؛ فلا سبيل لنا إلى المعاني المتميزة إلا من خلال اللغة المشتركة. ولما كان الموجود معنى زائدا على الماهية كان الاتفاق بالوجود والاختلاف بالماهية. الوجود أعم وأشمل وأقرب إلى الأذهان وفهم الناس عن الماهية؛ ومن ثم فلا مناص من اشتراك اللفظ، ولا يقدر على التمييز إلا الحكماء! (1-6) هل الوجود في الذهن أم في الواقع؟
أثبت الحكماء الوجود الذهني؛ لأنهم فلاسفة يجعلون العقل هو الوجود ويعتمدون في ذلك على عدة حجج، منها أننا نتصور ما لا وجود له في الخارج ونحكم عليه بأحكام ثبوتية مثل الاستحالة والعدم، وأن المفهومات كلية والموجودات في الخارج شخصية جزئية، ومن ثم فالكليات تتعلق بالموجودات، وأنه لولا الوجود الذهني لما أمكن أخذ القضية الحقيقية للموضوع وهي الكلية الموجبة أو إعطاؤها أية أهمية. وقد نفى المتكلمون الوجود الذهني لسببين: الأول أن الوجود الذهني يجعل الدهن قابلا للحرارة وللبرودة، والثاني أن حصول حقائق في الذهن مما لا يعقل؛ فهي كلها اعتبارات ذاتية خالصة لا تصف الوجود في شيء.
45
وكثيرا ما نتصور ما لا وجود له.
46
كان الهدف من التمييز بين الوجود العيني والوجود الذهني عند المتكلمين نفي الوجود الذهني والاعتراف بالوجود العيني وحده على أنه الوجود الحقيقي. ويشارك الفقهاء المتكلمين في هذا الإنكار وأنه لا يوجد متحققا في الخارج إلا الأشياء، وأن التصورات والمبادئ والكليات لا توجد إلا في الأذهان دون العيان. كما يدل على أن البناء العقلي الكلامي أو الفلسفي كله لا وجود له؛ إذ لا يوجد إلا الأشياء المتحققة في الخارج. بل إن نظرية العلم كلها أو نظرية الوجود هما بحثان في المبادئ العامة والأمور الكلية وهي بحوث منهجية صرفة وليست إثباتا لوجود عيني.
47
كيف يتم إذن الانتقال من المعرفة إلى الوجود، كيف يتم الخروج من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان؟ إذا كان هناك دليل على حدث العالم، فهل المدلول حدث العالم بالفعل أم العلم بحدث العالم؟ والذي لا يخرج من العلم بالحدث إلى المحدث نفسه لا تنقسم المدلولات لديه إلى وجود وعدم أو حدوث وقدم.
48
والحقيقة أن هذه هي قضية المثال والواقع. المثال في الذهن كتصور ونموذج وكبناء مثالي للعالم، ولا يوجد في الواقع إلا بعد تغيير الواقع بالفعل، وتحويل المثال إلى بناء في العالم. فهي ليست مشكلة «الكليات»، المشكلة الأفلاطونية القديمة، في الذهن أم في الواقع ولكنها مشكلة النظام المثالي للعالم قبل التحقق أو بعده. الخلاف إذن بين المتكلمين والحكماء لا معنى له، ومخاطر إثبات الوجود الذهني لا خوف منها. فلا يعني ذلك الشرك، بل يعني إثبات المثال فارغا من أي مضمون، والإبقاء عليه في الذهن دون عملية التحقق. ليس الخوف على التوحيد من الشرك بل الخوف عليه من العجز والموت والصورية، بقاء المثال بلا تحقق، وبقاء الوضع القائم بلا تغيير. (2) الماهية
لم يضع القدماء الماهية في مقابل الوجود، بل وضعوها مستقلة بمفردها وكأنها مثال. وقد غلب على البحث طابع التجريد، وكأننا في علوم الحكمة الخالصة وليس مجرد مقدمة نظرية في علم أصول الدين.
49
وماهية الشيء حقيقته، هي أصله وجوهره وأساسه وما به قوامه وما يقوم عليه وجوده. الوجود بلا ماهية عدم، وجود هش لا أساس له. باعتبار التحقق تسمى ذاتا وحقيقة، وباعتبار التشخص تسمى هوية. تغاير عوارضها اللازمة والمفارقة وتتمايز عما عداها. وإن كانت معان في الشعور فهي متمايزة فيه. إن كانت مطلقة تسمى مجردا، وإن كانت مشخصة تسمى مخلوطة أو مشخصة. تكون مجردة إن لم تكن متحققة في الخارج وغير متعينة، وتكون مخلوطة إذا زيد عليها شيء. وبالتالي فهناك إمكانية التمييز بين الصوري والمادي في الماهيات.
50
ومن ثم تخطئ «نظرية المثل» في اعتبار الماهيات المجردة موجودة في العالم الخارجي.
51 (2-1) الماهية البسيطة والماهية المركبة
والماهية إما بسيطة، أو مركبة؛ وذلك لأن الأشياء إما عقلية لا يتمايز أجزاؤها في الخارج أو خارجية يتمايز أجزاؤها في الخارج؛ فالماهيات العقلية بسيطة، والماهيات الخارجية مركبة. وينتهي المركب إلى البسيط؛ فالبسيط أصل المركب. الماهيات البسيطة هي المعاني البديهية والمركبة هي الاستدلالات والقياسات والإحصائيات. وهنا تبدو الماهيات معرفية خالصة، ماهيات عقلية ذات وجود معرفي.
52
ولكن تنقسم الماهيات أيضا على نحو كمي مادي. فإذا كانت الماهية المركبة من أجزاء فتنقسم الأجزاء إلى متداخلة في العقل كالأجناس والفصول إن صدقت الأجزاء بعضها مع بعض، وإلا تكون متباينة في الخارج. والمتداخلة إذا صدق كل منها على الآخر فهما متساويان، وإلا فبينهما عموم وخصوص، إما مطلقا وإما من وجه دون وجه. وأما المتباينة فإما أن يتبين الشيء مع علة أو معلول أو ما ليس كذلك. والأول إما مع الفاعل أو القابل أو الصورة أو الغاية. والثاني مثل الخالق، والثالث إما متشابهة أو متخالفة إما عقلا أو خارجا! فالأشياء بعضها بديهي وبعضها وجودي. وهذه كلها أبحاث رياضية هندسية منطقية وجودية أصولية صورية خالصة دون أن تصدق على مادة معينة، ولا هدف لها إلا تحليل العقل البسيط ودون أن تكون هناك خصوصية كمدخل خاص لعلم أصول الدين وموضوع العلم فيه. وكل مقولتين متعارضتان؛ فالتداخل عكس التباين في الأجزاء. والتساوي؛ أي وضع الجزأين على مستوى أفقي واحد عكس العموم والخصوص؛ أي وضع الجزأين على مستوى رأسي بين الأعلى والأدنى. والتباين يؤدي إلى العلل الأربع المعروفة في الطبيعيات عند الحكماء. أما التشابه، فإنه يكون في الذهن أو في الواقع. وقد تنقسم الماهية المركبة على نحو وجودي خالص فتكون إما وجودية أو لا وجودية، وتكون الوجودية إما حقيقية أو إضافية ممتزجة. والثاني مثل القديم فهو موجود لا أول له. وهنا يتضح أن القسمة تفسح المجال إلى وجود «الله» كموضوع للعلم. وبالتالي تكون أقرب إلى التمرينات العقلية أو القوالب الذهنية التي ستتحكم في الفكر الديني.
53
والمركب إما ذات أو صفة، وتكون الماهية مركبة من أجزاء إذا كانت مشاركة لغيرها في ذاتي ومخالفة لذاتي آخر وليس لعارض؛ فالماهية تقبل الشركة دون التعيين. الماهية لا تأبى الشركة، في حين أن الشخص يأباها، فهي فيه زائد وهو التشخص. ونسبة الماهية إلى الشخصيات كنسبة الجنس إلى الفصول. والتعيين وجود في الخارج، والماهية لا تتحقق عيانيا في الخارج، ولكنها تظل غير معينة في الذهن عند الحكماء. أما المتكلمون فيجعلون التعين أمرا عدميا؛ لأن الماهيات لا تتعين في الخارج حفاظا على التوحيد ولإنكار الكليات في الخارج، وبالتالي يفصل المتكلمون بين الصوري والمادي، في حين يجعل الحكماء بينهما واسطة هو التحقق.
54
والحقيقة أن كل هذه التقسيمات لا تشير إلى أية تجربة حية خرجت منها يمكن التحقق من هدفها بالرجوع إليها، وبالتالي ظلت صورية خالصة أقرب إلى المنطق الوجودي الصوري الخالص. قسمة الماهية إذن أقرب إلى الخطاب القائم على نفسه، يضع مسائل ثم يحلها بالقسمة، فكر يقوم على نفسه لا على وقائع أو تجارب، فكر صوري بلا مضمون، وتحليل عقلي لروح التطهر التي تسير الخطاب وتحدد مشاكله وتختار حلولها. الماهية أطهر من الوجود؛ ولذلك فهي الكلي وهو الجزئي، هي البسيط وهو المركب، هي العام وهو الخاص، هي الأول وهو الثاني. ولكن أحيانا تظهر المقولات الإنسانية من ثنايا الخطاب الصوري، مثل لفظ: «حاجة كل ماهية إلى أجزائها أو كل نوع إلى أجناسه.» فهذه لغة وجدانية تدل على أن المقدمات النظرية بالرغم من بلوغها مستوى عاليا من التجريد، إلا أنها ما زالت تكشف عن الأساس الوجداني في الإنسان ، وهو الأساس الذي يقوم عليه الفكر الديني عامة والأشعرية خاصة. (2-2) هل الوجود نفس الماهية أم جزؤها أم زائد عليها؟
وهنا يظهر التقابل بين الوجود والماهية بعد أن كان كل منهما معروضا بمفرده. وتظهر علاقة التقابل في صورتي الهوية والاختلاف أو الكل والجزء، والأولى هي الأغلب. وقد طرح القدماء إجابات ثلاثة: الأولى أن الوجود نفس الماهية في الكل؛ لأنه لو كان زائدا لكانت الماهية غير موجودة نظرا لعلاقة الهوية بينهما. والحقيقة أن ذلك قائم على افتراض أن الماهية قائمة بالوجود وهو المطلوب إثباته، كما أن الدليل يقوم على برهان الخلف، وهو دليل سلبي خالص. أما قيام الصفة الثبوتية بالشيء كفرع لوجوده في نفسه ضرورة، وبالتالي لو كان الوجود زائدا على الماهية لسبقه وجود آخر ولزم التسلسل، فتلك حجة تقوم على نفس الافتراض السابق، وعلى برهان الخلف، وعلى افتراض أن كل وجود لا بد له من علة لوجوده، وهو طابع الفكر الديني الإيماني الذي يريد التقهقر إلى الوراء لإثبات علة أولى لا تسبقها علة أخرى حتى يستريح الضمير الديني ويرتكن إلى بداية يقينية تعطيه الثقة بالبداية الأولى التي عليها يقوم كل شيء بعد ذلك كالبنيان الراسخ. لا يعني ضعف هاتين الحجتين رفض الافتراض الأول، بل يعني أن التدليل عليه لا يثبت شيئا، ويظل الافتراض قائما بلا حجة أو دليل.
55
والثاني أن الوجود نفس الماهية في الواجب وإن زاد في الممكن؛ لأنه لو كان الوجود زائدا على الماهية في الواجب لكان محتاجا، والمحتاج إلى الغير ممكن ويكون معلولا لغيره، ولا يكون واجبا. والحقيقة أن هذه حجة وجدانية خالصة بقدر ما كانت الحجج الأولى جدلية صرفة؛ فلفظ «الاحتياج» لفظ ديني يعبر عن عاطفة دينية هي الإحساس بالنقص والعوز أمام الكامل الغني، ثم إبعاد هذا الوضع النفسي المؤلم رغبة في التنزيه وبعدا عن الاحتياج؛ لأن الاحتياج نقص والإنسان يبغي الكمال، فيقتطع الكمال من نفسه ويجرده ثم يشخصه في الواجب الذي يمتد فيه الوجود بالماهية في مقابل الممكن الذي هو نحن في عالم الاحتياج للأغيار؛ فبقدر ما نحط من النفس نعلي من الآخر، وبقدر ما نتهم الذات نبرئ الغير.
56
والثالث أن الوجود زائد على الماهية في الواجب وفي الممكن. الوجود زائد في الممكن؛ لأن الوجود يتمايز عن الماهية في الإنسان؛ فالمثال لم يتحقق بعد، والواقع لم يتحول بعد مثالا. الماهية بمفردها تقبل العدم ومع الوجود تأباه، مما يدل على بقاء المثال حتى ولو لم يكن هناك واقع. وهناك ماهيات معقولة مجردة مثل المعقولات الرياضية لا وجود لها في الواقع ويستحيل التعريف في حالة التوحيد بينهما، وإلا كان المحمول والموضوع شيئا واحدا. وإن لم يكن الوجود زائدا على الماهية لكان نفسها أو جزءها. والأول باطل لأنه مشترك دونها والثاني باطل لأن الجزء ليس أعم من الذاتيات. والوجود زائد على الماهية في الواجب؛ فلو لم يكن الوجود زائدا على الماهية فيه لكان مجردا بلا وجود. ولو كان مجردا لكان علة نفسه ويلزم التسلسل، ويستحيل التجرد أن يكون مبدأ الممكنات. والحقيقة أن هذه الحجج الصورية كلها إنما تقوم اعتمادا على قياس الغائب على الشاهد؛ أي قياس الواجب على الممكن عن طريق القلب؛ أي إنها مواقف إنسانية خالصة تبدأ بتحليل الممكن الحسي المادي، ثم تقبله فينتج وصف الواجب عن طريق الضد؛ فبالرغم من هذه الصورية في التحليل إلا أن هناك تجارب شعورية قائمة وراءها أسقطها التحليل من الحساب. فإذا كان الوجود تجربة حية فالماهية هي جوهر الوجود وأساسه. وجوهر الوجود رسالته ودعوته التي يحققها. وهي متميزة عن الوجود في البداية هذا التمايز بين المثال والواقع. هي سبب الحياة والباعث ودفع الواقع إلى اللحاق بالمثال، وتحقيق المثال في الواقع. الوجود هو الماهية بمعنى أن الوجود ليس هو الجسم أو الأعراض بل جوهره؛ أي الرسالة. الماهية هي النطق والفكر والوعي والرسالة والحركة والإمكانية والحرية والتحقق، يمكن أن تتوحد مع الوجود. ولكن هذا التوحيد بين الوجود والماهية توحيد مشروع أو مشروع توحيد، توحيد مستقبلي يتحول إلى توحيد بالفعل في الحاضر بعملية التحقق وفي مسار التاريخ. وحدة الوجود والماهية غاية تتحقق في المستقبل ابتداء من الحاضر كإمكانية ومشروع. أما التمييز بين الواجب والممكن، فالممكن هو وجودي، والواجب هو ما ينبغي أن أكون عليه، وبالتالي يكون الممكن والواجب مرحلتين من الوجود الإنساني وحالتين له. في الممكن يتمايز الوجود عن الماهية كواقع. وفي الواجب يتحد الوجود بالماهية كمثال، الأول في البداية والثاني في النهاية. ولكن الواجب والممكن ليسا موجودين مستقلين أحدهما من الآخر، الأول نسبي والثاني مطلق، وبلغة القدماء الأول «حادث» والثاني «قديم» بمعنى «جديد»؛ أي ما سيحدث في المستقبل وما سيقع في التاريخ. الماهية زائدة على الوجود، والوجود زائد على الماهية في البداية كنوع من الفصام في الوجود الإنساني بين المثال والواقع، ولكن يتحول هذا الرتق إلى عملية توحيد، فتتحول الماهية إلى وجود بالفعل، ويتحول الوجود إلى ماهية بالفعل. الماهية نفسها عملية تخلق لوجودها. والوجود نفسه عملية إيجاد لماهيته وإظهار لمكمونه، وبالتالي يمكن تجاوز الطرفين المتقابلين والحلين المتعارضين، بل والحلول الوسط، بالرجوع إلى تجربة الوجود الإنساني الحية السابقة على القسمة. ليست مذاهب القدماء إذن متعارضة متضاربة متناقضة، بل تصف مراحل مختلفة لعملية التحقق، وحالات وجدانية متباينة لهذه العملية كما يقول الصوفية. فلا يوجد خطأ مذهب وصحة آخر. كل مذهب يصف مرحلة تحقق وحالتها الوجدانية. وبالتالي لا يمكن إثبات الصواب والخطأ النظريين في المذاهب القديمة بحجج صورية منطقية جدلية، بل بتحديد لحظتها في التجارب الشعورية.
57 (2-3) هل الماهيات مجعولة يحتاج بعضها البعض؟
وإحساسا من القدماء بهذه العملية طرحوا سؤالين: الأول هل الماهيات مجعولة؟ والثاني هل تحتاج الماهيات أو أجزاء الماهيات بعضها إلى البعض الآخر؟ والسؤال الأول يقوم على افتراض الجعل؛ أي النشأة والخلق والتحقق والجهد والفاعلية. و«الجعولية» تعني عند القدماء الاحتياج إلى الفاعل وإلى الغير. والمذاهب القديمة ثلاثة: الأول الماهيات غير مجعولة مطلقا كرد فعل على النشأة والمجعولية حرصا على المثال واستقلاله كإمكانية خالصة وكهدف أسمى، وكغاية قصوى، وهو المذهب الذي يعطي الأولوية للتأمل على الفعل، وللنظر على العمل. والثاني الماهيات مجعولة مطلقا وقد كان الدافع عند القدماء أن «الله» هو خالق كل شيء، الوجود والماهية على السواء، في حين أن المجعولية هو انكشاف الماهيات في الشعور أو تحقيقها كإمكانية وكمطلب ومثال. فالماهية طيعة للفاعلية والتأثير، بمعنى صيرورتها من حال الإمكان إلى حال التحقق، من حال الماهية إلى حال الوجود. وهذا هو أيضا معنى الاحتياج؛ فالاحتياج من لوازم الوجود. والمذهب الثالث يجعل الماهيات المركبة مجعولة بخلاف الماهيات البسيطة بدافع التوسط بين المذهبين السابقين. ولكن حتى إذا كانت البسيطة مثل البديهيات لا جهد فيها ولا صنعة فإن انكشافها في الشعور أيضا يجعلها معطاة منها؛ ففيها قدر من المجعولية، وإن كان أقل من الماهيات المركبة.
58
أما السؤال الثاني عن حاجة الماهيات أو أجزائها بعضها البعض الآخر، فإنما هو ناتج عن المجعولية وكأنها المذهب السائد بين نفي الحكماء والمعتزلة وإثبات الأشعرية. ولكن دوافع المجعولية والاحتياج في علم الأشعرية تقوم على استبعاد الدور وعلى ضرورة الانتهاء إلى حاجة من غير محتاج، فتكون العلاقة بين الماهيات علاقة علة بمعلول، وكامل بناقص، واستقلال وتبعية، مما يخفي في ثناياه علاقة الفكر الديني بين الأعلى والأدنى أو بين «الله» والعالم، حتى ولو تمت صياغتها على نحو منطقي بالكليات الخمس، حاجة الفصل إلى الجنس، وعدم حاجة الجنس إلى الفصل، واستحالة أن يكون الجنس جنسا للفصل، واستحالة تعدد الفصل القريب، واستحالة أن يقوم فصل إلا بنوع واحد أو جنس واحد. وفي حقيقة الأمر تنشأ هذه العلاقة من الموقف الإنساني ومن طبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة التي يسودها الأعلى والأدنى، الرئيس والمرءوس، الحاكم والمحكوم.
59 (3) الوجوب والإمكان والاستحالة
والقسمة هنا ثلاثية صريحة: الوجوب، والإمكان، والاستحالة؛ فقد كان الوجود والعدم قسمة ثنائية صريحة وثلاثية مقنعة نظرا لتوسط الحال. وكانت الماهية مفهوما واحدا صريحا وقسمة ثنائية مقنعة؛ فقد كانت طرفا في ثنائية الوجود والماهية. والبنية الثلاثية واحدة. فإذا كان الحال هو الانتقال من الوجود إلى العدم أو من العدم إلى الوجود، فإن الإمكان هو الانتقال من الوجوب إلى الاستحالة أو من الاستحالة إلى الوجوب؛ فالوجوب في مقابل الاستحالة والإمكان وسط. وكثيرا ما توصف باسم الفعل: الوجوب والإمكان والاستحالة أو اسم الفاعل : الواجب والممكن والمستحيل. والاختيار الأول أكثر تجريدا وصورية من الثاني؛ لأنه يضم مناطق عامة ولا يشير إلى موجودات بعينها. كما تختلف الألفاظ وتترادف؛ فالواجب هو الضروري، والممكن هو الجائز، والمستحيل هو الممتنع، ولكن الثلاثي الأول أكثر تجريدا، ومن ثم فهو عند الحكماء أظهر. أما الثلاثي الثاني: الضروري والجائز والممتنع، فهو أكثر حسية، ومن ثم فهو عند المتكلمين أظهر باستثناء علم الكلام المتأخر الذي تبنى مفاهيم الحكماء. أما من حيث ترتيب المفاهيم الثلاثة، فعادة ما يأتي الطرف المثبت أولا، ثم الوسط ثانيا، ثم الطرف المنفي ثالثا. الطرفان في الطرفين، والوسط في الوسط، مما يدل على هذا الانتقال من الوسط إلى الطرفين انتقالا تدريجيا طبيعيا. وبقدر ما أفاض القدماء في الوجوب والإمكان، فإنهم لم يتكلموا في الاستحالة إلا قياسا على المفهومين الآخرين الوجوب والإمكان على عكس إفاضتهم في العدم وهو على نفس المستوى مع الاستحالة. مع أن الاستحالة يمكن أن تكون مناسبة لتحدي القدرة الإنسانية على الفعل وتجاوز العقبات وإعطاء الثقة بالنفس على أنه لا مستحيل أمام العزم والإرادة والدوافع والبواعث وعلى قدرة الإنسان على الإيجاب؛ أي تحويل الإمكان إلى وجوب، وتحويل الاستحالة إلى إمكان. (3-1) أحكام العقل الثلاثة
وقد بدأت أحكام العقل الثلاثة في نظرية العلم كأحكام للعقل الخالص.
60
ثم انتقلت من العقل إلى الوجود مع التوحيد بينهما، حتى إنه ليصعب معرفة هل هي أحكام عقلية كما كانت في البداية أم مناطق وجود. ثم رقيت ثالثا في علم الكلام المتأخر في مرحلة العقائد الإيمانية إلى أحكام عقلية كما بدأت، وهو السائد حتى الآن؛ أي نظرية في الحكم العقلي على الوجود. وتدخل مادة التوحيد كلها في هذه النظرية، ما يجب وما يمكن وما يستحيل في حق «مولانا»، وما يجب وما يستحيل وما يجوز في حق الرسل، وأصبحت تستعمل من أجل عد الصفات وسهولة إحصائها. واستمر الأمر كذلك في الحركات الإصلاحية مع التركيز على القطب الأول «الله» دون القطب الثاني «الرسول» الذي تحول إلى نظرية عامة في النبوة.
61
ثم تضاءلت أحكام العقل الثلاثة أكثر فأكثر، وتحولت إلى مجرد دليل عقلي ضمن مجموعة أخرى من الأدلة الشرعية والعادية. يظهر الدليل السمعي من جديد كأحد مصادر المعرفة في مواجهة الدليل العقلي، ويتحول التقابل بين الوجوب والاستحالة إلى التقابل التقليدي القديم بين العقل والسمع كما يتحول الإمكان أو الجواز العقلي إلى تردد بين الدليل العقلي والدليل السمعي.
62
وتدخل نظرية أحكام العقل الثلاثة ضمن نظرية أعم وهي أقسام الحكم؛ فالحكم ينقسم إلى ثلاثة أقسام: شرعي وعادي وعقلي. الشرعي موضوع علم أصول الفقه، والعادي يعرف بالتجربة وتكرارها، والعقلي يفهم بالعقل المجرد من غير تجربة ولا وضع. ويسارع الشارح المتأخر في الحكم العادي بإعلان الإيمان الأشعري وجعل الحكم العادي من فعل إرادة خارجية مباشرة بأن يخلق «الله» الاحتراق في النار دون أن يكون هناك تأثير للنار كعلة مباشرة. والحكم العقلي نابع من العقل، وهو العقل الصوفي وليس العقل الفلسفي، نور يقذفه «الله» تعالى في القلب، تدرك به النفس العلوم الضرورية والنظرية، محله القلب. وبالتالي ينكر الشراح المتأخرون عمل العقل التحليلي الاستدلالي نظرا لازدواج الأشعرية مع التصوف. أما الحكم الشرعي فخطاب «الله» تعالى المكلف بأفعال المكلفين بالطلب أو الإباحة أو الوضع؛ ف «الله» أيضا واضع الحكم الشرعي. وتعود نظرية الحكم إلى نظرية العلم عند الشرح، فيسقط الوجود من الحساب. وتعود بعض أقسام العلم مثل الضروري والنظري. فينقسم كل من الواجب والممكن والمستحيل إلى ضروري ونظري، وبالتالي تكون الأقسام ستة وتتفاوت الأمثلة بين الأجرام السماوية والمفاهيم الرياضية.
63
كما ينقسم كل حكم إلى لذاته ولغيره. هناك واجب لذاته وواجب لغيره. والواجب لذاته ينقسم إلى مطلق ومقيد؛ فالواجب الذاتي المطلق مثل ذات «الله» وصفاته، والمقيد، مثل التحيز للجرم. والواجب لغيره كوجود شيء من الممكنات في زمن علم «الله» ووقوعه فيه. كما ينقسم المستحيل إلى لذاته ولغيره. والمستحيل لذاته إلى مطلق ومقيد. فالمستحيل لذاته المطلق كالشريك «لله» تعالى، والمقيد كعدم تحيز الجرم. والمستحيل لغيره كوجود شيء من الممكنات في زمن علم «الله» وعدم وقوعه. وظيفة هاتين القسمتين لذاته ولغيره، والمطلق والمقيد، لإفساح المجال لذات «الله » وصفاته، وهو الموضوع الأول بعد نظرية الوجود. وواضح فيها دخول تحيز الجرم مع «الله» على نفس مستوى التحليل والتماثل مشابهة واختلافا، وإن كان الله في المطلق وتحيز الجرم في المقيد وكأن الطبيعيات تأبى إلا أن تفرض نفسها على الإلهيات، وكأن الإلهيات تظل خاوية أو معلقة في الهواء دون ارتكازها على الطبيعيات.
64
والأحكام الثلاثة أمور اعتبارية صرفة لا وجود لها إلا في الذهن، مقولات للشعور، ومفاهيم للعقل، وعلى أقصى تقدير مناطق صورية يضعها الشعور لتحليل الوجود. وقد حاول البعض جعلها أمورا وجودية والقفز من فوق العقل إلى الطبيعة، ومن داخل الشعور إلى العالم الخارجي؛ لأن الوجوب واجب بنفسه وليس باعتبار العقل؛ ولأن نقيضه اللاوجوب وهو عدمي، وبالتالي فهو وجودي وأنه لو كان إمكانه عدميا لم يكن الممكن ممكنا. والحقيقة أنها أمور اعتبارية صرفة لا وجود لها في الخارج إلا من حيث افتراض الدليل الأنطولوجي وهو افتراض إيماني صرف، وانتقال من الفكر إلى الوجود قفزا وافتراضا بناء على معطيات الإيمان ومطلب النفس وحديث الروح ومناجاة «الله».
65
وبالتالي فهي لا تثبت شيئا بالفعل، ومحاولة استعمالها بعد ذلك لإثبات وجود «الله» لا تثبت شيئا بالفعل، ولا تثبت إلا موجودات ذهنية خالصة. ولا سبيل إلى تحققها في الخارج إلا كمشروع يتحقق بالفعل من خلال الجهد. والخارج قابل للتشكل طبقا لهذه المقولات الذهنية الأربع حتى يتحد معها تماما عندما تتحقق هي بالفعل، وبالتالي يتم التوحيد بين العقل والوجود. هي أقرب إلى المطلب النفسي أو الأخلاقي أو النزوع النفسي منها إلى التصور البديهي أو المقولة المنطقية. وبهذا المعنى تكون أقرب إلى الوجود كقصد أو اتجاه أو حالة دون أن تكون وجودا بالفعل إلا بعد التحقق. كما أنها تدل على أحكام قيمة؛ فالواجب أشرف من الممكن، والمستحيل مجرد سلب للواجب عن طريق القلب وليس له وجود أصلي. ويظهر ذلك بوضوح في الشروح المتأخرة عندما يخف تحليل العقل وتظهر شدة الانفعال، وكذلك في الحواشي عندما تخف حدة العقل وتظهر وطأة الانفعال.
66
وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليه كأساس ميتافيزيقي لدليل الحدوث. وليبق دليل الحدوث دليلا بعديا خالصا يعتمد على مقدمات حسية صرفة. وفي نهاية الأمر تكشف هذه الأحكام الثلاثة إلى علاقة الاستقلال بالتبعية، وهي علاقة الوجوب بالإمكان؛ فالوجوب استقلال والإمكان تبعية، وهي بنية العلاقة الاجتماعية على مستوى التجريد والتبرير العقلي الذي يأخذ صيغة الإيمان.
67 (3-2) أحكام الوجوب
يصعب إصدار أحكام على الوجوب كمقولة مجردة؛ ومن ثم كانت معظم الأحكام على الواجب؛ فالواجب واجب لذاته ولا يكون واجبا بغيره؛ إذ إن الواجب إما أن يكون ذاتيا أو غيريا أو وضعيا أو وقتيا. والواجب لذاته ينافي الواجب لغيره؛ فهو الوجود المستقل الذي لا يحتاج في وجوده إلى غيره، وهو «واجب الوجود» الذي لا يحتاج في وجوده إلى سبب أو مرجح كما يقول الحكماء؛ وبالتالي فهو يمثل أعلى درجة من درجات الاستقلال والاكتفاء الذاتيين، كما أنه بسيط ليس مركبا لا في الذهن ولا في الخارج؛ فالبساطة من صفات المثال؛ لأن الوجود في الخارج محتاج، والمحتاج ممكن. لا يتركب عن غيره، واجب من جميع جهاته؛ لأنه بسيط لا تركيب فيه. لا يصح عليه العدم. لا يزيد وجوده على ماهيته، بل وجوده عين ماهيته وماهيته عين وجوده؛ لأن الوحدة أكمل من الكثرة، والهوية أشرف من الاختلاف فليس وجوبه زائدا على وجوده. ولا يكون مشتركا بين اثنين لأنه نفس الماهية، واحد لا يقبل الشركة. يجوز أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته فيكون الوجوب الذاتي صفة لتلك الهوية فقط، وسائر النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية، وتكون الوحدة صفة لتلك الهوية. وتبدو هنا إرهاصات الإلهيات وموضوع العلة بين الذات والصفات والوحدة بينها الاختيار الاعتزالي ابتداء من مقدمات نظرية أشعرية في نظرية الوجود. وقد برز ذلك في الحركات الإصلاحية المعاصرة عندما تمت المزاوجة بين أحكام الموجودات وصفات «الله»، وبالتالي لم يعد هناك فصل بين نظرية الوجود وموضوع الذات والصفات. وبعد أن كان واجب الوجود تحليلا للوجود أصبح حكما عقليا من أحكام الذهن ثم واجبا شرعيا وانتقل بذلك التوحيد من الوجود إلى العقل ثم من العقل إلى الفعل.
68
واجب الوجود هي نقطة البداية في نظرية الوجود وقمتها في آن واحد، والركن الأساسي في التوحيد كما يبدو في موضوع الذات والصفات؛ فهو أقصى ما وصل إليه علم الكلام من تجريد. يعبر عن التصور المثالي للعالم، وريث التصور الديني التقليدي، وآخر ما وصل إليه تحول «الثيولوجيا» إلى «أنطولوجيا». وعلى هذا النحو يعد بحثا عقليا خالصا أو تحليلا أنطولوجيا صوريا تعبيرا عن الطهارة الدينية تعبيرا عقليا مجردا. اكتمل الخطاب العقلي المثالي ولم يعد يعطي جديدا أو يتغير تغيرا نوعيا، بل ظل يعبر عن التصور الديني للعالم. وبالتالي يمكن الإضافة في وصف أحكام واجب الوجود كلما اشتد التوتر الديني وازدهرت العواطف دون خروج على أوصاف الاستقلال الذاتي والبساطة والهوية والوحدة وكأنها إرهاصات الوعي الخالص قد بدأت. تقلص الفكر الموضوعي وضمر، وأصبح مرتكنا كلية على الفكر الذاتي الخالص في صورة عقلية مجردة. لم يعد هناك موضوع بل مجرد قوالب ذهنية صورية تعبيرا عن الطهارة العقلية، وبمجموعة من الألفاظ المختارة القابلة للقسمة الثنائية التي تساعد على التعبير عن هذه الطهارة بحركة من الأعلى إلى الأدنى أو من الأدنى إلى الأعلى.
69
وفي حقيقة الأمر إن أوصاف واجب الوجود، الاستقلال، والبساطة، والوحدة، والهوية، كلها أوصاف المثال الذي يفرض واقعه، ويعبر عن مطلب واقتضاء. وليس افتراضا أو ملجأ أو ملاذا أو عونا أو نصرا ناتجا عن ضعف وعجز أو كراهية وعدوانية كما هو الحال في الفكر الديني. هو الواجب الذاتي والإحساس بالأمانة والرسالة والتضحية، لا يقبل المساومة أو النسبية، وهو لفظ مشترك مما يدل على أنه ليس متفردا بالوصف؛ فواجب الوجود في نفس الوقت يعبر عن عواطف دينية وأحكام عقلية ومناطق وجودية وأهداف إنسانية وقوانين تاريخ. ليس واجب الوجود كائنا مشخصا يحس ويشعر، يسمع ويرى، يتكلم ويريد، بل هو المثل الإنساني الأعلى وغاية الإنسانية القصوى، موجود دائما كإمكانية ويتحقق بالفعل من خلال الجهد الإنساني؛ فهو موجود في النفس كدافع وباعث واتجاه وقصد، وموجود في الذهن كتعال وتجاوز ومفارقة، وموجود في الواقع كبناء اجتماعي مثالي متوحد في أمة، وموجود في التاريخ كقانون حركة وتقدم.
واجب الوجود تصور أخلاقي اجتماعي سياسي تاريخي، وما الذهن أو الوجود إلا وسائل تعبير وصياغة أو إطار مرجع وإحالة. الواجب هو الواجب الأخلاقي، والواجب الأخلاقي هو الواجب العقلي والواجب الأنطولوجي؛ فنظرية القيم هي أساس نظرية المعرفة ونظرية الوجود. «الإبستمولوجيا» و«الأنطولوجيا» كلاهما تعبير عن «الأكسيولوجيا». الوجود هو الوجود الخلقي؛ أي نزوع النفس نحو مطلب وغاية ومثال. كل أحكام واجب الوجود هي في الحقيقة تعبير عن ضرورة الخير الأقصى والنفع العام ومصالح أمة وأهدافها القومية المعبرة عن الأهداف الإنسانية جمعاء. هو تعبير عن مطلب نفسي أكثر منه وصفا لواقع حاضر من أجل تطويع الواقع للمطلب وتوجيهه بالمثال. ولما كان المطلب قد يتحقق وقد لا يتحقق فإنه يصبح مشروطا بالفعل، ويتحول الوجوب إلى إمكانية محضة ولا تتحول إلى وجوب إلا بالفعل؛ فالوجود الحقيقي هو الممكن الذي يتحول إلى واجب. الواجب في البداية ممكن، وفي النهاية واجب وأمام العاجز مستحيل. الواجب ممكن قد تحقق والمستحيل ممكن امتنع. ولما كان الفعل لا حدود له، فالمستحيل غير واقع.
70 (3-3) أحكام الإمكان
وكما كانت أحكام الوجوب هي أحكام الواجب فإن أحكام الإمكان هي أيضا أحكام الممكن. والممكن لذاته هو الذي لا يلزم من فرض وجوده ولا من فرض عدمه من حيث هو محال؛ أي أن تعريفه بالإضافة إلى الاستحالة وليس تعريفا للممكن لذاته؛ فالممكن إحدى لحظات الانتقال إلى الواجب نافيا المستحيل. وتقوم أحكامه كلها على لغة الاحتياج؛ فالممكن هو المحتاج إلى سبب. وتصوره ضروري؛ لأن الممكن هو الذي يستوي طرفاه ولا يترجح أحدهما إلا بسبب. ويمكن أن يكون تصوره استدلاليا؛ إذ إنه يقوم على الترجيح بين المتساويين أو ابتداء من الوجود والعدم بلغة الحكماء. والاحتياج هو الحدوث بلغة المتكلمين أو الإمكان مع الحدوث أو الإمكان بشرط الحدوث. الممكن مفهوم ميتافيزيقي والحدوث مفهوم طبيعي. لذلك آثر المتكلمون بعد ذلك الحديث عن أحكام القديم، وهو الواجب عند الحكماء، وأحكام الحادث وهو الممكن عند الحكماء، وكأن الفرق بينهم هو فقط في درجة التجريد بين الميتافيزيقا والفيزيقا، بين ما وراء الطبيعة والطبيعة. ليس أحد طرفي الممكن بأولى من الآخر لذاته نظرا لضرورة المرجح . يحتاج الممكن إلى علة تكون سبب وجوده. والإمكان لازم للماهية وإلا أصبح ممتنعا وهو ذو ماهية وأن ماهيته تحدث من خلال التحقق. لا يستغني الممكن في حال بقائه عن المؤثر. ولما كان الممكن أساسا هو الذي لا يوجد بذاته، بل يحتاج في وجوده إلى علة أو سبب فهو تابع غير مستقل، مركب غير بسيط، تختلف أجزاؤه ولا يتمتع بهوية مع ذاته، متعدد وليس واحدا، صفاته إذن مقابلة لصفات الواجب. لا يتحقق إلا لعلة أو سبب أو باعث. تحركه الدوافع. تصور القدماء أن علته وسبب وجوده من خارجه، وهي من داخله، من طبيعة الفصم فيه وليست مفروضة عليه، يتحقق بفعله الطبيعي وبتلقائيته وبإرادة حرة كامنة فيه، وليس بفعل الآخر فيه. بل إن الحركات الإصلاحية الحديثة لم تتخل عن لغة الاحتياج؛ فالممكن يقتضي الواجب ويحتاج إليه، ولكن الواجب لا يحتاج إلى الممكن ولا يقتضيه. والرجحان مقولة إنسانية خالصة تعبر عن وجود الاحتمال في السلوك وعن حرية الاختيار ووجوب البواعث على الترجيح. كما أن الحاجة مقولة إنسانية تعبر عن موقف إنساني خالص لأن الطبيعة لا تحتاج.
71
والاستغناء مقولة إنسانية؛ فالطبيعة لا تستغني عن شيء ولا تفتقر إلى شيء. الوجود الإنساني الهش في لحظات الضعف والخور وفي أوقات الهزيمة والعجز هو الذي يحتاج ويفتقر إلى غيره لا إلى ذاته. إن أهم صفة في الممكن هي الزمان والحركة؛ فالممكن في الحاضر والمستقبل، أما الماضي فقد تحول إلى واجب، وهو وجوب إنساني خالص، ولا ممكنات خارج الموقف الإنساني.
72
وفي حقيقة الأمر إن علاقة الواجب بالممكن علاقة الاحتياج إنما تكشف عن طبيعة العلاقات الاجتماعية وبنيتها؛ إذ لا يحتاج السيد إلى العبد في حين أن العبد يحتاج إلى السيد. لا يحتاج الراعي إلى الرعية في حين تحتاج الرعية إلى راع، وهي صورة التسلط ونموذج القهر. وإذا كانت الممكنات متعددة والواجب واحد وبالتالي فعلاقة الواجب بالممكن هي علاقة الواحد بالكثير، علاقة الحاكم بالمحكومين، وهي نفس العلاقة بين «الله» والعالم. ويكون السؤال إذن: كيف يتغير هذا النمط في العلاقات؟ هل يتغير بتغير الفكر الديني حتى يتغير الوضع السياسي أم يتغير الوضع السياسي حتى يتغير الفكر الديني؟
73
وهل صحيح أن السيد لا يحتاج إلى العبد وإلا فمن الذي سيقوم بالعمل اليدوي وبالإنتاج؟ وهل صحيح أن العبد يحتاج إلى السيد وإلا ففيم كانت ثورة العبيد؟
ولم يفصل القدماء أحكام المستحيل كما فصلوا أحكام الواجب والممكن نظرا لأن المستحيل كالعدم ليس شيئا، وبالتالي لا يمكن تحديده إلا إضافة إلى الواجب والممكن؛ فالمستحيل لذاته لا يطرأ عليه وجود؛ لأن العدم من لوازم ماهيته. والمستحيل لا يوجد لا في الخارج ولا في الذهن. والمستحيل في حقه «تعالى» ما لا يتصور في العقل وجوده. وفي حقيقة الأمر، المستحيل أيضا مقولة إنسانية خالصة من مقولات المنطق واللغة وليس من مقولات الفعل والسلوك؛ أي إنها مقولة نظرية وليست مقولة عملية؛ فالمستحيل في المعنى اجتماع الضدين؛ إذ إن الضدين لا يجتمعان. والمستحيل في القول هو القول المتناقض بأن يقال الإنسان قائم قاعد أو قائم ولا قائم أو أن الإنسان حر عبد أو حر ولا حر. والمستحيل في المعنى والقول هو كل قول لا معنى له وإلا كان لغو كلام. أما الكذب فليس محالا كموقف إنساني وإن كان محالا بمعنى أنه قول متناقض مع الواقع طبقا لنظرية التطابق. ولكنه لما كان يبدو في موقف إنساني حي وليس في منطق صوري تجريدي تشابك مع الموقف الإنساني ودخل في نطاق الرؤى والتأويلات والأهواء والمصالح، وأصبح جزءا من منطق الاشتباه.
74 (3-4) أحكام القديم
وتنتهي كل المباحث الوجودية إلى قسمة الوجود إلى قديم وحادث. وهنا تبدو نظرية الوجود وكأنها مقدمة للإلهيات أو تعبير عقلي عنها. «الله» هو القديم، والعالم هو الحادث حتى إنه ليصعب التمييز بين نظرية الوجود وبين الموضوع الأول في العلم وهو التوحيد، ويكون دليل الحدوث هو حلقة الاتصال بين نظرية الوجود وموضوع التوحيد، بل ويتعداها أحيانا إلى موضوع الإيمان عندما ينقسم الإيمان أيضا إلى قديم وحادث، بل وكل شيء إلى قديم وحادث.
75
ولا يوجد انتقال طبيعي من مقولتي الواجب والممكن إلى مقولتي القديم والحادث، وكأن هناك افتراضا مسبقا بأنهما شيء واحد يعبران عن عملية شعورية واحدة بلغتين مختلفتين: الأولى لغة الميتافيزيقا والثانية لغة الطبيعة، الأولى لغة الحكماء والثانية لغة المتكلمين، وكأن المتكلمين كانوا أقرب إلى علماء الطبيعة من الحكماء.
