مررنا أمام الملك والملكة فصافحنا الملك، وأعلن إلينا أنه سعيد برؤية مصري، وأن الملكة كانت سعيدة جدا بما أظهر المصريون لها من الكرم وحسن الضيافة، وصافحتنا الملكة فأعلنت إلينا اغتباطها بهذه السياحة البديعة التي ساحتها في هذا البلد الذي ليس له مثيل. ثم مرت بعدنا إنجلترا فذكرت أنا مستقلون، وأنا لا نتبع تركيا، وأنا لا نتبع إنجلترا، وأن تصريح 28 فبراير ليس لغوا ولا حديثا من الأحاديث، وإنما هو حقيقة واقعة ليست عبثا بالعقول كما يظن كثير منا في مصر.
خرجنا من غرفة الاستقبال، وكنت أظن أن لم يبق لنا إلا أن ننصرف، ولكني دهشت حين وجدت نفسي في غرفة قد مدت فيها الموائد، ووقف خدم القصر يقدمون إلى أعضاء المؤتمر الشاي وأنواع الحلوى والأشربة (التي يبيحيها الإسلام)، وإنا لفي شاي وحلوى وبرتقال يتبع بعضنا بعضا، كلما فرغت طائفة من تحية الملك تقدم إليها الخدم فسألوها عما تشتهي، حتى انتهت المقابلة.
أقول إنا لفي هذا كله وإذا بالملك والملكة والأمراء قد خرجوا من غرفة الاستقبال واختلطوا بالناس، وانبثوا في أنحاء الغرفة يتحدثون إلى المؤتمرين مع شيء من السذاجة وارتفاع الكلفة غريب، وكان الرئيس البلجيكي للمؤتمر الأستاذ «بيرين»
pirenne
يتتبع كبار العلماء وذوي المكانة منهم فيقدمهم إلى الملك مرة، وإلى الملكة مرة أخرى، وكان المؤتمرون البلجيكيون يتتبعون بقية الأعضاء فيقدمونهم حينا إلى ولي العهد وحينا آخر إلى أخيه وحينا آخر إلى أخته، وقد قدمت أنا وزوجي إلى هذه الأميرة الصغيرة، وهي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، مشرقة يتحدث وجهها بما يملؤها من قوة الشباب، وبما لا يزال يملكها من سذاجة الطفولة ونعومتها، في زي ساذج عادي، كالذي تصطنعه الفتيات في أسر الطبقات الوسطى في أوروبا وفي مصر. قدمنا إليها على أننا نمثل مصر، وقال مقدمنا إننا نمثل بلدا غريبا لا لما تتكشف عنه المباحث العلمية من عجائب تاريخه القديم، بل لما يبهر عقول الأوروبيين من حركته المدهشة ونهضته السريعة التي بدأت منذ سنين فقطعت في زمن قصير ما أفنت أوروبا في قطعه طوال الأعوام. فسألت الأميرة زوجي عن المرأة المصرية ومقدار رقيها، وإن زوجي لتصف لها سرعة رقي المرأة المصرية إذ أقبلت سيدة بولونية عالمة مؤرخة من أعضاء المؤتمر، فاندفعت إلى الأميرة دون أن تقدم إليها، ودون أن تستأذن، ثم أسرعت إلى يد الأميرة فهزتها هزا عنيفا، وسألت الأميرة بصوت غليظ: أتحبين التاريخ؟ أجابت الأميرة في استحياء: نعم يا سيدتي. وأي فرع من فروع التاريخ تحبين؟ بهتت الفتاة لحظة، ثم قالت: إني لم أحسن درس التاريخ ولا أعلم منه إلا قليلا، فلا أستطيع أن أوثر فرعا من فروعه دون الآخر. ضحكت السيدة ضحكا عاليا، ثم هزت يد الأميرة هزا عنيفا، وقالت في صوتها الغليظ: ادرسي تاريخ الفن فهو سهل والناس جميعا يستطيعون أن يفهموه. ثم مضت لشأنها. وقدم إلى الأميرة ناس آخرون، ولبثنا كذلك ساعة، ثم انصرف الملك والملكة والأمراء، فانصرف كل منا إلى مأواه.
عرفت في هذه المرة أيضا لم يحب البلجيكيون ملكهم وملكتهم وأمراءهم، وكيف لا أفهم ذلك وقد أقبل من قدمنا إلى الأميرة فصاح بي: مسيو حسين، تعال أقدمك إلى أميرتنا الصغيرة. وكيف لا أفهم ذلك وقد سمعت الأستاذ «بيرين» يصيح بأعلى صوته: «برنس ليو بولد! أين البرنس ليو بولد؟ أين ذهب؟ إني أريد أقدم إليه ...» فيجيبه أحد البلجيكيين: «ها هو ذا يتحدث إلى فلان»، فيذهب الأستاذ «بيرين» ويمهل الأمير حتى إذا فرغ من حديثه أخذ بذارعه ومضى حتى يقدمه إلى أحد العلماء، والملكة تتنقل بين صفوف المؤتمرين فتتحدث إلى هذا، وتسأل ذاك، وتبسم لهذا، وتصافح ذاك.
كيف لا أفهم حب البلجيكيين لملكهم وملكتهم وأمرائهم وهم على هذا الحظ من الديمقراطية؟
ألا إننا في عصر تنتصر فيه الديمقراطية انتصارا مدهشا، لا تستقر في مجالس النواب ولا في مجالس الشيوخ، وإنما تتجاوز هذه المجالس إلى قصور الملك، فينزلها هؤلاء الملوك من قصورهم أحسن منزل ؛ لأنهم يفهمون أن عروشهم لا تستطيع أن تقوم إلا عليها، لأنهم يفهمون أن نظام الملك قد أصبح لا يلائم هذا العصر؛ لأنه أثر قديم لا معنى له الآن إلا إذا لم يكن بين الملوك ورؤساء الجمهوريات فرق ما. إلا إذا اعتمدت عروش الملوك على قلوب الشعب لا على قوة الجيش ولا على قوة السنة القديمة.
فهم بعض ملوك أوروبا هذا فاستقرت عروشهم، ويظهر أنها تريد أن تستقر أبدا، ولم يفهمه بعضهم الآخر، فهم الآن يذوقون مرارة النفي على شواطئ بحيرة «ليمان»
leman
Bilinmeyen sayfa