قال بريبيش: ستعرف اللغة العربية وتتقنها إذا أمسيت، فليس يباح لك أن تدخل بلدا دون أن تعرف لغة أهله، وإذا كنت ستزور أطراف الأرض كلها فستعرف لغات الناس جميعا، قال ديكارت: ومن لي بذلك؟ قال بريبيش: أنا لك به، انظر إلى هذه العلبة الصغيرة، إنها تحتوي اللغات جميعا، فيها أقراص تشبه أقراص النعناع، كل واحد منها يمثل لغة من اللغات، فإذا أشرفنا على البلاد العربية فسأدفع إليك قرص اللغة العربية تزدرده، فإذا أنت أقدر الناس على أن تنشد وتفهم وتنقد ما ينسب إلى امرئ القيس من شعر، وما يضاف إلى تأبط شرا من سخف، وما يحكى عن قس بن ساعدة من وعظ وإرشاد، وإذا أنت من أقدر الناس على مناقشة سيبويه والخليل والمبرد فيما تركوا من قواعد النحو والعروض والقافية والصرف، فانتظر. وانتظر ديكارت حتى إذا مالت الشمس إلى الغروب نظر فإذا من تحته مدينة يموج الناس فيها موجا. قال لصاحبه: ما هذه المدينة؟ قال: هي مدينة طنطا يحتفل الناس فيها بمولد السيد أحمد البدوي، فازدرد هذا القرص، ففعل، وقال بريبيش كلمات هوت لها الجرة إلى الأرض، ونظر ديكارت فإذا هو واقف على قدميه قال له بريبيش: ضع هذه القلنسوة على رأسك لتستخفي عن أعين الناس، ففعل، ومضى مع صاحبه يزور المولد ويجلس في كل خيمة لحظة ثم دخلا المسجد واختلطا بالشيوخ والطلاب والزائرين والذاكرين.
وعلى هذا النحو الذي يفصله ديكارت تفصيلا ممتعا قضى صاحبنا سنتين كاملتين مطوفا في أقطار الشرق الإسلامي كله، متقنا لغاتها وعاداتها، ذاكرا مع الذاكرين، متيما مع المتيمين، دائرا مع الدائرين، يلتهم النار حينا ويبتلع الزجاج آخر، وينتطق بالحيات والأفاعي، ويمشي على الماء ويطير في السماء، ويزور الجن في الأرض السابعة، والملائكة في السماء الرابعة، حتى إذا قضى من هذا كله وطرا وعلم من أسرار الكون ما يضمره الشرق وحده، عاد إلى هولاندا فمكث في موقده أشهرا يكتب ويقدس ويأتيه بريبيش كل مساء فيقضي عنده ساعة ثم ينصرف، حتى جاءه ذات يوم فقال: أحسب أنك قد أحببت الراحة وكرهت مشقة السفر، ومع ذلك فلا بد لك من رحلة أخرى ليست أقل مشقة ولا نفعا من رحلتك الأولى، فقم على اسم الله. قال ديكارت: ألا ننتظر إشراق النهار؟ قال: كلا، وما أنت والنهار والليل؟ الجرة تنتظر وعلبتك كفيلة بحاجات السفر وعلبتي كفيلة بتعلم اللغات، وسأتلو عليك في هذه الرحلة آيات ألمانية وروسية لم تظهر بعد؛ لأن أصحابها لم يخلقوا، ولكنهم سيخلقون وسيحدثون هذه الآيات فيعجب بها الناس، سأتلو عليك ما سيحدثه جوت وهنري هين وتلستوي وغيرهم من أعلام الشعر والنثر والفلسفة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، ثم سأتلو عليك كتابا يكتبه بعد سنين يهودي يتأثر بمذهبك اسمه سبينوزا، سيكتب في الأخلاق والفلسفة، متأثرا بهذا الكلام الفارغ الذي تكتبه للناس في أوقات الفراغ، وسيظن أنه وصل إلى الحق وسيلقى من الناس إكبارا واحتقارا. وقد استصحبت كتابا شرقيا عربيا سيظهر في الربع الأول من القرن العشرين في مدينة القاهرة، وهو كلام فارغ ككلامك هذا الذي تنشره على الناس، واسمه يدل على أنه فارغ وهو كتاب «في أوقات الفراغ»، الذي سينشره على الناس كاتب ظريف مفكر يجد حينا ويعبث أحيانا، أديب ولكنه يحب السياسة ويرشح نفسه للانتخاب في مجلس النواب، واسمه محمد حسين هيكل. فأنت ترى أن رحلتنا ستكون قيمة سهلة، ولا سيما حين أتلو عليك كتابا باللغة العربية سيضعه مصري في القرن التاسع عشر يقال له الشيخ محمد عبده، ويترجمه في القرن العشرين عالمان يقال لأحدهما مصطفى عبد الرازق وللآخر برنار ميشيل، وسترى أن هذا الشيخ المصري المسلم متأثر تأثرا تاما بفلسفتك هذه الفارغة التي تفسد بها عقول الناس، وتنشئ لهم بها علما جديدا، سيمكنهم من استعباد البخار والكهرباء والماء والهواء والصعود إلى السماء. قم بنا.