ويتحدث القدماء عن القديم والحادث لا عن القدم والحدوث بدافع تشخيص المفاهيم حتى تساعدهم في تصوير الذات المشخص والحديث عنه. فيجعلون أحكام القديم اثنين؛ الأول: أنه لا يستند إلى القادر المختار؛ أي إنه لا يتأثر بالإنسان وحرية أفعاله. لا يؤثر فيه شيء، وخارج عن نطاق الحرية الإنسانية كالعالم والوجود. يتصف القديم بأنه مغاير للحرية الإنسانية. أما الحكماء فإنهم أسندوه إلى الفاعل؛ لأن إيجابه بالذات وليس بالفعل، وهو تصور يجعل القديم أكثر حيوية ونشاطا نظرا لاتصافه بالفعل وليس بالقدم. وقد حذا بعض المتكلمين حذو الفلاسفة وجوزوا استناد القديم إلى الموجد بالتأثير فيه ودوام هذا الأثر. ولكن ما زالت الأغلبية ترى عدم جواز استناده إلى المختار؛ لأن الاختيار مسبوق بقصد الإيجاد؛ أي إنه مشوب بالحدوث والإمكان أو بالعدم والاستحالة. ويكون الخلاف في القديم هل هو موجب أم مختار؟ ولا حرج في جعله مسبوقا بقصد الاختيار؛ لأن الاختيار هنا بالذات لا بالزمان. أما عدم جواز استناده إلى الموجب القديم فلأن ذلك يؤدي إلى الحدوث. وبالتالي يظل السؤال عن القديم، هل هو ضرورة أم حرية؟ وهو الفرق بين المتكلمين والحكماء بوجه عام.
76
والحكم الثاني للقديم أنه يوصف به ذات «الله» تعالى اتفاقا عند الأشاعرة. وأنكره المعتزلة لفظا وقالوا به معنى؛ فالقول بالقدم مشابه لقول النصارى في إثبات أقانيم ثلاثة قديمة: العلم والوجود والحياة. وأثبت المتكلمون سبعة: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة.
77
وهنا يدخل موضوع قدم الصفات استباقا قبل أوانه، وكأن «القديم» تمهيد مسبق للإلهيات في موضوع الصفات. وفي حقيقة الأمر إن القديم ليس صفة للذات لا لفظا ولا معنى، بل هو تجربة إنسانية صرفة إيجابا وسلبا؛ فالقديم يعني الأصل والجذور والامتداد في الماضي والعمق التاريخي. أما إذا تحول إلى هروب إلى الماضي من حيث هو قيمة في ذاته تعويضا عن أزمات العصر وعجزا عن الدخول في تحدياته وانعدام الرؤية المستقبلية، فإنه يصبح تجربة سلبية.
78 (3-5) أحكام الحدوث
وبالرغم من تشخيص القدم في «القديم»، إلا أن الحدوث لم يتشخص هنا في «الحادث»؛ لأنه لا حاجة له؛ فالتفكير في الطبيعة وفي الموجودات لا يحتاج إلى تشخيص. وكما أن للقديم حكمين فللحادث حكمان: الأول أن الحادث هو المسبوق بالعدم؛ أي إنه كان معدوما قبل أن يكون موجودا، أوله العدم. أو هو المسبوق بالغير وهو تعريف أعم. ويركز القدماء على البداية دون النهاية، مع أن الحادث هو ما هو مسبوق بالعدم وما ينتهي إلى عدم. ويبدو أن السبب في ذلك هو ربطه بالقديم عن طريق القلب؛ فعكس القديم الحادث وعكس الباقي هو الفاني، وهو ما سيظهر في أول موضوع من الإلهيات في أوصاف الذات. والثاني أن الحدوث بهذا المعنى يستدعي مادة ومدة عند الحكماء؛ أي مادة وزمانا. ومع ذلك لم يستطع الحكماء حل قضية القدم والحدوث لهما بالرغم من التفرقة بين الإمكان الوجودي والإمكان الاستعدادي؛ فقال الحكماء بقدم المادة وقدم الحركة وقدم الزمان.
79
ويبدو أن هذين المفهومين في حقيقة الأمر القدم والحدوث كان الهدف منهما إيجاد تبرير عقلي لنظرية الخلق. وقد أدى هذا التبرير إلى أن جعل العدم هو الأصل والأساس والوجود ملحق به خارج عنه وطارئ عليه؛ فالعدم سابق على الوجود. في البداية كان العدم مع أن العدم لا وجود له عند الأشاعرة. ولا تحل النظرية كيفية خروج الوجود من العدم. وهل يخرج الشيء من اللاشيء؟ وهل تخرج المادة من اللامادة؟ وإذا كان «الله» سابقا على الخلق، فهل «الله» مساوق للعدم، وهل العدم مساوق «لله»؟ وماذا عن الواسطة بين الوجود والعدم وهو الحال؟ وهل يتم الخروج بإرادة خارجية أم بتطور طبيعي داخلي؟ ومن ثم تكون شبهة قدم العالم عند المتكلمين واختياره عند الحكماء لها ما يبررها حلا لكل هذه التساؤلات. إنه الساحر فقط القادر على إخراج الوجود من العدم في هذا النموذج؛ أي الإرادة الخارجية القادرة على إخراج شيء من لا شيء، أو هو الفعل المعجز الذي يخرق قوانين العلم والطبيعة. والسحر خداع للحواس ودوران حول انتباه الشعور. أما المعجزات فقد ارتبطت بتاريخ الإنسانية في الماضي من أجل تحرير الشعور، وبعد إكمال الغاية: استقلال العقل وحرية الإرادة، أصبح الإنسان قادرا بعقله على فهم قوانين الطبيعة الثابتة وإدراكها، كما أصبح قادرا بإرادته على تسخيرها لصالحه.
80
إن عيب الحدوث هو جعل العالم تابعا غير مستقل هشا، أقرب إلى العدم منه إلى الوجود لا استقرار فيه ولا نظام، طيعا لإرادة قاهرة تسيره كيفما تشاء. وميزته أنه يجعل الإنسان قادرا عليه، طيعا لقدرته ومستقبلا لفعله الحر، يكيفه حسبما يشاء، فينشأ الصراع بين إرادتين: إرادة الزعيم الأوحد أم إرادة الجماعة والأمة.
إن مفهومي القدم والحدوث هما في حقيقة الأمر من الأمور الاعتبارية التي توجد في الذهن لا في الخارج. وهما مفهومان متضايفان؛ إذ لا يفهم أحدهما بدون الآخر، بل ومتعارضان بقدر ما يعطى للأول يسلب من الآخر، وبقدر ما يعطى للآخر يسلب من الأول. ويكون السؤال: أيهما الأساس وأيهما الفرع؟ الحادث أولا ثم بالقلب يتحول إلى قديم؟ أم القديم أولا ثم بالقلب يتحول إلى الحادث؟ إن المشاهدة تثبت أن المعرفة إنما تنشأ من خلال الحواس، وكما وضح ذلك في نظرية العلم. وبالتالي ينشأ مفهوم الحادث أولا في ذهن الإنسان؛ إذ إنه يعيش في عالم متغير متقلب؛ عالم الكون والفساد بتعبير القدماء. ثم يتحول هذا المفهوم بفعل الإيمان أو اقتضاء لمطلب نفسي إلى النقيض وهو القديم حتى يستطيع الإنسان أن يجد اتزانه في العالم بين المثال والواقع، بين الواجب والممكن أو بين القديم والحادث؛ فالإنسان موجود بين عالمين. (4) الوحدة والكثرة
وتبلغ أيضا قمة الأبحاث النظرية في مبحث «الوحدة والكثرة»، كما كان الحال في مبحث الوجود والعدم، وهو المبحث الميتافيزيقي الأول كما هو معروف في الفكر البشري.
81
تظهر نظرية الوجود أيضا في مبحث الوحدة والكثرة، ويضم هذه المرة الميتافيزيقا والأنطولوجيا وليس الميتافيزيقا والطبيعة كما هو الحال في مبحث القدم والحدوث. وهما أيضا مفهومان متضايفان لا يفهم أحدهما إلا بالإحالة إلى الآخر. ولكن بما أنهما مفهومان مجردان، وليس أحدهما مجردا والآخر حسيا، صعب معرفة النشأة الحسية لأحد المفهومين الوحدة أم الكثرة، أيهما الأصل وأيهما الفرع؛ فالإنسان واحد والآخرون والأشياء كثيرة، فهل الوحدة أصل الكثرة استنباطا، أم إن الكثرة أصل الوحدة استقراء؟ هل الجدل النازل هو الأصل أم الجدل الصاعد؟ هل هما منهجان عقليان أم طريقان وجوديان؟ عمليتان شعوريتان أم حركتان اجتماعيتان؟ من الأعلى إلى الأدنى أو من الأدنى إلى الأعلى، أم قانونان تاريخيان من الأمام إلى الخلف أو من الخلف إلى الأمام؟ (4-1) الوحدة
الوحدة تساوق الوجود عند القدماء، فلا وجود بلا وحدة. ولما كان الوجود كثيرا، فإن الوحدة تساوق الكثرة. الوحدة والتعدد واجهتان لشيء واحد. والوحدة كون الشيء بحيث لا ينقسم إلى أمور مشاركة في الماهية، في حين أن الكثرة ما يقابلها من الاعتبارات العقلية دون أن تكون عدما لها أو ضدا أو مضايفة؛ فمقابلة الوحدة والكثرة ليست ذاتية بل عرضية. الوحدة عدم القسمة إلى أمور مشتركة، والكثرة قسمتها إلى أمور مشاركة. أما الوحدات العددية فهي وحدات مستقلة في حين أن مراتب الأعداد متباينة بالماهية. وينقسم الواحد إلى واحد بالشخص، وهو الذي يمنع نفس مفهومه عن الحمل على كثيرين، وإلى واحد من وجه وكثير من وجه وهو الواحد بالغير. والواحد بالشخص إن لم يكن له مفهوم فهو الوحدة مثل النقطة، وإن كان له مفهوم فهو إما ذات تصنع أو تفارق أو تتصل حين تشابه الأجزاء أو تجتمع حين اختلافها وهذا هو الواحد الأنطولوجي. أما الواحد من وجه والكثير من وجه؛ أي الواحد لا بالشخص، فهو إما أن يكون ماهية إذا أطلق على النوع أو يكون جزءا منها إذا أطلق على الجنس والفصل، وإما أن يكون خارجا عنها، ويكون إما محمولا أو موضوعا، وهذا هو الواحد المنطقي. كما ينقسم الواحد الوجودي إلى تام وناقص، وينقسم التام إلى طبيعي ووضعي واصطناعي. والواحد المنطقي يكون اتحادا إما بالنوع في المماثلة أو بالجنس في المجانسة أو بالعرض. والواحد بالعرض بالكم مساواة ، وبالكيف مشابهة، وبالإضافة مناسبة، وبالشكل مشاكلة، وبالوضع موازاة، وبالأطراف مطابقة.
82
يثبت هذه الأمور الحكماء وينكرها المتكلمون. ويبدو أن إثبات الحكماء هو الذي طغى على أنظار المتكلمين نظرا لدخولها كجزء من نظرية الوجود بالرغم من خشية المتكلمين من إثبات المعاني خارج الذهن خشية الوقوع في الشرك. ولما كان إثبات الحكماء صوريا خالصا، فلم يعش في وجدان الأمة. وفي حقيقة الأمر إن هذه الأمور من الاعتبارات العقلية الخالصة؛ أي إنها من وضع الشعور وإسقاطها على الواقع. الوحدة والكثرة تصوران أو نظرتان أو قطبان للشعور يشارك فيهما العقل والخيال.
83
ولكنهما يعبران عن تصور مثالي للعالم الذي هو تجريد للعواطف الدينية والمواقف الاجتماعية والسياسية؛ فالوحدة والكثرة في نشأتهما ليسا مفهومين رياضيين أو تصورين منطقيين، بل وضعان اجتماعيان وموقفان إنسانيان؛ فهناك الواحد والكثير على مستوى الطبقات الاجتماعية والأحزاب السياسية والدول المستقلة. قضية الوحدة والتنوع مثل قضية الهوية والاختلاف تظهر في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية والوطنية. هناك نظم واحدية بلا تعدد، فتظهر نظم تسلط وطغيان. وهناك نظم تعدد وتكثر فيظهر فيها التشتت والتفرق وسيادة الأقوى على الأضعف. وإذا كان القدماء قد صاغوا الأمر على مستوى صوري خالص، فإنما يرجع في حقيقة الأمر إلى موقف ديني من العالم - فالله هو «الواحد» والخلق هم الكثير - يعبر بدوره عن موقف اجتماعي وسياسي؛ فالحاكم هو الواحد والمحكمون كثيرون، وصاحب رأس المال واحد والمنتجون كثيرون، والرئيس واحد والمرءوسون كثيرون، والحق واحد والباطل كثير، والصواب واحد والخطأ كثير، والهدى واحد والضلال كثير، مما يرجعنا إلى طبيعة المجتمعات أحادية الطرف، ومما يحيلنا إلى حديث «الفرقة الناجية»؛
84
لذلك غابت في وجداننا القومي وحدة الشخصية بلا نفاق ومداهنة وتملق، ووحدة الطبقات الاجتماعية بلا أغنياء وفقراء، والوحدة الوطنية بين فرقاء النضال، والوحدة السياسية بين الدول المستقلة حديثا، والوحدة الاقتصادية بين الدول المتكاملة بالرغم من شعارات وحدة الهدف، ووحدة المصير، ووحدة الذات، ووحدة اللغة، ووحدة الدين، ووحدة الأمة. هناك الواحد بلا كثرة في النظام والحكم، وكثرة بلا وحدة في الدول والشعوب والمصالح المتباينة والأهواء المتضاربة ومعارك الحدود وحرب الإذاعات والتخوين المتبادل.
85 (4-2) الكثرة
أما مباحث الكثرة فإنها في الغالب مباحث الإثنينية، وكأن الجمع قد تقلص إلى المثنى دون ما بعده، مع أن الأصوليين قد جعلوا أقل الجمع ثلاثة. ويبدو أن التقابل بين الاثنين قسمة عقلية تساعد على تجريد العواطف الدينية ووضعها في صيغة القديم والحادث والواجب والممكن؛ فالواحد هو الواجب القديم، والكثير هو الممكن الحادث. والاثنان هما الغيران، ولا يتحدان لأن الاختلاف بين الهويتين أو الماهيتين اختلاف بالذات. الغيرية نقيض الهوية، وينقسم الاثنان قسمة عقلية مجردة صرفة، إن اشتركا في الماهية، فهما متماثلان وإلا فهما متخالفان، وإن اشتركا في الوضع فهما متلاقيان، وإلا فهما متساويان، وإن لم يشتركا فهما متباينان، وإن امتنع اجتماعهما فهما متقابلان.
86
وإن وجدا معا فهما إما ضدان أو مضافان، وإن كان أحدهما وجوديا والآخر عدميا فهما إما حقيقيان أو مشهوران. وإن لم يعتبر الوجود والعدم، فأحدهما سلب والآخر إيجاب. وقد يقتصر الأشاعرة تسهيلا للقسمة على ثلاثة أقسام: المثلان وهما الموجودان المشتركان في الصفات النفسية، المشاركة في الوجوب والإمكان والاستحالة، والضدان وهما معنيان يستحيل لذاتهما اجتماعهما في محل من جهة، ولم يشترط المعتزلة اتحاد المحل، والمتخالفان وهما موجودان لا يشتركان في صفة النفس ولا يمتنع اجتماعهما لذاتيهما في محل من جهة.
87
والمتقابلان لا يجتمعان عند الحكماء في زمان واحد في ذات واحدة من جهة واحدة. فإما أن يكون أحدهما سلبا للآخر أو لا يكون. والأول هما المتضايفان وإلا فهما الضدان. ولا يكون التضاد إلا بين أنواع جنس واحد. وما يتوهم بخلاف ذلك نحو الفضيلة والرذيلة ونحو الخير والشر فمن العدم والملكة؛ إذ التضاد فيه بالعرض. ولا تنطبق إذن هذه القسمة العقلية الصورية على الأفعال اليومية والمواقف الإنسانية. ولا تضاد إلا بين الأطراف وذلك ثابت بالاستقراء. وقد يكون التقابل بالذات بين السلب والإيجاب، أو قد يكون التضاد أقوى التقابلات.
88
والسؤال الآن ما الحكمة من كل هذه التقسيمات النظرية الصورية مسبقا دون تجارب تصدقها ودون أي موضوع تشير إليه؟ هل هي حلول نظرية لمباحث نظرية وكأننا في الرياضيات البحتة، وبالتالي استطاعت الأمور العامة أن تعطينا علما أولانيا لمقولات الفكر ومناطق الوجود أم إننا في فكر مثالي كنوع من التجريد والتنظير للفكر الديني الذي يعبر عن عواطف الإيمان؟ ألا تنتهي هذه المعادلات كلها إلى ثنائية «الله» والعالم؟ أليس موضوع الوحدة والكثرة هو على نحو ما موضوع وحدة الذات، وتعدد الصفات أول موضوع في الإلهيات؟ وهل الحياة الإنسانية والتجارب البشرية تتضمن هذه التقسيمات الرياضية؟ وماذا عن التقابل والتضاد وعدم الاشتراك في الماهية والتغاير؟ ألا توجد تجارب إنسانية مثل الحب والوفاء والإخلاص والتضحية تثبت إمكانية الاتحاد بين الاثنين المتغايرين، وأن الهوية أعمق من الاختلاف وأن الواحدية أصل الإثنينية؟ يبدو أن رغبة العواطف الدينية في التمييز بين «الله» والعالم دفعت العقل إلى أن يضحي بالتوحيد المطلوب الدفاع عنه، فانقلب الهدف إلى هدف مضاد. هذا الإثبات للإثنينية كتغاير مبدئي قد يكون وراء الازدواجية في شخصياتنا القومية وما ترتب عنها من آثار في السلوك.
89
وقد تكون وراء التشتت والتشعب والتضارب في حياتنا السياسية وكأننا أصحاب ديانات ثنوية ولسنا دعاة توحيد! (5) العلة والمعلول
والمبحث الأخير في الأمور العامة هو مبحث «العلة والمعلول»، مستعار من علوم الحكمة ومن علم أصول الفقه، وكأن علم أصول الدين وهو بصدد تأسيس المقدمات النظرية لم يستطع أن يبدع أسسا له واكتفى باستعارة أسسه من العلوم النقلية العقلية الأخرى. ويشمل المبحث أيضا مفهومين: «العلة» و«المعلول». وتوضع العلة قبل المعلول؛ أي الفاعل قبل الفعل، والسبب قبل المسبب كما هو الحال في الواجب والممكن، والقدم والحدوث. وهو الوضع الاستنباطي العام الذي يبدأ من الكل إلى الجزء أو ما يسمى بالتنزيل دون البداية بالمعلول والانتهاء إلى العلة استقراء كما هو الحال في الفكر العلمي بوجه عام. وهناك عدة تعريفات للعلة كلها تكرر نفس اللفظ وتكون أقرب إلى تحصيل الحاصل، منها: «ما كان المعتل بها معتلا» أو «ما أوجبت معلولها عقبها على الاتصال وإن لم يمنعه مانع» أو «التي تغير حكم محلها وتنقله من حال إلى حال» أو «ما تجدد الحكم بتجددها» أو «الصفة الحالة للحكم أو المثيرة له أو المؤثرة فيه» أو «كل ما أوجب استحقاقه تسميته به أو الصفة الموجبة لمن قام به حكما».
90
فهي كلها تعريفات نظرية لا تختلف كثيرا فيما بينها من حيث دلالاتها؛ فالمبحث هنا عن الأسس النظرية العامة للعلم، وليس تعريفا محددا لإحدى مقدماته. وقد تكون معنى أي ليست ذواتا قائمة بل معاني خشية التعدي على الإرادة «الإلهية» المشخصة وإنكار أية فاعلية لها. وقد تكون العلة تصورا بديهيا ليس في حاجة إلى تعريف.
91
وفي كل الأحوال يقوم مبحث العلة والمعلوم على فكرة الاحتياج مثل مباحث الواجب والممكن والقدم والحدوث؛ فكل شيء محتاج إلى غيره، وهو احتياج ضروري؛ فالمحتاج إليه هو العلة والمحتاج هو المعلول، ويجعل الاحتياج العلة مستقلة والمعلول تابعا، وتكون العلاقة بينهما علاقة الاستقلال بالتبعية. والعلة لا تتعدى محلها كما هو الحال في العلم الطبيعي، أو يتعداها كما هو الحال في العلم الإلهي؛ لأن «الله» مريد بإرادة حادثة قائمة بذاتها؛ فتوابع الحياة كالعلم والقدرة إذا قامت بجزء من الحي أوجبت للجميع حكمها مع أن هذا يتوقف على الموقف الخاص كما يتوقف على قوة العلة والتأثير وعلى نطاق العلل الطبيعية والموانع والشروط، وليس فقط على العلة المشخصة.
92
والعلة والمعلول أو العلية والمعلولية اعتباران متضايفان لا يفهم أحدهما إلا بالآخر من لواحق الوجود والماهية ومن الاعتبارات العقلية التي لا تتحقق في الأعيان وإلا لزم التسلسل عند المتكلمين. ولا يجتمعان في شيء واحد إلا باعتبارين كالعلة المتوسطة التي هي علة لمعلولها ومعلولة لعلتها. والسؤال الآن: هل هما من لواحق الوجود والماهية، أم بحث مستقل من الأمور العامة؟ وإذا لم يكن لها وجود في الخارج، فهل قوانين الطبيعة من وضع الذهن؟
وتطغى مباحث الحكماء على مبحث العلل، خاصة في نظرية العلل الأربع: المادة والصورة للمركب والفاعلية والغائية للبسيط؛ فعند الحكماء لا يكون البسيط قابلا وفاعلا، وهو تصور تنزيهي للبسيط، وكأن الفاعلية شرف والتأثر نقص، وكأن العلية كمال والمعلولية نقص؛ فالعلة عند الحكماء إما جزء الشيء أو خارجا عنه. والأول إما الصورة إن كان بالفعل أو المادة إن كان بالقوة. والمادة لها أسماء عدة؛ فهي القابل والعنصر في البداية «والأسطقس» في النهاية. والمادة والصورة علتان للماهية والوجود. أما الثاني فإما ما به الشيء وهو الفاعل، أو ما لأجله الشيء وهي الغاية، وكلاهما علة الوجود. الصورة والمادة للمركب، والغاية لا تكون إلا لفاعل مختار. وهنا تبدو نظرية العلل الأربع معبرة عن تصور مثالي للعالم الذي يعبر بدوره عن عاطفة دينية متطهرة. ويبدو فيها «الله» علة فاعلة وعلة غائية في آن واحد، متقدما على العالم ولاحقا عليه، يدفع بالإرادة ويحرك بالعشق. ثم يستعير المتكلمون بعض أحكام العلل من الحكماء، منها أن الواحد بالشخص لا يعلل بعلتين مستقلتين؛ لأن الاحتياج للعلية وليس للعلل واحة أم كثيرة؛ ولأن العلتين أجزاء لعلة تامة واحدة. وأما المثلان فهما واحد بالنوع ويجوز تعليله بعلتين مستقلتين. ويمكن لمعلولات كثيرة أن يكون لها علة واحدة بسيطة. وليس السبب في ذلك أن جميع الممكنات مستندة إلى «الله» فذلك هو المطلوب إثباته؛ لذلك منعه الحكماء إلا بتعدد آلة أو شرط أو قابل منعا للإطلاق. كان يمكن لمبحث العلة والمعلول والأمثلة المعطاة من الحرارة والبرودة والسخونة أن تكون مدخلا للعلم الطبيعي وأن يتحول المنهج من القسمة العقلية إلى التجربة الفعلية فينشأ العلم وتتحول ميتافيزيقا الوجود إلى علوم الطبيعة ولأصبح التوحيد مقدمة لنشأة العلم والتوجه نحو العالم بدلا من التعبير عن العواطف الدينية بقسمة عقلية متطهرة والاتجاه خارج العالم. لقد استطاع الحكماء تفصيل العلل المادية؛ فالقوة الجسمانية لديهم تفيد أثرا متناهيا في المدة والشدة والمدة؛ لأن كل قوة في المادة لها مقاومة وحركة قسر ذاتي. إلا أن تدخل الفكر الإيماني التطهري يقضي على الفكر العلمي كي يوحي بأن العلة البسيطة وحدها هي التي لها تأثير غير متناه. إن بزوغ الفكر العلمي من خلال الفكر التطهري ليبدو واضحا في مبحث العلة والمعلول، ويتم الصراع بين تعدد العلل الثانية ووحدة العلة الأولى، وكأن مبحث الوحدة والكثرة هو الذي ساد مبحث العلة والمعلول خاصة عند الحكماء.
93
ولكن تبارى المتكلمون في مبحث العلة والمعلول لإثبات امتناع الدور واستحالة التسلسل إلى ما لا نهاية، وضرورة الانتهاء إلى علة ليست معلولة لعلة أخرى، وكأن العلاقة الدائرية بين العلة والمعلول، أن تكون العلة معلولا وأن يكون المعلول علة إلى ما لا نهاية، وكأن هذه العلاقة مضادة للفكر الديني الطولي التطهري. ولماذا يكون الدور ممتنعا أي أن يكون شيئان، كل منهما علة للآخر بواسطة أو دونها؟ ولماذا التفكير في العلة والمعلول ببداية مطلقة وفي خط طولي؟ ولماذا لا تكون العلة معلولا ويكون المعلول علة في دورة أبدية مثل الماء والبخار والطاقة والمادة؟ وفي المثل المشهور بين «الفرخة والبيضة»، لماذا البحث عن «بيضة» أو «فرخة أولى»؟ وأي التصورين أقرب إلى العلم، التصور الطولي أم التصور الدائري؟ أي التصورين يعبر عن الفكر الديني؟ صحيح أن العلة مع المعلول، فلا معلول بلا علة ولا علة بلا معلول. ولكن حتى هذا لم يصل إليه وجداننا القومي حتى الآن؛ إذ نرى عللا بلا معلولات، ومعلولات بلا علل، ولا يوجد رباط ضروري بين العلة والمعلول مما يسبب نقل «التكنولوجيا» في مجتمع متخلف، ومعالجة قضية التقدم من منظور متخلف.
94
ولماذا يستحيل التسلسل إلى ما لا نهاية، أن يستند الممكن إلى علة والعلة إلى علة، وهو أقرب إلى تصور اللانهائية أساس التوحيد؟ لماذا لا بد أن نصل بالضرورة إلى علة أولى تكون هي علة العلل؟ أليس هذا هو الفكر الديني المسبق الذي يقوم على افتراض بداية أولى ونهاية أخيرة، وغاية قصوى وبقاء أبدي ... إلخ؟ إن كل الأسباب التي تقال لإثبات استحالة التسلسل إلى ما لا نهاية لتعبر عن افتراضات مسبقة من العقل التطهري مثل أن كل ممكن في حاجة إلى واجب. هذا افتراض مسبق، وإسقاط مقولتين دينيتين عقليتين على مفهوم علمي طبيعي وهو العلية. إن امتناع التسلسل لا يكون إلا في أمور موجودة بالفعل وليست متوهمة أو اعتبارية خالصة. وفي الطبيعة دورات مستمرة، ولا توجد بداية مطلقة ولا نهاية قصوى. يقوم الفكر العلمي على التواصل والاستمرارية وليس على الانقطاع. والعلة والمعلول وما بينهما متناهيان. ولكن ذلك لا يعني تحويلهما أو على الأقل واحدا منها إلى الضد؛ أي إلى علة أولى؛ فالدافع لذلك الرغبة في تحجيم العالم ورده إلى حدود من أجل إطلاق قوى طرف آخر تسيطر عليه وتحتويه.
95
ويجوز أن يؤدي تسلسل العلل إلى زيادة المعلول؛ لأنه يمكن أن يكون لعلة واحدة أكثر من معلول.
96
وتتداخل مباحث الأصول في السبب والشرط والمانع والصحة والبطلان، دون العزيمة والرخصة عند المتكلمين، وهي أحكام الوضع الخمسة،
97
كعرض نظري خالص دون أن تكون مرتبطة بالأفعال أو موجهة للسلوك كما هو الحال في علم أصول الفقه. لا تتحقق العلة إلا باجتماع الشرائط وانتفاء الموانع. ولكن الشرط جزء من الفاعل؛ لأن الفاعل لا يكون إلا باستجماع الشرائط وامتناع الموانع. وعدم المانع ليس جزءا من الوجود، بل مجرد عرض طارئ كاشف عن شرط وجودي. ويبين الشرط والمانع أن العلة والمعلول تتعلق بأمور تتحقق وليس بمقولات نظرية صرفة.
ويبدو أن مبحث العلة والمعلول يختلف باختلاف نفي الأحوال أو إثباتها، مما يدل على أهمية الحال كواسطة بين الوجود والعدم؛ فعند إثبات الحال تكون العلة صفة توجب لمحلها حكما فتخرج الجواهر. العلة هنا صفة وليست مادة وهو أقرب إلى تعريف الأصوليين. وحكم الصفة لا يتعدى المحل. المعلول الحكم الذي توجبه الصفة في محلها؛ فالمعلول ليس مادة بل حكما. العلة صفة والمعلول حكم وهو أقرب إلى منطق الأفعال عند الأصوليين منه إلى فلسفة العلم عند الحكماء. وحكم العلة يتعدى محلها ولا يقتصر عليه كما هو الحال عند منكري الأحوال. العلة هنا شاملة وعامة وليست قاصرة وخاصة؛ لأن العلة الأولى تقبع في الماوراء الذهني. والعلة وجودية سواء ضرورة أو استدلالا وذلك نفي لكون العدم علة. والعلة العقلية مطردة كلما وجد الحكم ومنعكسة، كلما انتفت العلة انتفى الحكم. وكل مطردة منعكسة وليس كل منعكسة مطردة؛ فالإثبات أساس النفي وليس النفي أساس الإثبات؛ لذلك يظل برهان الخلف برهانا سلبيا خالصا. وإيجاب العلة ليس مشروطا بشرط، إنما الشرط في التحقق. ولا توجب العلة الواحدة حكمين مختلفين نظرا لضرورة وجود مقاييس عامة للأفعال. ولا يثبت حكم بعلتين على عكس نفاة الأحوال حتى لا تختلط الأفعال. والفرق بين العلة والشرط أن العلة مطردة والشروط غير مطردة، والعلة وجودية والشرط قد يكون عدميا أو متعددا أو مركبا أو محل الحكم أو صفة. والعلة لا تتعاكس بخلاف الشرط. والشرط قد لا يبقى ويبقى المشروط. والصفة لها شرط وليس لها علة. والواجب لا يتحقق على عدم الشرط. والعلة مصححة اتفاقا وفي الشرط خلاف.
98
وآخر قسم في مبحث العلة والمعلول يعرضه القدماء هو فيما لا يصح تعليله وما يصح، وهو ما يعادل مبحث الصحة والبطلان في علم أصول الفقه؛ فما لا يصح تعليله هو تعليل الذات في كونها ذاتا، فتلك بداهة شعورية ووضوح وجودي لا يحتاج إلى تعليل. ولا يصح تعليل العدم والانتفاء وكل ما يؤدي إلى صفة النفي؛ لأن العدم ليس موجودا. ولا يصح تعليل صحة كون العالم معلوما، فذلك تحصيل حاصل. والفعل الواقع لا يحتاج إلى علة؛ لأن الوقوع ذاته خير دليل على وجود العلة دون ما حاجة إلى إثبات. ولا تعلل أوصاف الأجناس، لما كان السواد سوادا والجوهر جوهرا فالهوية لا تعلل. ولا يعلل التماثل والاختلاف؛ فالتضايف بداهة حسية وقانون قلب عقلي. كما لا يعلل تضاد المتضادين وتغاير الغيرين.
99
أما ما يصح تعليله فهو كل حكم ثبوت لذات قائمة بنفسها عن معنى قام بها مثل كون العالم عالما والقادر قادرا (إثبات الصفات للذات). والواجب لا يمتنع تعليله لوجوبه كما أن الجائز لا يجب تعليله لجوازه (البراهين على وجود «الله» أو إثبات الصانع)؛ فالحادث موجود وحسي، والواجب افتراض عقلي في حاجة إلى إثبات. ويصح تعليل الأحكام المتوقفة على الدليل والتي لا يقطع فيها بإثبات أو نفي إثبات للشيء، وكأن التعليل عامل مكمل للاستدلال.
100
ويتضح من هذا كله أن العلة والمعلول والشرط والمشروط كلها مفاهيم مساعدة للفكر الديني العقلي. وأن الخلاف حول الأمور العامة هو في حقيقة الأمر خلاف حول تصور العقائد وكيفية تنظيرها يبدو فيه الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني، بين الفكر الطبيعي والفكر الإلهي. كما يتضح من هذه الأمور العامة القسمة الثنائية للوجود التي تعبر عن التصور المثالي للعالم، وريث التصور الديني التقليدي مثل الوجود والعدم، الجوهر والعرض، القديم والحادث، وهي القسمة التي تعطي أحد الطرفين كل الثقل الأنطولوجي ثم تسلبه كلية عن الطرف الآخر أو على الأقل تجعل أحد الطرفين شارطا والآخر مشروطا، وتجعل صلتهما صلة التابع بالمتبوع وهو ما رسخ في وجداننا القومي حتى الآن.
يبدو مبحث العلة والمعلول على أنه مبحث طبيعي في فلسفة العلوم أو في المنطق التجريبي، أو مبحث أصولي يحلل منطق السلوك، أو مبحث فلسفي عام من العلة الأولى والعلل الثانية. وفي هذه الحالة الأخيرة يكون تعبيرا من الموقف الديني الذي يعبر عن نفسه بالطهارة العقلية التي تعبر عن نفسها بدورها في قسمة عقلية ذات طرفين تنظمهما علاقة شرف؛ فالبسيط أشرف من المركب، والكلي أفضل من الجزئي، والذاتي سابق على العرض، والعام له الأولوية على الخاص؛ وذلك لأن العلة أشرف من المعلول وسابقة عليه. وهل مبحث العلل أدخل في نظرية العلم أو في نظرية الوجود؟ إلى أي حد يمكن أن يكون مبحث العلل أساسا عقليا أو وجوديا للعقائد؟ وما اختلاف ذلك عن علوم الحكمة وعلم أصول الفقه؟ أم إن هذه الأسس العقلية هي التي أتاحها العصر والتي كان لا بد وأن تدخل في البحث عن أسس عقلية للعقائد؟
101
وهل هي مجرد أبحاث مجردة ميتافيزيقية خالصة، أم إنها تتجاوز حدود نظريتي العلم والوجود في المقدمات النظرية إلى توجيه السلوك وتنميط الأفعال؟ وأحيانا يثور الشعور كله باسم التجربة الحية ضد هذه التقسيمات العقلية التي تترك الشعور فارغا من أي مضمون حتى لو عبرت هذه التقسيمات عن الطهارة العقلية والنظرة المثالية للعالم تعبيرا عن الموقف الديني.
102
هل هذه الأمور النظرية العامة مستمدة من طبيعة العقل ويمكن تطبيقها على معطيات دينية أخرى، أم إنها مستمدة من العقائد «الإسلامية» وبالتالي يمكن لكل عقائد إقامة أمور عامة نظرية خاصة بها؟ يسمح الافتراض الأول بإقامة علم بديهي أولاني لجميع العقائد
Axiomatique
بينما يحتاج الافتراض الثاني إلى وضع الأمور العامة الخاصة بكل نسق عقائدي في نظرية أعم تكون هي المقدمات الأولية لكل نظام عقائدي.
103
والسؤال الأهم: هل التزم علم أصول الدين بهذه «الأمور العامة» أم إنه خرج عليها في حومة الحماس للعقائد، وفي فورة الانفعال الديني حتى تساقطت المقدمات النظرية بعد أن أصبحت فارغة بلا مضمون، وعادت العقائد كما بدأت مضمونا للإيمان؟ وهل الأمور العامة الآن هي هذه الأطر النظرية التي تعتمد على القسمة العقلية والانتهاء إلى طرفين ومنطق علاقات بين الأعلى والأدنى، أم إنها الظروف الاجتماعية والسياسية التي تعيشها الأمة والتي تفرض إطارها النظري؟ لقد كانت العقائد قديما في حاجة إلى تنظير من أجل الدفاع عنها ضد المخاطر النظرية التي واجهتها من العقائد المجاورة. أما الآن فالعقائد في حاجة إلى تنوير ضد المخاطر العملية التي تواجهها والتي تهدد الأنظمة المنبثقة منها. فالأمور النظرية العامة التي صاغها القدماء بحثا عن أسس عقلية للعقائد هي الأوضاع الخاصة لدينا التي تفرض علينا الدفاع عن مصالح الأمة.
104
ثالثا: فينومينولوجيا الوجود (الأعراض)
تعني كلمة «فينومينولوجيا» هنا ببساطة ظواهر الوجود لما كانت الأعراض هو ما يظهر، وما تبدو الأجسام من خلاله.
1
فقد كانت «ميتافيزيقا» الوجود أو الأمور العامة المدخل النظري لنظرية الوجود عن طريق التوحيد الصوري بين العقل والوجود. أما الآن فهو المدخل الطبيعي الواقعي الحسي الاستقرائي للوجود، الوجود كما يبدو من خلال الظواهر. ومن ثم فهو مبحث في «الظاهريات». قدمت «الأمور العامة» الأطر النظرية لظواهر الوجود، الأولى كصورة والثانية كمضمون؛ ومن ثم تتحول وحدة العقل والوجود من مستواها الصوري في «ميتافيزيقا» الوجود أو «الأمور العامة» إلى مستواها المادي في «فينومينولوجيا» الوجود. (1) تعريف العرض وإثباته وقسمته وأحكامه وغايته
العرض صفة للشيء، والأعراض مظاهر الطبيعة، ما يظهر للإنسان كموضوع للوصف. تتصدر مبحث الأعراض إذن نظرية في الصفات؛ إذ إنها أعم من الأعراض، والأعراض إحدى حالاتها. وبصرف النظر عن هذا المدخل النظري للأعراض وصلتها بالصفات، وهل الصفات مادية في الشيء وبالتالي تكون موضوعا للعلم الطبيعي أم معاني في الشعور وبالتالي تكون موضوعا للفلسفة، فإن تعريف العرض عند المتكلمين هو أنه موجود قائم متحيز أو ما لو وجد لقام بالتحيز لأنه ثابت في العدم.
2
وعند الحكماء ماهية إذا وجدت في الخارج كانت في موضوع؛ أي في محل مقوم.
وإثبات الأعراض معلوم بالحس والمشاهدة. فإذا ثبتت الأعراض ثبتت الجواهر بالضرورة، فلا توجد الأعراض إلا في محل وهو الجوهر. ومن ثم يستحيل إثبات الجوهر جسما دون إثبات للأعراض؛ لأن الجوهر لا يعرف إلا من خلال الأعراض، كما أن الوجود لا يعرف إلا من خلال مظاهره. وإنما تعبر هذه المحاولة عن رغبة في إدراك الثبات لا الحركة، والدوام لا التغيير. وإثبات الأعراض أبعاضا للأجسام مشكلة لفظية؛ فسواء كان العرض في الجسم أو بعض الجسم فهو موجود. وإثبات الأعراض صفات للأجسام أو معاني لا هي الأجسام أو غيرها محاولة لإدراك الطبيعة في بعديها الصوري والمادي، العقلي والحسي. إن إثبات الأعراض في نهاية الأمر هو إثبات لبعدي الطبيعة: الأعراض والجواهر، لما كانت الجواهر لا تتعرى عن الأعراض ولما كانت الأعراض لا توجد إلا في محل. ومن ثم يصعب نفي الأعراض.
3
وتنقسم الصفات الثبوتية باعتبارها أعراضا إلى صفات نفسية، وهي التي تدل على الذات مثل الجوهر والوجود أو الذات، وإلى صفات معنوية، وهي التي تدل على معنى زائد كالتحيز والحدوث وقبول الأعراض.
4
وهي نفس القسمة القديمة للممكن عند الحكماء أو للحادث عند الفلاسفة إلى جوهر وعرض؛ فالممكن إما أن يكون في موضوع وهو العرض أو لا في موضوع وهو الجوهر. والحدث إما أن يكون متحيزا وهو الجوهر أو قائما بالتحيز وهو العرض أو لا متحيزا أو لا قائما بالتحيز. وتدل هذه القسمة الأولى على الرغبة في البحث عن نقطة يقينية بديهية تبدأ منها قسمة الوجود تكون هي التموضع أو التحيز أو الحلول أو القيام؛ أي تحقيق الوجود في صورته الأولى، ثم تتوالى التقسيمات تبعا لضرورة العقل حتى يتم استنباط الوجود كله ظواهر وأجساما من ضرورة العقل. وقد تنقسم الصفات الثبوتية إلى صفات نفسية وصفات معنوية كالصفة المعللة، وصفات حاصلة بالفاعل وهي الحدوث، وصفات تابعة للحدوث ولا تأثير للفاعل فيها منها واجبة كالتحيز وممكنة تابعة للإرادة. فإذا كان القسمان الأولان يؤسسان العلم الطبيعي كان القسمان الآخران يؤسسان العلم الإنساني باعتبار كون الشيء قابلا للفعل والأثر.
5
فإذا كانت هذه القسمة الأولى للأعراض باعتبارها صفات من أجل تعريف العرض، فإن قسمة الأعراض من أجل تصنيفها هي التي تكشف عنها؛ فالأعراض عند الحكماء تنحصر في المقولات التسع اعتمادا على الاستقراء؛ فالعرض إما يقبل لذاته القسمة وهو الكم، ويدخل فيه المتصل والمنفصل، أو يقتضي النسبة لذاته وهي النسبة؛ أي يكون مفهوما ومعقولا بالنسبة إلى الغير. والثاني ما لا يقبل القسمة وهو الكيف الذي لا يقبل القسمة ولا النسبة. وتشمل النسبة سبعة أعراض: الأين، والمتى، والوضع، والملك، والإضافة، وأن يفعل، وأن ينفعل؛ فالأعراض التسعة هي الكم والكيف، ثم تشمل النسبة باقي الأعراض السبعة. ثم انفصلت الإضافة من النسبة وكونت قسما مستقلا، وبالتالي أصبحت الأعراض أربعا: الكم والكيف والنسبة والإضافة.
6
وهنا تبدو المقولات التسع تفريعات أكثر مما تتحمل ضرورة العقل التي ترضى أولا بالقسمة الثلاثية نسبة وقسمة وسواهما بعد القسمة الثنائية للممكن في الموضوع وهو العرض والممكن في اللاموضوع وهو الجوهر. وهنا يتم احتواء المقولات الطبيعية في الممكن ما دامت لا تعارض العقل، خاصة وأنه لا يشار إلى مصادر تاريخية لها في حضارات أخرى قديمة أم مجاورة.
7
ليست الأعراض أجناسا لما تحتها، أو أنواعا لما فوقها؛ فليس الأمر هنا يتعلق بمنطق الدوائر المتداخلة والاستغراق، بل صفات الأشياء على مستوى واحد في الطبيعة. ويدخل في تقسيم الإدراك داخل الكيفيات النفسانية قسمته إلى ظاهر وباطن؛ والباطن إلى تصور وتصديق؛ والتصديق إلى جازم وغير جازم إلى آخر ما ورد من قبل في نظرية العلم، مما يدل على أن الفصل بين نظرية العلم ونظرية الوجود، بين الذات والموضوع لا وجود له.
أما عند المتكلمين، فتنقسم الأعراض إلى نوعين: الأول ما يختص بالحي وهي الحياة وما يتبعها من الإدراكات وغيرها كالعلم والقدرة. والثاني ما لا يختص بالحياة كالأكوان والمحسوسات؛ أي الظواهر الطبيعية الصامتة. وفي حقيقة الأمر إن كلا القسمين ينتميان إلى الظواهر الحية مع اختلاف في الدرجة لا في النوع؛ فالمحسوسات موضوعات للحواس، والحواس أحد مظاهر الحياة النفسية والبدنية، والأكوان لا تعرف أيضا إلا من خلال الحواس، والحواس مظاهر حية للإنسان. الظواهر الحية إذن هي أول ما يعرفه الإنسان من العالم، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة تظهر الحياة للإنسان في العالم قبل أن يظهر له أي شيء أو طرف آخر مثل «الله». ويظهر الإنسان ككائن حي، ويظهر العالم كموضوع مدرك للكائن الحي؛ وبتعبير آخر تظهر الحياة كذات وكموضوع. وظواهر الحياة الذاتية والموضوعية معا ظواهر متناهية مرئية وليست ظواهر افتراضية؛ أي إن الأعراض المرئية الملموسة هي موضوع العلم الأول. تقسيم العرض إذن إلى غير حي وحي قسمة متداخلة؛ فالمحسوسات جزء من الحي. والألوان والأضواء مدركات للبصر. والأصوات والحروف من مدركات السمع. والحرافة والمرارة والملوحة والحلاوة، والدسامة والحموضة والعفوصة والقبض والتفاهة مدركات للذوق. والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والثقل والخفة، والصلابة واللين مدركات اللمس. فالمحسوسات ليست أجساما طبيعية، بل هي مدركات من عضو حي وهو جسم الإنسان؛ لذلك نشأ التكرار في وصف العرض الحي بأنه سمع وبصر. وإذا عرفنا أن الحواس الظاهرة والباطنة موضوع تحليل في العلوم الضرورية، المحسوسات والمشاهدات والتجريبيات والحدسيات وبداءات العقول وجدنا أن وصف الإنسان قد تكرر ثلاث، مرات مرة في نظرية العلم وأخرى في أقسام العرض غير الحي وثالثة في أقسام العرض الحي، وكأن الأولى نظرية في العقل، والثانية نظرية في الموضوع، والثالثة نظرية في الذات. ويلاحظ على تصنيف المتكلمين تفصيل بعض الأعراض دون البعض (الأكوان، الألوان)، ووضع عدم الأعراض مثل الجهل والصمم والعمى، ووضع موضوعات من نظرية العلم مثل الشك والاعتقاد، وترك البعض الآخر مثل الصحة والمرض.
8
ويلاحظ أن قسمة المتكلمين ذات طابع حسي؛ فهي تقسم المحدث، وليس الممكن؛ أي ما هو قائم في العالم بالفعل وليس ما هو مفترض بالذهن كما يفعل الحكماء؛ ومن ثم دخلت لديهم في القسمة الأعراض «الروحانية». وقد تزيد بعض التقسيمات على العرض المشروط بالحياة التحرك، وتجعل مظاهر العلم كلها من حياة وعلم وقدرة وإرادة وكلام ولذة وألم وبصر وشم في قسم واحد هو الإدراك، ثم يقسم الإدراك قسمين: إدراك الجزئيات بالحواس وإدراك الكليات. وهنا تقترب القسمة من قسمة الحكماء بإضافتها الحركة وهو ما سماه الحكماء التهيؤ بالدفع (قوة) أو بالتأثر (لا قوة).
وفي كلتا القسمتين عند الحكماء والمتكلمين يبدو الإنسان والطبيعة، وتبدو الظواهر الإنسانية الطبيعية كنوع من العلاقة بينهما.
9
فوجود الإنسان في الطبيعة هو أول مظاهر الوجود الإنساني. الإنسان يوجد مع الآخر، ويتعامل مع الأشياء. ولولا سقوط هذه المقدمات النظرية لما غاب هذا البعد الطبيعي للإنسان أو بعد الإنسان الطبيعي من وجداننا المعاصر، والسؤال الآن: هل هذه القسمة للأعراض طبيعية صرفة أم إنها تخدم غاية خارج الطبيعة؟ إن إدخال قسم لا يدخل في العرض أو الجوهر (الجسم) هو إفساح المجال من جديد إلى وجود عالم آخر مفارق لهذا العالم. وقد يكون الهدف من إثبات الأفعال كأعراض نزع مسئولية الإنسان عنها وحريته في الإتيان بها وممارستها.
10
ومع ذلك فإن قسمة الأعراض على هذا النحو، خاصة عند المتكلمين، لا توحي بهذا القصد قدر ما توحي به قسمة الجواهر التي تسمح أكثر من الأعراض بالجواهر المفارقة.
ويتفق الحكماء والمتكلمون بوجه عام على أحكام الأعراض؛ فهي مرة مذكورة في قسمة الحكماء ومرة أخرى في قسمة المتكلمين. ومعظمها يبدو معقولا وإن كان يكشف عن الصراع بين الفكر العلمي الطبيعي والفكر الديني الإلهي، فمنها: (أ)
لا يجوز قيام العرض بالعرض عند أكثر العقلاء خلافا للفلاسفة، وذلك اعتمادا على حجتين: الأولى أن قيام الصفة يعني تميزها في الموصوف وليس في الصفة، والثانية أنه لو قامت الصفة بصفة لزم التسلسل إلى ما لا نهاية ولا بد من الانتهاء إلى الجوهر كحامل للأعراض. وقد احتج الفلاسفة بأن السرعة والبطء قائمان بالحركة دون الجسم، والخشونة والملامسة قائمان بالسطح دون الجسم مع أن الحركة والسطح كليهما أعراض للجسم. وقد يرجع الخلاف بين المتكلمين والحكماء إلى وجود نموذج «إلهي » مسبق، وهي قضية الذات والصفات التي توازي قضية الجوهر والأعراض؛ فالقيام لا يستدعي التحيز عند الفلاسفة؛ لأن صفات «الله» قائمة دون تحيز، وبالتالي يمكن قيام العرض بالعرض! ويكون السؤال أي المسألتين هما الأصل وأيهما الفرع؟ إن الجوهر والأعراض في العلم الطبيعي هو أساس الذات والصفات في العلم «الإلهي»؛ نظرا لنشأة المعارف في الحس، ثم قياس الغائب على الشاهد كما هو معروف من نظرية العلم.
11 (ب)
لا ينتقل العرض من محل إلى محل عند المتكلمين، وبالتالي تبقى صفات الأشياء ملازمة لها، ولأن تشخصه ليس لذاته عند الحكماء. والحقيقة أن هذه مسألة علمية خالصة. والمشاهد أنه يجوز انتقال العرض من محل إلى محل كانتقال الروائح إلى ما يجاورها والحرارة إلى ما لا يلامسها بصرف النظر عن فاعل هذا الانتقال، سواء كان الفاعل المختار أو الفيض من العقل «الفعال» للاستعداد الذي يحصل من المجاورة! ويبدو أن الرغبة في تثبيت العرض في المحل ما زال يهدف إلى غاية أبعد، وهو تثبيت العلاقة بين الذات والصفات في موضوع التوحيد. (ج)
لا يقوم العرض بمحلين ضرورة ولا يحل العرضان في محل واحد؛ وذلك كما لا يوجد الجسم في مكانين ولا يوجد المكانان في جسم؛ فالعرض يتعين في محله. ولا يفصل في ذلك في حقيقة الأمر إلا الفكر العلمي. يخشى من هذا الحكم تقطيع العالم وتجزئته وتفرد ظواهره منعا لاستمرار العالم واطراده، وكأن الاستمرار والبقاء صفات للإرادة الشخصية خارج العالم وليس للظواهر الطبيعية في العالم. وقد جوز بعض قدماء المتكلمين قيام العرض بمحلين في التأليف مثل الجوار والقرب؛ فالعرض لا يخص المحل وحده بل يعم أكثر من محل. يوجد اللون والرائحة في أكثر من شيء. هذه التجزئة الأشعرية إضعاف للعالم وتقوية للإرادة المشخصة، في حين أن هذا إضعاف لها؛ لأن بقاءها مشروط بفناء العالم وليس بقاء من ذاتها بالاستقلال عن العالم بالرغم من بقائه.
12 (د)
العرض لا يبقى زمانين في علم الأشعرية ؛ لأنه يقتضي التجدد المستمر وتخصيص كل وقت بوقته بفعل القادر المختار.
13
واعتمدت في ذلك على حجج ثلاث: الأولى أنه لو بقيت الأعراض لكانت باقية، والبقاء عرض، ولا يقوم العرض بالعرض، وهذا إدخال للعقل في دوائر مغلقة منعكفا على ذاته وتحويله إلى جدل فارغ بلا مضمون. والثانية أنه خلق مثله في الحالة الثانية، ولو بقي لاجتمع المثلان. وهذا افتراض مسبق لإفساح المجال للقدرة «الإلهية» التي تنفي ما قامت به أولا بلا سبب أو علة، بل لمجرد إظهار القوة على حساب العالم. والثالثة أنه لو بقيت لامتنع زوالها، وكأن وظيفة القدرة «الإلهية» تدمير العالم لتثبت ذاتها. وهذا كله يقتضي أن تكون الظواهر الطبيعية غير مستقرة بذاتها، بل تحتاج إلى بقاء وتجدد باستمرار بتدخل إرادة خارجية، وهو افتراض ميتافيزيقي خالص لا يؤثر في الظواهر الطبيعية ما دامت قائمة ومطردة. ولا يؤثر إلا إذا تجددت الظواهر وتحولت مما يبرر تدخل إرادة خارجية. وهو موقف يهدم العلم الطبيعي ويدافع عن الإرادة «الإلهية» على حساب استقلال الطبيعة وقوانينها، وكأن الدفاع عن الإرادة «الإلهية» لا يكون إلا بهدم أسس العلم وبقاء العالم. أما الحكماء فقد قالوا ببقاء الأعراض، وما لا يبقى يختص بوقته لا قبل ولا بعد، وهو أقرب إلى التصور العلمي وبقاء ظواهر الطبيعة. واعتمدوا في ذلك أيضا على حجج ثلاث: الأولى أن المشاهدة تقر استمرار الظواهر؛ أي إثبات العالم دون نفيه دون تدمير لهذا التصور الحسي العلمي بأي افتراض ميتافيزيقي مسبق. والثانية أنه لا يجوز مثله في الأجسام؛ أي إثبات الأجسام وبقاؤها في العالم دون تدميرها أو إلحاقها بإرادة تبرر وجودها في كل لحظة وجود. والثالثة أنه يجوز إعادة العرض في الوقت الثاني، وبالتالي فوجوده أولى.
14
ويبدو من الموقفين الفرق بين الفكر الديني عند الأشاعرة وبعض المعتزلة، والفكر العلمي عند الحكماء. وقد يرجع الخلاف أساسا إلى تصور الزمان، الزمان المتقطع المتجدد في كل لحظة عند الأشاعرة مما يسمح بتدخل الإرادة «الإلهية» والزمان المتصل المستمر عند الحكماء الذي تسري فيه قوانين الطبيعة.
وبالإضافة إلى أحكام الأعراض ، يعرض القدماء عدة مسائل مكملة حول بقاء الأعراض وفنائها وجنسها ورؤيتها، لم تتحول بعد إلى أحكام صريحة عليها اتفاق أو اختلاف. يتفق الأشاعرة والمعتزلة معا على عدم بقاء الأعراض. ويبدو أن الدافع في ذلك هو تخصيص وصف البقاء للذات «الإلهية»، كما يبدو ذلك في موضوع التوحيد. ويكون السؤال: أيهما أكثر أثرا في حياة الناس وصالحهم، فناء الأعراض أم بقاؤها؟ وهي مسألة فرعية على موضوع الفناء والبقاء بوجه عام، سواء للأجسام أم للأعراض.
15
ومن ثم كان السؤال الثاني: هل تفنى الأعراض؟ وهل تفنى بفناء أو تبقى ببقاء؟ واضح أن القضية ليست سؤالا علميا بقدر ما هو تمرين عقلي سابق لأوانه على موضوع الذات والصفات في موضوع التوحيد. وبالتالي فهو ليس سؤالا علميا بقدر ما هو افتراض ميتافيزيقي.
16
ويكشف عن ذلك السؤال الثاني بعد الإجابة المعروفة سلفا بفناء الأعراض، وهل تجوز إعادة الأعراض؟ ولما كان المعاد ضمن نسق العقائد كانت الإجابة معروفة سلفا؛ ومن ثم تحول السؤال العلمي في نظرية الوجود إلى إجابة إيمانية صرفة، وكأن علم أصول الدين لم يصبر حتى يتم مقدماته النظرية ويستكمل أحكامها. ما دامت الأعراض لا تفنى فإنها باقية، وما دامت باقية فإنها لا تعود.
17
والسؤال لنا نحن: أيهما أفضل لوجداننا القومي وصالحنا العام، تركيز الفناء أكثر وأكثر كما تكشف عن ذلك الأمثال العامية: «الدنيا فانية»، «كله فان»، أم إدخال البقاء كطرف ثان حتى يعاد التوازن المفقود إلى وعينا القومي؟ ليس «الباقية في حياتك» أو «البقاء لله»، وكأننا في جنازة، ولكن البقاء للبطولة والتضحية والشهادة، البقاء للأبطال وللشعوب في معارك التاريخ.
وكما تشخص الطبيعة تطبع الأشخاص وتصبح الأفعال أيضا من الموضوعات الطبيعية. وهذا ما يبدو في السؤال عن جنس الأعراض الذي يخلط بين مقولة منطقية وبين فعل إنساني وظاهرة طبيعية. كما يكشف عن رغبة في تجاوز العالم الطبيعي وظواهره إلى العقل المنطقي بأجناسه وأنواعه كنوع من الإحكام والسيطرة عليه. والمنطق الصوري تصور مثالي للعالم ويصح أن يكون قالبا للفكر الديني. قد يكون السؤال لا معنى ولا دلالة إلا من حيث كشف عن الصراع بين الفكر العلمي الطبيعي والفكر الديني «الإلهي»،
18
الأول لا يفرق بين ظاهرة وظاهرة، يضعها كلها تحت المجهر، في حين أن الثاني يرتب المظاهر بين الأعلى والأدنى طبقا لمراتب الشرف والكمال.
وكيف يثار سؤال عن رؤية الأعراض والأجسام ما دامت الظواهر والأشياء محسوسة مرئية أمامنا؟ يبدو أن كثيرا من المسائل ليست مشاكل، بل تمرينات عقلية أو مشاكل مفتعلة لإظهار بواعث دينية تدفع إلى التعظيم والتبجيل وإحداث الفصم في الشعور بين الأدنى والأعلى، بين الناقص والكامل، لا فرق في ذلك بين الأعراض، الحركة أو السكون أو اللون. قد تكون عقيدة عدم جواز رؤية «الله» هي السبب في القول برؤية الأعراض والأجسام حتى يظهر الاختلاف والتباين بين المستويات. وإنكار الحكماء رؤية الأجسام ليست بدافع ديني، بل لتوسط الألوان والأضواء، مما يجعل الأجسام ليست مرئية بذاتها. وإذا كانت رؤية «الله» جائزة عند الأشاعرة، فلأنه موجود وشيء؛ فالأشياء بالأحرى تكون مرئية مما يدل على حفاظ الحكماء على الفرق بين المستويات أكثر من حفاظ الأشاعرة، وأن تنزيه الحكماء ظل قائما في حين تحول تنزيه الأشاعرة إلى تشبيه وتجسيم.
19
إن معظم التساؤلات حول الأعراض والجواهر تمرينات عقلية من أجل إثبات صريح أو ضمني لقدرة مطلقة لإرادة مشخصة.
20
وتكون الإجابة باستمرار إجابتين: الأولى تغليب القدرة على الطبيعة من حيث المبدأ، والحفاظ على المبدأ، والتضحية بالطبيعة، وهو موقف خاطئ؛ لأن المبدأ ليس في حاجة إلى دفاع عنه، بل الذي في حاجة إلى احترام ودفاع هما الطبيعة والإنسان. ولا تكون طريقة الدفاع بالهجوم على الطبيعة والنيل منها والطعن في قوانينها والقضاء على استقلالها والتضحية بها، بل باحترامها وإدراك قوانينها الثابتة وتسخيرها لصالح الإنسان، وهو دفاع صوري بلا مضمون، دفاع مجاني بلا ثمن، يكشف عن مزايدة رخيصة على إيمان العقلاء وعقل الحكماء ومشاهدات العلماء. ويؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى سيادة الفكر الديني على الفكر العلمي. ويؤصل لكل النظم التسلطية والأنساق المطلقة في السياسة والاجتماع والقانون والأخلاق. وهذا يعني استمرار التخلف؛ إذ إن التقدم مشروط باكتشاف الطبيعة واستقلال قوانينها. وهو وقوع في الثنائية المتعارضة التي يعطى فيها لطرف كل شيء ويسلب عن الطرف الآخر كل شيء، فتصبح الحياة توترا بين قطبين: إيجاب مطلق وسلب مطلق، يتمثل الحاكم الأول ولا يبقى للمحكومين إلا الثاني، والسبب إثبات قدرة «الله» على حساب عجز الإنسان! ويا ليت ذلك قد أدى إلى المحافظة على التنزيه، بل جعل «الله» ساحرا وليس قادرا. واستخدام الطبائع كبرهان على وجود «الله» قبل الأوان يكشف عن الهدف النهائي من هذا الموقف. فيستعاض عن الحدوث بالتضاد والتنافر الذي يستحيل اجتماعهما إلا بقاهر لهما. فيؤدي ذلك إلى القضاء على الطبائع واستقلال قوانين الطبيعة، وتفسير اجتماع الطبائع بالعلل الخارجية وليس من ذوات الأشياء؛ فالهزيمة ترجع إلى القدرة والفقر للقسمة والنصيب. وتقوم العلل الخارجية بالجمع بين الأضداد عن طريق القهر والغلبة وتأكيد السلطة على الطبيعة والبشر؛ فالدليل يثبت حق السلطة أكثر مما يثبت الذات المشخصة؛ أي إنه دليل صفة وليس دليل ذات. وكأن الهدف إثبات ضعف الإنسان وعجزه أمام الطبيعة وعدم قدرته على الجمع بين الأضداد لأنه خاضع تحت القهر شأنه كالطبيعة، لا حيلة له ولا قدرة. وينتهي الأمر إلى تصور «الله» على أنه قاهر للطباع، ومضاد لطبائع الموجودات، وأنه يجمع بين المتناقضات. وهو التصور البدائي للألوهية تعبيرا عن العظمة والقوة والسلطان، وإنكارا لقوانين الطبيعة، وتأييدا للقهر الاجتماعي في الأخلاق والسياسة، أو اغترابا عن الواقع وجهلا بمكوناته وبنيته أو هروبا إليه تعويضا عن فقد العالم وحلا وهميا لأزمات العصر. وغالبا ما يكون حل المتناقضات عن طريق الجمع بينهما وليس عن طريق قضاء أحدهما على الآخر مما يسمح بوجود طبقات اجتماعية متنافرة في نظام اجتماعي واحد، وبالتالي يلغى الصراع الاجتماعي.
21
أما الثانية فهي تضحي بالتشخيص من أجل الطبيعة وثبات قوانينها واستقلالها، وهو أقرب إلى الموقف الديني العلمي والوعي بعمليات التشخيص. وهو الموقف الأصوب؛ لأنه دفاع عن الطبيعة واستقلال قوانينها، وعن حق العلم في معرفتها والسيطرة عليها وتسخيرها. وهو في نفس الوقت دفاع عن المبدأ العام على نحو إيجابي وفي تنزيه مطلق دون التضحية بحق أحد الأطراف في سبيل الآخر. كما يعبر عن صدق الطوية وإخلاص النية دون مزايدة تؤدي إلى نفاق. وهو أقرب إلى التوحيد منه إلى الثنائية وأكثر دفعا نحو التقدم ووضع نهاية للتخلف وللركود الحضاري. وهو أقرب إلى نظم الحرية والديموقراطية والاشتراكية؛ حيث يكون الحاكم والمحكوم طرفين متساويين ليس فيهما أعلى وأدنى، بل ويكون الأدنى هو الرقيب على الأعلى وشرط وجوده. (2) الكم
الكم هو أول أقسام الأعراض. يسبق الكيف مما يدل على أهمية الصفات الكمية والقياس والإحصاء، وأن الكيف بالرغم من أهميته يتلو الكم ثم تتلو بعد ذلك النسبة والإضافة. لا يظهر الكيف إلا بعد الكم، ولا يوجد كيف خالص إلا في كم، وكأن التراكم الكمي يؤدي إلى تغير كيفي طبقا للقول المشهور. وبلغة الحكماء تسبق المادة الروح، ويكون للواقع الصدارة على الفكر. وبلغة الفكر الديني يأتي العالم قبل «الله» والبدن قبل النفس.
وللكم خواص ثلاث؛ الأولى: القسمة، سواء وهمية (افتراض الشيء غيره) أو فعلية (الفك والفصل)، والثانية: العد سواء بالوهم كالمقدار أو بالفعل كالعدد، والثالثة: المساواة ومقابلاها؛ أي الزيادة والنقصان. وهي مقولات ثلاث يمكن استخدامها لتحليل الأشياء ومعرفتها.
وينقسم الكم إلى متصل، مثل الخط، أو منفصل، مثل العدد، وهي قسمة تقوم على التواصل أو الانقطاع، وينقسم المتصل إلى غير قار الذات وهو الزمان لاشتراك الآن بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو قار الذات وهو المقدار، وهي قسمة تقوم على الحركة والثبات، الحركة في الزمان والثبات في المكان. وينقسم المقدار إلى حجم في الجهات الثلاث، أو سطح في جهتين أو خط في جهة واحدة، وبالتالي تكون أبعاد الجسم ثلاثة: الطول والعرض والعمق، الطول للامتداد الأول، والعرض للامتداد الثاني، والعمق للامتداد الثالث. وينقسم العدد إلى وحدات تكون نفس ذاتها؛ أي الكم بالذات، وهي الوحدة والكثرة، أو عارضة فتكون الكم بالعرض، وهي إما محل الكم كالجسم أو الحال في الكم كالضوء القائم بالسطح أو الحال في محل الكم كالسواد أو المتعلق بالكم مثل القوة متناهية أو غير متناهية. وهي قسمة عقلية على أساسها تقوم العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية. وتشمل العلوم الطبيعية الفيزيقا والميكانيكا (الحركة) أو الديناميكا (الزمان )، وتشمل العلوم الرياضية الهندسة والحساب. وبالتالي تكون العلوم الطبيعية امتدادا حقيقيا لقسمة الكم؛ أي لمبحث الأعراض في المقدمات النظرية في علم أصول الدين وليست علوما مستقلة تماما عن إطارها الحضاري.
22 (2-1) العدد
أنكر المتكلمون العدد، وأثبته الحكماء، وذلك لسببين: الأول أن العدد مركب من الوحدات، والوحدات ليست وجودية، وعدم الجزء يستلزم عدم الكل ضرورة، وعدم وجود الوحدات ناشئ من منع التسلسل لأنها لو وجدت فلها وحدة إلى ما لا نهاية ولأنها لا تنقسم. والثاني لأنه يدل على أن الكثرة عدمية. فكر المتكلمين إذن أكثر التصاقا بالواقع من فكر الحكماء؛ وذلك برفضهم إثبات المعقولات الذهنية في الخارج بالرغم من أن الواحد يقال على معان كثيرة كالواحد بالاتصال والاجتماع، ووحدته أمر وجودي بالضرورة حتى ولو لم ينقسم؛ لأن لا كم له بل هو أمر اعتباري، والكثرة مجموع الوحدات، وبالتالي فهي موجودة بهذا المعنى. لا يرى المتكلمون وجودا إلا للمحسوس في حين يرى الحكماء الوجود للمحسوس وللمعقول على السواء. فإذا كان فكر المتكلمين حسيا، فإنه يصعب ابتداء منه إثبات ما يخرج عن الحس والمشاهدة. وبالتالي تكون نتائجه مثل إثبات وجود «الله» وخلود النفس مناقضة لمقدماته ومناهجه. وتكون الحكمة أقرب إلى إثباتها لأنها تثبت المعقولات الذهنية وتعطي لها وجودا بالفعل؛ لذلك أسس الأصوليون المنطق الحسي بينما تمثل الحكماء المنطق الصوري.
23 (2-2) المقدار
أنكر المتكلمون المقدار أيضا؛ لأن الجسم يتركب من الجزء الذي لا يتجزأ ولا يوجد اتصال بين أجزاء الجسم. إنما يرجع التفاوت إلى قلة الأجزاء أو كثرتها. وتعني القسمة فرض جوهر دون جوهر ولا عاد له إلا الأجزاء اللهم إلا وهما. ولكن كيف تصدر أحكام بالوهم؟ ولقد عرف المتكلمون من قبل أنهم من أنصار النظرة الحسية للعالم، فلماذا لم يستعمل هذا المنطق الحسي لإثبات المقدار وساروا وراء افتراض الجزء الذي لا يتجزأ الذي هو من صنع الوهم؟ الحقيقة أن إنكار المقدار هو إنكار للكم وللأجسام وللأشياء وللعالم وتفتيت للجسم إلى أجزاء. هو هدم للعالم وقضاء عليه حتى تتدخل الإرادة المشخصة من الخارج فيسهل القضاء على الأشياء وكأنما غرضها هو «فرق تسد»! ولكن أثبته الحكماء لسببين؛ الأول توارد مقادير مختلفة على الجسم الواحد. والثاني أن الجسم يتخلخل ويتكاثف وجوهريته باقية وكلاهما نفي للجزء الذي لا يتجزأ. والحقيقة أن إثبات المقدار لا يحتاج إلى حجج بل يثبت بالحس والمشاهدة وبالتعامل مع الأشياء في الحياة اليومية.
24
لقد رد الحكماء الاعتبار للعالم وأثبتوا حقيقة الأشياء مع أنهم يثبتون الموجودات في الأذهان. ولكن يبدو أنهم تبادلوا المواقف مع المتكلمين فأثبتوا الموجودات في الخارج بينما وقع المتكلمون في أسر الوهم. (2-3) الزمان
كما أنكر المتكلمون الزمان لسببين؛ الأول أن الزمان ليس تقدما بالعلية أو الذات أو الشرف أو الرتبة مثل تقدم الأمس على اليوم، واليوم على الغد. هناك مجموع الزمان ولكن لا وجود للزماني الآتي بمعنى اللحظة؛ أي الزمان المحدد. والثاني أن الماضي سيحضر، والحاضر سيمضي في المستقبل. الماضي ما كان حاضرا والمستقبل ما سيصير حاضرا. ولما كان الحاضر غير موجود فلا ماضي ولا مستقبل. والحقيقة أن ذلك ليس إنكارا للزمان بمعنى اللحظة والآن على ما يبدو، بل إثبات للديمومة وللاستمرار دون الانقطاع في الزمان الكوني.
25
وبالرغم من أنه لا توجد إشارة مباشرة لدافع ديني على إنكار الزمن بل الاعتماد على حجج فلسفية خالصة، إلا أن الدافع قد يكون لا شعوريا وهو إيثار الزمان؛ كل الزمان للذات المشخصة وإنكاره على العالم لما كان العالم فانيا دون العلم بأن التزمن وسيلة لإثبات الفناء. والحجتان تخلطان بين الزمان بمعنى تعاقب الليل والنهار أو الزمان الحسابي وبين الزمان كإحساس داخلي بالزمان، وهو الذي سماه القدماء الوقت، سواء من الأصوليين أو الصوفية.
26
فالوقت لحظة شعور الفعل وليس للشيء أو للفلك. فالزمان بعد للإنسان وليس للأشياء وليس جوهرا مجردا لا يقبل العدم.
أما الحكماء فقد أثبتوا الزمان بحجتين؛ الأولى: أن الزمان عدد الحركة، مرتبط بها وبالمسافة والسرعة والبطء. والثانية: أن الأب مقدم على الابن ضرورة في الزمان. والحقيقة أن الحجتين معا تخلطان أيضا بين الزمان الطبيعي الكمي والزمان الشعوري الكيفي؛ فالزمان أقرب إلى مباحث الكيف منه إلى مباحث الكم؛ لذلك ظل متأرجحا بين المقولات؛ فهو مرة في مقولة الكم المتصل الذي لا توجد أجزاؤه معا أو الكم غير قار الذات، ومرة يكون جوهرا، ومرة يكون عدد الحركة أو عنصرا من عناصرها، بل إن الزمان ذاته يتأرجح بين الإثبات والنفي؛ فإثبات الزمان النفسي يؤدي إلى إنكار الزمان الطبيعي، وإثبات الزمان الطبيعي يؤدي إلى إنكار الزمان النفسي. وكيف ينكر الأصوليون الزمان والأفعال لا تتم إلا في الزمان؟ وهنا يبدو أن علم أصول الفقه بتحليلاته للزمان، الوقت والفور والتراخي والقضاء، كان أصدق من علم أصول الدين الذي أنكر الزمان وخرج منه متوهما أنه بذلك يدافع عن كل الزمان عن القدم والبقاء كصفتين محجوزتين «لله» يعطيان إليه فيما بعد. (2-4) المكان
وبالرغم من إنكار المتكلمين العدد والمقدار والزمان إلا أنهم أثبتوا المكان وكأنهم لا يخشون منه خشيتهم من الزمان على تصورهم «لله»؛ فالمكان موجود ضرورة، مشار إليها بهنا وهناك، تنقل فيه الأجسام، متفاوت في الزيادة والنقصان. نظرة المتكلمين للعالم إذن مكانية كمية وليست زمانية كيفية؛ لأن «الله» هو كل الزمان أو الدهر.
27
وقد أثبت الحكماء المكان أيضا وهو عند بعضهم الهيولى.
28
لذلك ارتبط المكان بالمادة وأصبح لفظا مشتركا يطلق على المكان والمادة في آن واحد. وعند آخرين هو الصورة لأن المكان هو الحاوي للشيء المحوى والصورة كذلك، وهو خلط بين المكان والصورة.
29
فالمكان هو السطح الباطني للحاوي المماس للظاهر من المحوى، وهي صورة تجريبية للتماس وليست تعريفا للمكان. أما التعريف الثالث للمكان وهو البعد المفروض وهو الخلاء؛ فقد جوزه المتكلمون ومنعه الحكماء. والدافع عند المتكلمين هي قدرة «الله» على خلق الهواء في الخلاء وملئه بوجوده وإرادته وفاعليته. كما أن «الله» قد يعدم الجسم الذي أمامه ويخلق جسما مكانه دون ما حاجة إلى التخلخل والتكاثف. يريد المتكلمون إذن إثبات الخلاء حتى يملأه الله بإرادته وقدرته في حين منعه الحكماء؛ لأن العالم مادة لا فراغ فيها. ويعطي الحكماء خمس تجارب عملية لاستحالة الخلاء؛ فأي الفريقين أكثر تنزيها وتعظيما وإجلالا «لله»؟
30
وتثار عدة أسئلة:
الأول :
هل هناك دلالة للعلم الطبيعي على العلم «الإلهي» كما هو وارد في «اللاهوت» العلمي أو اللاهوت الطبيعي؟ وماذا يفعل العلم «الإلهي» لو تغير العلم الطبيعي في تعريفاته وتصوراته ونظرياته ونتائجه؟ وماذا يفعل علم العقائد لو ناقضه العلم الطبيعي؟ وماذا يحدث لو أساء المتكلم تأويل العقيدة وفهم العلم معا؟ وهل مصير العلم «الإلهي» أن يتعلق باستمرار على نتائج العلم الطبيعي دون أن يكون له بنيته الداخلية المستقلة؟ ألا يعني ذلك ربط الثابت بالمتحول؟ ألا يكون للعلم الطبيعي شرف الكشف والاختراع ولا يكون للعلم الإلهي إلا عمليات التبرير والتأويل وكأنه علم «طفيلي» لا يعيش إلا على إنجازات العلوم الأخرى؟ ألا يخضع العلم كله الطبيعي والإلهي معا لظروف كل عصر وروحه وتصوراته، وبالتالي لا يكون هناك مجال للتصور المطلق أو للحقيقة المطلقة؟
والسؤال الثاني الأهم:
هل العلم الطبيعي كما يعرضه المتكلمون والحكماء علم «إلهي» مقلوب؟ وهل العلم «الإلهي» علم طبيعي مفارق؟ هل هناك إمكانية لقيام علم ثالث؛ علم صوري خالص يستحيل فيه التفرقة بين العلم «الإلهي» والعلم الطبيعي؟ وأي العلمين أصدق نظرا أو أكثر تصديقا في الواقع التجريبي؟
والسؤال الثالث:
هل يمكن الحديث عن المكان والزمان والحركة والمسافة ... إلخ، اعتمادا على تحليل العقل الخالص أو على البواعث والموجهات الدينية دون إخضاع ذلك كله إلى التجربة في العلوم الطبيعية؟ هل موضوعات الطبيعة موضوعات للتأمل أم للتجريب؟ لقد حاول الحكماء استعمال التجربة ولكن ظل المتكلمون في نطاق التأمل النظري الموجه بالموجهات الإيمانية.
والسؤال الرابع والأخير:
هل لهذا الحديث أثر في علم العقائد؟ هل يتأثر تصور العقيدة بمفاهيم السرعة والبطء والمسافة والبعد؟ ألهذا الحد يمكن الإيغال في التأصيل النظري للعقائد في موضوعات تخرج عن نطاق التأصيل المتسق مع العقائد ذاتها بحيث تكون موجهات لسلوك الناس؟ إن المكان موجود بالبديهة كأحد مجالات حركة الجسم ونشاط الإنسان. المكان مجال للرؤية والحركة، وميدان للنشاط والفعل، وموطن للصراع والنضال. ولكل عصر تعريفاته وتصوراته طبقا لظروفه ومستواه الثقافي ولغته الحضارية. فإذا كان القدماء قد آثروا النظر ولغة الحاوي والمحوى، فإن عصرنا يفرض العمل ومفاهيم الحركة والفعل والنشاط والسعي في المكان؛ وبالتالي يكون المكان هو التاريخ الحاضر الذي يغيب فيه الفصل بين الزمان والمكان.
31 (3) الكيف
الكيف عرض لا يقبل القسمة أو اللاقسمة، ولا يعقل بالقياس إلى الغير، بل يدرك ويحس ويشعر به بالتجربة الباطنية. والكيف هو لب مبحث الأعراض، تشمل نصفه تقريبا. يأتي بعده الكم والنسبة على قدرين متساويين. وتأتي الإضافة في المحل الثالث.
32
وتنقسم الكيفيات استقراء لها إلى أربع: المحسوسة، والنفسانية، والمختصة بالكميات، والاستعدادات؛ أي إنها تشمل الظواهر النفسية والجسمية معا. تظهر الحياة إذن في أربع دوائر: الحس، والنفس، والقدرات، ثم المعقولات في الخارج، وهي الكيفيات المتعلقة بالكم مثل النقطة والخط والدائرة؛ فهي كيفيات محضة لا وجود لها. ليست الكيفيات إذن في الإنسان وحده، مع أنه هو الغالب، بل في الطبيعة أيضا؛ فالطبيعة عالم للإنسان، والإنسان موجود في الطبيعة. ويكون السؤال بالنسبة لها: هل الكيفيات مقولات رياضية أم إنها حالات نفسية؟ وهل الحالات في الطبيعة أم في النفس؟ وتمثل الكيفيات المحسوسة والنفسانية تقريبا كل الكيفيات بينما لا تمثل الكيفيات المختصة بالكميات والكيفيات الاستعدادية إلا أقل القليل مما يدل على أنها كيفيات بالتبعية وليست كيفيات بالأصالة.
33
كما أن الكيفيات النفسية تبدو أكثر امتدادا من الكيفيات المحسوسة؛ وذلك لارتباط الحس بالشعور؛ فالشعور هو موطن الحس ومركزه.
34
كما أن الكيفيات الاستعدادية ضئيلة للغاية من حيث الكم مع أن الاستعداد هو بداية التحول من النظر إلى العمل، ودراسة الأفعال والتحققات في مرحلة الكمون. (3-1) الكيفيات المحسوسة
تنقسم الكيفيات المحسوسة أولا إلى قسمين: انفعالات وانفعاليات؛ فالانفعالات هي كيفيات محسوسة غير راسخة؛ أي مجرد انطباعات حسية عن العالم الخارجي داخل عالم الحياة؛ أي المحسوسات الداخلية. فإن دامت واستقرت ورسخت تحولت إلى كيفيات حسية، وإن تزمنت ولم تستقر ظلت كما هي مجرد انفعالات؛ أي انطباعات حسية، تفاعل الضوء مع البصر أو الصوت مع السمع دون أن يتحول إلى مدرك حسي. وقد سميت انفعالات النفس كذلك لأنها طارئة وسريعة؛ أما الانفعاليات فهي الكيفيات المحسوسة التي رسخت وتحولت إلى مدركات حسية ، وهي انفعاليات؛ لأن الإحساس انفعال للحاسة. والمحسوسات إما حس أو مزاج، وهي تابعة للمزاج إما بشخصها كحلاوة العسل أم بنوعها كحرارة النار. فالمحسوسات مفتوحة على عالم النفس، والنفس تحتوي على المزاج والانفعالات. الكيفيات المحسوسة انفعالات للمزاج بالنوع عند الحكماء وهي محسوسات لغير الحي القائم بالتحيز؛ أي العرض أحد أقسام الحدث عند المتكلمين.
35
ويبدو هنا ظهور الإنسان مع الطبيعة في الكيفيات المحسوسة وظهور الإنسان بكل مكوناته من حس ونفس وعقل. والسؤال الأول: هل الانفعالات سريعة طارئة غير راسخة أم إن هناك انفعالات دائمة وعواطف مستقرة وحاضرة؟ وهل المدركات الحسية دائمة وراسخة، أم إنها أيضا متزمنة متغيرة؟ يبدو أن المتكلمين قد انحازوا إلى الحس على حساب الانفعال؛ فالحس مرتبط بالعالم، له مضمون في حين أن الانفعال فارغ من أي مضمون. في الحس ذات وموضوع، والانفعال ذات بلا موضوع.
والكيفيات المحسوسة الخارجية خمس: الملموسات، والمبصرات، والمسموعات، والمذوقات، والمشمومات، وهي تأتي من الحواس الخمس. والألفاظ تشير إلى الموضوعات الحسية وليس إلى مجرد الإحساسات أو الحواس؛ اللمس والبصر والسمع والذوق والشم. لقد دخلت الحواس من قبل في نظرية العلم كمادة بديهية له، ولكنها تدخل هنا في نظرية الوجود كموضوعات حسية أو محسوسات، ليست كقالب للشعور بل كمضمون للشعور. وهي في صيغة الجمع وليست في صيغة المفرد، مما يدل على وظيفة الحواس الدائمة ومحسوساتها المتكررة. وتمثل الملموسات نصف الكيفيات المحسوسة كما وكأن اللمس عند المتكلمين وسيلة للإدراك. ثم بعد ذلك تأتي المبصرات والمسموعات. ولا تقل أهمية المذوقات عن المبصرات والمسموعات في حين تقل المشمومات للغاية مما يدل على أهمية الذوق على الشم كما دل من قبل على أهمية البصر على السمع. وبالتالي فقد وضع المتكلمون الحواس في نظام للأولويات: اللمس، والبصر، والسمع، والذوق، والشم، مما يشير إلى أهمية الملموسات؛ أي الإحساس بالأشياء باللمس عن طريق اليد، وكأن اللمس أفضل وسيلة للمعرفة لتأسيس علم أصول الدين! فالإحساس بالعالم عن طريق اللمس ومعاشرة الأشياء قبل رؤيتها وسمعها وذوقها وشمها، وكأن الوحي يلمس والعقائد تحس باليد! ثم تأتي بعد ذلك المدركات البصرية قبل السمعية في مجتمع كان الوحي والشعر فيه فنونا سمعية، ولم تكن له فنون بصرية إلا فيما بعد؛ الزخرفة والعمارة. كما تبدو أولوية المذوقات في الطعوم على المشمومات في الروائح؛ فاللمس أقرب الحواس إلى الشعور والشم أبعدها. وتتفق آراء الحكماء والمتكلمين في تحليل الحواس الخمس وموضوعاتها.
36
وتتضح الأضداد في المحسوسات مثل صفات الحرافة والحرارة، الملوحة والحلاوة، الدسومة والحموضة، العفوصة والقبض؛ أو في الملموسات مثل الحرارة والبرودة، الرطوبة واليبوسة، الثقل والخفة، الصلابة واللين أو في الأكوان مثل الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق، وكأن الإحساسات جوهرها التعارض، تقوم على قسمة ثنائية متعارضة تبدو فيها الطهارة الدينية مسقطة على الطبيعة. ويكون أحد طرفي القسمة المتعارضة أشرف من الطرف الثاني؛ فالحرارة أفضل من البرودة، والخفة أعلى من الثقل، والصلابة أفضل من اللين، والملاسة أفضل من الخشونة.
ويطرح المتكلمون عدة أسئلة حول الحواس الخمس: تعريفها وعددها وجنسها ووظيفتها وفعلها ... إلخ. وتبدو جميعا وكأنها لا دلالة لها في أغلب الأحيان دلالة مباشرة في علم أصول الدين ولكنها قد تكشف عن بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني، وعن هذا التوتر بين الفكر العلمي المستقل والفكر الديني التابع للعقائد فيما يتعلق بالدفاع عن قدرة «الله». وقد تكون صورة «الذات والصفات» قد ظهرت مسبقا كصورة للحواس الخمس وعلاقة النفس بالبدن أو علاقة كل منهما بالحواس؛ فمثلا في تعريف الحواس تتراوح التعريفات بين التعريف الأسطوري وما يقابلها من نفي لها، أو بين التعريف المثالي والتعريف المادي. الأول هو التعريف الديني سواء من الديانات القديمة في الغالب أو من الفكر الديني الجديد، والثاني هو التعريف العلمي الذي حمله المعتزلة في الغالب.
37
كما يكشف سؤال: هل يقدر «الباري» على خلق حاسة سادسة، وعلى أن يقدر عباده على خلق الأجسام على نفس الصراع بين الفكر الديني والفكر العلمي فيما يتعلق بإظهار القدرة الخارقة من «الباري» ومقاومة الطبيعة لها باعتبارها قانونا مستقلا ووجودا ذاتيا يستعصي على الفعل الخارجي.
38
كما يكشف سؤال هل الحواس من جنس واحد على إسقاط مفهوم الوحدة والكثرة على الحواس. وبطبيعة الحال يفضل الفكر الديني وحدة الحواس في جنس واحد، بينما يؤثر الفكر العلمي تعددها في أجناس مختلفة.
39
وتطرح أسئلة أخرى حول وظيفة الحواس، وكيف يتم الإدراك بفعل إرادة خارجية أو بفعل إرادة الإنسان أو بفعل العضو الحاس ذاته، مما يكشف عن الصراع بين الفكر الديني والفكر الإنساني والفكر العلمي، وكأن إرادة الإنسان تتلو إرادة «الله»، ثم يأتي فعل الطبيعة كوارث لإرادة الإنسان، وكأن مسار الفكر من «الله» إلى الإنسان، ثم من الإنسان إلى الطبيعة. مثلا: هل الشم والذوق واللمس إدراك للمشموم والمذوق والملموس؟ أي هل يمكن الانتقال من الذات إلى الموضوع، ومن الحس إلى المحسوس، ومن الداخل إلى الخارج؟ وتتراوح الإجابة بطبيعة الحال بين الحل المثالي الذي ينفي إمكانية الخروج والحل الموضوعي الذي يبين إمكانية الإدراك. ولكن كيف يقع إدراك المحسوسات؟ وهنا تتراوح الإجابة بين فعل «الله» المباشر أو فعل «الله» من خلال الحواس أو فعل الإنسان.
40
ولكن هل يفعل الإنسان الإدراك من خلال الحواس مختارا؟ وهنا يعود الفكر الديني لسلب الإنسان فعله الحر حتى فعل الحواس من أجل الدفاع عن أن «الله» هو المفاعل المختار. ولكن الفكر العلمي يطرح السؤال من أجل معرفة هل للإرادة دور في فعل الحس أم إنه فعل شرطي منعكس صرف يتعلق بوظيفة العضو الحاس؟
41
ويعود الفكر الديني للتشكك ويسأل: هل يقدر العضو الحاس على الفعل دون تدخل الإرادة «الإلهية»؟ وهكذا يظل الصراع محتدما بين الفكر الديني والفكر العلمي حتى في تحديد وظيفة العضو الحاس الحيوية الصرفة، وكيف يدرك المدرك الشيء ببصره، وما محل الإدراك، العضو أم جزء العضو أم الانتباه والوعي أي الشعور؟ وهل يمكن أن يحدث إدراك بلا حواس؟ وماذا عن الصورة في المرآة، هل هي شيء أم انعكاس؟
42
ثم يطرح الفكر الديني سؤالا أخيرا يكشف به من همه الأول، وهو: هل يعرف «الله» دون معرفة الأشياء عن طريق الحس؟ وبتعبير آخر: هل يعرف «الله » دون المعارف الحسية؟ وقد كانت الإجابة بطبيعة الحال بالنفي نظرا لنقل الفكر العلمي في الكيفيات الحسية، وهو ما ظهر فيما بعد في دليل الحدوث.