فقاما وامتطى فيلسوفنا جرته ومضيا نحو الشمال. واستمرا في رحلتهما أياما وليالي متنقلين من أدب إلى أدب، ومن فن إلى فن، حتى استقبلهما في صباح يوم مشرق جبل شاهق لا يصل الطرف إلى قمته، قال ديكارت: أين نحن؟ قال بريبيش: نحن في أقصى الأرض من ناحيتها الشمالية، وهذا الجبل الذي تراه هو سورها الذي يأخذها من جميع أطرافها. قال ديكارت مصفقا: هذا جبل قاف؟ قال بريبيش: نعم هو جبل قاف. قال: ديكارت: ليس وراءه إلا الماء الذي لا حد له طولا ولا عرضا ولا عمقا، والذي لا يحيا فيه شيء. قال بريبيش: أخطأت فسترى أن في هذا الماء حياة وأحياء.
قال ديكارت: ماذا تقول؟ سنقتحم هذا الجبل؟ قال بريبيش: وما جئت بك إلا لنقتحمه. إن من ورائه قوما ينتظرونك لتنشر فيهم الدعوة إلى الحق، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، دع هذه الجرة فهي لا تغني عنك شيئا. قال ديكارت: وكيف تصعد في هذا الجبل؟ قال بريبيش: أترى إلى هذا السحاب المتراكم، ستهبط منه سحابة تحملنا إلى حيث نريد. وهبطت سحابة فإذا شيء أشبه بعربة من الذهب والخالص، فيه وسائد من الحرير والإستبرق، وأكواب ملئ بعضها من الشاي وبعضها من القهوة، وبعضها من اللبن، وعلبة نشوق وسجائر مختلفة منها الطويل والقصير، والضخم والنحيف، ولكنها كلها عطرة أرجة يتضوع منها نشر يشبه العنبر، وفيها شيشة وجوزة، وفيها نرد وشطرنج ودومينو، وما إلى ذلك من أدوات اللعب. جلس الفيلسوف ومعه بريبيش وأخذ في تدخين الشيشة لأنه كان قد جرب ذلك في دمشق فأحبه، أما بريبيش فأخذ يدخن الجوزة لأنه كان كثير الاختلاف إلى حي من أحياء القاهرة في باب الشعرية، وهناك تعلم هذا النحو من التدخين.