43 (أ) الملموسات
الملموسات نوعان: الحرارة وما يتبعها من رطوبة ويبوسة، والاعتماد وما يرتبط به من صلابة وملامسة. فالحرارة تفرق المختلفات، وتجمع المتماثلات؛ والبرودة بالعكس. التصعيد فعلها الأول، والجمع والتفريق لا زمان له. وقد تحدث الحرارة بالفعل من التماس، وبالقوة من الأدوية، ويعرف ذلك بالتجربة والقياس، وباللون وبالطعم وبالرائحة، وبسرعة الانفعال مع استواء القوام وقوته. والحرارة الغريزية والكوبية النارية متخالفة بالماهية لاختلاف آثارها، والغريزية أشد الأشياء مقاومة للنارية. والحركة تحدث الحرارة، وذلك ثابت بالتجربة، وقد يقع العكس أيضا. أما البرودة فهي عدم الحرارة، والتقابل بينهما تقابل العدم والملكة. وإذا كانت الحرارة والرطوبة متقابلتين، فكذلك الرطوبة واليبوسة. والأوليان أقرب إلى الذات والأخريان أقرب إلى الموضوع. والرطوبة سهولة الالتصاق والانفصال، والأشد التصاقا أرطب. والرطوبة غير السيلان. واليبوسة تقابل الرطوبة إن عسر الالتصاق والانفصال أو عسر التشكل.
44
ويلاحظ في كل ذلك اعتماد المتكلمين على طبيعيات الحكماء، بل وعلى أوائل المترجمين منهم في تعريف الألفاظ، وبالتالي يكون السؤال: هل الطبيعيات عند المتكلمين مرتبطة بعلم أصول الدين كمقدمة نظرية له وكتفكير عقلاني وتطور طبيعي للتفكير الديني، أم إنها مقحمة عليه من علوم الحكمة نظرا لسيادتها عليه بعد ضعف علم الكلام المتأخر واستمرار العنفوان الفكري في علوم الحكمة؟ أم كان الأمران معا تطويرا طبيعيا للفكر الديني إلى فكر علمي في علم أصول الدين بالاعتماد على ما تم قبل ذلك كمشروع مماثل في علوم الحكمة؟ على أية حال يكشف ذلك عن قدرة علم أصول الدين على الحديث عن الطبيعيات بصرف النظر عن الإلهيات، وضم التحليل العقلي مع التجربة، وبالتالي الاقتراب من الفكر العلمي وتأسيس علم «الديناميات الحرارية»، وهو ما سقط من وعينا القومي مستبدلين إياه بنقل العلوم من الغرب التي كانت تطويرا لعلومنا هذه بعد أن تمت ترجمتها في العصر الوسيط الأوروبي.
45
أما الاعتماد فهو ما يوجب للجسم المدافعة لما يمنعه من الحركة إلى جهة ما. وقد يكون نفس المدافعة.
46
الاعتماد هو مقاومة الجسم لليد، ومقاومة اللمس واليد للأشياء إحساسا بالعالم وبوجود الإنسان. والمدافعة غير الحركة لأنها توجد عند السكون بمقاومة الأشياء لليد وللجسم. ولها أنواع بحسب أنواع الحركة؛ إما إلى أعلى أو إلى أسفل أو إلى سائر الجهات. والجهات ست: الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والتحت، وهي الاتجاهات البديهية كما يشعر بها العامة. وقد تكون ثلاثا طبقا لأبعاد الجسم كما يتوهم الخاصة؛ فالعامة أصدق حسا من الخاصة، والتجربة البشرية في الحياة العامة أوسع نطاقا وأشمل من التجربة العلمية الهندسية للأجسام. وقد يجعل البعض الجهة الحقيقية العلو والأسفل؛ أي الخفة والثقل في العلم، وهو ما استقر في وجداننا القومي في تصور العلاقات بين الأعلى والأدنى، وليس بين الأمام والخلف (التقدم والتخلف)، أو بين اليسار واليمين (المساواة الاجتماعية والتفاوت الطبقي). ويسمي الحكماء الاعتماد ميلا ويقسمونه إلى ثلاثة أقسام: الميل الطبيعي، وهو ميل غير مقرون بالشعور، وهو الميل الإرادي، بالإحالة إلى الإرادة. أما الصلابة فهي كيفية بها تتم ممانعة الغامز، واللين عدم الصلابة. والملامسة استواء بعض الأجزاء، والخشونة عدمه عند المتكلمين وكيفيتان قائمتان بالجسم أو بسطح الجسم عند الحكماء.
47
ويبدو أن الاعتماد أقرب إلى مباحث الأكوان؛ أي أقرب إلى العرض القائم بالمتحيز غير الحي. يظهر فيها الشعور والإحالة إلى موضوعات الإرادة وغيرها، ويبدو فيها الإنسان كمحور لمعرفة الجهات وتصور الطبيعة. بل يبدو فيها قانون الجاذبية واضحا بالتركيز على الخفة والثقل، تجاهي الأعلى والأدنى. ويكون السؤال: هل هذا المبحث أقرب إلى المعرفة الطبيعية التي لا شأن لها بالفكر الديني، وتخضع للتجربة والعقل والمراجعة أم إن له دلالة في الفكر الديني خاصة بالتركيز على اتجاهي الأعلى والأدنى دون باقي الاتجاهات؟ (ب) المبصرات
وتشمل المبصرات الألوان والأضواء. أما موضوعات الصغر والكبر والقرب والبعد ففروع على الألوان والأضواء، وتبصر بواسطتهما عند الحكماء. ولا يمكن تعريفهما لظهورهما. وكل محاولة للتعريف، مثل تعريف الضوء بأنه «كمال أول للشفاف من حيث هو شفاف»، فإنها تقع في تعريف الأوضح بالأخفى، وبالتالي لا تستوفي شروط الحد.
وقد نفى البعض الألوان. وإنما نتخيل البياض من مخالطة الهواء المضيء للأجزاء الشفافة الصغيرة جدا، والسواد ضد ذلك.
48
وأثبتهما البعض الآخر على أنهما الأصل والباقي تركيب منهما. وقيل الأصل خمسة: السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة.
49
والضوء شرط وجود اللون عند الحكماء. أما عند الأشاعرة فهو أمر يخلقه «الله» في الحي ولا يشترط بضوء ولا مقابلة ولا غيرهما. والظلمة عدم الضوء؛ أي رد الموضوع إلى الذات والوجود إلى المعرفة، وكأن التوحيد وظيفة معرفية تمكن العين من الرؤية كما تقول الصوفية. والظلمة مانعة من الرؤية حيث تغيب الأشعة الداخلة إلى العين. ويحدث اللمعان بوجود سطح مستو أملس؛ إذ إن الخشونة تباين للأجزاء وتمنع من اللمعان. ولكن الأغرب هو السؤال عن اللون هل هو الطعم أم غيره؟ وهل الطعم هي الرائحة أم غيرها؟ وكأن الحواس يمكن أن تقوم بعمل بعضها البعض؛ فتسمع العين وتبصر الأذن ويذاق اللون والرائحة والصوت. ولكن يكاد يتفق أهل النظر على تفرد كل حاسة بمحسوسها؟
50
أما الأضواء، فالضوء عند بعض الحكماء أجسام صغار تنفصل من المضيء وتتصل بالمستضيء.
51
وللضوء مراتب: المضيء لذاته وهو الضوء مثل الشمس، والمضيء لغيره، وهو النور مثل القمر ووجه الأرض.
52
هناك شيء غير الضوء يترقرق على الأجسام، وهو إما لذاته وهو الشعاع، وإما من غيره وهو البريق. وتشبه البريق إلى الشعاع تشبه النور إلى الضوء.
53
قد يتكيف الهواء بالضوء فيكون شرط اللون، وقد يمنع البعض الملازمة بينهما. وفي كلتا الحالتين يكون السؤال إلى أي حد استطاع الفكر العلمي أن يبزغ من ثنايا الفكر الديني؟ وما مقدار تصديق العلم لهذه التحليلات التأملية لموضوعات العلم؟ (ج) المسموعات
والمسموعات أيضا نوعان: الأصوات والحروف، الأصوات العامة ثم تخصيصها في اللغة. وهنا يبدو الانتقال من الظواهر الطبيعية إلى الظواهر الإنسانية، من الصوت إلى اللغة. وقد قيل في تعريف الصوت إنه التموج أو القرع أو القلع. وماهيته بديهية. وهنا يبدو الصوت موجودا في الخارج. وقيل أيضا هو كيفية قائمة بالهواء يحملها إلى الصماخ لا لتعلق حاسة السمع به كالمرئي. وقيل إن ما يقال في البصر يقال في السمع وفي سائر الحواس؛ إذ لا يتم الإدراك إلا بتوافر اتجاهين: اتجاه من الشيء المدرك نحو الشعور من خلال الحس، واتجاه مقابل من الشعور نحو الشيء المدرك أيضا من خلال الحس. وقد منع البعض الانتقال واشترط البعض الآخر شرط المسافة بين المصوت وحاسة السمع.
54
فإذا ما صادم الهواء أملس كجبل أو جدار رجع إلى الوراء، فيحدث صوت هو الصدى مثل الكرة المرمية إلى الحائط. وليس لكل صوت صدى؛ إذ لا بد من مسافة وجسم أملس أو صلب. ولكن السؤال هل الصدى تموج جديد للهواء أم رجوع للهواء الأول؟ يتضح من ذلك التحليل العلمي الصرف لظاهرة الصوت دون ما تدخل علل خارجية سواء في سماع الصوت أو الصدى، بالرغم من بقاء بعض التساؤلات التي تكشف عن بقايا الفكر الديني، مثل: هل يبقى الصوت؟ هل يكون صوت واحد في مكانين؟ هل الصوت جسم؟ هل يكون لا لمصوت؟ وذلك كله حتى يتفرد «الله» بالبقاء وبالشمول وباللاجسمية وبالقدرة.
55
أما الحروف فهي كيفية التعرض للصوت مدة وثقلا، وتنقسم الحروف إلى مصوتة، وهي حروف المد واللين؛ وصامتة. وهي إما زمانية صرف كالفاء والقاف، وإما آنية صرفة كالتاء والطاء، وإما آنية تشبه الزمانية كالراء والحاء والخاء. وهي إما متماثلة كالباءين الساكنين، أو متخالفة بالذات كالباء والجيم، أو بالعرض كالباء الساكنة والمتحركة. وقد جوز قوم الابتداء بالساكن ومنعه آخرون. ويجوز الجمع بين الساكنين في الصامت المدغم قبله مصوت. أما الصامتان فقد جوزه قوم ومنعه آخرون.
56
يتضح من ذلك خروج علم الأصوات كجزء من علم اللغة، وكلاهما تموضع علمي لجوانب التوحيد. ويبدو الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني في عدد من التساؤلات قد لا تكون بذات دلالة إلا على نحو يكشف عن هذا الصراع مثل: هل يتكلم الإنسان بكلام غير مسموع؟ هل يتكلم بكلام في غيره؟ فقد سمع الرسول الوحي وحده دون غيره، وألقى في روعه الكلام. ومثل: هل هناك كلام بغير اللسان؟ هل يمكن إلقاء الكلام في الروع بغير اللسان عن طريق اتصال الروح بالروح أو الذهن بالذهن حتى تصح النبوة في أحد معانيها وحتى يصح الإلهام؟ هل يبقى كلام العباد؟ ومن ثم يمكن إفراد «الله» وحده بصفة البقاء. وعادة ما تتراوح الإجابة بين النفي والإثبات. الإثبات في السؤالين الأولين والنفي في الثالث دفاعا عن الفكر الديني، والنفي في السؤالين الأولين والإثبات في الثالث دفاعا عن الفكر العلمي.
57
كما تكشف عدة تساؤلات أخرى عن طرح علمي خالص استطاع أن يفلت من حصار الفكر الديني، مثل: هل كلام الإنسان صوت أم غير صوت؟ هل كلام الإنسان حروف؟ وما هو أقل الحروف لتكوين الكلام؟ هل الكلام مؤلف؟ هل يمكن أن ينطق كل فرد بحرف ويكون مجموع حروف الكلمة كلاما؟ فالكلام قد لا يكون صوتا؛ لأن هناك لغة الإشارات والرمز والحركات الإيمائية. وعدد حروف الكلمات موضوع في علم اللغة. ونطق كل فرد بحرف لتكوين كلمة موضوع لعلم النغم.
58
ولكن يبدو أن هذا الفكر العلمي البازغ من ثنايا الفكر الديني قد تم إسقاطه من الحساب، ثم إجهاضه بسيادة الفكر الديني وحده. فانفصل العلم عن الدين، والشيء عن العقيدة، والبدن عن النفس، والعالم عن «الله».
59 (د) المذوقات
والمذوقات هي الطعوم. وأصولها تسعة حاصل ضرب ثلاثة في ثلاثة؛ فالفاعل حار أو بارد أو معتدل، والقابل إما لطيف أو كثيف أو معتدل، فتخرج المذوقات التسع. ومن هذه الطعوم البسيطة تتركب طعوم لا نهاية لها كما تتركب الألوان؛ فالبشاعة مرارة وقبض. والزعوقة ملوحة وحرارة. والطعوم كلها ترد إلى الحرارة والكثافة.
60 (ه) المشمومات
قد لا تظهر المشمومات ضمن الكيفيات المحسوسة في قسمة أعراض غير الحي، بل تظهر في أعراض الحي (الحياة والقدرة والعلم والإرادة واللذة والألم والسمع والبصر). ومع ذلك عرض لها القدماء كأحد المحسوسات. ولا بد من أن يتوافر فيها شيئان: الأول: اتجاه المشموم نحو الشعور، ثم اتجاه الشعور نحو المشموم. ويتقابل كلا الاتجاهين في الحس؛ فالحاسة ما هي إلا المجال الحسي للشعور. وتنقسم المشمومات إلى ملائم طيب، ومنافر منتن. كما تنقسم حسب ما يقابلها من طعم فيقال رائحة حلوة أو حامضة، أو بالإضافة إلى محلها كرائحة الورد أو التفاح.
61
لقد حللت المقدمات الكيفيات المحسوسة، فكشفت عن الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني. وفي كلتا الحالتين ينفصل الفكران عن الأسس الاجتماعية للفكر؛ فالكيفيات المحسوسة مدركات اجتماعية. فالملموسات تتوقف على رقة الجلد الناعم للأيدي الناعمة للطبقة الراقية، أو خشونة الجلد الخشن في الأيدي الغليظة للطبقة العاملة. والمبصرات أيضا مدركات اجتماعية، فتتسع حدقة الفقراء أمام قصور الأغنياء، وتضيق حدقة الأغنياء اشمئزازا من أكواخ الفقراء. تدرك الأبصار القاذورات في كل مكان. أما المذوقات فلا يدركها إلا من له معرفة بطعومها. والجوع يدفع إلى الالتهام دون مذوقات المترفين. والمسموعات من خلال أجهزة الإعلام وما بها من كذب ونفاق. والمشمومات للروائح الكريهة وفضلات الطعام في الطرقات وأوساخ نفايات المنازل وطفح المجاري. فإذا كان القدماء قد حاولوا إخراج الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني، فإننا نحاول إخراج الفكر العلمي الاجتماعي من ثنايا الفكر الديني العلمي. وإذا كان القدماء قد انتهوا إلى أنه لا وجود لعلم نفس إلا من خلال علم النفس الفزيولوجي، فإن لدينا لا يوجد لعلم نفس إلا من خلال علم النفس الاجتماعي. (3-2) الكيفيات النفسانية
وكما أن الكيفيات المحسوسة إذا كان راسخة سميت انفعاليات، وإلا كانت انفعالات، فكذلك الكيفيات النفسانية إذا كانت راسخة سميت ملكات، وإن لم تكن سميت أحوالا. وكل حال يصير ملكة بالتدريج قدر رسوخه.
62
وتنقسم إلى عدة أنواع: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، وبقية الكيفيات النفسانية من لذة وألم، وصحة ومرض. والعلم والقدرة هما الكيفيتان النفسانيتان الغالبتان على باقي الكيفيات، كما مما يدل على أهمية النظر والعلم كبعدين للإنسان.
63
وفي النفسانيات يصعب التفرقة بين نظرية العلم ونظرية الوجود، وكأن النفس ذات وموضوع في آن واحد؛ فالنفسانيات إما حياة أو إدراكات أو قدرة وإرادة أو لذة وألم أو صحة ومرض. والإدراكات أهمها لأنها تنقسم إلى ظاهر وباطن. والباطن إما تصور أو تصديق، والتصديق إما جازم أو غير جازم، والجازم إما بموجب أو بغير موجب فيكون تقليدا. والواجب إما يقبل النقيض وهو الاعتقاد أو لا يقبل وهو العلم. وغير الجازم إن تساوى الطرفان فهو الشك، وإن كان راجحا فهو الظن، وإن كان مرجوحا فهو الوهم.
64
وهنا تبدو النفس جامعة للحياة والإدراك والإرادة والظواهر الجسمية، وتبدو الإدراكات شاملة للإحساسات الداخلية والخارجية وللمنطق؛ فالمنطق جزء من النفس، ومراتب العقل ملكات للنفس، وكأن الكيفيات النفسانية تبشر بقرب الجواهر المفارقة؛ النفس والعقل.
ويتضح أيضا أن الكيفيات النفسية هي نفسها التي أصبحت فيما بعد صفات الذات أو الصفات الوجودية للذات: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة مع اختلاف الترتيب. أصبحت الحياة الصفة الثالثة، والعلم الصفة الأولى، والإرادة الثالثة، والقدرة الرابعة. أما صفات السمع والبصر والكلام فقد دخلت في الكيفيات المحسوسة، المسموعات والمبصرات، والكلام في الحروف والأصوات. ويكون السؤال: كيف يوصف «الله» بالكيفيات النفسانية وهي أعراض؟ ألا يؤدي وصف الذات على هذا النحو بتحويل «الله» إلى مجموعة من الأعراض؟ أليس «الله» جوهرا طبقا للتصورات؟ أليس من الأفضل تحويل هذه الكيفيات النفسانية إلى جواهر حتى يصح تأسيس الصفات عليها؟ أليست أحق بالجواهر من الأجسام والعناصر والكواكب والأفلاك؟ (أ) الحياة
والحياة أول الكيفيات النفسية، لها السبق عليها، وكل ما سواها من علم وإرادة وقدرة وباقي الكيفيات إنما هي مظاهر لها. الحياة هي الكيفية النفسية الأولى، ولا شيء قبل الحياة. والموت عدم الحياة. ولا يوجد تعريف موجب للموت. قيل إنه كيفية وجودية يخلقها «الله» في الحي، فهو ضدها. وهنا يبدو الفكر الديني عاجزا عن وضع تعريف نظري للحياة أو الموت، ولا يجد أمامه إلا الحجة النقلية،
65
وكأن «الله» يخلق الموت وهو حياة. إذا كانت الحياة تخلق الحياة، فالموت نقص وعيب، و«الله» كمال لا يصدر عنه نقص أو عيب، وحياة لا يصدر عنه موت. وإلا كان «الله» جامعا بين الأضداد. وعند الأشاعرة يجوز أن يخلق «الله» الحياة في جزء واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكأن «الله» قادر على خلق حياة في اليد بمفردها دون البدن. وهي مزايدة على الطبيعة لحساب الوهم، و«الله» غني عن المزايدة، وكأن أفعال «الله» كلها معجزات ضد قوانين الطبيعة مما يعطي وجداننا القومي نفس البنية النفسية لفعل الخوارق المعجزات ضد قوانين الطبيعة، فلا نجد أمامنا إلا السحر والأوهام أو ننتظر المخلص من الشرور والآثام. أما الحياة عند الحكماء والمعتزلة فهي مشروطة بالبنية المخصوصة؛ أي بالجسم والكيفيات من اعتدال وغيره. ولكن الحياة ليست وحدها الحياة البدنية، بل هي الحياة الشعورية؛ فالنفس تتعلق بالبدن من حيث هو مجموع الوظائف الحيوية كما تتعلق بالشعور الخالص. الحياة عند القدماء «قوة تتبع اعتدال النوع ويفيض منها سائر القوى»؛ قوى الحس والحركة والتغذية، سواء في النبات أو الحيوان أو الإنسان. والمقصود حياة الإنسان. أما حياة النبات والحيوان فلدراستها والتعلم منها وليس لحياتها. ولما كانت الحياة أقرب إلى الحياة العضوية بما فيها من لذة وألم وصحة ومرض أو إلى الحياة النفسية بما فيها من قوى حس وحركة، فهي ليست وصفا للذات المشخصة الخالصة المبرأة عن الجسم.
66 (ب) العلم
والعلم الكيفية النفسانية الثانية بعد الحياة، وتتداخل موضوعاتها مع نظرية العلم؛ فالعلم ذات وموضوع في آن واحد، ذات في نظرية العلم، وموضوع في نظرية الوجود. والعلم لا بد فيه من إضافة بين العالم والمعلوم؛ أي إنه علاقة بين الذات والموضوع، وحالة شعورية تظهر فيها العلاقة بين قالب الشعور ومضمون الشعور. وعند الحكماء هو الوجود الذهني؛ إذ قد يعقل ما هو نفي محض وعدم صرف. وقد يطابقه أمره في الخارج وقد لا يطابقه. وقد نفى ذلك المتكلمون لاستحالة أن يكون في الذهن موضوعات في الخارج، واستحالة أن تكون ماهية الجبل والسماء في الذهن. ولكن هل يجوز تعلق العلم الواحد بمعلومين؟ وهو سؤال يبدو في الإجابات عليه الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني. فإذا كانت الإجابة بالجواز فذلك كعلم «الله» الذي يتعلق بذاته وبالبشر في آن واحد. وهو تمثيل بلا جامع؛ لأن علم «الله» لا يشبه علمنا. وإذا كانت الإجابة بالاستحالة، وإلا تعلق العلم بأمور غير متناهية، استحال العلم «الإلهي». وبالتالي يصبح علم «الله» دافعا للإثبات والنفي على السواء حتى يصعب معه الفكر العلمي الخالص.
67
وإن قيل لا يجوز تعلقه بنظريين ويجوز تعلقه بضرورين؛ ففي الأول جهد واكتساب فردي، وفي الثاني عموم وشمول، شارك الإنسان علم «الله» في الضروري وتفرد بعلم في النظري، وهذا أيضا حجر على العلم «الإلهي» الشامل لكل شيء. وإن قيل لا يجوز تعلقه بمعلومين يجوز انفكاك العلم بهما، وإلا جاز انفكاك الشيء عن نفسه. الجواز الذهني لا نزاع فيه، والخارجي هو موضوع الخلاف.
68
والحقيقة أنه لا يجوز؛ فكل علم متعلق بمعلومه لضبط العلم. وإلا لتنازع المعلوم علوما كثيرة، ولتنازعت العلوم الكثيرة معلوما واحدا. وكل علمين تعلقا بمعلومين فهما مختلفان تماثلا أو اختلفا وإلا لم يجتمعا. والمتعلقان بمعلوم واحد فمثلان إن اتحد المعلوم ووقته.
69
ولكن هل يمكن وجود علم لا معلوم له مثل العلم بالمستحيل، فإنه ليس شيئا والمعلوم شيء؟ هل يمكن أن تكون هناك معرفة بلا موضوع؟ فالإجابة بالإثبات تؤثر الجانب الصوري في العلم، والإجابة بالنفي توحد بين الجانبين الصوري والمادي في العلم.
70
وتعود بعض الموضوعات الأولى في نظرية العلم في الظهور، وكأن الفصل بين العلم والوجود إنما هو فصل تعليمي صرف لا وجود له بالفعل. فالوجود يحيل إلى العلم من خلال الحواس والذات العالمة، وكأن الذات علم ووجود في آن واحد؛ فالجهل المركب اعتقاد جازم غير مطابق وهو ضد العلم، في حين أن الجهل البسيط هو مجرد عدم العلم، ويقرب منه السهو والغفلة والذهول والنسيان. ويظهر العلم أيضا على أنه مجموعة من الاعتقادات تنقسم إلى ظن ويقين، ويبدو العلم وكأنه أحد صفات الوجود. وتظهر معظم مسائل نظرية العلم من جديد، حد العلم هل هو سلبي أم إيجابي، تعلقه بمعلوم أو بمعلومين، إجمال المعلوم، تغاير المعلوم، العلم الضروري والعلم الاستدلالي، اجتماع الأضداد، هل المعلوم موجود أو معدوم ... إلخ.
71
وقد يكون الشيء معلوما من وجه ومجهولا من وجه.
72
وقد يعلم الشيء بالفعل ويعلم بالقوة عن طريق اندراج المقدمات مما يسمح بتقسيم العلم إلى ضروري واستدلالي. كما ينقسم العلم إلى تفصيلي وإجمالي. ثم تفرض القسمة نفسها افتراضا على العلم «الإلهي»، هل هو إجمالي دون تفصيلي وهو ما يجيز الجهل، أو هل هو تفصيلي وبالتالي يشارك العلم الإنساني وهو العلم المقرون بالجهل؛ أي العلم المقيد المنفي عن «الله»؟
73
وهل هذا تحليل علمي أم موقف وجداني خالص باتهام الإنسان بالنقص وتبرئة «الله» عنه ووصفه بصفات الكمال؟ والعلم إما فعلي كما نتصور أمرا ثم نوجده، أو انفعالي كما يوجد أمر ثم نتصوره. الفعلي قبل الكثرة، والانفعالي بعدها. الفعلي قبلي والانفعالي بعدي. وعلم «الله» عند الحكماء فعلي؛ لأنه السبب لوجود الممكنات. علم «الله» قبلي لأنه ليس في حاجة إلى الأشياء. وكأن القبلي أشرف من البعدي، والاستنباط أكمل من الاستقراء، وهو تمجيد للعقل عند القدماء. وأحيانا يبدو المتكلمون عقليين مثل الحكماء، وأحيانا أخرى حسيين مثل الأصوليين. ولكن تمتاز الصور العقلية عن الخارجية عند الحكماء بأنها غير متمانعة في الحلول، بل متفاوتة تحل الكبيرة محل الصغيرة، ولا ينمحي الضعيف بالقوي، ولا يجب زوالها. وإذا زالت سهل استرجاعها.
74
وتثار من جديد قضية العلم الضروري والعلم النظري، وهي قسمة العلم الأساسية في نظرية العلم في صيغة سؤالين: هل يستند العلم الضروري إلى النظري؟ والإجابة بين النفي لاقتضائه توقف الضروري على النظري وبين الإثبات. والثاني هل ينقلب العلم الضروري والنظري؟ وتتراوح الإجابة أيضا بين النفي، وإلا لجاز الخلوي عن الضروري وهو محال بالوجدان، وبين الإثبات لتجانس العلوم أو النفي في الضروري الذي هو شرط لكمال العقل والإثبات فيما غير ذلك.
75
ويجوز انقلاب النظري إلى ضروري اتفاقا ليس بخلق «الله» علما ضروريا كما يقول الأشاعرة، بل لتفاوت الناس في القدرة على ممارسة الحدس وإدراك البداهات. وقد منع المعتزلة هذا الخلق في العلم «بالله» وصفاته؛ لأن الإنسان مكلف به. والفرق بين هذه الموضوعات في نظرية العلم وفي نظرية الوجود أنها في الأولى مستقرة من حيث البناء والحكم، في حين أنها في الثانية مجرد تساؤلات تثبت أن العلم أحد مظاهر الكيفيات النفسية ولا يهم بناؤه ولا أحكامه. فأحكام العلم في نظرية العلم صريحة، وهي استحالة انقلاب الضروري إلى نظري أو استناده إليه، وإلا امتنعت بداهات الحس وأوائل العقول.
كذلك يثار موضوعا الحس والعقل في نظرية الوجود كما أثيرا من قبل في نظرية العلم مع هذا الفرق في الاستخدام بين الحالتين. فإدراكات الحواس علم بمتعلقاتها عند الأشعري. وخالفه الجمهور نظرا لاختلاف العلم عن الرؤية نظرا لخداع الحواس وحدود المعرفة الحسية. وهنا تبدو الأشعرية نظرة حسية للعالم في الصلة الضرورية بين الحس وموضوع الحس؛ أي بين الإدراكات والمدركات. وارتباط البصر بالعلم ارتباط جوهري، ولكن لا يجعلهما متماثلين. فالبصر مصدر لمادة علمية دون أن يكون هو العلم؛ إذ يستطيع العلم بعد ذلك أن يستغني عن البصر. ويعاد ذكر الفرق بين الانطباع الحسي والإدراك في نظرية الرؤية؛ فالأول خروج شعاع من الشيء تجاه البصر، في حين أن الثاني مقابلة هذا الشعاع الأول بشعاع من البصر إلى الشيء. ومن ثم يتم الإدراك كوعي بالمبصر. الشعاعان المتبادلان بين العين والشيء هما في الحقيقة بين الشعور والشيء. لا يتم الإدراك إذن إلا بتوجه الأشياء نحو الشعور، وبتوجه الشعور نحو الأشياء. الأول دون الثاني انطباع حسي، والثاني دون الأول وعي فارغ بلا مضمون. وقد رفض المتكلمون النظرية الضوئية في الإدراك حرصا على تفسير صفات السمع والبصر في «الله» بلا حاسة أو شيء أو شعاع، وكأن الفكر الديني عامل محدد للفكر العلمي إن إيجابا أم سلبا.
76
ومحل العلم الحادث غير متعين عقلا عند الأشاعرة، بل يجوز أن يخلقه «الله» في أي جوهر أراد. ولكن دل النقل على أنه القلب.
77
وعند الحكماء محل الكليات النفس الناطقة المجردة لبراءتها ومحل الجزئيات المشاعر العشرة الظاهرة والباطنة؛ فالعلم في الحس والنفس والعقل ومجموع ذلك كله هو الشعور الذي سماه النقل القلب أو الفؤاد. ولا يمكن أن يخلق «الله» العلم في الجماد؛ لأن شرط العلم حياة الشعور.
78
وقد تكون مراتب العقل هي مراتب النفس. وقد تبدو في العلم كأحد مظاهر الكيفيات النفسانية كمبحث من مباحث الأعراض. وقد تبدو في النفس كجوهر متصل بالبدن ومقدمة لإثبات الجواهر المفارقة؛ فعند الحكماء للعقل أربع مراتب: العقل الهيولاني، وهو الاستعداد المحض، قوة بلا فعل؛ والعقل بالملكة، وهو عقل حادث، وظيفته العلم بالضروريات، ويحس بالجزئيات؛ والعقل بالفعل، وهو ملكة استنباط النظريات من الضروريات؛ والعقل المستفاد تحضر فيه النظريات ولا تغيب عنه. وهي نظرية أسطورية صرفة بعكس نظرية المتكلمين الحسية؛ فإذا كان العقل عند المتكلمين مرتبطا بالحس، فإنه عند الحكماء متعلقا بمصدر آخر للعلم من خارج العالم، كما هو الحال في النظرية الإشراقية التي استقرت عند الحكماء من الصوفية، وهي صورة شعرية خالصة تقوم على تشبيه الضوء أو النقش، لا تعطي أي دور للحس ولا للعالم الطبيعي، وتجعل النفس سلبية خالصة عليها استقبال المعارف، ولا تضع في حسابها أي نقد للمعرفة من جراء النسيان. وهل يمكن للنفس أن تتذكر كل شيء ما دامت في جلباب البدن؟ ولكن بالإضافة إلى نظرية المتكلمين الحسية ونظرية الحكماء الأسطورية، هناك نظرية الأصوليين العملية السلوكية؛ فالعقل مناط التكليف إجماعا، والنظر واجب عقلا وشرعا وإجماعا.
79 (ج) الإرادة
والإرادة عند المعتزلة هو اعتقاد النفع أو ظنه. وقيل ميل يتبع ذلك وهو مغاير للعلم. هي ميل نفسي نحو جلب نفع أو دفع ضرر؛ ومن ثم فهي في حاجة إلى مرجح، وهي عند الأشاعرة غير مشروطة باعتقاد النفع أو الميل إليه، هي استواء الطرفين دون ما حاجة إلى مرجح مثل الهارب من السبع على مسافتين متساويتين، والعطشان الذي لديه قدحان من الماء متساويان من جميع الوجوه، والجائع الذي لديه رغيفان، وهو مستحيل إنسانيا؛ إذ يبطل السلوك وتتوقف الحياة بلا دافع أو مرجح.
80
والإرادة مغايرة للشهوة؛ لأنها تتعلق بنفسها دون الشهوة. كما أنها قد تكون للكريه مثل الدواء دون أن تشتهيه بل تتنفر عنها. وهي في نفس الوقت غير التمني لأنها تتعلق بمقدور مقارن حاضر أو مستقبل غير محال أو ماض، ثم تثار عدة قضايا أخرى تخرج عن نطاق هذا الوصف المادي للإرادة إلى وصف تأملي خالص، ثم إلى فكر ديني صريح، مثل: هل إرادة الشيء كراهة لضده؟ الحقيقة أن أمور الحياة ليس فيها تضاد عقلي؛ فقد يريد الإنسان الشيء ولا يكره ضده. فالتحليل العقلي والقلب المنطقي شيء، والموقف الوجودي شيء آخر. كما تثار عدة مسائل أخرى عقلية نظرية صرفة تفقد دلالتها على المستوى المادي، مثل: هل إرادة الضدين ذاتية أم موضوعية؟ أو تثار قضية حرية الأفعال كاستباق للموضوع الذي سيتأسس فيما بعد في نظرية الأفعال أو في أصل العدل. ثم تبدأ التساؤلات تتطور شيئا فشيئا حتى تخرج من التحليل المادي للإرادة إلى التأملات الدينية الخالصة، مثل أن الإرادة تفيد متعلقها صفة، للفعل طاعة ومعصية، وللقول أمر وتهديد، وذلك لربط الإرادة بالفعل والفعل بالصفة، وعدم الاقتصار على الميل أو الاعتقاد بالنفع، وبالتالي دخول حكم القيمة على حكم الواقع.
81
ومثل تساؤل: هل تسلسل الإرادات إلى الوراء للحصول على إرادة أولى ضرورية؟ وهنا يتم الخروج عن الإرادة الإنسانية إلى الإرادة «الإلهية». والعرض موضوع البحث هي الإرادة الإنسانية. أما الإرادة القديمة التي توجب المراد اتفاقا فهي مجرد افتراض عقلي يتغلب على مصاعب الإرادة الإنسانية «الحادثة»، ويتخلى عن ضعفها ووهنها، ويقلب الضعف قوة، والوهن عزما. في حين أنه يجوز إيجاب الإرادة الحادثة للمراد إذا كان قصدا إلى الفعل؛ فالقصد يتقدم على الفعل قبل العزم والجزم، وبالتالي يسترد المعتزلة للإنسان ما سلبه الأشاعرة منه وأعطوه لغيره وهو «الله».
82 (د) القدرة
والقدرة تعادل العلم في الأهمية في الكيفيات النفسانية. وهي صفة تؤثر وفق الإرادة، فخرج ما لا يؤثر كالعلم وما لا يؤثر لا على وفق الإرادة كالطبيعة. القدرة هي قوة الإرادة. القدرة هي القوة، والإرادة هي التنفيذ والتحقيق. هي عند البعض سلامة البنية عن الآفات، وعند آخرين بعض القادر وقيل بعض المقدور؛ حيث يصعب التفرقة بين القدرة كذات والقدرة كموضوع؛ أي بين الإرادة والفعل. وتنقسم الأفعال المقدورة إلى ما يحتاج إلى آلة وإلى ما لا يحتاج؛ فالقدرة أوسع وأعم وأشمل من آلات التنفيذ؛ اليد أو اللسان. والقدرة غير المزاج؛ فالمزاج من الكيفيات المحسوسة، بينما القدرة من الكيفيات النفسانية. وقد يمانع المزاج القدرة؛ إذ إن بالقدرة إرادة وروية وقصد وغائية وهدف وعلم، في حين أن المزاج أقرب إلى الخلقة والهوى. والقوة تقال للقدرة لأنها جنسها، وهو مبدأ التغيير في آخر. وأخيرا الخلق ملكة تصدر عنها الأفعال بلا روية، وتنقسم إلى فضيلة ورذيلة، الفضيلة الوسط والملكة الأطراف، وهو مغاير للقدرة لأنه طبيعة وفطرة؛ أي قوة طبيعية وليست إرادية. والعزم هو جزم الإرادة بعد التردد؛ أي هي الإرادة الحاسمة المنفذة. وطريقة إثباتها الوجدان؛ إذ يشعر بها كل إنسان من نفسه. وقد تثبت عندما يأتي الفعل من بعض دون البعض الآخر، فيظهر الفرق بين القدرة والعجز.
83
وقد تثبت عند العلم بصحة الشخص. والحقيقة أن القدرة إحساس بديهي يدركه كل إنسان بوجدانه حتى عند وجود الموانع التي تسبب العجز الطارئ، فإذا سألنا: هل المقدور تابع للعلم أم للإرادة؟ نجد أنها نفس المسألة التي عرض لها الحكماء بالنسبة إلى الخلق: هل الخلق بالعلم ضرورة أم بالإرادة اختيارا؟ وأصلها مسألة في القدرة الإنسانية ثم تعميمها وإطلاقها ورفعها إلى مستوى خارج عن النطاق الإنساني. المقدور تابع للإرادة عند المعتزلة لأنها حقيقة القدرة، ولا يكون تابعا للعلم؛ لأن صاحب الملكة يصدر عنه أفعال لا يقصدها. والعلم بذاته المبني على تصديق يتحول بالضرورة إلى فعل متجاوزا القدرة على خلاف العلم الأقل تصديقا واقتناعا، فإنه في حاجة إلى القدرة. وقد توصل المعتزلة في فروعهم على القدرة إلى «عتبة الجهد»؛ أي إلى آخر حد يمكن للقدرة أن تتحمله، وذلك في عدة تساؤلات، مثل: هل من يتمكن من حمل مائة وزن ويعجز عن حمل مائة أخرى يقال له عاجز؟ كل قدرة لها حد أو عتبة لا تتجاوزها. وهذا لا يتنافى مع أصل القول بتعلق القدرة بجميع المقدورات. ومثل: إذا حمل شخصان مائتي وزن، هل تم الحمل بقدرة كل واحد مما يلزم اجتماع قادرين على مقدور واحد أم بقدرة مشتركة؟ والإجابة بطبيعة الحال بالقدرة المشتركة؛ لأن اجتماع مقدورين ممكن إذا كانت القدرة مشتركة بين قدرتين إنسانيتين كما هو الحال في العمل الجماعي وليس بين قدرتين غير متكافئتين؛ حيث تبتلع القدرة الكبرى القدرة الصغرى كما هو الحال بين القدرة «الإلهية» والقدرة الإنسانية.
ولكن هل تغيب القدرة في ساعة المنع أو العجز أو النوم؟ هل الممنوع عن الفعل قادر عليه؟ منعه الأشاعرة؛ إذ إن القدرة مع الفعل، «والله» لم يخلق القدرة دون ما حاجة إلى ضد. وجوزه المعتزلة لأن العجز يضاد القدرة، والمنع المقدور وجوديا مضاد للمقدور. والحقيقة أن العجز والمنع من الطوارئ والقدرة هي الأساس ليست بخلق خارجي بل بفعل داخلي وبإحساس وجداني بديهي وبتمسك بحقوق الإنسان وبحقه في الفعل وبأدائه لرسالته. العجز عرض مضاد للقدرة أو عدم القدرة أو نفي للعرض.
84
فالقدرة هي الأساس، والعجز طارئ عليها. أما عجز المتحدي عن معارضة القرآن فهي قدرة نسبية على التحدي والخلق والإبداع، وليست عجزا إلا عند من قال بصرف الدواعي، ومن جعل فعل «الله» مسببا لعجز، وإرادة «الله» نفيا للإرادة الإنسانية فيقضي على تكافؤ الفرص منذ البداية من أجل ممارسة التحدي والإتيان بالخلق المشابه. وهل النوم ضد القدرة؟ اتفقت المعتزلة وكثير من الأشاعرة على امتناع صدور الأفعال المتقنة المقصودة من النائم، وجواز القليلة منها بالتجربة. أما الرؤيا فخيال باطل عند المتكلمين عامة والمعتزلة خاصة؛ لفقد شرائط الإدراك، وعند الأشاعرة لخلاف العادة. ولم يثبتها إلا بعض الأشاعرة، وهو ما ساد في وجداننا القومي حتى الآن.
85
وعند الحكماء يوجد المدرك في النوم في الحس المشترك يرد على النفس من العقل الفعال ثم يلبسه خيال الصور أو يرد عليه من الخيال مما ارتسم فيه من اليقظة، فمن دام في فكره شيء رآه في منامه، وذلك موضوع تفسير الأحلام في علم النفس. وللمعتزلة عدة فروع على هذا الأصل، منها: هل يخلو القادر عن جميع مقدوراته؟ جوزه البعض على الإطلاق وجوزه البعض الآخر عند المانع، ومنعه عند عدمه في المباشر دون التولد.
86
فالإنسان مهما كان عاجزا فإنه قادر على فعل شيء، سواء كان مباشرا أو توليدا. لا يوجد إذن عجز مطلق. ومثل: هل الترك عدم فعل المقدور؟ قيل إن كان قصدا يتعلق به الذم. وقيل إنه من أفعال القلوب، وقيل إنه فعل الضد؛ لأنه مقدور والعدم مستمر. والحقيقة أن الترك عدم فعل المقدور وليس العجز عن الفعل.
وإلى هذا الحد يغلب الفكر العلمي في تحليل القدرة على الفكر الديني . ولكن تظهر عدة تساؤلات كي تعطي الغلبة للفكر الديني على الفكر العلمي، مثل: هل يجوز مقدر بين قادرين؟ بطبيعة الحال جوزته الأشاعرة مطلقا؛ لأن قدرة العبد غير مؤثرة مع شمول قدرة «الله».
87
ومنعه المعتزلة لامتناع قدرة غير مؤثرة. واتفق الأشاعرة على امتناع قدرتين مؤثرتين وقدرتين كاسبتين؛ لأن الكسب هو خلق «الله» للقدرة الحادثة. وقد نفى البعض القدرة الحادثة تماما وقال بالجبر، وهي مكابرة؛ لأن هناك فرقا بين الصاعد بالاختيار والهابط بالضرورة.
88
والحقيقة أن هذه مسألة ستأتي في موضوع خلق الأفعال، ولا تدخل في المقدمات النظرية العامة التي تحاول وضع أوليات للفكر والوجود دون أن تدخل بعد في موضوع العقائد. ومع ذلك، وفي هذا الوقت المبكر في تحليل القدرة كأحد الكيفيات النفسانية يظهر الصراع بين نظريتي الجبر والكسب من ناحية، وحرية الأفعال من ناحية أخرى؛ نظرا لاستحالة تعلق مقدور بين قادرين؛ فالجبر يضحي بقدرة الإنسان لإثبات قدرة «الله». ويحاول الكسب إدخال قدرة الإنسان في الحساب، ولكنه يجعلها مشروطة بقدرة «الله» وينفي استقلالها. وتدافع حرية الأفعال وحدها عن القدرة الإنسانية بصرف النظر عن أي اعتبار آخر؛ فقدرة الإنسان وحريته هما الأولى بالدفاع. يمكن تعلق المقدور بقادرين إنسانيين، مثل اشتراك اثنين أو أكثر في عمل واحد في آن واحد أو على فترات، وبالتالي يكون العمل الجماعي مقدورا لأكثر من قدرة، ولكنها قدرات على مستوى واحد، وليست قدرة حادثة وقدرة قديمة أو قدرة نسبية وقدرة مطلقة. ولا تتعلق القدرة بالضدين، بل بمقدورين مطلقا عند الأشعري بناء على أن القدرة مع الفعل بينما تتعلق بجميع مقدوراته عند المعتزلة. وعند فريق ثالث قد تتعلق القدرة القائمة بالقلب بجميع متعلقاتها دون الجوارح، كل واحدة منها تتعلق بجميع متعلقاتها، إما دون متعلقات الأخرى أو فكل منها لا يؤثر في متعلقات الأخرى نظرا لغياب الأدلة، أو تتعلق القدرة القلبية بمتعلقها دون العضوية.
89
والقدرة هي مجرد القوة على مبدأ الأفعال المختلفة، نسبتها إلى الضدين، سواء قبل الفعل. وتطلق أيضا على القوة المشجعة لشرائط التأثير، وهي لا تتعلق بضدين في حال الفعل.
90
والحقيقة أن القدرة على عمل الضد ممكنة نظرا من حيث القوة الجسمية، ولكنها قد تكون مستحيلة من حيث القصد والهدف والغاية والمصلحة؛ فالقدرة على القتل موجودة جسمانيا، ولكنها تعارض الهدف والقصد، وهي المحافظة على الحياة. ولا فرق في ذلك بين أفعال الشعور وأفعال الجوارح، بين الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية.
91
ولا يوجد حل نظري ومقياس مجرد لصدق الآراء، بل يوجد وصف القدرة على الفعل في موقف محدد.
وفي موضوع القدرة تبحث عدة مسائل تدخل في الجبر والاختيار، مثل: حد القدرة بأنها سلامة الأعضاء كما هو الحال عند الأشاعرة، أو أنها شيء متحيز يدل على الاختيار كما هو الحال عند المعتزلة، أو بحث صلتها بالفعل هل هي مع الفعل مثل الأشاعرة أو قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل؛ أي القصد والتحقيق والإيقاع مثل المعتزلة. وكذلك العجز هل هو صفة وجودية أم صفة عدمية؟ وتتم التساؤلات على نحو مادي صرف بتحليل القدرة الإنسانية ككيفية نفسانية مع تواري الفكر الديني إلى أقل حجم؛ فالقدرة مع الفعل لا قبله ولا بعده في نظرية الكسب الأشعري المشهورة. وعند المعتزلة قبل الفعل. ومنهم من قال ببقائها حال الفعل. وإن لم تكن قدرة عليه فهي شرط البنية. ومنهم من نفاه لأن إيجاد الموجد محال، ولأنه يلزم القدرة على الباقي ولأنه يوجب حدوث قدرة «الله»، وأنه يلزم تكليف الكافر بالإيمان. لا تبقى القدرة غير متعلقة؛ فهي تتعلق بالفعل قبلها وبعدها، الفاعل في الأولى يفعل، وفي الثانية فعل، وفي الثالثة مفعول.
92
وقد تولد القدرة في محال متفرقة حركات إلى جهات مختلفة، وأما في محال مجتمعة فلا. وذلك يتوقف على نطاق الفعل يمكن أن يكون في جهات مختلفة أو في محال مجتمعة إثر محاضرة في طلاب متفرقين أو متجمعين.
93
وبالرغم من أن الكلام لا يدخل ضمن الكيفيات النفسانية، بل ضمن الكيفيات المحسوسة، نظرا لارتباطه بالسمع، الأصوات والحروف، إلا أنه يشار إليه كملحق للكيفيات النفسانية؛ نظرا لأنه أيضا كلام نفساني؛ أي معان في الشعور قبل أن تتخارج إلى أصوات وحروف. وقبل أن يتحول إلى صفة مطلقة لذات مشخصة في التوحيد، كما تظهر بعض الكيفيات النفسية الأخرى المتصلة بالإرادة مثل المحبة وقيل هي الإرادة، محبة «الله» لنا إرادته لكرامتنا، ومحبتنا «لله» إرادتنا لطاعته؛ فالمحبة عاطفة. وكذلك الرضا وهو الإرادة عند المعتزلة وترك الاعتراض عند الأشاعرة. وكلاهما جانبان للإرادة المعارضة والتسليم؛ فالرضا فعل وليس ترك فعل، إيجاب وليس سلبا.
94
وعلى هذا النحو يمكن الاستمرار في تصنيف العواطف والانفعالات الإنسانية حول الكيفيات النفسية، وبالتالي تمحي التفرقة الأولى بين الانفعاليات والانفعالات. (ه) بقية الكيفيات النفسانية
يذكر القدماء منها ما يكون أدخل إلى الحالات الجسمية منها إلى الكيفيات النفسانية مثل اللذة والألم، والصحة والمرض، وترك العواطف والانفعالات الإنسانية، وهو ما عرضه الصوفية في الأحوال والمقامات، وما عرض له الحكماء باسم انفعالات النفس أو قوى النفس أو فضائل النفس.
فاللذة والألم بديهيان يشعر كل إنسان بهما؛ لذلك لا يعرفان. قيل اللذة إدراك الملائم، والملائم كمال الشيء. وعند بعض الأطباء لا توجد لذة، بل يوجد فقط دفع الألم.
95
واللذة والألم صفتان مختلف في نسبتهما إلى الذات المشخصة لوضوح أساسها الإنساني الخالص وما بهما من نقص وعيب وسلب وعدم. ولكن لما ظهر الإنسان داخل الكيفيات فقد ظهر بكل أبعاده النفسية والجسمية، الحسية الانفعالية.
أما الصحة والمرض، فالصحة ملكة أو حالة تصدر عنها الأفعال من الموضوع، تنطبق على الحيوان وعلى الإنسان. هي كيفية للبدن في مقابل المرض، حالتان له مثل اللذة والألم.
96
ويظل السؤال لم التوقف عند هذا الحد في الكيفيات النفسية؟ أين الاحترام والتبجيل، الفرح والحزن، القبض والبسط، الخوف والرجاء، إلى آخر ما قاله الصوفية والحكماء في انفعالات الحس أو حالات الوجدان أو فضائل النفس؟ لقد بدأت الكيفيات تأخذ طابعا حسيا ماديا مما كان يؤهل لتأسيس علم النفس «الفيزيقي» والانتقال من دراسة النفس إلى البدن كما هو واضح في اللذة والألم، وفي الصحة والمرض. ولكن يبدو أن الفكر الديني أوقف الاتجاه حتى يستطيع بعد ذلك رفع هذه الكيفيات النفسانية إلى درجة الصفات المطلقة للذات المشخصة. وهل يمكن إعادة التصنيف والاختيار بين هذه الكيفيات النفسانية دون حد أدنى ودون حد أعلى، خاصة لو كانت النية إسقاطها على الذات المشخصة، واستعمالها لوصفها قياسا للغائب على الشاهد؟ ولقد بدأت باقي الكيفيات النفسانية في صورة ثنائية متعارضة مما كان يؤهل إلى البحث عن الأسس الاجتماعية للحالات النفسية؛ فاللذة والألم، والصحة والمرض تشير إلى أوضاع اجتماعية؛ أوضاع الترف والفقر، النعيم والبؤس، البطنة والجوع، التخمة والشظف، أمراض الوفرة وأمراض الحرمان. وهو ما لم يتم في الكيفيات النفسانية الأولى؛ فقد ظهرت الحياة دون الموت، والعلم دون الجهل، والإرادة دون الوهن، والقدرة دون العجز، وكأن صحوة المثال جعلت المتكلم ينسى الواقع، وبالتالي يعجز عن قياس المسافة بين الواقع والمثال. (3-3) الكيفيات الكمية
قد يبدو التعبير متناقضا؛ فالكيفيات لا تكون كمية، والكميات لا تكون كيفية؛ نظرا للتقابل التقليدي بين الكيف والكم. ومع ذلك فالكيفيات الكمية تمثل مرحلة انتقال من الكيفيات المحسوسة والنفسانية إلى النسبة والإضافة اللذين يبدو فيهما اجتماع عرضي الكم والكيف معا لحقا بالكم واستردادا له. وهي باختصار الكيفيات التي تعرض للكم، إما وحدها فتكون المنفصلة كالزوجية والفردية أو المتصلة مثل التثليث والتربيع، وإما مع غيرها كالحلقة والزاوية. ويعتمد القدماء على تعريفات المهندسين للخط والدائرة والكرة والأسطوانة والمخروط. هل يعني ذلك أن المفاهيم الرياضية في الحساب والهندسة هي نموذج الكيفيات الكمية؛ أي حال الأعداد والأشكال؟ وأيهما أقرب لها مباحث الكيف مع المحسوسات والنفسانيات، أم مباحث الكم مع العدد والمقدار والزمان والمكان؟ ولماذا هذا الاقتضاب التام فيها بالمقارنة إلى الكيفيات المحسوسة والنفسانية؟ هل يفقد الصوري دلالته إلى هذا الحد؟
97 (3-4) الكيفيات الاستعدادية
وقد يبدو التعبير أكثر قبولا من التعبير السابق؛ وذلك لأن الاستعداد كيف وليس كما. وهي مثل القبول ويسمى ضعفا أو ميلا أو تأثرا أو الدفع ويسمى قوة. القبول من الملاءمة والدفع من المفاخرة، وهذا بخلاف قوة الفعل. يبدو أن الكيفيات الاستعدادية أقل بكثير مما يمكن أن تكون؛ فهي التي توصل التهيؤ والإمكانية والتحقق وكأن المحسوسات والنفسانيات والكيفيات الكمية ما هي إلا مقدمات لإعداد النفس وتهيئتها إلى شيء؛ ولذلك تبدو مباحث الكيف مفلطحة للغاية في المحسوسات والنفسانيات ومضمرة للغاية في الكيفيات الكمية والاستعدادية؛ أي في التعامل مع صور الأشياء وفي إعداد النفس. وهل هي القبول والدفع فقط أم هناك الإقدام والإحجام وغيرها؟ وما صلتها بالعواطف والانفعالات؟ وما عددها وما تصنيفها؟ هل هي فطرية أم مكتسبة؟ هل هي حالات أم ملكات؟ هل فقدت دلالتها بالنسبة للفكر الديني؟ هل أحجم الفكر العلمي من الدخول في الفكر الرياضي في الكيفيات الكمية وفي علم النفس في الكيفيات الاستعدادية؟ هل يمكن للفكر المتوقف في هذه المقدمات النظرية أن يستعيد نشاطه ويستأنف تقدمه؟
98 (4) النسبة
وبعد الكم والكيف تأتي النسبة. وتأتي وحدها عند القدماء في صيغة الجمع «النسب»، في حين أن الكم والكيف والإضافة في صيغة المفرد. والنسب من الأعراض لأنها متغيرة. وهي أقرب إلى مباحث الكم لأنها تشمل الأكوان على مصطلح المتكلمين والأين على مصطلح الحكماء، وبالتالي فهي أقرب إلى المكان، وهو من مباحث الكم كالعدد والمقدار والزمان. والأين أكبر من مبحث الأكوان مما يدل على انتشار المكان على الأكوان وامتداد أقوال الحكماء على أقوال المتكلمين.
99
يتحدث المتكلمون عن الأكوان ويعنون بها الجواهر، في حين يتحدث الحكماء عن الأين ويعنون به الحركة. لذلك ارتبطت المباحث والنسبة أيضا بمبحث الجواهر لأنها تتعلق بأعراض الأجسام مثل الحركة والسكون والمماسة والمجاورة، والاجتماع والافتراق والتأليف. كما أنها ترتبط بالكيفيات المحسوسة في الملموسات واعتماد اليد ومقاومة الأشياء لها. ومن ثم ارتبطت الأكوان بالكيفيات المحسوسة لأنها مدركة حسيا عن طريق البصر أو اللمس.
وقد أثبت الحكماء المقولات النسبية وأنكرها المتكلمون إلا الأين لعدة وجوه: منها أنها لو وجدت لزم التسلسل لأن محلها يتصف بها، ووجودها إليه نسبة؛ لأن أجزاء الزمان بعضها لبعض نسبة. ولو وجدت لوجدت الإضافة، وهي لا تتحقق إلا بوجود المنتسبين، فيوجد التقدم والتأخر معا. ولو وجدت لزم اتصاف الباري بالحوادث لأن له مع كل حادث إضافة بأنه موجود معه وقبله، بأنه متقدم عليه وبعده لأنه متأخر عنه.
100
والحقيقة أن الإضافة للأشياء ونسبتها فيما بينها ليست من الذات المشخصة التي هي حتى الآن افتراض خالص أو إيمان صرف، وبالتالي فلا خوف عليها من الحوادث؛ لأنها لا صلة لها بالعالم. واحتج الحكماء بأن كون السماء فوق الأرض ومقابلة الشمس لوجه الأرض تعلم ضرورة. وتنفي أدلة المتكلمين وجود النسب في الخارج وتجعلها مجرد وجود في العقل من وضع الذهن ومن نسيج الشعور لما كان الإنسان بؤرة للعلاقات بينه وبين الأشياء، وبينه وبين الآخرين.
والسؤال الآن: هل هناك دلالات دينية لهذه الموضوعات؟ هل تكشف أيضا عن الصراع بين الفكر والدين؟
ويدخل في مباحث الأكوان عند المتكلمين مواضيع الحركة والسكون والتأليف والمجاورة والممارسة والمباينة والافتراق، وكرد فعل عليها تظهر مفاهيم الكون والطفرة والتولد كتصورات بديلة للحركة والسكون، وكأن هناك تصورين للأكوان: تصور كمي للأجزاء، وتصور كيفي للكليات. فما هي الأكوان؟ إن حصول الجوهر في الحيز معلل بصفة قائمة بالجوهر يسمى بالكائنية، والصفة التي هي علتها تسمى بالكون. منعه البعض إما لوقوع في الدور وإما لأن الحصول في الحيز المخصوص من خلق «الله» وكأن «الله» يتدخل في تكوين الأشياء وكينونتها وسكنها في المكان!
101
والأكوان أربعة؛ لأن الحصول في الحيز إما أن يعتبر بالنسبة إلى جوهر آخر أولا. والثاني إن كان مسبوقا بحصوله في ذلك الحيز فسكون، وإن كان مسبوقا بحصوله في حيز آخر فحركة. السكون حصول ثان في حيز أول، والحركة حصول أول في حيز ثان. وأما القسم الأول فإن كان بحيث يمكن أن يتخلل بينه وبين الآخر ثالث فهو الافتراق وإلا فهو الاجتماع. والاجتماع واحد والافتراق مختلف؛ لأن منه قرب وبعد ومجاورة. وإذا تحرك الاختلاف فإنه يأخذ صورتين: الأولى إذا تحرك الجسم تحرك الجوهر الظاهر منه اتفاقا، ثم اختلف في المتوسط المباين. والثاني إذا كان الجوهر مستقرا في مكانه وتحرك عليه آخر بحيث تتبدل المحاذاة، فالمستقر يتحرك. ثم يتغير موضوع الحركة والسكون إلى موضوع التأليف والمجاورة والمماسة؛ وذلك لأن كل جوهر فرد محفوف بستة جواهر أخرى من جهاته الست؛ فالجوهر الفرد له ست مماسات وست مباينات، وقد منع ذلك بعض المتكلمين. التأليف والمجاورة إذن جائزان. ثم وقع الاختلاف: هل المجاورة غير الكون؟ هل التأليف والمماسة غير المجاورة؟ هل المجاورة واحدة بينما يتحد التأليف والمماسة؟ هل المجاورة تأليف؟ هل المماسة نفس المجاورة أم متعددان؟ هل يتغير الكون إذا تعرض لمماسات ومجاورات؟ هل المتوسط من الجوهرين كلما قرب من أحدهما بعد عن الآخر؟ هل يقال للجوهر إذا ماس من جهة إنه مباين من الجهة الأخرى؟ هل تجوز المباينة والافتراق في جملة جواهر العالم؟ هل يطلق القول بتضاد الأكوان عند من لم يجعل المماسة كونا؟ بل تصبح الأسئلة نظرية خالصة مثل: ماذا تعني الحركة والسكون؟ هل يحلان في الجسم؟ هل هما في المكان الأول والثاني؟ هل يكون الساكن في حال سكونه متحركا بوجه من الوجوه؟
102
وما دلالة هذه التساؤلات كلها؟ وهل تكشف عن الصراع الدائم بين الفكر الديني والفكر العلمي؟ هل هو فكر علمي خالص بعد أن قد توارى الفكر الديني إلى أقل حجم له؟ هل يختفي الفكر الإلهي أولا بالفكر الميتافيزيقي ثم يختفي الفكر الميتافيزيقي ثانيا بالفكر العلمي؟
103
هل الفكر العلمي الخالص دلالة على التوحيد؟ هل الفكر العلمي نفسه هو الفكر الديني، وبالتالي يكون التوحيد هو الطبيعة كموضوع ومنهج ونتيجة؟ فإذا كان الرد بالإيجاب يكون الفكر العلمي تأصيلا للفكر الديني وتطويرا له، ويكون الفكر الديني مقدمة للفكر العلمي وجزءا من تاريخه وأحد مراحله التاريخية. ونكون بإسقاطنا الفكر العلمي كلية ودعوتنا إلى الفكر الديني، بل وإلى الفكر «اللاهوتي» المشخص، قد عدنا إلى الوراء، وانتهينا إلى حيث كنا في البداية، وتكون الحضارة قد أدت دورتها وعدنا من جديد كما بدأنا إلى نقطة الصفر الأولى.
وبالإضافة إلى النظرية الآلية للأجزاء مداخلة ومجاورة ومماسة، اجتماعا وافتراقا، بل وتأليفا، حتى في دراسة أفعال القلوب من الإرادات والكراهات والعلوم والنظر ظهرت نظرية حيوية أخرى للأجسام تقوم على الكمون والطفرة والظهور تتحدى الفكر الديني في نظرية «الخلق من عدم»، والذي انتهى بدوره إلى اتهامها بالدهرية وإنكار الخلق مع أنها تصور جديد للخلق، وهو التخلق الذاتي. «فالله» خلق الأشياء دفعة واحدة، وأكمن بعضها في بعض أصلا، وهو ملاحظ في ظواهر الحياة مما أدى إلى اعتراف الفقهاء بها اعتمادا على الحس والمشاهدة ومجرى العادات.
104
وإثبات الطفرة يؤدي إلى إنكار الجزء الذي لا يتجزأ الذي يقوم عليه التصور الآلي الأول. وفي حقيقة الأمر، إن إثبات الكمون والطفرة يساعد على الخلق والإبداع ومعرفة المراحل والإحساس بالتاريخ والشعور بالزمان وأخذ رؤية مستقبلية غائية، بدلا من النظر إلى الماضي والتقدم إلى الوراء. يمكن أن يكون الكمون والطفرة جزءا من الثقافة الوطنية للشعوب النامية إذا كان ينقصها الحركة والتغير ويعوزها التخطيط المتصل القائم على التسلسل والرؤية المستقبلية والإحساس بالمراحل، وتساعدها على الإبداع الذاتي. كما أنها تساعد الفكر العلمي الآلي في الشعوب الصناعية على تجاوز الآلية وحتمية الطبيعة والتحليل الكمي إلى مزيد من التحليل الكيفي، والتمييز بين المستويات دون أن تنقلب إلى ضدها وتتحول إلى إشراقات صوفية في النفس وفي الطبيعة؛ ومن ثم يتحول العلم إلى تصوف بتحويل المادة إلى روح، والديمومة إلى انقطاع.
وتعادل مباحث الحكماء في الأين مباحث المتكلمين في الأكوان؛ فكلاهما مبحث في الحركة. والحركة عند الحكماء كمال أول بالقوة من حيث هو بالقوة. وهو تعريف يقوم على إسقاط وجدانيات من لفظ كمال أول كمقولة دينية أخلاقية. ويتضح ذلك أيضا من تعريفهم للنفس بأنها كمال أول. تعريف الأين إذن إسقاط من تعريف النفس على الطبيعة، ومن الذات على الموضوع، وهو ما يشير إليه الحكماء بحديثهم عن وظيفة التوهم. وللحركة معنيان: الأول التوجه، وهو كيفية بها يكون الجسم أبدا متوسطا بين المبدأ والمنتهى. والثاني الأمر الممتد من أول المسافة إلى آخرها ولا وجود له إلا في التوهم. كل هذه التقسيمات إذن من صنع الفكر المثالي وريث الفكر الديني قبل أن يتحول إلى فكر علمي. ومقولات الحركة أربع: الأولى الكم، وهو التخلخل، وضده التكاثف، والنمو وعكسه الذبول. والثانية الكيف والحركة فيه تسمى استحالة. والثالثة الوضع مثل حركة الفلك. والرابعة الأين، وهو النقلة التي يسميها المتكلم حركة. وباقي المقولات لا تقع فيها الحركة مثل الجوهر والمضاف والملك والمتى وأن يفعل وأن ينفعل. فالجوهر تتبدل صورته، والمضاف طبيعة غير مستقلة، والمتى وجود الجسم فيه يتبع الحركة وكذا الملك، وأن يفعل وأن ينفعل أثبت البعض فيهما حركة. وفي حقيقة الأمر إن الجوهر مبحث خاص، والمضاف مع الملك أحد أقسام الأعراض بعد النسبة، والمتى أي الزمان دخل في الكم مع العدد والمقدار والمكان. أما أن يفعل وأن ينفعل فهو جزء من مباحث الكيف في الكيفيات الاستعدادية. ومن ثم توضع مقولة الأين موضع الصدارة وتتفاوت المقولات الأخرى بين الإثبات والإنكار؛ إذ يتداخل الأين والمكان والحركة والسكون والقوة والفعل والكمال الأول والكمال الثاني معا لتكون أبحاثا في المكان والحركة تحت عرض الأين. يبدو الوجود وكأنه وصف لوجود دينامي تتقلب عليه الأعراض. والعلة للحركة الطبيعية ليست الجسمية وإلا دامت الحركة بدوامها، وليست الطبيعية لأنها ثابتة. فإن لم تكن المادية أو الصورية فلم تبق إلا الفاعلة أو الغائبة. آثر المتكلمون الأولى نظرا لسيطرة الفكر الديني، والحكماء الثانية نظرا لسيادة الفكر الفلسفي. وتقتضي الحركة أمورا ستة: ما به أي الفاعل، ما له أي المحل، ما فيه أي المقولة، ما منه أي المبدأ، وما إليه أي المنتهى، ثم المقدار أي الزمان. وقد زادت هذه القسمة على القسمة الرباعية الأولى شيئين: المقولة والزمان. ومع ذلك فالحركة واحدة. ووحدة الحركة إما شخصية أو نوعية أو جنسية؛ الأولى وحدة ما له، والثانية وحدة ما فيه وما منه وما إليه، والثالثة وحدة ما فيه. وقد تكون الحركات متضادة بشرط دخولها تحت جنس واحد، وتضاد الحركات ليس لتضاد ما فيه، بل لتضاد ما إليه؛ أي الغاية والمنتهى. والحركة ليست كما بالذات، بل بالعرض، وتنقسم ثلاثة أقسام: إما بحسب المسافة، أو بحسب الزمان، أو بحسب المتحرك. وما يوصف بالحركة إما أن تكون الحركة فيه بالحقيقة أو بالعرض مثل السفينة والراكب. والأول إما أن تكون الحركة في غيره وهي الحركة القسرية أو فيه إما مع الشعور وهي الإرادية، أو لا وهي الطبيعية مثل حركة النبات. والحركة إما سريعة أو بطيئة. وعلة البطء في الطبيعية ممانعة المخروق ، وفي القسرية والإرادية ممانعة الطبيعة. وبين كل حركتين مستقيمتين كصاعدة وهابطة سكون، وكل حركة مستقيمة قد تنتهي إلى سكون.
105
والآن، ما دلالة هذا الحديث المطول كله عن الحركة؟ هل لها دلالة في الفكر الديني حيث تكشف كيف تحول الفكر الديني إلى فكر مثالي؟
106
هل لها دلالة في الفكر العلمي؛ حيث تكشف كيف استقى المتكلمون والحكماء أبحاثهم من العلماء التجريبيين؟ هل لهذه البحوث كلها أهمية من أجل تأسيس نظرية في المعلوم تصلح لأن تكون مع نظرية العلم مقدمات نظرية لتأسيس علم أصول الدين؟ وما المطلوب الآن؟ هل يترك مبحث النسبة على هذا المستوى الطبيعي العلمي من التحليل أم يرفع من جديد إلى مستوى الفكر المثالي أم يعاد بناؤه في الشعور كبواعث على الفعل؟ وهل يمكن الانتقال من العلم الطبيعي إلى العلم الاجتماعي والسياسي؟ هل الحركة حركة الأجسام، أعراضا وجواهر أم حركة المجتمعات شعوبا وتاريخا؟ هل يمكن الاستفادة من تقسيمات القدماء لأنواع الحركة وعللها خاصة العلة الغائية، القصد والاتجاه في التخطيط وتحديد الأهداف وصياغة رؤى مستقبلية؟ هل يمكن أن تتحول هذه التمرينات العقلية كلها التي تكشف عن الصراع بين المستويات في تحليل بين الإيمان والحكمة والعلم إلى حركات واقعية بالفعل للشعوب في التاريخ؟
107
هل يمكن الاستفادة من قسمة الحركة إلى يمين ويسار أو إلى خلف وأمام؛ للمساهمة في حركات التغير الاجتماعي، ودفع الأمة نحو مزيد من التقدم، والقضاء على معوقاته، وإنهاء التخلف من جذوره بعد أن استقر الأعلى والأدنى في وجداننا القومي؟ ألا يترك تحليل القدماء للحركة وجدان المحدثين فارغا بلا مضمون؟ ويكون السؤال: كيف يمكن إدخال المضمون الاجتماعي والسياسي لوجدان المحدثين في تحليل القدماء للحركة في الأكوان عند المتكلمين والأين عند الحكماء؟ (5) الإضافة
والإضافة آخر قسمة للعرض بعد الكم والكيف والنسبة. ويعني إضافة شيء لشيء آخر مثل أن الأبوة هي المعقولة بالنسبة إلى الغير؛ أي البنوة. وأهميتها لتأصيل الفكر الديني هو أن كثيرا من الموضوعات الدينية لا تعقل إلا بالإضافة. وقياس الغائب على الشاهد بالإضافة. وقد يكون تصور «الله» هو في حقيقة الأمر تصور بالإضافة إلى الإنسان؛ فالإضافة أساس القياس والنسبة، وهو جوهر منطق العلاقة. وخواص المضاف اثنتان: الأولى التكافؤ في الوجود والعدم بحسب الذهن والخارج، والثانية وجود التكافؤ في النسبة وهو الانعكاس. ولا تستقل الإضافة بوجودهما؛ فحصولها يتبع لحوقها بالغير. وتقسم الإضافة إلى عدة تقسيمات؛ الأولى: التوافق كالجوار والتخالف كالابن والأب. الثانية: الإضافة لصفة واحدة من المضافين مثل العشق، أو لصفة في أمرهما كالعاطفية. والثالثة: أقسام المعادلة مثل الغالب والقاهر والمانع، وفي الفعل والانفعال مثل القطع والكسر، وفي المحاكاة مثل العلم والخبر، وفي الاتحاد مثل المجاورة والمشابهة. والرابعة: المقولات كلها مثل الجوهر في الأب والابن، والكم مثل الصغير والكبير. والخامسة: وجود اسم لها من الطرفين أو من أحدهما أعدم وجوده منهما. والسادسة: وضع اسم لها ولموضوعها يدل عليها بالتضمن. واضح من هذه القسمة أنها قسمة صورية خالصة بالرغم من وجود بعض الأمثلة الشارحة. ومع ذلك فالأمثلة قد تفرض بذاتها على الممثول؛ فالعشق ليس مثلا لإضافة من طرف واحد؛ لأنه قد يكون متبادلا وإلا كان حركة العاشق نحو المعشوق كما هو الحال في علوم الحكمة وفي علوم التصوف، وهو ما استقر في وجداننا القومي حتى الآن في صيغة علاقة التبعية بالاستقلال. ويغلب على القسمة الفكر المثالي الخالص دون أثر للفكر الديني أو للفكر العلمي فيه.
108
ولكن الأهم من ذلك كله في الإضافة هو إدخال التقدم والتأخر من أقسام المضاف؛ فعند الحكماء التقدم والتأخر على خمسة أوجه: الأول بالعلية مثل تقدم المضيء على الضوء. والثاني بالذات مثل تقدم الواحد على الاثنين. والثالث بالزمان مثل تقدم موسى على عيسى. والرابع بالشرف مثل تقدم أبي بكر على عمر. والخامس بالرتبة مثل أن يكون أقرب إلى مبدأ معين. والترتيب إما عقلي كما في الأجناس أو وضعي كما في صفوف المسجد. أما عند المتكلمين فهناك تقدم كما لأجزاء الزمان بعضها على بعض طبقا للتصور الآلي لحركة الأجسام. ولما أراد بعض الحكماء الحصر قالوا إن التقدم إما أن يكون حقيقيا أو اعتباريا، والأول يتوقف فيه المتأخر على المتقدم من غير عكس، والثاني لا بد من مبدأ تعتبر إليه النسبة، وذلك إما كمال أو لا. وعند هذا الحدث يتوقف وصف القدماء للتقدم والتأخر دون تدخل موضوعات عقائدية أو تاريخية وتبقى صورية منطقية محايدة، خارج المكان والزمان بعد أن وضع الحكيم والمتكلم نفسيهما خارج التاريخ.
109
والأمر بالنسبة لنا يختلف؛ فالتقدم والتأخر أزمة العصر ووجدان الجيل كله، وهدف قومي يسعى إليه الجميع يخطط له، ويعمل على تحقيقه. ومن ثم فإننا نحول تصنيف القدماء من المستوى الصوري المنطقي إلى المستوى المادي التاريخي العملي؛ فالتقدم بالعلية لا يعني فقط تقدم المضيء على الضوء، بل تقدم العلة على المعلول في إمكانيات العمل والمحاربة. والتقدم بالذات لا يعني فقط تقدم الواحد على الاثنين، بل يعني أولويات التخطيط لصالح الأغلبية. والتقدم بالزمان لا يشير فقط إلى تقدم موسى على عيسى، بل يشير إلى مراحل التاريخ وتطور النبوة وقانون التقدم. والتقدم بالشرف ليس فقط تقدم أبي بكر على عمر كما هو الحال في عقائد القدماء، بل هو التفاضل في النقاء والطهارة والأسبقية للجهاد. والتقدم بالرتبة، سواء العقلية أو الوضعية، لا يعني تقدما في الأجناس أو في ترتيب الصفوف، بل يعني التقدم في درجة العلم والفضل والأهلية. إن التقدم لا يعني تقدم الزمان في حركات الأجسام، بل تقدم التاريخ في حركات الشعوب. وقد يكون تقدما اعتباريا وهو تقدم الذهن، التصورات والمناهج، أو حقيقيا فهو تقدم الواقع والأبنية الاجتماعية. وفي كلتا الحالتين هو تقدم حقيقي وليس وهما. ومن ثم فالتقدم بالذات ليس مجرد تقدم صوري ماهوي، بل بحسب الوجود والتاريخ، تقدم الشعوب والمجتمعات، تقدم الإنتاج وتقدم الخدمات.
ولقد استطاع القدماء في تنبيههم في آخر مباحث الأعراض التنويه بفضل التقدم على التأخر، وأن الأصل هو المستقبل ثم يصير حاضرا فماضيا.
110
كما أن للتقدم معنى زائدا على التأخر، سواء من حيث الذات فهو مقدم عليه، أو من حيث العلة فهو موجد، أو من حيث الزمان من حيث أن له زمانا أكثر، ومن حيث الشرف فهو أكمل، وفي الرتبة من حيث وصوله إلى الغاية أولا.
111
يمكن إذن البحث والخوض في أعماق المقدمات النظرية لعلم أصول الدين، والعثور على شروط التقدم وأسس النهضة، بعيدا عن الأفكار الشائعة عن النظرة إلى الماضي والحنين إليه الذي يمثل الفكر الديني كما يبدو في الحركة السلفية. وقد لا يكون فضل التقدم على التأخر بعيدا عن مقصد الوحي ونصوصه الصريحة.
112
رابعا: أنطولوجيا الوجود (الجواهر)
ومبحث الجواهر هو المبحث الثالث في نظرية الوجود بعد «ميتافيزيقا الوجود» أو الأمور العامة و«فينومينولوجيا الوجود» أو الأعراض.
1
وكأن مسار نظرية الوجود وهو الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية العامة التي يتحد فيها الفكر بالوجود إلى ظواهر الأشياء كما تبدو للإنسان ثم إلى الأشياء ذاتها، وكأن الإنسان وجود بين عالمين، عالم المبادئ العامة وعالم الأجسام المادية. ومع أن الجواهر عند المتكلمين هي الأجسام؛ الأجسام المادية الملموسة المرئية المحسوسة، وعند الحكماء الجواهر المفارقة؛ ففي كلتا الحالتين يكون الإنسان بين عالمين.
ويشمل مبحث الجواهر مباحث أربعة: الجسم، وعوارض الأجسام، والنفس، والعقل. وأشملها الجسم الذي يطغى على ثلاثة أرباع المبحث، بل إن عوارض الأجسام ذاتها أشمل من النفس والعقل.
2
وأهم ما في الجسم هي قسمته وليس حقيقته أو أعراضه؛ فهي تشمل أكثر من نصف المبحث مما يدل على أن منهج الكلام يقوم أساسا على القسمة العقلية أكثر مما يقوم على التعريف أو التحليل.
3
وتدخل مقولة الجسم مع الجوهر والعرض في قسمة ثلاثية للمحدث الذي ينقسم إلى جسم وجوهر وعرض؛ فالجسم هو المؤلف المركب من جوهر وعرض، والجوهر الذي له حيز، والحيز هو المكان، والعرض الذي يعرض في الجوهر. الجسم إذن هو القابل للعرض، وهو الجوهر، وهو «الجزء الذي لا يتجزأ كجسم وجوهر.»
4
ويطلق الجسم عند الحكماء بالاشتراك على معنيين: الأول الجسم الطبيعي، وهو موضوع العلم الطبيعي، وهو جوهر له أبعاد ثلاثة متقاطعة على زاوية قائمة. والثاني الجسم التعليمي موضوع العلوم التعليمية؛ أي الرياضية، ورفضوا تصور المعتزلة بأنه الطويل العريض العميق. قد يكون هو القائم بنفسه الذي لا يتجزأ أو هو الوجود الذي يعني الجسم بلا تعين أو تحيز أو هو الشيء.
5
وهي كلها تعريفات تجعل الجسم مجسما في أغلب الأحوال، وأقرب إلى المشاهدة الحسية والبداهة العقلية، سواء في العلم الطبيعي أم في العلم الرياضي أم في العلم الإنساني. ليس الجسم مجموعة أعراض مجتمعة، بل لا بد من جوهر؛ فالعلاقة بينهما ليست علاقة حامل بمحمول. ليس الجسم مجرد صفاته، بل هو المتحيز أو المحل القابل للحال. واعتبار الجسم مجرد صفات إنكار لقوام الشيء.
6
واعتبار الأجزاء هي الأعراض كاللون والطعم والحر والبرد والخشونة واللين خلط بين الصفات الأولى والثانية. فالصفات الأولى هي ما يحدد «الجزء الذي لا يتجزأ» كالوجود والثقل والطول والعرض والعمق. أما الصفات الثانية فهي التي تظهر من خلال الحواس الخمس، وهي الأعراض لا الأجزاء. وقد يكون الجسم هو المماسة من إحدى الجهات. وهذا تحديد للجسم من الخارج، وقد تكون المماسة من أسفل حتى يمكن للجسم أن يرتكز على آخر. وقد تكون من جهات أخرى حتى يكون القديم محاطا بالأجسام. ويبدو أن الذي يحدد التصور الطبيعي للجسم هنا هو التصور «الإلهي».
7
والمماسة بعد المجاورة وقبل التأليف، والمباينة ضد المجاورة. خلاصة القول أن الجسم عند المعتزلة والفلاسفة هو الطويل العريض العميق، ذي الأبعاد الثلاثة. وعند الأشاعرة هو المتحيز القابل للقسمة ولو في جهة واحدة. وعند كليهما الجسم مؤلف أو متألف ومنقسم إلى جهات ثلاثة، أو مؤلف من أربعة أجزاء أو ستة أو ثمانية أو ستة وثلاثين جزءا أو من عدد غير محدد من الأجزاء.
8
فإذا ما تحدد الجسم بالأبعاد الثلاثة، فإنه يكون قابلا للقسمة كما يقول الحكماء إلى ما لا نهاية، وليس له أجزاء يتوقف عليه.
9
أو يكون هو الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة، وينقسم إلى أجزاء صغار لا تنقسم أصلا أو لا تنقسم فعلا غير متناهية، وهو الجوهر الفرد الذي ينكره الحكماء.
ينقسم الجوهر عند الحكماء إلى خمسة جواهر: صورة إن كان حالا، وهيولى إن كان محلا، وجسما إن كان مركبا منهما، وإن كان لا حالا ولا محلا فإنه يكون نفسا إن تعلق بالجسم تعلق التدبير، وعقلا إن لم يكن كذلك. يمكن فهم نفس القسمة بأنه إذا كان الجوهر له أبعاد ثلاثة فهو جسم، وإن كان جزؤه به بالفعل فصورة وإلا فمادة. وإن لم يكن جزءا وكان متصرفا فيه فنفس وإلا فعقل. هنا تبدو القسمة وكأن غايتها الانتقال من الوجود الحسي المركب من مادة وصورة إلى الوجود العقلي البسيط مثل النفس والعقل، في حين أنه عند المتكلمين لا جوهر إلا المتحيز. قد يقبل القسمة وهو الجسم وقد لا يقبلها وهو الجوهر الفرد. فالجسم البسيط يقبل القسمة. وبالتالي فهناك أربعة احتمالات: الأول أن الأجزاء موجودة بالفعل ومتناهية. والثاني أن الأجزاء موجودة بالفعل وغير متناهية. والثالث أن الأجزاء موجودة بالقوة ومتناهية. والرابع أن الأجزاء موجودة بالقوة وغير متناهية.
10
ولذلك كانت الأجزاء المفردة في العالم نوعين: الأول مفرد في ذاته ينتفي الانقسام عنه. والثاني مفرد في الجنس دون الذات. وهو بدوره نوعان: الأول جوهر واحد وهو الجزء الذي لا يتجزأ، وكل جسم من أجسام العالم ينتهي إلى جزء لا يتجزأ. الثاني كل عرض في نفسه، فإن كل شيء واحد مفتقر إلى محل واحد.
11 (1) الجوهر الفرد
والجوهر الفرد لا شكل له.
12
ولا يشبه شكلا من الأشكال، لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يماس ولا يجاور ولا يلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض إلا التركيب لأنه جزء لا يتجزأ. وقد يبدو ذلك متناقضا لأن الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم. الحركة والسكون أعراض لا تحل إلا في محل. ولماذا تجوز عليه الحركة والسكون واللون والمماسة والطعم والرائحة ولا تجوز عليه باقي الأعراض مثل الطول والتأليف أو العلم والقدرة والحياة؟ لماذا تجوز عليه الأعراض الأولى إذا كان منفردا ولا تجوز عليه الأعراض الثانية إذا كان منفردا؟ والإنسان جزء لا يتجزأ ويجوز عليه الطول والعلم والقدرة والحياة.
13
وقد قيل إن له خطا من المساحة، أو هو نقطة على خط. والأشكال الهندسية تعبر عن درجة أعظم من التعظيم والإجلال، الدائرة أو المربع أو المثلث. فالأشكال الهندسية تعبر عن معان إنسانية، وما هي إلا رموز لأشياء أخرى هي حقائق مستقلة. الخط هو اللامتناهي، والمثلث هي الدولة التي ترتبط بمركز أعلى واحد أو العالم الذي في قمته «الله»، والمربع هو التناهي المحدد الواضح. أما الدائرة فإشكالها أنها تعبر عن التناهي لأنها محددة في المساحة، وعن اللاتناهي لأنها تدور إلى ما لا نهاية، ولأن محيطها متصل إلى ما لا نهاية؛ ومن ثم كانت أفضل شكل هندسي للتعبير عن قدم العالم.
14
وهو حادث لأن المادة حادثة لا قديمة، ومتناه لأن التناهي من طبيعة الحادث. وأجمعوا أنه إذا انضم جزء لا يتجزأ إلى آخر حدث طول وإلا كيف تكونت الأجسام؟ وهنا تتراوح التصورات له بين التصورات الميتافيزيقية الخالصة، والتصورات المادية. والسؤال الآن: هل له وجود حقيقة، سواء كان وجودا ميتافيزيقيا رياضيا في الأذهان أم وجودا حسيا في الأعيان، أم إنه من صنع الوهم ليخدم غاية دينية معينة؟ هل هو تحليل علمي للأجسام الطبيعية أم إنه محاولة لإرساء مقدمات لإثبات وجود «الله» كما سيبدو ذلك في إثبات الصانع في موضع الذات؟
لذلك اختلف فيه المتكلمون والفلاسفة بين الإثبات والنفي، يثبته المتكلمون وينفيه الحكماء وكأنهما هذه المرة يتبادلان الأدوار، فيثبت المتكلمون شيئا من صنع الوهم لا وجود له إلا في الأذهان، وهم الذين لا يثبتون شيئا إلا في الحس، بينما ينفيه الحكماء، وهم الذين يثبتون المعاني في الذهن متجاوزين للحس. ويتبع المتكلمون في ذلك حججا رياضية وفلسفية وطبيعية، منها ما يعتمد على الإثبات، ومنها ما يقوم على برهان الخلف؛ أي إثبات استحالة النقيض وهو الهيولى والصورة عند الحكماء. مثلا الجوهر الفرد كالنقطة في الرياضة التي منها تتكون جميع الأشكال الهندسية، الخط والزاوية والمثلث والمربع والمستطيل والدائرة ... إلخ. والحقيقة أن هذه كلها موجودات ذهنية لا وجود لها في الخارج ولا تنقسم إلا بالوهم ولا تجتمع أو تفترق إلا بالخيال. وإن أصغر الزوايا مجرد افتراض عقلي لا وجود له مثل النقطة والخط والموضوعات الرياضية كلها؛ فمعظم الأدلة الرياضية مستقاة من الفكر التمثيلي. الرياضة خاصة الهندسة في النقط والخطوط والمساحات تقوم على التماس ، والتماس إثبات للجواهر الفردة. وهذا أيضا إغفال للشيء وحديث عن بديله. أما إثبات الجوهر الفرد عن طريق إثبات قسمة الحركة والزمان، استحالة وجود أجزاء لا متناهية وإلا استحالت الحركة كما يفعل الأشاعرة؛ فهو إثبات خاطئ؛ وذلك لأن الزمان والحركة لا ينقسمان إلا من حيث هما مكان. ليس بالحركة ماض أو حاضر أو مستقبل؛ فهذا إبدال للمكان بالزمان. الزمان إحساس بالزمان شعور به، والحركة تغير في الزمان. وكلاهما وحدة واحدة لا تركيب فيها. التركيب افتراض عقلي خالص يقوم على التجزئة والتفتيت من أجل الهدم والقضاء على العالم من أجل إثبات، ولو كفاية بعيدة، إرادة مشخصة وقدرة خارجة عن العالم وعليه.
15
وسواء كان الجوهر الفرد لا ينقسم أصلا أو فعلا، فهو لا ينقسم لأنه لا وجود له بالفعل. والأجسام البسيطة لا تنقسم ولا تتجزأ لأنها بسيطة. والصورة جوهر لا جسمي فكيف تنقسم الصورة؟ والعقل جوهر، والنفس جوهر فكيف تنقسم الجواهر؟ كما يثبت المتكلمون الجوهر الفرد ببرهان المماسة؛ مماسة الكرة على البسيط في الجوهر الفرد، ويثبتونه أيضا بالقرين، وهي نقطة الخط التي يتكون منها الخط ولا ينقسم. وإن مماسة الكرة لسطح لا تثبت الجزء إلا افتراضا لأنا لا نرى إلا الكرة فوق السطح. ومماسة خط لخط فوقه يدل على تماس الأجزاء افتراضا أيضا. ويرد المتكلمون على الاعتراض الخاص بالجوهر الفرد وإثباته بالنقطة بالنسبة للخط على أن ذلك عرض، والأعراض لا تنقسم بأن الأعراض أيضا تنقسم.