وصعدت بهما السحابة في السماء حتى انتهت بهما إلى قمة الجبل، فهم ديكارت بالخروج فأمسكه بريبيش قائلا: لا تخرج حتى تشرب قدحا من اللبن وكأسا من اللبن وكأسا من القهوة وحتى تنشق؛ فكل هذه الأشياء من ثمرات الأرض التي تتركها، ولا بد من أن نذوقها الآن لنضمن لأنفسنا العودة إلى هذه الأرض أحياء أو أمواتا، فإن نحن لم نفعل فسيقوم جبل قاف حائلا بيننا وبين الأرض آخر الدهر. شربا ودخنا وخرجا. فإذا طائر عظيم لا يستطيع الطرف أن يحيط به قد حلق كأنه ينتظر أمرا، قال ديكارت: ماذا أرى؟ قال: هذا الطائر الذي تراه هو بلاجوست، وهو السفينة التي يتخذها الأحياء فيما وراء جبل قاف لمواصلاتهم، فامتط هذا الطائر فسأكون معك، وسترى أنه يقطع في لحظات ما تقطعه سفنكم في أيام. واستقر على جناح الطائر وما هي إلا لحظات قصار حتى هوى بهما إلى جزيرة عظيمة فيها غابات كثيفة ومروج خضر، ولكن أهلها لا يتجاوز ارتفاع أحدهم شبرا، عراض يتجاوز عرض أحدهم مترا، وهم يضحكون أبدا، ولهم فيما بينهم حديث كقصف الرعد، وهم يدخنون ولكن بآذانهم، يدخل الدخان في إحدى الأذنين فيخرج من الأخرى، وليس لكل واحد منهم إلا عين واحدة قد استقرت في وسط جبهته، ولكنها ضخمة متوقدة يتطاير منها شرر مخيف. قال ديكارت: ولكني لا أفهم شيئا مما يقولون. قال بريبيش: هذا قرصهم فازدرده تفهم لغتهم.
وأخذ ديكارت يسمع لغتهم ويفهمها، فقال لصاحبه: ألست ترى معي أن هذه اللغة تشبه اللغة البلغارية شبها شديدا، قال بريبيش: هي أصل اللغة البلغارية، وهؤلاء الناس هم آباء البلغار، كانت فيهم ثورة منذ آلاف السنين انتصرت فيها الديمقراطية على الأشراف فأجلتهم عن بلادهم، فعبروا جبل قاف، وهناك في أرضكم أثر فيهم الجو، فأخذ من عرضهم، وزاد في طولهم، فاستقامت لهم هيئات وقامات كهيئات الناس وقاماتهم، ومضوا في طريقهم حتى انتهوا إلى الأرض التي تسمى الآن بلغاريا، فاحتلوها واستعمروها. وهم الذين تحدثوا إلى فقهاء المسلمين عن أرض تشرق فيها الشمس ستة أشهر فليس فيها ليل، وتغيب عنها ستة أشهر فليس فيها نهار، وقد وضع فقهاء المسلمين أحكاما فقهية لأهل هذه البلاد تمس أوقات الصلاة بنوع خاص. وقد جئت لتنشر الإسلام في هذه الأرض، فعلم الناس كيف يؤقتون الصلاة حين تشرق الشمس، وحين تغرب، وامض بنا فإن «قاطرينا» تنتظرك في قصرها. قال ديكارت: من قاطرينا؟ قال بريبيش: هي ملكة هذه الجزيرة، حدثتها عنك وأنبأتها بنبئك، فهي تنتظرك، وقد زارها من قبلك دروكلكسيس، وزارها الحلاج، وزارها فيثاغورس. قال ديكارت: هي إذن خالدة لا تموت! قال بريبيش: إن الخلود لم يكتب لأحد، كل شيء هالك إلا وجه الله، ولكن ملوك هذه البلاد كتب لهم طول الأعمار. فأعمارهم لا تعد بالسنين ولا بالقرون وإنما تعد بالآلاف. وقد ولدت قاطرينا سنة 3505 قبل المسيح، وملوك هذه البلاد إذا بلغوا من العمر ثلاثة آلاف سنة جاءهم النبأ بالعام الذي سيموتون فيه. وقاطرينا تعلم أنها ستموت سنة 1917 حين يقرب الألمان من مدينة باريس في الحرب العالمية الكبرى التي ستكون في ذلك الزمان. وهي مشوقة إلى أن تراك لتأخذ عنك العلم والحق والدين، وتنفق ما بقي لها من الدهر في عبادة وتقرب إلى الله، تاركة أمر الملك لولي العهد الذي يبلغ من العمر الآن ألفي سنة، واسمه ساباتيه بن أرابيشا.