16
الحقيقة أنه يمكن أيضا نفي الجوهر ببرهان المماسة؛ وذلك لأن كل جوهر فرد لا بد وأن تكون له جهات ست، يمين ويسار، وأمام وخلف، وأعلى وأسفل، يحاذي بها الجواهر الفردة الأخرى. ومن ثم فكل جوهر فرد يتجزأ. ويرد المتكلمون على الشبهة بأن الجوهر الفرد لا يتجزأ بأن كل الاعتراضات والإلزامات تقوم على افتراض الجوهر الفرد وليس على نفيه؛ ومن ثم كان إثباته أقرب. وهذه الطريقة تلزم المتكلمين جميعا في إثبات استحالة الرأي المعارض حتى يثبت الرأي المطلوب. كما يرد المتكلمون على الجهات الست بأن كل ما له جهة فمنقسم وهو ليس الجوهر الفرد، كما أن إثبات الجهة لا يعني الانقسام إلى ما لا نهاية؛ لأن الجهات أعراض وليست جواهر أو هي نسب وليست ذوات. ويعتمد المتكلمون في كل الأحوال لإثبات مذهبهم على مقدمتين: الأولى أن كل منقسم له أجزاء بالفعل والثانية أنها متناهية.
17
والحقيقة أنهما مقدمتان جدليتان فارغتان لا يثبتان شيئا بالفعل، لا تعتمدان إلا على العقل الصوري القادر أيضا على تفنيدهما صوريا بنموذج صوري آخر. إن استحالة الانقسام إلى ما لا نهاية لإثبات وجود الجزء تفكير قائم على عقلية مركبة على افتراض أن النهائي من صنو الطبيعة، وأن اللانهائي من خارجه. ويستعمل المتكلمون في ذلك حججا خطابية صرفة مثل: لو وجدت القسمة إلى ما لا نهاية لغمرت وجه الأرض! كأن قسمة حبة القمح إلى أقسام لا متناهية تغمر حقول مصر وغيطانها، وإذن لأمكن بذلك إشباع الجياع!
18
وبعض الحجج الصورية الأخرى تكون مليئة بالمتناقضات، مثل: كيف يتركب الجسم من جزء لا يتجزأ ولا يتجزأ، أو لو جاز جزء على ملتقى اثنين لم يكن لا يتجزأ!...
إن حجج إثبات المتكلمين للجوهر للفرد كلها افتراضات عقلية تعبر عن بناء عقلي مركب على النهائي واللانهائي، أو على مجرد تحصيل حاصل لا يأتي بجديد، مثل: «كل منقسم له أجزاء بالفعل وأنها متناهية.» فكل منقسم له بطبيعة الحال أجزاء، وكل جزء متناه. ولا غرابة في ذلك؛ إذ يؤيده الحس والمشاهدة، ولا يحتاج إلى أدلة تثبت هذه الحقيقة البينة. وكأن الفكر لا يسير إلى الأمام بل يسير إلى الوراء. والذي لا يتقدم خطوة يتراجع خطوات، وينتهي به الأمر إلى النكوص المستمر، والتعايش على ذاته والواقع منه بريء وهو غريب عليه. ومعظم الأدلة الفرعية لإثبات هذه الحقيقة البديهية تقوم على استحالة الرأي المضاد؛ فالحجة القائلة بأنه لو كان المنقسم واحدا للزم انقسام الوحدة لا تثبت شيئا؛ لأن البداهة لا يمكن إثباتها إلا بالدوران حولها وإثبات ما يخالفها. والحجة بأن لو كان واحدا لكان التفريق إعداما له أيضا تقوم على رفض الرأي المضاد. والحجة بأن الجسم مقاطع لأجزاء متمايزة بالفعل تحصيل حاصل؛ لأنها تعرف الكل بأجزائه ولم تأت بجديد كمن يقول: الإنسان له رأس وبطن وذراعان وساقان. ما إثبات أن الجواهر الفردية متناهية في الجسم فإنها لا تحتاج إلى دليل؛ فالجسم له طول وعرض وعمق، ويشغل مساحة ويتحيز في المكان. ومن ثم فهو محدود متناه. ولكن العقلية المركبة على بناء المتناهي واللامتناهي تتوهم أن الحكم على الجواهر الفردية الداخلة في تكوين الجسم بأنها متناهية لتعطي الفرصة لإثبات موجود لا متناه وهو إيهام تقع فيه النفس. وإثبات هذه الحقيقة البديهية، وهي أن الأجسام متناهية، لا تحتاج إلى دليل، خاصة ولو كانت الأدلة كلها خاطئة تقوم على الخلط بين الزمان والمكان وتكرر حججا دخلت من حضارات أخرى بعد تمثلها وأصبحت جزءا من الثقافة الإسلامية العامة. وهي حجج تهدف إلى هدم الإلهيات وإنكار الحركة وتحويل الزمان إلى مكان. فمثلا الحجة بأنه لو كانت الأجزاء غير متناهية لامتنع قطع المسافة في زمن متناه خلط صريح بين الزمان والمكان، ونظرة خارجية تقسيمية تجاورية للزمان على أنه مدد متتالية، والمكان على أنه مسافات متتابعة.
19
أما إثبات تناهي الأجزاء بأنها محصورة فتحصيل حاصل، وكأن الإنسان يريد أن يثبت تناهي الساق لأنه محصور بين القدم والركبة! أما التناهي عن طريق التأليف وزيادة الأجزاء فيزيد الحجم أو تنقص الأجزاء فينقص الحجم، فتحصيل حاصل، كمن يقول إن الواحد إذا أضيف إليه واحد أصبح اثنين، وإن الاثنين إذا طرحنا منها واحدا يبقى واحد!
وإذا كانت حجج المتكلمين ضد قسمة الجسم إلى ما لا نهاية عند الحكماء سليمة وقوية، إلا أن ذلك لا يعني صحة رأي المتكلمين في وجود الجوهر الفرد. صحيح أن ما له أطراف وأضلاع يستحيل أن ينقسم إلى ما لا نهاية، وأن الانفصال إلى ما لا نهاية يقتضي الاتصال إلى ما لا نهاية. ولما كان الجسم متصلا إلى نهاية كان انفصاله متصلا إلى نهاية، وإن كان انقسام الجسم قسمين غير متساويين كان انقسام القسم الأصغر إلى ما لا نهاية أكبر من انقسام القسم الأكبر. ويعرف الحكماء بأن كل هذه الانقسامات بالقوة وليست بالفعل؛ أي إنها افتراضات وهمية وليست وقائع محسوسة.
20
وتعتمد حجة الحكماء على أن الجسم واحد متصل قابل للقسمة إلى ما لا نهاية، لا لأنه مركب من أجزاء لا تتجزأ. والجسم متصل بشهادة الحس وقابل للقسمة إلى ما لا نهاية. موقف الحكماء أقرب إلى بداهة الحس وأوليات العقل، وهي أن الأجسام متداخلة في نفسها، وأن قسمة الجسم إلى قسمين يفقده الجسمية ويحيله إلى جزء من الجسم، ويتحول من المعنى الفلسفي إلى المعنى الطبيعي.
21
الأجسام متصلة كما يرى الحكماء ولكنهم يجعلونها قابلة للقسمة ولانقسامات غير متناهية، وهذا أيضا افتراض لا يزيد ولا ينقص شيئا من واقع الأشياء، ومن حيث مدلولها الفلسفي، وإن كان لها مدلول علمي في البحث عن قوانين الطبيعة، ويدل على عقلية مركبة على بناء اللامتناهي والتناهي. لقد أصاب الحكماء في إنكارهم الجوهر الفرد، وفي تصورهم أن الجسم جوهر واحد متصل، ولكنهم عادوا فهدموا ما بنوه بجعلهم الجسم منقسما إلى ما لا نهاية، فوقعوا في نفس الافتراض الذي لا لزوم له، والذي لا يقدم في كثير أو في قليل. ومع ذلك فحجج الحكماء أكثر إقناعا، حجج المحاذاة التي تثبت جهة الجسم يمينا ويسارا أو أعلى وأسفل لا تدمر جسمية الأشياء ولا تحيلها هباء منثورا أو نقاطا هندسية.
22
ومن ثم كان موقف الحكماء أكثر اتساقا مع العقل والواقع من موقف المتكلمين؛ لذلك انتشرت علوم الحكمة فوق علوم التوحيد وضمته وطوته وأعادت صياغته؛ لأنها كانت تمثل نسقا عقليا أكثر تقدما من نسق الكلام. يعطي الحكماء تصورا أكثر عقلانية ولو أنه ليس أقل «إلهية» بالضرورة، وهو أن الجسم مكون من مادة وصورة، المادة للانفصال والصورة للاتصال. ولما كانت الصورة لا تنفصل عن الهيولى استحال انقسام الهيولى، وإلا انقسمت الصورة. والدليل على إثبات الهيولى والصورة هو إثبات الهيولى لكل جسم، وعدم خلو الهيولى عن الصورة أو الصورة عن الهيولى، وأن الهيولى ليست علة الصورة؛ فالأدنى لا يكون علة للأعلى، وأن لكل جسم صورة نوعية، وأن لكل جسم حيزا طبيعيا. والجسم الواحد لا يكون له حيزان طبيعيان.
والحقيقة أن إثبات الجوهر عند المتكلمين ونفيه عند الحكماء إنما ينتهي إلى حقيقة واحدة، وهي إثبات الجوهر المفارق بصرف النظر عن الوسيلة والحجة؛ إذ يريد المتكلمون إثبات تناهي الأشياء من أجل إثبات اللاتناهي، ويريد الحكماء إثبات لا تناهي الأشياء أيضا من أجل إثبات اللاتناهي. والخلاف بينهما فقط في درجة التنظير والإحكام الجدلي. فإذا كان إثبات الجوهر بأن كل متناه محصور، وبالتالي لا يمكن أن يشتمل الجوهر على ما ليس بمتناه، ليس إثباتا للجوهر الفرد، بل نفي لقسمة الشيء إلى ما لا نهاية على ما يقول الحكماء، فكذلك إثبات الجوهر الفرد من صنو إثبات الهيولى والصورة التي لا تنفصل إحداهما عن الأخرى؛ ومن ثم لا يتجزآن؛ فالحكماء يثبتون التجزؤ عندما ينكرون على المتكلمين الجوهر الفرد.
23
ويهاجم المتكلمون البديل الذي يقدمه الحكماء في تصورهم للجسم على أنه هيولى وصورة، ويعتمدون على هذا التصور لرفض حججهم في إنكار الجوهر الفرد وإثبات القسمة إلى ما لا نهاية. إن تصور الحكماء للهيولى والصورة إثبات للتناهي ورفض للاتناهي؛ لأن اتصال الصورة بالهيولى متناه وليس لا متناهيا وإلا كان الجسم لا متناهيا، وهذا التناهي هو الجوهر الفرد.
ويتفق كثير من المتكلمين، وعلى رأسهم المجسمة، على نفي الجزء الذي لا يتجزأ مع الحكماء، مع أن المجسمة هم أصحاب الطبيعة ومحللوها. كما كان القول بالطفرة رد فعل على تجزئة الأجسام، وتصورا بديلا عن الجزء الذي لا يتجزأ ما دامت الطبيعة ليس لها حد ولا نهاية.
24
ولكن رد الفعل الحاسم جاء من جانب الفقهاء الذين تمثلوا النظرة الحسية ودافعوا عن تصور المتكلمين الحسي الدائم، والذين تخلوا عنه هذه المرة لحساب الجزء الذي لا يتجزأ الذي هو من صنع الوهم.
25
كما رفضوا الصورة باعتبارها جوهرا وجعلها كيفية أو عرضا. فالفقهاء الذين يعرف عنهم بأنهم المدافعون عن «الله» هم الذين يدافعون عن الحركة والتغير والمادة دون الثبات والصورة . ويرد الفقهاء على الحجج الخمس التي يوردها المتكلمون لإثبات الجوهر الفرد، واحدة وراء الأخرى؛ فالأولى تعتمد على الحركة التي لا بد من قطعها؛ ومن ثم فهي متناهية. وهذا في حقيقة الأمر خلط بين المكان والحركة. يرفض الفقهاء الجوهر لأنه ليس هناك جزء لا يتجزأ لا تستطيع مقدرة «الله» أن تقسمه إلى قسمين إلى ما لا نهاية. إنكار الجوهر الفرد هنا قائم على إثبات قدرة «الله» المطلقة. وهكذا أدت الغايات «الإلهية» إلى تضارب في تصورات الطبيعة؛ لأنه لا يبدأ أحد من الطبيعة كما هي، بل يأخذها الجميع سلما لإثبات الإلهيات، كل حسب تصوره لها؛ فعند البعض أن إثبات جوهر فرد فيه إثبات لله حتى يمكن فهم الشرعية العقلية لهذا الجوهر الذي لا ينقسم. وإنكار الجوهر الفرد لإثبات قدرة الله المطلقة القادرة على قسمة ما لا ينقسم. وكيف تجتمع أبعاد الجسم، الطول والعرض والعمق، من جواهر فردة لا أبعاد لها؟ مم تنشأ الأجسام إذن وكيف يجتمع الخط من نقاط لا طول لها ولا عرض ولا عمق؟ كيف تكون مساحة من نقاط لا وجود لها؟ لا بد إذن من إثبات قسم له طول وعرض ومساحة تتكون منه الأجسام.
والثانية تعتمد على حجة المماسة التي تعتمد بدورها على التجاور في المكان والملاصقة في الجوهر الفرد. ولكن كيف تتم ملاصقة ما لا وجود له وما لا طول ولا عرض ولا عمق، ولا جهة من أمام أو خلف أو أعلى أو أسفل أو يمينا أو يسارا؟ فكل حيز متناه في أبعاده، والتجاور هو ملاقاة الأبعاد بعضها البعض أو ملاقاة الجهات.
والثالثة قدرة الله على تفريق الأجزاء المجتمعة إلى أجزاء لا تتجزأ وإلا ثبت عجزها. وبالتالي فإن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ هو مجرد وسيلة لإثبات قدرة الله المطلقة. ولكن العالم لم يوجد من أجزاء جمعها «الله» بل العالم موجود فحسب. ولماذا يجمع «الله» أجزاء متفرقة ولا يفرق أجساما مجتمع وكلاهما إثبات للقدرة؟ إن «الله» قادر على إثبات جزء لا يتجزأ، ولكنه لم يخلقه بالفعل في بنية هذا العالم. بل إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ قد يكون تعجيزا «لله» لأن الله قادر على قسمته. ومن ثم فإثبات القدرة يأتي عن طريق قسمة الجزء الذي لا يتجزأ إلى ما لا نهاية على قول الحكماء لو كانت الغاية إثبات القدرة الإلهية ونفي العجز. ولكن الإنسان نفسه غير قادر على قسمة الشيء إلى أجزاء لا تتجزأ. لذلك قرر البعض أن لقدرة الله كمالا وآخر لا تستطيع بعده أن تخرج إلى الفعل؛ أي إن إثبات الجزء الذي لا يتجزأ أدى إلى تعجيز الله وإلى غير ما كان يهدف إليه منه.
26
وإثبات الجوهر الفرد أن الافتراق نتيجة الاجتماع هو دليل على مسلمة، وهي أن الأشياء قبل أن تجتمع كانت متفرقة، وهو ما يحتاج إلى دليل أيضا كمن يريد إثبات الافتراق بأن الأشياء كانت مجتمعة من قبل، وهو ما يحتاج إلى دليل.
والرابعة الكبر والصغر، وأن أقسام الصغير أقل من أقسام الكبير. وهذا خلط بين المتناهي في الكبر والمتناهي في الصغر، وخلط بين الكم والكيف. فالجزء الذي لا يتجزأ واحد في الكبير والصغير، بالإضافة إلى أن مجموع هذه الوحدات الصغيرة الكيفية التي لا طول ولا عرض ولا عمق لها نظرا لا تنتج جسما له طول وعرض وعمق بالفعل. والغاية من إثبات التناهي في العالم هو الرد على الدهرية التي أخطأت، فتصورت اللامتناهي موجودا في العالم بالفعل بإثبات أن الأجزاء لا متناهية؛ لأن الله قادر على ذلك. هنا يختلف الفقهاء عن الحكماء في السبب مع اتفاقهم في الرأي.
والخامسة أن الأشياء لها كل؛ ومن ثم فهي متناهية، وأن الله يعلم عددها. ويدل ذلك على أن موضوع الجزء الذي لا يتجزأ مجرد تمرين عقلي من أجل صفتي القدرة والعلم، ولا وجود له بالفعل كموضوع مادي. وأن أقصى وجود له هو أنه موجود ذهني من اختراع الوهم ليساعد في عمليات الحساب والرياضة، وإقامة أنساق صورية خالصة يجوز استخدام البعض منها للسيطرة على قوانين الطبيعة.
27
يتفق الفقهاء إذن مع الحكماء وفريق من المتكلمين الحسيين في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ إلى ما لا نهاية مع اختلاف الدواعي والأسباب. ولا يكتفي الفقهاء ببيان تهافت أدلة المتكلمين ونقدها، بل يوردون حججا لنفي الجزء الذي لا يتجزأ، وإثبات أن كل جزء يتجزأ أبدا تجمع بين البداهة والاستدلال، وتنتقل بين المستويات الرياضية والطبيعية والإلهية. مثلا، الجزء الذي لا يتجزأ إما موجود خارج العالم؛ ومن ثم فالعالم يتكون من أجزاء لا تتجزأ أو لا يكون موجودا. وإما أن يكون موجودا في العالم كعرض يقوم بغيره أو كجوهر يقوم بنفسه. وإن وجد في العالم فلا بد من أن يلاقى وأن يماس، ولا بد له من جهات، وهي صفات لا تتوافر في الجزء الذي لا يتجزأ. وإذا كان الجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، فكيف ينتج الكم من الكيف والجسم من اللاجسم؟ وإذا كان اجتماع جزأين لا يتجزآن أطول بالضرورة من وجودهما متفرقين كان لهما طول. وإن صغر الأجسام وكبرها يوحي بأن الجزء الذي لا يتجزأ له طول وعرض وعمق. وإذا كان الجسم يتكون من أجزاء لا تتجزأ وكان للجسم لون، كان للجزء الذي لا يتجزأ لون، وكان كل ذي لون يتجزأ. وبالتالي لا ينفع دفاع الأشاعرة بأن الجزء الذي لا يتجزأ ذو لون واحد. إن كل جسم يتجزأ ضرورة. أما الجزء الذي لا يتجزأ إذا كان جسما فإنه إن لم يتجزأ يكون باطلا معدوما. والجزء من على المحيط يمر بأجزاء أكثر من الجزء الذي في المركز؛ ومن ثم فالجزء الذي لا يتجزأ يتجزأ. وإذا وضع الجزء الذي لا يتجزأ على سطح أملس إن كان لا يزيد على السطح فهو معدوم، وإن زاد عليه فله حجم؛ ومن ثم ينقسم. وهل ثقل جزء لا يتجزأ من الحديد له مثل الوزن الذي لجزء لا يتجزأ من القطن؟ ويمكن إقامة خطوط ساقطة إلى ما لا نهاية بين متوازيين مما يدل على نفي الجزء الذي لا يتجزأ. وفي المثلث المتساوي الأضلاع يكون الوتر أكبر من الضلعين ولا يفسر هذا الكبر إلا وجود أجزاء لها طول. ويمكن قسم الدائرة إلى قسمين متساويين حتى ولو كانت مكونة من أحد عشر جزءا؛ ومن ثم فالجزء يتجزأ. وإذا كان قصد الأشاعرة إثبات الإلهيات، فإنهم قد انتهوا إلى مناقضتها والوقوع في الشرك لأنهم وصفوا الجزء الذي لا يتجزأ بأوصاف «الله»؛ إذ إنه لا طول له ولا عرض ولا عمق ولا شكل ولا لون ولا حد له، لا يرى ولا يحس ولا يلمس، وليس بذي مادة. وينتهي الفقهاء إلى أن الأجسام جواهر وأعراض لا أجزاء لم تتجزأ ولا صورة ولا هيولى. ويرفضون تصور المتكلمين والحكماء على السواء.
28
فالفقهاء هم الذين دافعوا عن الجواهر والأعراض دعامة نظرية الوجود في المقدمات النظرية التي حاول المتكلمون إرساء قواعدها.
الجوهر الفرد إذن افتراض ذهني خالص يقوم على الخلط بين المنفصل والمتصل، بين الذهن والمادة، بل إنه ينشأ من عمل الوهم أو الخيال الرياضي. ولا فرق في ذلك بين تصورات المتكلمين أو الحكماء للجوهر الفرد، فإنه ليس من عمل العقل. والوهم لا يمكن أن يؤيد بالدليل لأنه وهم، والوهم افتراض لا سند له من العقل أو من الواقع، ولكنه مجرد صورة خيالية أقرب إلى التشبيه منه إلى الاستدلال. وأدخل في الفن منه إلى العلم.
29
فالجزء الذي لا يتجزأ ليس اقتراحا علميا يمكن التحقق من صدقه، وليس واقعا حسيا يمكن التحقق من وجوده؛ لذلك اختلف في تصوره المتكلمون، كل يتصوره حسب خياله وما يقتضيه وهمه، وكلها تصورات لا يمكن التحقق من صدقها لا في العقل ولا في الواقع.
30
ومع ذلك فهو يكشف عن رغبة في التمسك بالطرفين معا بمقتضيات العقل ومتطلبات الحس. فالجزء الذي لا يتجزأ لا طول له ولا عرض ولا عمق، لا يماس ولا يجاور ولا يلاصق، ومع ذلك قابل لجميع الأعراض والتركيب؛ لأنه جزء لا يتجزأ. ولما كانت الأعراض لا يمكن حملها إلا على جسم، وأن الحركة والسكون أعراض لا تحل إلا في محل كان لا بد أن يكون جسما؛ فالجزء لا يتجزأ افتراض من وضع الوهم كجسم، والأعراض واقع حي مدرك بالعقل. فهو إذن جمع بين الوهم والعقل، بين الافتراض والواقع. واعتبار الإنسان جزءا لا يتجزأ أيضا جمع بين العقل والوهم، بين الحس والخيال، بين الافتراض والواقع. فالإنسان وحدة واحدة لا تتجزأ إلى أعضاء أو إلى بدن وفكر، أو إلى حس وعقل أو إلى فعل وانفعال. فمجموع هذه المظاهر كلها هو الإنسان. بل إن الإنسان هو المثل الأول للجزء الذي لا يتجزأ. ولكن الإنسان من ناحية أخرى له طول وعرض، ويتحيز في مكان. وكل هذه ليست من صفات الجزء الذي لا يتجزأ. والإنسان ليس جزءا بل هو كل. صحيح أن العلم والقدرة والحياة والإرادة من مظاهر الإنسان، ولكن لماذا إنكار الحركة والسكون والمماسة والمباينة واللون والطعم والرائحة، وهي كلها مظاهر للبدن؟ البدن يتحرك، والإنسان يسكن ويماس، ويباين ويتلون، وله طعم ورائحة. وإذا كان الجزء الذي لا يتجزأ لا يوجد إلا بالوهم وإذا اجتمع جزءان يوجدان في الواقع، فإنه يكون جمعا بين الافتراض والواقع، بين الوهم والحس. من أين يأتي الوجود باجتماع جزأين لا وجود لهما؟ وكيف يوجد الكم مع اجتماع كيف محض؟ ولماذا جزءان وليس ثلاثة أو أربعة أجزاء؟ إنه لأقرب إلى العقل باجتماع جوهرين يحدث جسم واحد. ومع ذلك لا يمكن تسمية الجوهر الفرد جسما؛ لأن الجسم هو المتآلف والجوهر الفرد لا يتألف.
31
واعتبار أن الجزء لا يتجزأ له ست جهات هو أيضا توفيق بين الوهم والعقل، بين الافتراض والواقع. ومع ذلك فالجهات الست أعراض هي غيره، وكأن الجوهر الفرد ما زال افتراضا خالصا للوهم.
32
فإذا ما أخذ بعض الحكماء حلا وسطا يجعل الجزء الذي لا يتجزأ متوسطا متجزئا بالقوة إلى ما لا نهاية ومتجزئا بالفعل إلى نهاية وغاية، يشير أيضا إلى البعد الافتراضي الأساسي الوهمي. وكيف يثبت جسم واحد متصل وفي نفس الوقت يكون متجزئا إلى ما لا نهاية؟ أليس الأول مشاهدة حس، والثاني افتراض وهم؟
والآن نأتي إلى بيت القصيد، هل الجوهر الفرد مقولة ميتافيزيقية، وبالتالي يكون أمرا اعتباريا أو موجودا ذهنيا ، لا في الخارج شأنه شأن الأمور العامة في ميتافيزيقا الوجود والماهية، والواجب والممكن والمستحيل، والقديم والحادث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، أم هو مقولة طبيعية؛ أي جسم موجود بالفعل، جوهر حامل لأعراض، يكون موضوعا للعلم الطبيعي؟ أم لا هو ذا ولا ذاك، بل هو مقولة دينية صرفة، الغرض منها إثبات وجود «الله» مع أنه سابق لأوانه في هذه المرحلة من تأسيس موضوع العلم وهو نظرية الوجود؟ فإذا كان الاحتمال الأول؛ أي الوجود الذهني، فلا حرج فهو تصور وارد ويمكن استعماله في العلوم الرياضية. وإن كان الاحتمال الثاني؛ أي الجسم الطبيعي، فالقول الفصل في ذلك للعلم الطبيعي الرياضي أو التجريبي. وإن كان الاحتمال الثالث؛ أي التصور الديني من أجل إثبات الصانع، فهل حقق هذه الغاية أم إنه انتهى إلى أخذ صفات «الله» بدل أن يعطيها إياه؟ فإذا كان لا جسم له ولا عرض، ولا شكل، ولا لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا حركة، ولا سكون، فماذا عن صفات التنزيه «لله» وأنه ليس في محل ولا يشبه الحوادث؟ وأي الموقفين أكثر دفاعا عن الدين وحرصا على «الله»، إثبات الجوهر الفرد الذي يشارك «الله» في بعض صفاته، وعلى رأسها التفرد، أم نفي الجوهر الفرد حتى يتفرد «الله» وحده بصفاته وتثبت قدرته المطلقة دون ما حاجة إلى وسائل مصطنعة للدفاع عنها وإثباتها؟
يبدو أن المتكلمين أعدوا «الجوهر الفرد» كمقدمة لإثبات وجود الله أولا ثم صفاته ثانيا. فإذا ما انقسم الجسم إلى جزء لا يتجزأ لا يحتوي على سبب وجوده من ذاته، وبالتالي فإنه يحتاج في وجوده إلى غيره؛ ومن ثم يثبت وجود الله. وإن انقسم إلى ما لا نهاية كما يقول الحكماء، فإن اللانهائي يقود أيضا إلى اللا نهائية؛ ففي كلا التصورين يثبت وجود «الله». خشي المتكلمون من قسمة الجسم إلى ما لا نهاية خشية على العلم الإلهي الذي يحصر كل شيء، فآثروا إثبات الجزء الذي لا يتجزأ دفاعا عن القدرة الإلهية على الإيجاد من عدم، وبالتالي يثبت شيئان في وقت واحد، قدرة «الله» وخلق العالم. وخطورة رأي الحكماء عند المتكلمين هو النيل من علم «الله» وإنكار العلم الكلي لأنه ما دامت الأجزاء لا تتناهى، فعلم «الله» بها لن يكون تفصيلا، بل جملة وهو مرادف للجهل. كما أنه يمثل خطورة على دليل الحدوث الذي يقوم على تناهي العالم؛ فما لا نهاية له لا يدخل في الحدوث. أما الحكماء فإنهم يبدون أكثر اتساقا؛ لأن معلومات «الله» ومقدوراته لا نهاية لكل واحد منها، وبالتالي يتسق العلم والقدرة مع المعلوم والمقدور. أما عند المتكلمين فيتحدد علم «الله» بنهاية الجزء الذي لا يتجزأ كما تتحدد قدرته به. وفي كلتا الحالتين ليس الغرض من المقول في الجزء الذي لا يتجزأ تأسيس العلم الطبيعي، بل تأسيس الخطاب «الإلهي». ليست النظرية وصفا للطبيعة بقدر ما هي وسيلة لإثبات وجود «الله» وصفاته مثل العلم والقدرة. وعلى هذا النحو يكون الفكر «الإلهي» موجها للفكر العلمي. في كلتا الحالتين الغاية واحدة وهو المبحث عن «الله» من خلال الطبيعة أو توجيه الذهن البشري «بالله» كوظيفة معرفية؛ فالوحدة الأولى هي الوحدة البسيطة التي منها تتركب الأشياء وهي مماثلة للواحد. والصورة أيضا هو العنصر الباقي في الطبيعة الذي يدل على الخالق كما تدل النفس على البدن والمخلوق على الخالق. ومن ثم انتهى المتكلمون والحكماء، كل بطريقته وبإحساسه الديني إلى إثبات المشاركة في الصفات بين الجوهر الفرد والمطلوب إثباته وهو «الله». فالجوهر الفرد لا شكل له ولا لون ولا طعم ولا رائحة ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يرى؛ ومن ثم فهو يشارك «الله» في صفات التنزيه، وأنه «ليس كمثله شيء.» وإذا كان الجوهر الفرد جسما فإنه ينفع من يتصور الله على أنه «جسم»، فيشاركان معا في صفة الجسمية؛ أي في صفات التشبيه كما شاركا من قبل في صفات التنزيه. وفي حالة التنزيه ما قيمة جوهر فرد لا شكل له ولا ينسب إليه شكل من الأشكال، ولا يمكن التعرف عليه أو رؤيته؟ إنه مجرد افتراض محض من أجل غاية أخرى أبعد ما تكون عن الطبيعة، وكأن علم التوحيد آثر استبدال عالم الافتراض بعالم الواقع، وعالم الوهم بعالم الحقيقة. وفي حالة التشبيه يكون «الله» قد أثبت جسما مثل الجوهر الفرد. فسواء كان الجوهر الفرد لا ينقسم أصلا أو فعلا، فهو لا ينقسم لأنه لا وجود له. وجعل الجواهر الفردة غير متناهية في الصغر أو في العدد هو إشراك لها مع صفات «الله». وسواء كان الجسم ينقسم أو لا ينقسم أو انقسم إلى نهاية أو إلى لا نهاية أو كان مكونا من أجزاء أو وحدة واحدة، فالنهاية واحدة، وهي أنها كلها مقدمات خطابية جدلية لإثبات وجود «الله» وتصور صفاته طبقا للحساسية الدينية عند المتكلمين والحكماء، ودرجة إحساساتهم بالطهارة العقلية ودوافعهم الإيمانية. إن إثبات وجود «الله» على افتراضات عقلية هو تأسيس هاو لا صرح له ولا بناء. وهل من الضروري تدمير العالم وتجزئته وتقطيعه إربا إربا إلى حد المتناهي في الصغر حتى يثبت «الله» على أشلاء؟ لقد استعمل الوحي عديدا من الأدلة تعتمد على شهادات الحس وأوائل العقول وبداهات الوجدان واعتمادا على مقاييس المنفعة والضرر وصالح الأمة.
33
بل يبدو الفكر الديني خاصة عند المتكلمين وقد وقع في دور، فالجوهر الفرد وسيلة لإثبات وجود «الله» و«الله» هو الذي يمكننا من رؤية الجوهر الفرد. وكيف ترى ما لا جسم له ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا لون، وما لا يدرك بالحواس؟
34
يبدو أن موضوع الجوهر الفرد كله بصرف النظر عن الخلاف حوله بين إثبات وإنكار أو حول التصورات فيه، إنما يعبر عن عاطفة دينية وليس عن موقف عقلي. وأن تصور الجسم بين مقولتي القسمة والتناهي إنما يعبر عن رغبة في الوصول إلى الوحدة البسيطة الأولى التي منها تتكون الأشياء. فالرغبة في الذهاب من المركب إلى البسيط، من المتناهي إلى اللامتناهي عاطفة دينية تعبر عن نفسها عقلا وإن لم يكن لها ما يقابلها في الواقع. الجسم جسم لا ينقسم إلى أجزاء متناهية أو لا متناهية. هذه الوحدة الأولى هي النقطة الهندسية التي تبدأ منها الخطوط والمساحات والحجوم، وهي اللحظة الزمانية التي يبدأ منها الحاضر والماضي والمستقبل، وهو الواحد في العدد الذي منه تبدأ العمليات الحسابية من جمع وضرب وقسمة ، وهو الجزء الذي لا يتجزأ في الطبيعة الذي منه تتركب الأجسام، وهو «الله» مصدر الكون ومنشؤه وغايته ونهايته. وهنا يبدو أثر الفكر الديني الإلهي في الفكر الطبيعي والرياضي والإنساني، وكأن «الله» وظيفة معرفية في تصور العالم والأشياء. ولا يمكن تصور أجزاء غير متناهية لأنها ستشارك الله في صفة وهي اللاتناهي. ومن ثم كان الجزء الذي لا يتجزأ متناهيا. وهنا يبدو الفكر الديني الإلهي فكرا محددا كما أنه فكر موجه. ولا تهم الحجج التي يثبت بها تناهي الأجسام، حجة القسمة إلى النصف، ثم قسمة النصف إلى النصف، وهكذا حتى تصل إلى الجزء الذي لا يتجزأ، ولا يهم مصدرها. الجزء الذي لا يتجزأ إذن تفكير ديني لاهوتي في الطبيعة؛ فهو أحد التصورات الطبيعية للتوحيد. أما الجزء الذي يتجزأ فهو تصور علمي كمي للطبيعة. وقد قالت الفرق بالتصورين، تصور المتكلمين من ناحية، وتصور الحكماء والفقهاء من ناحية أخرى، كل طبقا لتصوره للتوحيد وإحساسه بالتعظيم والإجلال. وقد آثر فريق ثالث التوقف عن الحكم، فهو أكثر أمانة؛ إذ يدل على أن العقل هنا لا يتعامل مع واقع، بل مع عواطف التعظيم والإجلال، كل مفكر ودرجته من العقلانية، يختار ما يشاء من التصورات التي تساعده على الإعلان عن تعظيمه وإجلاله في أكثر الصور إحكاما في رأيه.
35
والقضية الآن هي: إذا كان مبحث الجسم وما نتج عنه من نظرية الجوهر الفرد بين الإثبات والإنكار تفكيرا دينيا إلهيا مقنعا، فلماذا لا يتحول إلى تفكير ديني إنساني صريح؟ أليست الإلهيات هي إنسانيات مقلوبة؟
36
ألم يحاول الوحي تأسيس علم إنساني؟ لقد كشف الجسم عن دائرة الأشياء أو عن بعد الطبيعة في الحياة الإنسانية كما ستكشف باقي الأجسام؛ الأجسام التي لها مزاج عن بعد الإنسان. وإذا كان مبحث الأعراض قد كشف عن بعد الإنسان صراحة، فإن مبحث الجواهر يكشف عن بعد الطبيعة بنفس الدرجة من الصراحة والوضوح. ولما كان الإنسان ذا بعد اجتماعي، فإن بعدي الإنسان والطبيعة لا يكتملان إلا ببعديهما الاجتماعي والسياسي إذا ما أراد الفكر الديني الإبقاء على مفهوم الوحدة المتمثل في الجزء الذي لا يتجزأ. ومن ثم تظهر هناك مفاهيم وحدة الشخصية، والوحدة الوطنية، وحدة الشعب، ووحدة الأمة، ووحدة التاريخ. وبالتالي يصبح لكثير من مسائل الجزء الذي لا يتجزأ مدلول. ويتأسس الفكر العلمي مستقلا عن الفكر الديني، ويتحول الفكر الديني إلى علوم الاجتماع والسياسة. (2) عوارض الأجسام
37
عوارض الأجسام هي الأحكام الخاصة بالأجسام أو دلالاتها، وأهمها حدوث الأجسام وتناهيها.
38
وهنا ينقسم الجسم إلى ذات وصفات، وهي نفس القسمة السابقة إلى جواهر وأعراض؛ فالجوهر هو الذات، والأعراض هي الصفات. ولكن هذه المرة تتخلى اللغة الطبيعية عن مكانها إلى اللغة الميتافيزيقية للاقتراب من الإلهيات وإثبات الجواهر المفارقة، وأهم أحكامها ثلاثة: الأول ما يتعلق بالقدم والحدوث، والبقاء والفناء ثم الإعادة، والثاني ما يتعلق بصلة الجواهر بالأعراض وجوبا أو إمكانا أو استحالة، والثالث ما يتعلق بوحدة الأجسام أو تعددها. ويتضح من هذه الأحكام أنها في حقيقة الأمر عود إلى «الأمور العامة» أو «ميتافيزيقا الوجود» وقراءة مبحث الجواهر من خلالها. فالقدم والحدوث، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة من مباحث الأمور العامة. ويبرز السؤال القديم من جديد: هل هذه الأحكام ميتافيزيقية طبيعية خالصة أم إنها تكشف عن موجهات الفكر الديني؟ هل هي أحكام فلسفية علمية صرفة أم إنها مقولات تمهيدية للدفاع عن عقائد الإيمان، وبالتالي فهي فكر ديني مقنع؟ (2-1) القدم والحدوث
لما كانت الأجسام ذوات أو صفات، وكان الاحتمالان القدم والحدوث، أصبحت لدينا احتمالات أربعة: الأول أن تكون الأجسام محدثة بذواتها وصفاتها، وهو الحق عند المتكلمين، وبه قال المليون من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس. والثاني أن تكون قديمة بذواتها وصفاتها، وبه قال متأخرو الحكماء.
39
فالأجسام فلكيات وعنصريات، والفلكيات قديمة بموادها وصورها وأعراضها إلا الحركات والأوضاع المشخصة. والعنصريات قديمة بموادها وصورها الجسمية، بنوعها وجنسها. والثالث أن تكون قديمة بذواتها محدثة بصفاتها عند أوائل الحكماء.
40
ثم اختلفوا في الذوات، هل هي أجسام، وأي أجسام هي؟ والرابع أن تكون حادثة بذواتها قديمة بصفاتها ، وهو باطل؛ فالأصل لا يكون حادثا والفرع قديما، وتناقض عقلي لأن الذات هي الأصل والصفات الفرع، ولا يكون الفرع أشرف من الأصل.
41
والحقيقة أن الخلاف ليس بين هذه الاحتمالات الأربعة فيما يتعلق بالذات والصفات والقدم والحدوث، بل بين اثنين منها فحسب، بين القدم والحدوث، سواء كانا في الذات أم في الصفات؛ فعند الأشاعرة الأجسام حادثة لأن الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وتثبت المقدمة الأولى بأن الأجسام لا تخلو عن الأعراض وأن الأعراض حادثة. وإثبات الثانية بأن الجسم لا يخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان. ويبدو أن دليل الحدوث قد بدأ بعد دليل الجوهر الفرد لإثبات الصانع، وهو الموضوع الأول في التوحيد كاشفا عن الغاية البعيدة من مبحث الأجسام، وهو إثبات وجود الله إما عن طريق الجوهر الفرد أو عن طريق الحدوث. وخطأ هذا الدليل هو قيامه على وهم أن التغير حدوث، وأن تغير الأعراض تعني أنها حادثة؛ فالتغير قيمة وكمال، في حين أن مفهوم الحوادث عند المتكلمين لا قيمة ونقص؛ وبالتالي فالقول بأن الأعراض حادثة يخلط بين حكمي قيمة، الأول إيجابي والثاني سلبي. والقول بأن كل ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث تحصيل حاصل، لا يضيف جديدا. كما أنه ينتقل من الحكم على الأعراض؛ أي الصفات، إلى الحكم على الذوات؛ أي الأجسام، مع أنه من الاحتمالات الأربعة أن تكون الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها، وهو اختيار أصحاب الطبائع من المعتزلة كحل وسط بين حدوث الأجسام بذواتها وصفاتها، وهو حل الأشاعرة، وقدم الأجسام بذواتها وصفاتها وهو اختيار الحكماء.
وقد تمت إعادة صياغة هذا الدليل عدة مرات من المتقدمين والمتأخرين. وأزاد عليه البعض عدم جواز استناد القديم إلى السبب الموجب؛ فالأجسام فعل الفاعل المختار، وبالتالي تكون حادثة.
42
وهذا بداية بالقديم مباشرة، وهو المطلوب إثباته، دون المحدث وهو موضوع البحث. كما أنه حكم قيمة صرف «لا يجوز ...» وليس حكما عقليا أو وصفا مرئيا لشيء مادي. وأحيانا يكون الدليل ذا بداية حسية تقوم على المشاهدة للحركات وتجدد الأعراض على الأجسام، ثم يحدث القلب عن طريق العكس والتضاد، ويقال: «والقديم ليس كذلك.» مع أنه لم تحدث دراسة للقديم ولا تحليل خاص له، ولكن حدث فقط إدانة الجسم الحادث ثم تبرئة القديم، وكأن الخطيئة الأولى لا تمحوها إلا البراءة الأصلية!
43
وحجج القدم أربع: الأولى أن المادة قديمة، وإلا احتاجت إلى مدة أخرى وتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، وأنها لا تخلو عن الصورة، وبالتالي يلزم قدم الجسم مادة وصورة. وأهمية هذا الدليل انه يقوم على مفهوم التسلسل إلى ما لا نهاية، وينفي ضرورة وجوده مادة أولى وبداية أولى، وبالتالي يكون فكرا يقوم على التواصل لا على الانقطاع، وهي ميزة الفكر العلمي، والثانية أن الزمان قديم وإلا كان عدمه قبل وجوده قبلية لا يجامع فيها السابق والمسبوق، وتتميز الحجة بنفس الميزة السابقة، وبالتالي تكون أقرب إلى الاتساق العقلي من افتراض لا زمان قبل الزمان. بل إن هذا اللازمان لا يفهم إلا بالإضافة إلى الزمان وبالنسبة إليه، فيكون زمانا بمعنى ما أو زمانا إضافيا.
44
والثالثة أن فاعلية الفاعل للعالم قديمة ويلزم منه قدم العالم. فلو كانت حادثة لتوقفت على شرط حادث، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح ويلزم التسلسل. ومع أنها حجة تفترض المطلوب إثباته إلا أنها أقرب إلى الاتساق العقلي من أن الفاعل القديم لا يصدر عنه إلا شيء قديم، كما أن الفاعل الحادث لا يصدر عنه إلا شيء حادث. فلو كان العالم حادثا لصدر عن موجود حادث، وبالتالي ينتفي وجود «الله». والرابعة أن صحة العالم لا أول لها وكذلك صحة تأثير الباري فيه، وبالتالي يكون كلاهما قديم لمصاحبة العلة للمعلول ولمقارنة المعلول بالعلة.
45
ويبدو أن المعركة احتدمت قبل أن تبتدأ، وأن حجج إثبات حدوث العالم أو قدمه إنما كانت تخفي المعركة الحقيقية على وجود الصانع وقدمه التي ستظهر في أول موضوع الذات.
فإذا كان الاحتمال الرابع متناقضا؛ أي حدوث الذات وقدم الصفات، فلم يبق إلا الاحتمال الثالث، وهو قدم الذات وحدوث الصفات الذي يحاول الجمع بين المطلبين المتعارضين : الاتصال والتمايز، وأن يجمع بين التصورين المتعارضين: التصور الديني والتصور الطبيعي. فالنظريتان الأوليان: الحدوث والقدم ، كل منهما رد فعل انفعالي على الآخر، يأخذ صورة النظرية. وكل مطلب أصيل في الإنسان مطلب الحدوث ومطلب القدم، الرغبة في الانفصال والرغبة في الاتصال، البحث عن الأصالة والسعي نحو الجدة. وقد تم التعبير عن هذا الاحتمال الثالث بصورة إشراقية أسطورية تجعل ذات العالم قديمة وصفاته محدثة، وبالتالي يخرج العالم من أصل روحي. وتكون الصعوبة حينئذ في تفسير كيفية صدور هذه الأعراض المادية من هذا الجوهر الروحي. ولما كان هذا التصور أقرب إلى العاطفة الصوفية منه إلى التصور العقلي، فقد اعتمد على الصور الفنية أكثر من اعتماده على الحجج العقلية، وظهرت لغة النور والفيض والإشراق والعشق والتذكر والمعرفة والاحتياج والشوق إلى آخر ما هو معروف من مصطلحات حكمة الإشراق. ويكون العالم رحلة مؤقتة للروح تخلص فيه من المادة العارضة للرجوع إلى مصدرها الروحي الأول تنعم بعد بؤس، وتلتذ بعد ألم، فتسود عواطف التأليه على ما بقي من حكمة، وتتحول نظرية الفيض والصدور إلى نظرية في الخلاص والرجوع.
46
فإذا ما استطاع العقل التغلب على الخيال، واستطاعت التصورات السيادة على الإشراقيات، ظهرت اللغة الرياضية بدل الصور الفنية، وتحول العالم كله إلى أعداد لا فرق فيه بين قديم وحادث، ويصبح الواحد هو الأصل لا فرق في ذلك بين الواحد الرياضي والواحد الطبيعي والواحد في عقيدة التوحيد.
47
ولكن ظهر هذا الاحتمال الثالث في صيغة علمية عند أصحاب الطبائع في الجمع بين التصورين تلبية للمطلبين، وهو القول بالخلق عن طريق الطبائع أو التخلق. فإذا كانت الأجسام مخلوقة، فإن الأعراض متخلقة بطباعها؛ فالإيجاب بالذات لا بالإرادة، وبالطبع لا بالقدرة.
48
وفي حقيقة الأمر، إن الصيغ الثلاث أقرب إلى القدم منها إلى الحدوث. والسؤال الآن: هل مشكلة الذوات والصفات أساسا في الأجسام ثم نقلت بعد ذلك إلى الله في موضوع الذات والصفات؟ وهل مشكلة القدم والحدوث أساسا في الأجسام في الطبيعيات أو في الإنسانيات، ثم نقلت بعد ذلك إلى صفات الذات في الإلهيات ؟
والقضية هي: هل يمكن نقل هذه المسألة، القدم والحدوث من المستوى الميتافيزيقي النظري إلى المستوى الاجتماعي السياسي العملي؟ وأي الاحتمالات الأربعة أفضل وأكثر فعالية لحركات التغير الاجتماعي؟ هل المجتمعات محدثة بذاتها وبصفاتها، وبالتالي لا يكون لها وجود دائم ومستمر؟ هل هي قديمة بذاتها وبصفاتها وبالتالي يستحيل عليها التغيير؟ هل هي قديمة بذاتها محدثة بصفاتها مما يسمح ببقاء المجتمعات كذوات وتغيير الأنظمة الاجتماعية كصفات؟ أو أنها مشكلة وهمية من الأساس يحسن إلغاؤها وليس نقلها من المستوى الميتافيزيقي الطبيعي إلى المستوى الاجتماعي؟
49
وإذا كنا ما زلنا مجتمعات تراثية، فلا سبيل إلا نقلها دون إلغائها حتى تتحول إلى رصيد فعال في حركة التغير الاجتماعي.
50
فمهما كانت هناك محاولات لإلغائها، فإنها ستفرض نفسها. وبالتالي فالأفضل نقلها من الفكر الديني إلى الفكر الاجتماعي والسياسي. (2-2) البقاء والفناء والإعادة
وينبني القول بفناء العالم على إثبات حدوثه كما ينتج القول ببقائه على إثبات قدمه. فمن قال بالحدوث قال بالفناء ثم الإعادة، ومن قال بالقدم قال بالبقاء. فإذا كان الجسم ذا أبعاد ثلاثة أو ذا جهات ست، فالأبعاد متناهية سواء كانت في ملأ أو خلاء. ويثبت المتكلمون ذلك بحجج رياضية، ويردون على الحجج الرياضية للخصوم باستعمال كل المسائل الرياضية والطبيعية من أجل مسلمات الفكر الديني إثباتا أو نفيا. وإثبات فناء الأجسام يتضمن فناء العالم مع أنه شتان ما بين إعدام شيء وإعدام العالم كله. المتناهي في الصغر محسوس ومرئي، أما المتناهي في الكبر فليس كذلك.
51
وبالتالي يظهر سؤال: متى يفنى العالم وكيف؟ وتتفاوت الإجابة بطبيعة الحال بين تحديد عمر للعالم أو ترك ذلك للعلم «الإلهي». كما تتفاوت الإجابة عن كيفية الفناء بين القدرة «الإلهية» غير المسببة أو بخلق «الله» الفناء أو بمنع البقاء أو بقطع الأكوان.
52
ولا يمكن معرفة ذلك كله عقلا أو حسا، بل كلها ظنون وأوهام، وهي كلها من مضادات العلم وليست من نظرية العلم. وهنا يبرز موضوع «الجنة والنار»، وهل يفنيان بفناء العالم، فإن بقيا شاركا الله في صفة الخلود، وتناقضا مع فناء العالم، وإن فنيا تناقضا مع عقيدة الثواب والعقاب الأبديين.
53
وهو استباق لموضوع المعاد من السمعيات، قفزا على الإلهيات ، مما يدل على تسرع الفكر الديني في الظهور دون ما انتظار للتأصيل. وإذا كانت الأجسام غير باقية، فعدم بقاء الأعراض أولى لما كانت الأجسام لا تخلو من الأعراض، ولما كانت الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام؛ فأحكام الأجسام أو عوارضها تصدق بالتبعية على الأعراض.
54
وفي حقيقة الأمر، إن فناء العالم ليس واقعة مادية؛ فهذا ما يحدده العالم الطبيعي إن استطاع، ولكنه واقعة شعورية دالة. العالم يوجد في الشعور في لحظة الوعي به ويفنى لحظة فقدان هذا الوعي. وفي كلتا اللحظتين لوجوده في الشعور أو لغيابه منه له آثار على السلوك للأفراد والمجتمعات؛ إذ تمثل عقيدة فناء العالم خطورة بالغة على الحياة كما هو الحال في نظرية الخلق وفي دليل الحدوث؛ وذلك لأنها توحي للإنسان بأن هذا العالم لا قيمة له، وأنه ليس قائما بذاته، وأنه يستمد وجوده وقيمته من عالم آخر منفصل عنه، فهو سلب محض؛ ومن ثم يوحي للإنسان بالتخلي عنه والاتجاه إلى الإيجاب الخالص؛ ومن ثم ينشأ الاغتراب والانحراف والانعراج وكل مظاهر الاعوجاج في السلوك. توحي عقيدة فناء العالم بأن هذا العالم لا أهمية له، ولا بقاء له بذاته مما يبعث على الغثيان ويجعل العدم هو أساس وجوده ومصدره، وبالتالي تكون الأفعال فيه غير مجدية وغير باقية، وبالتالي فهي فانية مثله. وهذا هدم للعالم وتدمير له، ونظرة إعدامية لبنيته، كما أنه إنكار للغائية وسبب وجود الإنسان فيه. كما توحي بأنه يمكن تعويضه وبالتالي انتظار عالم آخر أفضل من هذا العالم. كما أنها وسيلة رخيصة لإثبات بقاء الله وقدرته على الإعدام، وكأن الله يعدم ولا يوجد، يعذب ولا ينعم، يهدم ولا يبني، وكأنه كاره للبشر، عدو للعالم، يفرح لعذاب الآخرين! وهو صورة «الطاغية» وليس «الإله»!
ومع ذلك فقد فرض البقاء نفسه على الفناء في القول بالإعادة. فإذا كانت الأجسام تفنى فإنها تعود. وهذا حل لإشكال بإشكال آخر، وتصحيح خطأ بخطأ ثان، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا. كيف تتم الإعادة؟ وهل الذي ابتدأ في الدنيا هو الذي يعاد في الآخرة؟
55
وأين تتم الإعادة؟ وهل تكون إعادة أبدية فتشارك الأجسام «الله» في صفة البقاء وإن لم تشاركه في صفة القدم؟ فإذا ما نجح المتكلمون في زحزحة الأجسام في البداية، فإنها تعود وتفرض نفسها في النهاية.
بقاء الأجسام إذن هو الأكثر اتفاقا مع العقل ومع الواقع والأكثر نفعا في الحياة الاجتماعية والسياسية. وإن كان خطأ فهو خطأ واحد وليس خطأين؛ فالأجسام باقية، هذا ما تقرره شهادة الحس بالرغم من التغير والحركة والفناء. لا تفنى إلا الأعراض بمعنى تغيرها وطريانها على الأجسام. الأجسام باقية ضرورة. وعند البعض ليس بسبب بقائها في الحس لأن الأعراض كذلك، بل لأنها ضرورة عقلية. وعند البعض الآخر استدلالا بأنه لو لم تكن الأجسام باقية لارتفع الموت والحياة والتسخن والتبرد.
56
والحقيقة أن بقاء الأجسام يؤدي إلى بقاء العالم، وله ميزة ضخمة وآثار إيجابية على السلوك الفردي والاجتماعي؛ فالوجود هو الأساس وليس العدم، والعمل فيه باق ومنتج ولا يضيع هباء فيه، وليس خارجا عنه تعويضا أو مكافأة، يحدث فيه التراكم التاريخي ويقع فيه عمل الأفراد والجماهير، يتضمن غائية وقصدية بعيدا عن العشوائية والمصادفة، وفيه تنزيه «لله» عن اللعب بالعالم وتدميره والتشكك فيه والقضاء على قوانينه واستقلاله. ويسترد البقاء كصفة للعالم بدلا من عزوها للذات المشخصة، روح العالم، فلا يدفع العالم الثمن، ولا يخرج الإنسان منه خاسرا، ويقوم بدوره فيه قادرا لا عاجزا، ومناضلا لا هاربا، ومؤثرا الحاضر القريب على المستقبل البعيد. وما الفائدة من تدمير العالم ثم يعيش الإنسان في خراب، وعزاؤه في الإعادة؟ «وإن عادوا عدنا.» قد يكون الأقرب إلى التجربة البشرية والاطمئنان النفسي والروحي هو صيرورة البقاء والفناء، تجدد الأجسام والجواهر حالا بعد حال، تجدد مستمر من داخل الأشياء وليس من خارجها، وتجدد الحياة البشرية الفردية والاجتماعية دون نفي للمسئولية، بل توزيعها على الجماعة في العمل الجماعي المشترك. وعند الحكماء لا عالم غير هذا العالم وإن برهنوا على ذلك بأسباب رياضية طبيعية دون إشارة إلى دور الفعالية والنشاط كما يحتاج جيلنا. (2-3) هل تتعرى الجواهر عن الأعراض؟
هل يمكن الجمع بين العرض وضده؟ هل يمكن وجود أعراض مجتمعة دون جواهر؟ هل يبقى العرض بعرض مثله؟ كلها تساؤلات قد لا يكون لها أي موضوع فعلي يمكن الحديث عنه وبحثه موضوعيا سواء بتحليل العقل للموضوع أو بتحليل الموضوع بالتجربة. هي صياغات من وضع العقل المرتبط بالإيمان الديني من أجل أن يسمح للذهن بالإعلان عن مواقفه إما بإثبات الإمكانية أو الاستحالة. في الأولى يتغلب الفكر الديني على الفكر العلمي، وفي الثانية يتغلب الفكر العلمي على الفكر الديني. أهمية هذه التساؤلات إذا كانت جادة هي في كشفها عن بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني بصرف النظر عن نوعية الإجابة، وتعرية مرحلة في تاريخ الفكر الإنساني ونموذج حضاري فريد، كيف يمكن تأسيس العلم ابتداء من التوحيد؟ فإثبات جواز تعري الجواهر عن الأعراض لا يتم بسبب علمي، وإن بدا ذلك، بل لأن «الله» قادر على كل شيء. كما أنه قادر على الجمع بين الأضداد مثل العلم والجهل، والحياة والموت والقدرة والعجز. كما أنه قادر على أن يخلي الجسم عن العرض وضده، وأن يبقى بلا أعراض. ولا يفترق في ذلك جمهور الأشاعرة عن بعض المعتزلة. وهو أيضا قادر على إيجاد أعراض مجتمعة دون جواهر، وعلى إبقاء العرض بعرض مثله كالساحر فاعل الأعاجيب أمام دهشة الناس!
57
أما إثبات استحالة تعري الجواهر عن الأعراض، والجمع بين العرض وضده، ووجود أعراض بلا جواهر أو بقاء العرض بعرض مثله، فهو دفاع عن قوانين الطبيعة وعن استطاعة العقل الوصول إليها، وتسخيرها لصالح الإنسان، وتأسيس للفكر العلمي.
58
وأحيانا يقوم المتكلمون بدور الحكماء، ويقوم الحكماء بدور المتكلمين. وفي هذه الحالة يظل المتكلمون مدافعين عن حق الذات المشخصة إثباتا للاختيار ومنعا لإجبار القانون العلمي لها وتحديده لقدرتها المطلقة. فلو لزم من وجود الجوهر وجود العرض لكان الرب مضطرا إلى إحداث العرض عند إحداث الجوهر ولانتفى الاختيار. وما من معلوم إلا ويمكن أن يخلق «الله» في العبد علما به. فإذا ما أراد المتكلمون خطابا علميا وجدوا أن الهواء والماء خال من اللون وضده أو من جعل قبول الأعراض معللا بالتحيز والدوران. بل إن لفظ العرض لا يمنع منه كتاب أو سنة أو إجماع أو لغة، وليس لفظا منقولا، بل نابع من التراث، وليس مستعارا بل مأخوذ من الأصول ذاتها. وتتفق بالمصادقة مع الألفاظ الجديدة مثل الجوهر والعرض، ثم انتقلت من التشريع الخاص إلى الوجود العام، ومن العمل إلى النظر، كما نشأت ألفاظ أصول الفقه نشأة تلقائية في «الرسالة». (2-4) هل الأجسام متجانسة؟ هل الأجسام جنس واحد أم أجناس متعددة؟
والتجانس هذا لا يعني الاستغراق المنطقي، بل يعني وحدة الجوهر. هل الجوهر جنس واحد؟ هل جوهر العالم واحد؟ وهو سؤال يعيد من جديد موضوع الوحدة والكثرة على مستوى الجواهر: هل الجوهر واحد أم الجواهر متعددة؟ وبطبيعة الحال آثر البعض وحدة الجوهر دون التعدد فتنشأ معضلة التمايز، وآثر البعض الآخر التعدد إيثارا لشهادة الحس مضحيا بالوحدة كأمر اعتباري خالص، أو بالوحدة الكيمائية كما يحدث في التفاعل. وما زالت القضية تعبيرا مثاليا عن فكر لاهوتي بصدد الطبيعة. وقد يكون السبب في التركيز على أن الوحدة هي الأصل الرغبة في التمايز مع الديانات القديمة التي ترى أن الاختلاف هو الأصل بصرف النظر عن عدد الجواهر بالرغم من خطورة التماثل في الوحدة بين صفات «الله» وصفات الأجسام.
59 (3) أقسام الجسم
والجسم هو العنصر الثالث في القسمة الثلاثية للوجود إلى جوهر وعرض وجسم. ولكن يتداخل مع الجوهر ويختلط به، فيكون الجسم داخلا تحت الجوهر، ويكون الجوهر داخلا تحت الجسم. فالجوهر إما منقسم وهو الجسم أو غير منقسم وهو الجوهر الفرد. وهنا يبدو الجسم جسمين، جسم مادي وجسم معنوي. والجوهر إما هيولى وهو المحل أو صورة وهو الحال، أو مركب منهما وهو الجسم، أو غير مركب وهو المفارق. والمفارق إما نفس أو عقل. وهنا أيضا يبدو الجسم جسمين، جسم مركب وجسم بسيط، الأول مادي والثانوي معنوي. والغاية من القسمة إثبات الجسم المعنوي كالنفس والعقل. والجسم المركب كالمعادن والنبات والحيوان ، والبسيط كالعناصر الأربعة أو كري مثل الأفلاك والكواكب. البسيط إما كري مرئي كالأفلاك والكواكب أو معنوي كالعقل والنفس. وهنا تدخل المباحث الكونية والمباحث الطبيعية في مباحث الوجود، واقتراب أجسام الأفلاك والكواكب من الجواهر المعنوية كالعقول والنفوس. وهنا يتسرب إلى علوم الكلام الفلكيات والكونيات وهو أضعف الأجزاء في علوم الحكمة، ومباحث ظنية خالصة، في حين أن علم الكلام علم قطعي.
60
ويبدو أن هدف القسمة كلها هو إثبات المفارقات؛ أي الجواهر الروحانية التي تتسق فيما بينها بقسمة خاصة. فالجواهر الروحانية هي التي لا تكون متحيزة ولا حالة في متحيز، وقد قال بها الحكماء، وهي الهيولى والأرواح البشرية أو النفوس السماوية والعقول أو الملائكة. بل تتم قسمتها من حيث تأثيرها في الأجسام. فالجواهر المفارقة إما مؤثرة كالملأ الأعلى والعقول العشرة وهي كاملة غير حادثة أو مدبرة، وهي إما علوية كالنفوس الفلكية أو سفلية للبسائط أو للأشخاص. والجواهر المفارقة للأشخاص هي النفوس الناطقة التي تشمل القوى العاقلة والإدراكات والتي تتعلق بحدوث النفس وبالبدن وبالحواس الخمس الداخلية والخارجية والتي تنتهي إلى بقاء النفس. وقد تكون الجواهر غير مؤثرة ولا مدبرة مثل الملائكة القائمة بفعل الخير أو «الشياطين» القائمة بفعل الشر أو «الجن» المستعدة للقيام بفعل الخير والشر على السواء. وهنا يبدو تأليه الطبيعة العليا، وإعطاء الأعلى قيمة أكثر من الأسفل، وتصور البسيط أشرف من المركب، وإعطاء الأعلى قوة وسيطرة على الأسفل. ويقترب تأليه الطبيعة من الأسطورة وتشخيص صفات الأفعال من خير وشر. ويظل هذا الجزء من مباحث الوجود أضعف الأجزاء من ناحية تحليل العقل وتحليل الوجود.
61
ولكن القسمة الشائعة هي قسمة الجسم إلى مركب وبسيط. والبسيط ينقسم بدوره إلى فلكي وعنصري، والفلكي إلى الأفلاك والكواكب، والعنصري إلى العناصر الأربعة. أما المركب فإنه ينقسم إلى ما لا مزاج له وإلى ما له مزاج. وينقسم ما له مزاج بدوره إلى ما لا نفس له وما له نفس. والنفس إما نباتية أو حيوانية أو إنسانية دون الدخول في المفارقات مثل النفس والعقل.
62
ومن ثم تكون الأجسام خمسة، ثلاثة من البسائط وهي الأفلاك والكواكب والعناصر الأربعة، واثنان من المركبات وهي ما لا مزاج له وما له مزاج سواء ما لا نفس له أو ما له نفس.
63 (3-1) الأفلاك
والأفلاك الثابتة بالمرصد تسعة تشتمل على أربع وعشرين كوكبا؛ الأول: فلك الأفلاك، وهو الفلك الأطلسي لأنه غير مكوكب، وهو «العرش» المجيد في لسان الشرع، والجهة فيه منتهى الإشارة ومقصد المتحرك. وأوصافه أنه بسيط، شفاف، لا ثقيل ولا خفيف، لا حار ولا بارد، لا رطب ولا يابس، لا يكون ولا يفسد، لا يتحرك في الكم، فيه ميل مستدير دون مستقيم، يتحرك يوميا. وتوهم المتكلمون له خمس دوائر: دائرة الأفق، وسط السماء، أول السموات، السمت، الارتفاع. والثاني: فلك الثوابت، وله حركة بطيئة تتم الدورة في 30000 سنة أو 36000 سنة، وهو الفلك الموافق المركز؛ أي إن مركزه مركز العالم ومركز الأرض. والثالث: فلك الشمس. والرابع: أفلاك القمر. ثم تأتي بعد ذلك الأفلاك الخمس الباقية.
64
ويلاحظ على هذا المذهب أنه حاول تأليه الطبيعة الكونية وإدخالها في نظرية الوجود، وهي حركة مقابلة لتجسيم المعبود. فإذا كان المعبود لا يجسم نظرا للاعتراضات العقلية والحجج المضادة، فإن الطبيعة تؤله بسهولة عندما يتضخم الإحساس الديني إلى أبعد صوره، فيتحول إلى خيال يعبر عنه بالصور الفنية. فيأخذ فلك الأفلاك وهو أعلى الأفلاك وأشرفها دور العرش المجيد في لسان الشرع، ويأخذ «الله» الدرجة الأولى بكرسيه، وجهته منتهى الإشارة، ومقصد كل حركة، وغاية كل اتجاه، أوصافه تشارك أوصاف الذات، صورته الاستدارة، وهي صورة الأبدية واللانهائية. أفلاكه السموات كما أن كرسيه العرش. وتأتي هذه المادة كلها من علم الفلك القديم وما وصل إليه تاريخ هذا العلم عند القدماء. فالأرض مركز العالم الذي يتحد به فلك الثوابت. وتشمل الأجسام الكونيات والأرضيات معا؛ أي تشمل دراسة الكواكب والنجوم وعالم السماء. ويكون السؤال: ما العمل إذا ما تغير علم الفلك وأعطى مادة أخرى مخالفة لمدة القدماء مع تقدم وسائل العلم الحديث؟ وكيف تتأسس العقائد إذن، وهي اليقين المطلق على إحدى مراحل تاريخ العلم وهو اليقين النسبي؟ كيف يقام الثابت على التغير؟ ويتأسس اليقين على الظن؟ هذه الكونيات لا هي علم لأنها تغيرت ولا هي دين لأنه لا سند لها منه. هي مجرد نسق قديم لإكمال نظرية الوجود حتى تشمل الكونيات كجزء من الطبيعيات، فتضم السموات إلى الأرض، و«الله» إلى العالم في ملحمة واحدة بطلها الإيمان ومأساتها العقل.
65 (3-2) الكواكب
وهي كلها شفافة ومضيئة إلا القمر فإنه كمد، يستمد نوره من الشمس. تختلف أشكاله حسب قربه أو بعده منها، فيكون هلالا أو بدرا ... إلخ. وهناك خسوف القمر ومحوه وكسوف الشمس. وقيل في محو القمر آراء كثيرة: إنه خيال أو شبح أو سواد أو تسخين النار أو جزءا لا يقبل النور. ويبدو وجه القمر مصورا بصورة إنسان. وهذا في الحقيقة تعطيل لفعل الطبيعة؛ لأن لكل عضو طلب نفع أو دفع ضرر؛ بالتالي يتم تشخيص الطبيعة وإسقاط الرؤية الإنسية عليها. أما بقية الكواكب فهي أجسام سماوية حافظة لوضعها معه. وكل مجموعة في مجرة. ويعتمد المتكلمون هنا على أقوال العلماء يدخلونها في أنساقهم.
66
وأحيانا لا يجدون فيها شيئا يحولونها إلى فكر ديني صريح أو مقنع فيعودون إلى أصل الوحي في القرآن، إما لإثبات الظواهر الفلكية مثل الكسوف والخسوف، أو للعودة إلى نظرية الوحي الأولى في أن الطبيعة للإنسان، والأشياء للاستعمال؛ أي الكونيات الإنسانية.
67
ولكن في معظم الأحوال يعتمد المتكلمون في تصوراتهم للأفلاك والكواكب لا على تحليلات العلماء ولا على أصول الوحي، بل على تصورات وهمية مستمدة من الثقافة القديمة وخيالات الناس.
68
ويكون السؤال بالنسبة لنا: لماذا يكون الجسم هي أجسام الكواكب والأفلاك؟ ولماذا يتأصل علم أصول الدين في علم الفلك مثل علوم الحكمة؟ قد يكون الجسم بالنسبة لنا هو الأجسام الأرضية أو الأجسام البشرية. ولو دفع التأمل في الأفلاك والكواكب إلى غزو الفضاء لما كان ذلك تعويضا عن نسيان أجسام الأرض وأجساد البشر. (3-3) العناصر
وقد جعلها المتأخرون أربعة أقسام: الأول خفيف مطلق يطلب المحيط في جميع الأحياز، حارة بالحس ويابس وهو النار. والثاني خفيف مضاف تحت النار وفوق الآخرين، حار رطب بالطبع وهو الهواء. والثالث ثقيل مطلق في المركز، بارد يابس وهو الأرض. والرابع ثقيل مضاف فوق الأرض وتحت الآخرين، بارد رطب بالطبع وهو الماء. وهناك أقسام متوسطة مثل البخار فهو ماء وهواء، والتربة فهي أرض وهواء، والطين فهو أرض وماء، والدخان وهو نار وهواء وتراب، مما يجعل طبقات العناصر سبعا مثل طبقات السموات!
69
وهي تقبل الكون والفساد على عكس الأجسام البسيطة في السماء. الكواكب والأفلاك تتركب منها المركبات عن طريق التحليل وعن طريق التركيب. ثم يتم التركيز على الأرض، وتظهر وكأنها العنصر الرئيسي أو مركز العناصر.
70
فالأرض في وسط الكل؛ لأن الكواكب في جميع الجهات. وهي كروية الشكل كما أن الماء كري.
71
وتستعمل الريح في إثبات كروية الأرض. والكرة تعبر عن التناهي واللاتناهي في آن واحد. ومع ذلك فالأرض متناهية الأطراف، وذلك إثبات لنهاية العالم.
72
وليس لها عند الأفلاك قدر محسوس. بها ظواهر مكانية راسخة مثل الجبال، ويحلل القدماء سبب تكونها. وبها ظواهر زمانية مثل الصبح، وسبب تكونه، كرة البخار تتكيف بالضوء لقبولها نور الشمس. وبها ظواهر تجمع بين الزمان والمكان مثل خط الاستواء، وهو ما يوازي من الأرض معدل النهار. والأفق يقطع المعدل وجميع المدارات بنصفين! ثم يأخذ موضوع هل الأرض ساكنة أم هاوية حيزا بارزا وكأنه موضوع رئيسي تعم به البلوى وتتعلق به مصالح الناس. بطبيعة الحال يبدو الخيال الشعبي وأساطير القدماء لتفسير سكون الأرض.
73
ويكون السؤال: هل هذا الوصف كله علم أم فلسفة أم دين؟ فإن كان علما فهو يمثل إحدى مراحل تاريخ العلم، وإن كان فلسفة فهي تعبر عن تصور القدماء للكون، وإن كان دينا فلا تعم به البلوى وليس موضوعا للعقائد ولا تتأسس عليه. ولكن يبرز أحيانا البعد الإنساني للكون، وأن الأرض سكن للإنسان بما فيها من نبات وماء وحيوان، وأن كل ما فيها إنما مسخر من أجله. ولكن يتدخل الفكر الديني في هذا الوصف الإنساني للكون، ويجعل كل ذلك من فعل الذات المشخصة، ويقضي على جلال الطبيعة وحكمتها.
74 (3-4) المركبات التي لا مزاج لها
75
والمزاج هو فعل الصورة الجسمية في مادتها ثم في مادة تجاورها. فالمجاورة شرط التفاعل، وبالأولى المساطحة التي تكون بالسطح. وكلما كان السطح أكثر كانت المماسة أتم بحسب تصغر الأجزاء. والعناصر المختلفة الكيفية إذا تصغرت أجزاؤها واختلطت حتى يحصل التماس فعلت كل صورة في مادة الآخر. وقيل هو كيفية متشابهة تحصل من تفاعل عناصر متصغرة الأجزاء بحيث تكثر صورة كل صورة كيفية الآخر. وقيل هو تفاعل أجزاء الأشياء؛ أي التفاعل الكيميائي الطبيعي بين العناصر. المزاج إذن هو حالات الأشياء. والسؤال الآن: هل المزاج حالات للأشياء بالفعل أم هو إسقاط من أحوال النفس ومزاجها على الطبيعة وتشخيص لها؟
وينقسم المزاج طبقا للكيفيات الأربعة للانفعال: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة. والاعتدال الحقيقي هو حدوث الانفعال بين طرفين على حد الوسط، وإلا فهو المعتدل بحسب الطب أو غير المعتدل. هناك فرق إذن بين الاعتدال الطبيعي، وهو افتراض عقلي مجرد، والاعتدال الحيوي وهو اعتدال الجسم الحي. علوم الطب والحياة إذن تدخل مع العلم الطبيعي في نظرية الوجود باعتبارها علوما طبيعية. وإن أعدل الأعضاء لهو الجلد سيما للأنملة، سيما للسبابة. لذلك تستعمل في الفرق بين الملموسات! وأعدل أنواع المركبات؛ أي أقربها إلى الاعتدال الحقيقي، نوع الإنسان. فالإنسان نموذج الاعتدال بين العناصر. ثم تختلف الأصناف؛ أي الأجناس البشرية، في عملها طبقا لموضعها الجغرافي بين خط الاستواء؛ حيث تتشابه أحوال الناس في الحر والبرد وسكان الإقليم الرابع؛ حيث تحسن الأحوال وتطول الأعمار، وتجود الأذهان وتكرم الأخلاق.
76
وأعدل الأشخاص هو أعدل شخص من كل صنف. وتؤثر الأوضاع الجغرافية في المزاج طبقا لموضع الإنسان من المنخفض أو الجبل أو البحر أو التربة أو الرياح أو الأشجار ... إلخ.
77
وهنا يبدو الإنسان الطبيعي في المزاج، وتظهر معه البيئة الجغرافية، كما تبدو التجمعات البشرية الطبيعية كتعبير عن تفاعل الإنسان مع الطبيعة.
والمركبات التي لا مزاج لها هي الظواهر الجوية والأرضية بفعل حر الشمس؛ إذ تصعد أجزاء هوائية مائية وتصبح بخارا، أو نارية أرضية وتصبح دخانا. والأول من شدة الحر يتحلل إلى ماء وهواء، والثاني من شدة البرد يصبح سحابا، فإذا بلغ درجة الزمهرير بلا جمود فهو مطر أو بجمود فهو إما ثلج قبل الاجتماع أو برد بعد الاجتماع. وإن لم يبلغ درجة الزمهرير فهو الضباب، ويكون بلا جمود الطل ومع الجمود الصقيع. والثاني؛ أي النارية الأرضية وهو الدخان، إما أن يكون مع سحاب أو يصل إلى كرة النار أو إلى كرة الزمهرير. فإن كان مع السحاب وبرد فهو الرعد، أو سخن وكان خفيفا فهو البرق، أو سخن وكان ثقيلا فهي الصاعقة. وإن وصل إلى كرة النار ولم يتصل بالأرض وكان لطيفا فهو الشهاب، أو كثيفا فهي الذؤابات والأذناب والنيازك وذوات القرون، أو غليظا وهي العلامات السود والحمر. وإن اتصل بالأرض فهو الحريق. وإن وصل إلى كرة الزمهرير فهو إما ريح أو زوابع وأعاصير، وإن انكسر عليه ضوء القمر فهي الهالة، أو ضوء الشمس فهو قوس قزح. ومن البخار والماء في الأرض إن كان خفيفا يخرج البخار، أو كان ثقيلا تخرج العيون. ومن البخار والدخان تخرج الزلازل والبراكين.
78
وفي محاولة تعريف هذه الظواهر يظهر الصراع بين الفكر العلمي والفكر الديني.
79
وأحيانا يأتي الفكر الفلسفي بينهما وكأنه تحصيل حاصل.
80
وقد يتم تجاوز ذلك كله بتساؤلات نظرية صرفة عن العالم والدنيا.
81
وفي النهاية يبدو تشخيص الطبيعة أو تطبيع الإنسان، يبرز الإنسان كبعد للطبيعة كما تبرز الطبيعة كبعد للإنسان في التقابل بين العالم الكبير والعالم الصغير عند الحكماء.
82
بل إن العالم من العلم؛ أي من الحس والشعور؛ فالعالم هو عالم الشعور، وليس للعالم زمان بل الشعور هو شعور بالزمان.
83
وتظل القضية أنه في حومة الصراع بين التصور الديني والتصور العلمي للعالم يبرز الإنسان بين الله والطبيعة.
84
وفي احتدام الصراع بين التصور العلمي للطبيعة؛ الطبيعة المستقلة التي تخضع لقوانين حتمية ومطردة، وبين التصور الديني لها؛ الطبيعة التابعة لإرادة مشخصة تفعل ما تشاء بلا قانون أو علية وبلا قصد أو غائية. يبرز الإنسان من ثنايا التصورين مدركا لقوانين الطبيعة ومسخرا إياها لصالحه. (3-5) المركبات التي لها مزاج
وهي تنقسم قسمين: ما لا نفس له، وما له نفس. وتظهر النفس هنا على أنها كيفية من المزاج.
85
والمركبات التي لا نفس لها هي المعادن، وتنقسم إلى منطرقة وغير منطرقة.
86
فالمنطرقة هي الأجساد السبعة المتكونة من اختلاط الزئبق والكبريت المتكونين من الأبخرة والأدخنة، وهي: الفضة، والذهب، والخارصين، والنحاس، والرصاص، والحديد، والأسرب.
87
وغير المنطرقة تكون إما للين مثل الزئبق، فتتحلل بالرطوبات كالأملاح والزاجات، وإما كالطلق والزرنيخ. هناك إذن تصوران: الأول يقوم على القسمة العقلية التي لا يمكنها حصر أنواع المعادن مما يدل على قصر منهج القسمة والتي لا يمكنها احتواء جميع مركبات الطبيعة. والثاني التصور الديني الذي يجعل كل المركبات خاضعة للفاعل المختار؛ وبالتالي يستحيل العلم والكشف عن القانون؛ لأن كل مظاهر الطبيعة تحدث بفعل إرادة خارجية مشخصة وليس طبقا لقوانين مستقلة ومطردة.
88
والحقيقة أن أصل الوحي إنما يشير إلى المعادن باعتبارها للاستعمال وللاستخدام في السلم والحرب، وهو الأساس الذي يمكن عليه بناء العقيدة.
89
أما المركبات التي لها مزاج ونفس فهي النفس.
90
والنفس كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتغذى وينمو أو يحس ويتحرك بالإرادة أو يعقل بالكليات ويستنبط بالرأي. وقد يعبر عنها بلازم واحد من حيث إنه ذات حياة بالقوة، وهو تعريف الحكماء، يظهر فيها الكمال والجسم والحياة، والعقل أحد مظاهرها. تتعلق بالبدن وليست مفارقة له. والنفس من حيث هي مبدأ الآثار قوة، وبالقياس إلى المادة صورة، وإلى طبيعة الجنس كمال. والتعريف أقرب إلى النفس الحيوية، مبدأ الحس والحركة والاستدلال، تجمع بين الوظائف البدنية والوظائف النفسية.
91
وتنقسم النفس إلى النفس النباتية، وهي كمال أول لجسم طبيعي من حيث هو يتغذى وينمو؛ فالكمال جنس، والأول تعني إخراج الكمالات الثانية كتوابع من الأول من العلم والقدرة. والجسم تعني إخراج كمال المجردات، والطبيعي تعني استبعاد الصناعي، والآلي تعني العناصر. والنفس الحيوانية كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يحس ويتحول بالإرادة. فالإحساس والحركة وظيفتان أعلى من التغذي والنمو. والنفس الإنسانية كمال أول لجسم آلي من حيث يعقل الكليات ويستنبط بالرأي. هناك إذن مراتب للنفس، الكل يشترك في الكمال والجسمية والطبيعة والآلية. وكل مرتبة عليا تحتوي على وظيفة أو وظائف أكثر من المرتبة الدنيا. فالنفس الحيوانية تزيد على النفس النباتية التمتع بالحياة والتحرك والإرادة، والنفس الإنسانية تزيد على النفس الحيوانية عقل الكليات واستنباط الرأي.
92
وتتضمن النفس النباتية قوى طبيعية أربعا: اثنتان لبقاء الشخص وهي الغاذية والنامية، الغاذية تحيل الأجسام داخل الجسم، وقد يحدث توقفها الموت لأنها متناهية، والنامية تدخل الغذاء بين الأجزاء. واثنتان يحتاج إليهما لبقاء النوع وهما المولدة والمصورة، المولدة تفصل من الغذاء ما يصلح أن يكون مادة للمثل، والمصورة توجد في الرحم خاصة تعطي الأجزاء الصور والقوى. وهذه القوى الأربع تخدمها قوى أربع أخرى. القوة الجاذبة وهي التي تجذب المحتاج إليه، ويدل عليها حركة الغذاء من الفم إلى المعدة، والقيء، وجذب المعدة للغذاء في التمساح والرحم بعد الطمث للمني، وجذب الأعضاء للدم من الكبد. والقوة الهاضمة ولها أربع مراتب، في المعدة ثم الكبد ثم العروق ثم الأعضاء. والقوة الماسكة وهي التي تمسك الغذاء ريثما تفعل فيه الهاضمة فعلها. وأخيرا القوة الدافعة، وهي إما للغذاء المهيأ للعضو إليه وإما للفضل عنه (التبرز، التقيؤ ... إلخ). وقيل إن هذه الأربع تخدمها الكيفيات الأربعة. فأشد القوى حاجة إلى الحرارة الهاضمة ثم الجاذبة ثم الدافعة ثم الماسكة. وأشد القوى حاجة إلى اليبوسة الماسكة ثم الجاذبة ثم الدافعة. والهاضمة لا حاجة لها إلى اليبس، بل إلى الرطوبة. وقد تتضاعف هذه القوى في بعض الأعضاء مثل الجاذبة في المعدة.
93
وفي حقيقة الأمر، إن التفسير بالقوى هو نوع من الفكر الديني القائم على التشخيص. فبدل أن تكون هناك وظيفة هناك قوة مشخصة حية مريدة عاقلة. وهذا النوع من البيولوجيا العقلية يمثل أحد مراحل التفكير العلمي. ويكون السؤال: كيف تتأسس العقائد اليقينية على فكر تاريخي ظني؟ ألا يعني ذلك القضاء على الثابت في سبيل المتحول؟ وماذا لو انهار هذا البناء القديم كله كما انهار الآن في المرحلة الآنية لتاريخ العلوم البيولوجية؟
وتتضمن النفس الحيوانية قوتين مدركة ومحركة. والمدركة إما ظاهرة أو باطنة.
94
والقوى المدركة الظاهرة تشمل المشاعر الخمس:
95
البصر، ويتم سواء بانعكاس صورة المرئي بتوسط الهواء المشف إلى الرطوبة الجلدية وانطباعها في جزء منها؛ أي الشعاع من الخارج إلى الداخل، من الموضوع إلى الذات، من الشيء إلى العين، أو يتم بالشعاع المقابل من الداخل إلى الخارج، من الذات إلى الموضوع، ومن العين إلى الشيء.
96
والسمع ويحلله القدماء تحليلا ماديا خالصا عن طريق الهواء والقارع والمقروع والصماخ والعصب والطبلة ... إلخ. والشم قوة في زائدتين في مقدم الدماغ، تحدث فيه الرائحة بتحلل أجزاء الجسم وسريانها في الهواء. والذوق أعصاب على اللسان من خلال الرطوبة. وأخيرا اللمس أعصاب الجلد. وهو أربعة: المحاكة بين الحار والبارد، بين الرطب واليابس، بين الصلب واللين، وبين الأملس والخشن. وقد تكون قوة الذوق مشروطة باللمس لما كانت الحاستان تعملان عن طريق الأعصاب والاحتكاك. وهناك محسوسات مشتركة كالمقادير والأعداد والأوضاع والحركة والسكون والقرب والبعد والمماسة، تشترك فيها أكثر من حاسة لإدراكها. وتختلف الحواس الظاهرة قوة وضعفا في حالة سلامتها. ويتضح من هذا التحليل سيادة النظرة العلمية الخالصة لعمل الحواس، بل والتصور المادي لوظائفها دون اللجوء إلى علل خارجية مما يسبب للمتكلمين مشكلة «نفي الفاعل المختار».
97
كما أنه يكشف عن حضور الإنسان كجوهر من خلال النفس كما كان حاضرا كعرض من خلال الكيفيات المحسوسة؛ فالحواس نقطة التقاء بين الأعراض والجواهر، في الأعراض كمحسوسات وفي الجواهر كحواس، في الأعراض كظواهر طبيعية وفي الجواهر كقوى للنفس، في الأعراض كموضوع وفي الجواهر كذات.
أما القوى المدركة الباطنة فهي أيضا خمس: الحس المشترك، وهي القوة التي تسهم فيها صور الجزئيات المحسوسة بالحواس الخمس فتطالعها النفس ثمة فتدركها؛ أي إنها أول مرحلة في النفس بعد الحس، وهي إدراك الحس، وتحويل المحسوسات إلى مدركات كما هو الحال في القطرة النازلة والشعلة الدائرة والخطوط والدوائر الهندسية. والخيال يحفظ الصور المرتسمة في الحس المشترك كالخزانة له وبه يعرف من يرى ثم يغيب ثم يحضر. وهنا يختلط التذكر بالتخيل. والوهم يدرك المعاني الجزئية كالعداوة التي تدركها الشاة من الذئب، ويكون السؤال: هل هذا وهم أم استعداد طبيعي غريزي؟ والحافظة تحفظ المعاني التي تدركها الوهمية، ونسبتها إلى الوهم نسبة الخيال إلى الحس المشترك. وأخيرا المتخيلة وهي تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني بالتركيب والتفصيل، مثل إنسان ذي رأسين. وإذا استعملها العقل سميت مفكرة، وكأن القوة الناطقة هنا ليس لها استقلال خاص، بل هي إحدى وظائف المخيلة، وكأن النطق قد حجز للنفس الناطقة كجوهر مفارق. ومع أن لكل قوة مركزا في الدماغ طبقا للنظرية المادية في عمل الحواس، إلا أن الحواس الباطنة تمثل درجة أقل في ارتباط النفس بالمادة، وتكون بمثابة حلقة اتصال بين الحواس الظاهرة وبين النفس الناطقة.
98
ولكن منها ما يدخل في العلم الظني مثل الوهم والخيال في نظرية العلم. ويمكن من خلال هذا التفاوت في ارتباط الحس بالمادة، والانتقال من الحواس الظاهرة إلى الحواس الباطنة الارتفاع درجة أخرى إلى النفس الناطقة وإثبات خلود النفس؛ فبالرغم من ارتباط الحواس بالمادة، إلا أن النفس التي هي علة الحواس لا تتعلق بالمادة. وقد ظهر ذلك أيضا في نظرية العلم عند تحليل عمل الحواس المادي لإفساح المجال لتدخل إرادة خارجية لذات تعطي المعاني وتؤسس العلوم. والمهم هو ظهور الحواس في نظرية العلم وفي نظرية الوجود في مبحثي الأعراض والجواهر على حد سواء، وكأن علم أصول الدين كله يتأسس من خلال المحسوسات وبداية من العالم الحسي. وهنا أيضا يسود التصور العلمي الذي يجعل الإدراك من عمل الحواس كمظهر من مظاهر النفس دون تدخل «القادر المختار»، سواء عند المتكلمين أو الفلاسفة.
99
فعند المتكلمين كل إدراك مرتبط بحسه، وآفة العضو توجب آفة فعله، وإن عمل الحواس ببساطة هو ارتسام ما له وضع وحيز؛ أي الحاسة، مع قدرة الحواس الباطنة على التمييز بين المربعين المجتمعين على مربع واحد. وعند الحكماء الحواس آلات والنفس مدركة لجميع صنوف المدركات. وهي قادرة على الحكم بالكلي على الجزئي، وبكل جزئي على أنه غير الآخر. والإنسان يدرك بوجدانه أنه يسمع ويبصر ويجوع ويشبع. والنفس مدبرة للبدن وفاعلة للجزئيات؛ وبالتالي فهي مدركة للجزئيات. إنما في جيلنا نحن بدأ الطعن في شهادة الحواس وإثبات خداعها إما تمويها على الناس وتعمية لهم أو تبعية لمذاهب غربية تدافع عن الموروث القديم، أو إحساسا بالطهارة الفارغة وإرضاء للذات. فالمثالية العقلية هي الوريث الطبيعي للإيمان القديم.