ومضيا حتى انتهيا إلى القصر، فإذا فخامة وضخامة وترف لا عهد لفيلسوفنا بها، وإذا الملكة القصيرة العريضة تنتظره مبتسمة، وإذا هو لم يكد يجلس إليها حتى أخذت تتحدث إليه وتسأله. واتصل مجلسهما ساعات فتنت فيها الملكة بفلسفة ديكارت فتنة لا حد لها، ولم تأذن له بالانصراف ليستريح إلا كارهة، وأخذ فيلسوفنا يتردد على الملكة يعلمها ويفقهها في الدين والتصوف، وهي به مشغوفة، ولكن جو هذه الجزيرة لا يلائم طبيعة أهل هذه الأرض، فقد أخذ ديكارت يلاحظ أن قامته تقصر وتعرض، وشكا ذلك إلى بريبيش فقال له: ألم أنبئك أن أهل هذه البلاد حين هاجروا إلى أرضكم ضاقوا وطالوا حتى أصبحوا مثلكم؟ فأهل أرضكم إذا جاءوا إلى هذه البلاد قصروا وعرضوا حتى أصبحوا كغيرهم من سكانها. ولكن السن كانت تقدمت بديكارت فلم يستطيع أن يقاوم امتداد جسمه من ناحية وانكماشه من ناحية أخرى، فتوفي عام 1650.
وقد وصف بريبيش في كتاب أرسله إلى الحكومة الفرنسية مع جثة ديكارت مقدار ما أصاب الملكة من جزع وحزن لفقد هذا الفيلسوف قبل أن تنتشر مذاهبه القيمة في رعيتها. قال بريبيش في آخر كتابه: والرأي عندي ألا يسافر الزعماء الذين سيخلفون ديكارت إلى ما وراء جبل قاف إلا في منتصف الألف الثالث بعد المسيح؛ ففي ذلك الوقت قد يتشابه ويتقارب ما دون الجبل وما وراءه بحيث يصبح طول الناس جميعا أربعة أشبار وعرضهم أربعة أمتار، وفي ذلك اليوم قد يكون فن الطيران قد تقدم ويستطيع الناس أن يقتحموا جبل قاف، ويعبروا بحر كاف، ويصلوا إلى جزيرة نون في سهولة ويسر. قال بريبيش: على أني الموكل بهؤلاء الزعماء فلا أسمح لأحد منهم بزيارة قاطرينا أو ابنها ساباتيه بن أرابيشا إلا حين يئين الأوان لهذه الزيارات. •••
هذا ما أحببت أن أهديه إلى الشيخين الجليلين من حياة ديكارت، وأنا أعتمد على ذكائهما في فهم فلسفته من هذا الفصل، فللرجل نوعان من الفلسفة؛ أحدهما سخيف ضعيف، هو الذي اعتمدت عليه في كتاب الشعر الجاهلي؛ لأني لست من أهل التصوف، ولا القادرين على الشطح والنطح، والآخر قيم ممتع، خصب لذيذ، يلتمس في كتب الحلاج ومحيي الدين بن العربي، وفي كتاب الدياربي وشمس المعارف الكبرى، وفي رسالة صغيرة توجد في مكتبة الأستاذ الجليل أحمد زكي باشا بقسم المخطوطات يقال لها «دومة في نومة». •••
أما بعد؛ فإني أقسم لصاحب المعالي وزير المعارف، ولوكيلها وسكرتيرها العام، وأعضاء مكتبها الفني، ولناظر دار العلوم وأساتذتها وطلابها، لو سئل تلميذ أوروبي عن ديكارت في امتحان الشهادة الثانوية وجهله كما يجهله أساتذة هذه المدرسة العالية، لحيل بينه وبين الشهادة التي يطلبها. وإذن فأنا أقترح عليهم أحد أمرين: إما أن يكلفوا أحد العلماء بإلقاء محاضرات في تاريخ الفلسفة للأساتذة وللشيوخ منهم بنوع خاص؛ ليستطيعوا أن يكونوا أدباء وأن يلموا «من كل شيء بطرف»، وإما أن يأخذوا هذا الفصل الذي أكتبه ملخصا فينشروه، ويأخذوا الأساتذة والطلاب بقراءته وفهمه، فليس ينبغي أن يكون في مدارسنا العالية أستاذ أو طالب يجهل اسم ديكارت أو فلسفته، أو أثره في هذا العصر الحديث.
Bilinmeyen sayfa