ولم يفصل القدماء في القوى الفاعلة كثيرا، وكأن الفعل أقل أهمية من الإدراك الظاهري أو الباطني، ربما لأن ذلك أدخل في علم الأخلاق، سواء في علوم الحكمة أو علوم التصوف أو علم أصول الفقه. ولكن هذه العلوم قد تناولت أيضا ظواهر الإدراك ولم يغب عنها الفعل. اقتصر القدماء على قسمة القوى إلى باعثة ومحركة، الباعثة لجلب نفع وتسمى شهوية، أو لدفع ضرر وتسمى غضبية. أما المحركة فهي التي تمدد الأعصاب فتقرب الأعضاء من مبادئها كما في قبض اليد وتراخيها، أو تبعد الأعضاء كما في البسط. وهي المبدأ القريب للحركة والمبدأ البعيد التصور، وبينهما الشوق والإرادة؛ فإن النفس تتصور الحركة فتشتاق إليها فتريدها إرادة قصد وإيجاد فتحصل.
100
وبالرغم من أهمية البواعث، فإن القدماء أيضا لم يفصلوا فيها، وركزوها كلها في جلب المنافع ودفع المضار، مع أن ذلك جزء من غائية أوسع وقصدية أشمل هو أداء الرسالة وتحقيق الغاية في التاريخ. وهل الغضب يكون فقط لدفع الضرر؟ أليس هناك غضب لجلب النفع إذا ما منع النفع؟ وهل النفع فردي أم اجتماعي؟ مادي أم معنوي؟ نفع ماذا ونفع من؟ وهل الحركة هي فقط الحركة الفيزيقية أم حركات الأفراد والشعوب وحركة التاريخ؟ ولماذا الاقتصار على الحركة البدنية، حركة الأعضاء بالرغم من الإشارة إلى دور التصور؛ أي الفكر والشوق والإرادة؛ أي الوجدان والأفعال؟ إن الحركة أيضا هي نزوع النفس واتجاه الشعور، حركة المجموعات ومسار الشعوب. والنفس الإنسانية بالرغم من أنها جوهر مفارق مع العقل إلا أنها أيضا تتويج للنفس من حيث هي مجموع الوظائف الحية؛ فهي من المركبات التي لها مزاج نفسي وفي نفس الوقت جوهر مفارق. وقواها العقلية اثنتان: النظرية باعتبار إدراكها للكليات والحكم بينها إيجابا أو سلبا، والعملية باستنباطها للصناعات الفكرية ومزاولتها للرأي والمشورة. كما يحدث فيها من القوة هيئات انفعالية مثل الضحك والخجل والحياء دون أن يفرد القدماء قسما خاصا للقوى الانفعالية أو الوجدانية أو العاطفية. واكتفوا بجعل القوى العملية جزءا من قوى النفس مثل القوة النظرية.
101 (3-6) هل هناك جواهر مفارقة، النفس أو العقل؟
يبدو أن النظرة المادية الغالبة على تحليل النفس قد وجدت تعويضا لها ورد فعل عليها في الجواهر المفارقة، النفس والعقل، آخر مباحث الجواهر وآخر موضوع في المقدمات النظرية أيضا وربما أيضا في خاتمتها عن الجن والشياطين! وتبدأ النفس المفارقة بالنفوس الفلكية وليس بالنفس الإنسانية؛ أي بنفس الكون أو بروح الطبيعة تريد احتواء العالم كله أولا قبل أن تتحول إلى نفس فردية مجردة. والنفوس الفلكية هي أيضا مجردة لأن حركات الأفلاك إرادية؛ فالحركة إما طبيعية أو قسرية أو إرادية. والأولان باطلان لأنها مطلوبة ومتروكة، فلا تكون طبيعية، ولأنها ليست طبيعية فلا تكون قسرية. وإرادتها ليست عن تخيل محض، وإلا امتنع دوامها عن نظام واحد؛ فهي إذن ناشئة عن تعقل كلي.
102
ولها مع القوة العقلية قوى جسمانية هي مبدأ للحركات الجزئية. ومع ذلك ليس لها حس ولا شهوة ولا غضب؛ لأن الاحتياج إليها لجلب المنافع ودفع المضار لحفظ الصورة عن الفساد، وصورتها لا تقبل الفساد. ويبدو أن القدماء هنا قد برءوها من أوجه النقص الإنساني من حس وشهوة وغضب لاقترابها من الملأ الأعلى، وعدم طريان الفساد عليها أو النفع والضرر حتى يمكن الاستمرار بعد ذلك خطوة أبعد في تشخيص الذات المجردة وراء الأفلاك. وفي حقيقة الأمر، إن النفوس الفلكية إسقاط من النفس الإنسانية على الطبيعة وتشخيص حيوي للأفلاك في موضوعي النفس والإرادة، وكأن المتكلم كلما نظر إلى أعلى أله وكلما نظر إلى أسفل جسم. وقد انتهى أحيانا إلى الخلط بين الدورين، يجسم حين ينظر إلى أعلى ويؤله حين ينظر إلى أسفل. أسقط المتكلم على الأفلاك الوعي الخالص الذي يبحث عنه وشخصه فيها قبل أن يشخصه في ذاته وهو لا يعلم أنه بذلك يقع في خطأي التجسيم والشرك. فالوعي الخالص ليس مجسما ويتفرد في صفاته دون أن يشاركه فيها أحد؛ لذلك رفضها الفقهاء.
103
وإن كان لا بد من مفارقات فهي المبادئ الإنسانية التي تحرك الأفراد والجماعات، مبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي تتراءى في كتبنا ويستشهد الشباب في سبيلها، وما زالت قادرة على نهضة أمة وتحقيق مصالح الشعوب.
104 (أ) النفس
وقد تفاوتت النظريات في النفس الإنسانية بين النظرية المادية الصرفة، والنظرية الحسية، والنظرية العقلية ثم النظرية المفارقة. فالنظرية المادية الصرفة عند بعض المعتزلة تجعل النفس جزءا لا يتجزأ من القلب لدليل عدم الانقسام مع نفي المجردات، أو قوة في الدماغ أو ثلاث قوى، إحداهما في القلب وهي الحيوانية، والثانية في الكبد وهي النباتية، والثالثة في الدماغ وهي النفسانية، أو أنها أجزاء لطيفة سارية في البدن باقية من أول العمر إلى آخره لا يتطرق إليها تخلل ولا تبدل أو أنها الدم المعتدل؛ إذ بكثرته واعتداله تقوى الحياة وبالعكس، أو أنه الهواء؛ إذ بانقطاعه طرفة عين تنقطع الحياة، أو أنها الهيكل الخصوصي أو الأخلاط المعتدلة كما وكيفا أو اعتدال المزاج النوعي.
105
كل هذه النظريات هي التي سببت رد الفعل المقابل التي تجعل النفس مفارقة للبدن ومتميزة عنه، فالنقيض يولد النقيض.
والنظرة الحسية هي نظرية الأشعرية، والفقهاء تجعل النفس جسما طويلا عريضا عميقا ذا مكان عاقل مصرف للجسد. النفس والروح اسمان مترادفان والمسمى والمعنى واحد. والدليل على ذلك انقسامها على الأشخاص، وأنها لو كانت جوهرا والعلم من صفاتها لكانت عالما، وبالتالي يعلم زيد ما يعلمه عمر، وأنها إما خارج الفلك أو داخله، والأول باطل لتناهي الجرم فلم يبق إلا الثاني وهو جسم، وأنها لا تقع تحت جنس آخر غير الجوهر، وبالتالي فهي جسم. وقد يتم تفصيل النظرية الحسية بجعلها عرضا كسائر أعراض الجسم لا يشاهد إلا بالحواس أو أنها النسيم الداخل والخارج بالتنفس.
106
ويكون السؤال الآن كيف يقول أهل السنة بجسمية النفس؟ أليست هذه نظرية مادية؟ كيف يعارضون إذن أصحاب الطبائع وباقي الماديين؟ كيف يتم التوفيق بين مادية النفس وإثبات تمايزها عن البدن وإثبات خلودها من أجل الحساب والعقاب في الآخرة طبقا لنسق العقائد لديهم؟ كيف يوافق الفقهاء عليها ويدافعون عنها ويجدون الأدلة على صدقها وفي نفس الوقت يهاجمون النظرة المثالية العقلية عند المعتزلة أو النظرية المجردة التي تثبت النفس المفارقة عند الحكماء؟ يبدو أن تبادل الأدوار بين المتكلمين والحكماء قد وصل إلى حد قلب الأدوار حتى إنه أصبح من الصعب معرفة أي الفريقين المادي وأيهما المثالي.
والنظرية العقلية هي التي دافع عنها أوائل المعتزلة والتي تجعل النفس جوهرا لا جسما ولا عرضا لا طول له ولا عمق، لا في مكان، ولا يتجزأ، وأنها هي الفعال والمدبر للبدن وهي الإنسان.
107
وهي التي أصبحت النظرة الحسية عند الأشعرية رد فعل عليها كرد فعل على الخصم دون تحكيم للعقل أو انصياع للبرهان. وهي النظرية التي كانت مهمتها الدفاع عن لا مادية النفس ضد النظرية المادية. لذلك كانت الحجج كلها سلبية تقوم على برهان الخلف؛ أي استحالة كون النفس جسما، وإبطال موقف الخصوم حتى تثبت لا مادية النفس. فلو كانت النفس جسما لتحركت بتحركه ولوجب أن نعلم ببعضها أو كلها، ولزادت في الكمية بجمع جسم آخر، وكانت بين الخفة والثقل، ولكانت ذات خاصية خفيفة أو ثقيلة، حارة أو باردة، لينة أو خشنة، ولكانت لها كيفيات محسوسة، ولوقعت تحت جميع الحواس أو بعضها، ولكان لها طول وعرض وعمق وسطح وشكل، ولقبلت التجزئة بين الصغير والكبير، ولكانت مستحيلة متغيرة، ولكان لها نفس أو غذاء، ولكان اتصالها بالجسم إما مجاورة أو مداخلة أو ممازحة، ولكانت تعرف بالمماسة، ولكانت مسايرة للجسم في العمر من القوة إلى الضعف ومن الضعف إلى القوة.
والحقيقة أن هذه الحجج كلها يمكن استعمالها لإثبات تمايز النفس عن البدن؛ وبالتالي الانتهاء إلى النظرية الرابعة والأخيرة، وهي تجرد النفوس الناطقة؛ فالنفوس الإنسانية مجردة، ليست جسمانية ولا جسما، تعلقها بالبدن تعلق التدبير والتصرف.
108
ونفاها المتكلمون على الإطلاق. وحجة الحكماء أنها تعقل البسيط فتكون مجردة، وأنها تعقل الوجود وهو أمر بسيط، ولأنها تعقل المفهوم الكلي، وأنها تعقل الضدين ويستحيل ذلك إذا كانت جسما أو جسمانيا، وأنها لو كان العاقل منها جسمانيا لعقل محله، ولا يوجد جسم فينا محل العلم كالقلب أو الدماغ .
ثم يصل المتكلم والحكيم كلاهما إلى بيت القصيد في إثبات حدوث النفس وتمايزها عن البدن، وأنها باقية لا تفنى بفنائه. فحدوث النفس يبدو متناقضا مع إثبات جوهريتها اللاجسمية. ولما كان الجسم حادثا فالنفس لا يمكن أن تكون كذلك. لذلك يبدو أن حدوث النفس كان الغرض منه ليس إصدار حكم طبيعي أو حتى عقلي على النفس، بل لتخصيص صفة القديم «لله» دون أن يشاركه فيها أحد. حدوث النفس إذن قلب لقدم الله من أجل إعطاء الإنسان أقل مما يعطى «الله»، وإعطاء «الله» أكثر مما يعطى الإنسان. لذلك كان القول بقدمها أكثر اتساقا مع جوهريتها اللاجسمية. وكانت الحجج ضد الحدوث أقوى من الحجج لإثباته مثل أن كل حادث له مادة، وأنه لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية، وأنه يلزم عدم تناهي الأبدان.
109
كما تثير نظرية حدوث النفس إشكالا ثانيا، وهو متى يحدث الحدوث مع البدن أو قبله؟ وكل منها تؤيده الأدلة النقلية ويصعب إيجاد أدلة عقلية لإثبات أحد الرأيين ضد الآخر.
110
وتتطلب نظرية الحدوث بيان كيفية تعلق النفس بالبدن. ولما كان يغلب عليها النظرة التطهرية والتصور الثنائي الإيماني كان تعلقها به تعلق العاشق بالمعشوق لتوقف كمالاتها ولذاتها عليه. وهي صورة شعرية توحي باتجاه الأدنى نحو الأعلى وتصور إشراقي يرى الخلاص في التجرد عن العالم، سبب الشرور والآثام، والعيش مع النفس الخالصة. تدين طرفا وتبرئ طرفا، تجعل واحدا سالبا والآخر موجبا، والعلاقة بينهما أحادية الطرف، صعودا لا هبوطا. وكيف تعشق النفس البدن ولا يعشق البدن النفس؟ أليس هذا العشق متناقضا مع كمال النفس ونقص البدن، وأن الناقص هو الذي ينحو نحو الكمال؟ ويتصارع الفكر العلمي مع الفكر الديني في تفسير العشق. فهو إما عشق مادي عن طريق الأعضاء، وإما عشق روحي عن طريق «القادر المختار».
111
ثم تأتي نظرية بقاء النفس تتويجا لمباحث النفس وكأنها الغاية القصوى من إثبات تجردها وحدوثها وتميزها عن البدن؛ فالنفس لا تفنى بفناء البدن لأنها ليست مادة مثله. لها بعد البدن سعادة وشقاوة. وبالرغم من محاولة الحكماء والفقهاء إيراد حجج على بقاء النفس بتميزها عن البدن، فحظ النفس من الفضائل غير حظ البدن، وأن النفس سبب التذكر والعلم، في حين أن البدن سبب النسيان والجهل، وأن تجربة النوم تثبت بقاء النفس في غياب البدن، والنوم موتة صغرى. وكل هذه الحجج لا تخفي الإغراق كلية في الإيمان الديني وفي النظرة الطوباوية الأخروية للعالم، وكأن علم أصول الدين قد التحق بعلوم التصوف، وكأن المقدمات النظرية كلها؛ نظرية العلم ونظرية الوجود، قد تحولت إلى تأملات إشراقية تعطي النفس المعرفة النظرية والسعادة العملية.
112
والحقيقة أن النفس هي مبدأ النشاط الحيوي في الإنسان من حس وتخيل وتذكر وتعقل وحركة وسلوك، لا فرق في ذلك بين نفس وبدن. الإنسان واحد، ونشاطه واحد، وأي تصور ثنائي له يقسمه قسمين، ثم بعد ذلك تنشأ صعوبة الربط بينهما، فيستحيل ذلك لأن مجموع خطأين لا يكون صوابا. الحياة إذن لا فرق فيها بين نفس وبدن، والبقاء فيها أيضا لا فرق بين نفس وبدن؛ فالحياة باقية، إما الحياة العضوية عن طريق النسل، أو الحياة العقلية عن طريق الذهن، أو الحياة الاجتماعية عن طريق الفعل. فالإنسان باق بجسده عن طريق الخلف، وباق بذهنه عن طريق الفكر، وباق بفعله عن طريق أثره في الحياة ودوره في التاريخ.
113 (ب) العقل
أما العقل فإنه وجود أكثر منه ملكة، وشيء أكثر منه فكرا، وبالتالي أصبح العقل شيئا ماديا وليس نظرا واستدلالا. أثبته الحكماء اعتمادا على حجة نقلية.
114
وقد لا تعني هذه الحجة خلق شيء، بل تعني أولوية الفكر على الواقع وأهميته، وبالتالي لا يمكن تفسيره حرفيا بمعنى خلق الشيء، بل معنويا بمعنى أهمية الفكر ووجوب النظر، وهو ما يتفق مع نظرية العلم. وقد اعتمد الحكماء في إثباته على أن «الله» واحد ولا يصدر عنه إلا واحد. ويستحيل أن يكون جسما لتركبه ولتقدم الهيولى والصورة عليه ضرورة ولا أحد جزأيه؛ إذ لا يستقل بالوجود عن الآخر، ولا عرضا؛ إذ لا يستقل بالوجود دون الجوهر، ولا نفسا؛ إذ لا تستقل بالتأثير دون الجسم. وإذا ثبت أن الصادر عن الأول عقل فإن له اعتبارات ثلاث: وجوده في نفس تعقل، وجوبه بالغير كنفس، وإمكانه لذاته كجسم. هناك إذن عقل ونفس وفلك لكل عقل. ولما كانت هناك عقول عشرة، يفيض كل منها عن الآخر، ويفيض الأدنى عن الأعلى والأخس عن الأشرف.
115
حتى نصل إلى العقل العاشر، وهو العقل الفعال المفيض للصور والأعراض على العناصر والمركبات بسبب ما يحصل من الاستعدادات المسببة عن الحركات الفلكية وأوضاعها، وهي ملحمة الفيض المشهورة في الفلسفة الإشراقية التي أفرزتها علوم الحكمة وعند المتكلمين، هذه الأمور كلها إن كانت وجودية؛ أي موجودة في الأعيان، فلا بد لها من مصادر، وإن كانت اعتبارية؛ أي موجودة في الأذهان، امتنعت أن تكون مصدرا للأمور الوجودية. وهي في حقيقة الأمر مجرد صور فنية تعبر عن جلال العالم العلوي بعد أن يئس الصوفي من صلاح الدنيا. وقد استطاع المتكلمون الكشف عن هذه الجوانب الإنشائية عند الحكماء في نظرية العقول العشرة والعقل الفعال.
116
وقد اعتبر الحكماء العقول أشرف من «الملائكة». وهذا تشريف للعقل، ولكن العيب أنه العقل باعتباره شيئا موجودا وليس العقل الاستدلالي. هو العقل كموضوع وليس العقل كمنهج، ويكون حديث العقل أكثر خطورة عندما يكتمل لتأييد القدر والجبر ضد الاختيار وحرية الأفعال.
117
وهنا ينتهي العقل الكوني إلى الجبر الكوني، ويتحول علم أصول الدين إلى الإشراقيات الكونية الخالصة.
118
لذلك كان موقف الفقهاء أفضل لنفيهم العقل الكوني وإثباتهم العقل الاستدلالي الذي يغيب ويحضر، يشتد ويضعف. فالعرض له ضد، وهو قوة ممكنة وليس جوهرا واجبا.
119
إن هناك فرقا بين تأليه العقل الكوني عند الحكماء واستعمال العقل الاستدلالي عند المتكلمين والفقهاء. ليس كمال العقل في مرتبته بين الوجودات، بل في استعماله وآثاره وإقامة حياة الأفراد والمجتمعات عليه. وقد عرض الحكماء لأحكام العقول باعتبارها موجودات وليست باعتبارها أحكاما عقلية. وجعلوها ليست حادثة لأن الحدوث يستدعي مادة، وليست كائنة ولا فاسدة لأنها بسيطة، وأن نوع كل عقل منحصر في شخصه؛ إذ إن تشخصه بماهيته وليس بالمادة، وأن ذواتها جامعة لكمالاتها، وأنها عاقلة لذواتها، وأنها تعقل الكليات وكل المجردات، وأنها لا تعقل الجزئيات لأنها تحتاج إلى آلات جسمانية ولأنها تتغير. ومع ذلك فقد فرض العقل الاستدلالي نفسه على العقل الكوني في الأحكام الأخيرة في تعقل الكليات. ولكن العقل عاد وتطهر وبرأ نفسه من العلم بالجزئيات؛ لأنها تحتاج إلى حواس ولأنها متغيرة والعقل الإلهي ثابت لا يدرك إلا الكليات. وظهر على أنه صوري خالص يستنكف من المادة، كامل يستبرئ من النقص، فأصبح كماله وشموله فارغا بلا مضمون.
120 (ج) هل هناك جن وشياطين؟
ولكن العجيب أنه بعد هذا الحديث كله عن العقل والفيض والمعقولات تنتهي نظرية الوجود، بل والمقدمات النظرية كلها، بخاتمة عن «الجن والشياطين»، وهو ما ترسب في وجداننا القومي عندما غاب العقل وحضر الجن والشياطين! وهي عند المليين وليس جمهور العلماء أو ملايين الناس «أجسام تتشكل بأي شكل شاءت»، وكأنها حواة أو أبطال أساطير أو آلهة وثنيين. وقد أنكرها الحكماء لأنها إما أن تكون لطيفة أم لا، وكلاهما باطل؛ فالأول يلزم أنها لا تقتدر على الأفعال الشاقة وتتلاشى بأدنى قوة، وهو خلاف الاعتقاد الذي يجعلها قادرة على خرق العادات؛ والثاني أنه لا يوجب أن ترى ونحن لا نراها. ولو جوزنا أجساما كثيفة لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبلاد لا نراها، ودقات وطبول لا نسمعها؛ وهو سفسطة.» والعجيب أن المتكلمين يردون على حجج الحكماء لإثبات الجن والشياطين؛ فقد يقوى الشفاف على الأعمال الشاقة ولا ينفعل بسرعة. ولا يلزم رؤيتها، يفيض عليها «القادر المختار» مع لطافتها قوة عظيمة؛ لأن القوة لا تتعلق بالقوام. وقد قال قوم إنها النفوس الأرضية وهي مختلفة؛ فمنها «الملائكة» الأرضية، ومنها الجن، ومنها الشياطين، فهذه «جنود ربك لا يعلمها إلا هو»، وكأن علم أصول الدين بمقدماته النظرية لتأسيس العلم آثر النكوص وإعلان العجز عن تأصيل موضوعات العقيدة فسلم واستسلم واعتقد وآمن. وقال قوم هي النفوس الناطقة المفارقة؛ فالخيرة تتعلق بالخيرة وتعاونها على الخير وهي الجن، والشريرة تتعلق بالشريرة وتعاونها على الشر وهي الشياطين «والله أعلم بحقائق الأمور»! أي إنها النفوس المفارقة، وكأن الحساب والعقاب قد تما من قبل. وكيف تكون الجن نفوسا خيرة وهي تسترق السمع بنص الوحي؟
121
يبدو أن تشخيص قوى الخير والشر أو التعبير عنها في صور فنية قد منع المتكلمين والحكماء معا من البحث عن الأسس الاجتماعية للشر، واكتفوا بتصويره عجزا عن مواجهته وتغييره.
122
ومع أنها كانت عند القدماء مجرد خاتمة لمبحث الجواهر، إلا أنها أصبحت عند المتأخرين موضوعا محببا إلى النفس لجذب انتباه العامة اعتمادا على الخيال الشعبي وهدما لكل المقدمات النظريات الأولى. وتساءل المتأخرون هل يأكلون (أي الجن) ويشربون ويتناكحون، أم لا؟
123
هل يدخلون في الناس أم لا؟
124
هل يخبرون الناس بشيء أو يخدمونهم؟
125
هل هم مكلفون أم مضطرون؟
126
هل لهم ثواب ويدخلون الجنة؟
127
وانتهت النظرة الحسية والتحليل العلمي المادي الذي ساد تصور المتكلمين. ولم تفلح الحركات الإصلاحية في تغيير الأمر، وتساءلت أيضا عن الحكمة في خلق الجن!
128
وتساءل القدماء أيضا عن الشياطين ناسين المقدمات النظرية؛ نظريتي العلم والوجود، ووقعوا كلية في الغيبيات والظنيات والسمعيات، وكأن بداهات الحس وأوائل العقول وشهادات الوجدان لم تعد مقياسا للصدق وأصلا للتأسيس، ولم يعد هناك إلا الروايات الظنية، المشهورات والذائعات دون المتواترات. هل يرون في الدنيا؟
129
هل يجوز انقلابهم في صور الإنس أو في أي صور أخرى إذا أرادوا ذلك؟
130
هل يسترقون بعضهم البعض؟
131
هل يطيقون على حمل ما لا يطيق البشر على حمله؟
132
هل هم يعلمون ما في القلوب؟
133
هل يوسوسون؟
134
وتتراوح الإجابات بطبيعة الحال بين الإثبات والنفي؛ الإثبات تدعيما للتصور الديني للعالم، والنفي بناء على التصور العلمي الذي يعمل إلى حد تصور الصرع في مقابل وسوسة الشيطان.
135
وقد ظلت بعض هذه التساؤلات حتى حركات الإصلاح الأخيرة. فالشيطان هو المسئول عن البدع وعن كل مظاهر الشرور في العالم بما فيها الطاغوت. لم يستطع المتكلمون والفقهاء معا وهم الذين دافعوا عن التصور الحسي للعالم أن يحافظوا على مكتسبات نظرية العلم ونظرية الوجود، وانتهت المقدمات النظرية بالوقوع في الغيبيات المحضة، والظنيات الخالصة، والبعيدة كل البعد عن مصالح الأمة.
خاتمة
لقد استطاعت نظرية الوجود في نهاية الأمر أن تجعل العلوم هي الطبيعة، وأن يظهر الإنسان أيضا من خلال الطبيعة في مقابل «الله» مثبتا دوره في الكون في إدراك قوانين الطبيعة والسيطرة عليها. فموضوع علم أصول الدين كما ظهر من نظرية الوجود هو الطبيعة، وأنه لا تفكير في «الله» إلا بعد التفكير في الطبيعة، وكأن الدين لا يتأسس إلا في العلم. لا يمكن الوصول إلى «الله» إلا من خلال الطبيعة، وفي هذا تتفق كل العلوم الإسلامية الأربعة: علم أصول الدين، وعلم أصول الفقه، وعلوم الحكمة، وعلوم التصوف. وهذا يعني أن الأدلة على وجود «الله» أدلة بعدية خالصة. «الله» نتيجة وليس مقدمة، نهاية وليس بداية، غاية وليس أصلا، مقصدا وليس أساسا، اتجاه وليس شيئا ... إلخ. ولهذا السبب تتجاور الطبيعيات والإلهيات وتتداخل وكأنهما علم واحد. تدرك الإلهيات بلغة الطبيعة، وتدرك الطبيعة بلغة الإلهيات. «الله» جوهر، والشيء جوهر. «الله» شيء والشيء الطبيعي شيء، «الله» موجود والشيء الطبيعي موجود. وقد يصل الأمر إلى استحالة التصرف في أي الموضوعين يكون الحديث في «الله» أم في الطبيعة.
136
والحقيقة أن كل هذا التوحيد الطبيعي، أو الطبيعة التوحيدية، لم تكن الغاية منه تحليل الطبيعة أو إثبات وجود الإنسان في الطبيعة، بل إثبات الإلهيات بصورة أخرى بطريق بعدي، أو إسقاط الإلهيات على الطبيعة على نحو قبلي؛ وبالتالي جعل الطبيعة متحدثا رسميا باسم «الله». فإذا ما انتهى الأمر إلى أن تصبح الإلهيات والطبيعيات علما واحدا، فذاك إنما يأتي كنتيجة وبطريق المصادفة وليس كمسلمة أو كنتيجة قصدية. الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، ولكن المهم بالنسبة لنا هو كيف استطاع العقل التوحيدي النظر إلى الطبيعة، وهل يمكن أن يوجه العقل التوحيدي تحليل الطبيعة؟ إن ما ظهر في نظرية الوجود هو أن كل تحليل طبيعي كان مقدمة لإثبات صفة إلهية أو نفي أخرى. فتحليل الأعراض لإثبات حدوثها مقدمة لإثبات صفة القديم. وتحليل المثلين والمختلفين لنفي الشبه، وتحليل الجسم لنفي صفة الجسمية عن «الله»، وتحليل الأكوان والاعتمادات لنفي صفة المكانية عن «الله»، وتحليل الجوهر لنفي صفة الجوهرية عن «الله» وتحليل الشيء لنفي صفة الشيئية عن «الله». ومع ذلك يمثل الفكر الطبيعي المستقل بوادر صراع الفكر العلمي مع الفكر الديني، وصراع العقل لإثبات سلطته أمام طبيعة مستقلة لها قوانينها المطردة الثابتة. فالطبيعيات تدل أكثر ما تدل على بزوغ الفكر العلمي من ثنايا الفكر الديني أكثر مما تدل على تحليل علمي للطبيعة. وذلك موجود في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية وفي علوم الحياة، مثل الطب والتشريح والنبات. وبتعبير آخر تمثل الطبيعيات الصراع بين تحليل الواقع والتعبير الإنشائي، وتكشف عن التباين بين الموقف العلمي والموقف الخطابي. وقد استعملت الطبيعيات كجزء من علم التوحيد المنهج التأملي الخالص؛ أي إنها طبيعيات عقلية وليست طبيعيات علمية تقوم على التحليل المعملي وعلى التجارب العلمية، وعلى القياس وفرض الفروض والتحقق من صحتها. ومع ذلك إذا ما احتاج العالم إلى بعض تصورات نظرية تساعده على إجراء التجارب العلمية، فالطبيعيات العقلية تستطيع أن تمده بمثل هذه التصورات عن المداخلة والتركيب والمزج والاتحاد والملامسة والمجاورة ... إلخ. وهذا يحدث دائما في تاريخ العلم المرتبط بالميتافيزيقا الخالصة أو بعلوم الحكمة. فإذا ما حدث اكتشاف علمي دائم لا يتغير، فإن ذلك يحدث بالعرض وليس بالجوهر، نتيجة لعمل الذهن في التوحيد عن طريق وصف ظواهر الطبيعة وتحليل الواقع المادي. «الله» إذن رؤية موجهة للذهن نحو الطبيعة أو «فكرة محددة»، كما يقول المناطقة. ومع ذلك، وبالرغم من أن هذا الكلام في «الدقيق» يبدو أقرب إلى الطبيعيات منه إلى الفكر الديني، إلا أن الفكر الديني يظهر من ورائه كافتراض بعيد غير محتمل الوقوع، ولا يؤثر وجوده في الوصف العقلي للطبيعة. أما أزمات العلم التي يمكن لميتافيزيقا الطبيعة أن تمدها ببعض التصورات لحلها، فإنها لا تحدث إلا بعد نشأة العلم وتطبيق العلم وتوجيه العلم للحياة الإنسانية.
تكشف إذن هذه المقدمات النظرية كلها عن أن التوحيد يمكن أن يقوم على أصول عقلية يمكن الوصول إليها مسبقا، وهذا هو الذي أدى بالفعل إلى تأسيس نظريتي العلم والوجود.
137
وتبدو في المؤلفات الكلامية الأولى وتظهر تدريجيا حتى تبتلع موضوعاتها في نظريتي العلم والوجود الموضوعات الكلامية نفسها.
138
ويصبح علم الكلام كله علما نظريا أو أنطولوجيا يتحد فيه العلم والمنطق، وتحليل العقل وتحليل الوجود، حتى ليصعب بعد ذلك التفرقة بين علم الكلام والفلسفة والميتافيزيقا. ويبدو الحديث في الموضوعات الإلهية، وعلى رأسها التوحيد، وكأنه حديث عارض راجع إلى نقص في قدرة العقل على التنظير، أو كأن تطور هذه الموضوعات مرتبط بمرحلة معينة من تطور العلم. فإذا ما تطور العلم واكتمل أصبح الوجود هو موضوع علم الكلام، وعالم الكلام باحث الوجود، والإلهيات الأنطولوجيا العامة، والمتكلم هو الفيلسوف الميتافيزيقي الباحث في الوجود.
139
ويمثل علم الكلام المتأخر محاولة للتوحيد بين الأساس العقلي للكلام وللحكمة على السواء، ويبرز في تعريف الموضوعات أوجه التشابه والاختلاف بينهما.
140
وبالرغم من اقتراب علم الكلام من علوم الحكمة إلا أنه يقوم على أساس عقلي خاص به، وكأن هذا الانتقال من النقل إلى العقل كان تطورا طبيعيا من داخله وليس تبنيا لعلوم الحكمة التي كانت في حقيقة الأمر إشراقية أكثر منها عقلية، وأسطورية في بعض جوانبها أكثر منها واقعية، في حين كان علم الكلام صاحب نظرة حسية عقلية لم يتخل عنها إلا في النهاية عندما ضعفت عزائمه ووهنت قواه، وتسرب إليه الإيمان التقليدي من جديد. بل إن علم الكلام يقف أحيانا من علوم الحكمة موقف العداء، ويرفض تصوراتها للعالم مثل قدم العالم والجواهر المفارقة.
141
ويذكر الحكماء دون تعيين. وأحيانا يعين أحدهم وهو الذي بين أحكام الوجود والعدم والواحد والكثير والواجب والممكن والمستحيل، والوجود والماهية، ولديه تبلغ الفلسفة أقصى ما وصلت إليه من تجريد.
142
فإذا كان مسار علم الكلام التقليدي وتطوره في التاريخ يثبت أن النظرية العقلية، سواء في نظرية العلم أو في نظرية الوجود، تطغى على الموضوع الإلهي، أو أن الأساس العقلي يبتلع تدريجيا الموضوع نفسه، فإننا بتطوير علم الكلام لمرحلة أخرى نصل إلى صياغة نظرية عقلية شاملة تتلاشى فيها الموضوعات الإلهية حتى يصبح علم الكلام علما عقليا خالصا، وحتى يتأسس العلم في النهاية بتحويل موضوعه من موضوع حسي مادي وجداني نفسي وهو التشخيص أو التشبيه، إلى موضوع عقلي علمي خالص؛ وبالتالي يتحقق مشروع علم الكلام الذي وضعه هو لنفسه، وهو تأسيس علم أصول الدين في مقدمات نظرية خالصة مثل نظريتي العلم والوجود، هذا المشروع الذي توقف منذ القرن الثامن حتى الحركات الإصلاحية الحديثة، وما كاد ينهض حتى خبا من جديد.
143
ويكون أيضا قد تخلى عن منهج النص الحرفي أو المعنوي (التأويل)، واعتمد على القسمة العقلية الخالصة. هذه المقدمات النظرية التي تحتوي على نظرية العلم ونظرية الوجود ليست من قبيل الترف العقلي أو الاستطراد أو الاستعارة من علوم أخرى؛ علوم الحكمة أو علوم الفقه والأصول أو علوم التصوف، بل هو آخر ما وصل إليه علم الكلام من تنظير للموضوعات الإلهية.
144
وهذا لم يمنعه أنه في بعض الأحيان عندما يضعف التنظير تطل الإلهيات بين الحين والآخر، خاصة في الصياغات الأولى لنظرية العلم، وفي الصياغات الأخيرة لنظرية الوجود.
145
لذلك كان استعمال علم الكلام المتأخر للحجج النقلية قليلا للغاية؛ لاعتماده على القسمة العقلية وحدها، ورغبته في إقامة نظرية عقلية خالصة على عكس علم الكلام المتقدم الذي لا يتجاوز كونه تجميعا لبعض النصوص في موضوع واحد وشرحها.
146
ومع ذلك فقد انتهت نظرية العلم اعتمادا على تحليل العقل وحده إلى أن صار العقل فارغا بلا مضمون، يعيش العقل على نفسه، وتظهر قواه بفعله الخاص، فتتشعب التقسيمات حتى ولو لم تكن بذات دلالة، بالنسبة للموضوع الرئيسي، وكأن العقل عندما يبلغ حدا من الصورية فإنه يترك موضوعه الأساسي ويعيش على ذاته، ويخرج نسيجا من الخطوط الهندسية المتسقة مع نفسها، وينسج شبكة من التقسيمات ونظاما من الأبنية ينطبق على كل موضوع، ويكون هو الموضوع المثالي للعقل المتسق مع بنية العقل ذاته. فإذا ما تحول العقل إلى الوجود فإنه يحوله أيضا إلى وجود صوري، وكأن العقل يصف ذاته؛ فالعقل الصوري والوجود الصوري صنوان.
والسؤال الآن: هل تكفي نظريتا العقل والوجود وحدهما لإقامة العلم؟ صحيح أن العقل هو العلم، والوجود هو المعلوم. ولكن العقل والوجود كليهما يظهران في الشعور، والعلم والمعلوم كلاهما بعدان للشعور؛ ومن ثم احتاجت نظرية العلم ونظرية الوجود إلى نظرية ثالثة هي نظرية الشعور. وكما تقوم نظرية العلم بتحليل العلم ونظرية الوجود بتحليل الوجود، فإن نظرية الشعور تقوم بتحليل الشعور واكتشاف العقل والوجود كبعدين للشعور. وعلى هذا النحو يمكن التغلب على هذين الانحرافين الصوري والمادي في نظريتي العلم والوجود بإيجاد الشعور كطرف يظهر فيه العقل والوجود. فالعقل هو الجانب العاقل للشعور، هو الذات العاقلة، والوجود هو الجانب الوجودي للشعور أو هو الموضوع الموجود. يستطيع تحليل الشعور القضاء على صورية العلم وصورية الوجود على السواء. والشعور قادر على إعطاء مادة جديدة خصبة ومتجددة يقوم العقل بتحليلها؛ ومن ثم لا يعيش العقل على ذاته، ولا يتحول إلى مجرد آلة نسيج لتصورات وتقسيمات، بل يعمل في تحليل مضمون التجارب التي يقدمها الشعور والتي تكشف عن نفس التجارب التي منها تنبثق النصوص الكلامية والدينية.
147
والحقيقة أن تحليل الشعور ليس غريبا على مادة الكلام، بل متغلغل فيها مطمور داخل القسمة العقلية وتحليلات الوجود. تظهر كلمة شهادة الوجدان كثيرا على أنها حجة. والوجدانيات، شهادة الحس الباطنة، أحد مصادر العلم طبقا لنظرية العلم، فإذا كانت المقدمات النظرية لعلم الكلام قد أعطتنا: (1)
نظرية عقلية محكمة تعبر عن أقصى ما وصل إليه العلم من تنظير عقلي، ولكن تحكمها ثنائية عقلية متطهرة تعبر عن تصور ديني للعالم، وهي المثالية العقلية التي تعبر عن الإيمان الديني التقليدي. (2)
نظرية وجودية محكمة تعبر عما وصل إليه علم الكلام من تنظير عقلي في وصف الوجود، ولكن تحكمها نفس الثنائية المتطهرة التي تقسم العالم إلى قطبين: قطب موجب وآخر سالب، وتجعل العلاقة بينهما علاقة أولوية وشرف، علاقة نقص وكمال.
وعلى هذا النحو تكون مهمتنا إذن في تطوير هذه المقدمات النظرية كالآتي: (1)
تحويل القسمة العقلية، وهو الطابع الغالب على نظرية العلم التي تعبر عن الموقف الديني المتطهر إلى تحليل عقلي خالص لا يتبع أسلوب القسمة، بل التحليل المتشعب الاتجاه الذي يكشف عن البناء الشعوري للموضوع. (2)
تحويل القسمة الوجودية، وهو الطابع الغالب على نظرية الوجود إلى خبرات شعورية بالعالم تكشف عن ماهيته، وتكون موضوعا للتحليل العقلي.
فإذا كان علم الكلام القديم قد تطور من مرحلة الحجة النقلية إلى مرحلة الحجة العقلية إلى مرحلة التحليل الوجودي الخالص، فإنه يمكن أن ينتقل الآن إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة التحليل الشعوري للموضوعات من خلال الخبرات الحية، ويكون المعلوم هو المشعور به. فعلم الكلام نشأ وتطور ولم يتوقف تطوره إلا في عصر الشروح والملخصات، والعصر الثاني للنقل والترجمة عن الحضارات المجاورة.
148
فمن الممكن إذن تطويره من جديد، خاصة وأننا باحثون منتسبون إلى الحضارة ولسنا مستشرقين خارجين عنها أو عليها؛ فهي جزء منا ومن تصورنا للعالم، ومن وجودنا، ونحن جزء منها كتحقق تاريخي لها، ثقافة ونظاما ودافعا. فتسير الحضارة من جديد وتنتقل من طورها الثاني الذي توقفت فيه في القرون السبعة الأخيرة إلى طورها الثالث الذي تلحق به بطورها الأول في القرون السبعة الأولى. فلسنا أمام علم مقدس، بل أمام نتاج تاريخي خالص، صب كل عصر ثقافته وتصوره فيه. وتصور القدماء تصور تاريخي خالص يعبر عن عصرهم ومستواهم الثقافي، كما أن تصورنا تصور معاصر يعبر عن روح عصرنا ومستوانا الثقافي. فإذا استطاع باحث أو جماعة من الباحثين الوعي بروح العصر وباحتياجاته ومتطلباته، فإنه يمكنه ويمكنهم تطوير العلم به، وأن يؤرخ لعلم الكلام بهذا التصور الجديد كما تؤرخ حاليا طبقا للمراحل القديمة، مرحلة الحجة النقلية، مرحلة التحليل العقلي، مرحلة التحليل الوجودي. ويطبق هذا المنهج الشعوري على خطوتين: (1)
يقرأ النص القديم، وغالبا ما يكون نصا صوريا عقليا مجردا، فيشعر القارئ بشيء، ويكون هذا الشيء هو المادة الناقصة، فيكمل تحليل النص به. ولما كان الباحث هو الباحث المعاصر، فإن مادة الشعور تعبر عن البناء النفسي المعاصر. وكثيرا ما يكون النص مادة صرفة مثل التحليل الفزيولوجي للحس، وهنا يبدو الشعور وكأنه يرفع هذه المادة ويضعها على المستوى العقلي الشعوري، وإعطاء نظرية في الإدراك شعورية بقدر ما هي فزيولوجية . وإذا وجد الشعور نفسه أمام نص كوني يقوم على تشخيص الطبيعة من تصور للأفلاك على أنها نفوس حية عاقلة وتصور للفيض وللعقول العشرة وكل ما يقال عن المفارقات، فإن الشعور يبدأ بتحليله العقلي ويعيد بناء الموضوع على أساس عقلي حتى يتلاشى التشخيص والخيال والإشراقيات. (2)
نظرا لأن تحليلات القدماء لا تكفي؛ إذ يغلب عليها التحليل العقلي للوجود الصوري، فإننا نضيف عليها مادة جديدة مستقاة من الوجود الإنساني، أو من روح العصر. وكما استعمل القدماء الشعر الجاهلي وشعر الفرق، فإنه يمكن استعمال الشعر الحديث باعتباره معبرا عن احتياجات العصر.
149
ولما كان الشعر هو الفن الغالب على تراثنا القديم، فإنه يمكن استعمال كل ضروب الفن السائدة في عصرنا من شعر ورواية وقصة ومسرحية. وإذا كان القدماء أيضا قد استعملوا أمثال العرب، فإننا نعتمد أيضا على الأمثال العامية، بل وعلى الأزجال التي تعبر عن روح الشعب على نحو قد يكون أصدق من الأدب المدون.
ولما كان الشعور في حقيقته وعيا، وكان الوعي في واقع الأمر وعيا اجتماعيا، فإن منهج الشعور هو منهج لتحليل الواقع الاجتماعي. فالشعور ليس وعيا خالصا منعزلا عن محيطه ودوائره، عالم الأشياء، وعالم الآخرين، بل هو وعي اجتماعي يكشف عن بناء الواقع ومكوناته.
150
ولما كان الواقع هو في نهاية الأمر تراكم للماضي، وأحد مراحل التاريخ، فإن الوعي الاجتماعي هو أيضا وعي تاريخي. وعلى هذا النحو يتحول علم الكلام القديم من الحجة النقلية إلى التحليل العقلي إلى وصف الوجود، ثم يصب في نهاية الأمر في التحليل الاجتماعي والسياسي للوعي التاريخي في حياة الأمة. وعلى هذا النحو يعود علم الكلام إلى نشأته الأولى؛ أي إلى علم أصول الدين؛ حيث صبت فيه الأمة القديمة تاريخها وصراعاتها وأزماتها وقرأت واقعها في العقيدة كما يبدو ذلك في عقائد الفرق. ولربما يستطيع جيلنا نحن أن يقرأ في عقائده اليوم، كما فعل القدماء، تاريخه وصراعاته وأزماته، فتتأصل ثورته من خلال عقيدته.
Bilinmeyen sayfa