أحمر
أصيل التمثيل
الدائرة
الطائر الحديث
مدرسة أبناء الخمسين
ملهاة السعادة
كارل وأنا
مدرسة المشعوذين
فوز الطب
هدوء السر
Bilinmeyen sayfa
العرق الذهبي
كنت أنتظرك
لم نبق بعد أطفالا
سميراميس
سجين
برسيفونيه
أحمر
أصيل التمثيل
الدائرة
الطائر الحديث
Bilinmeyen sayfa
مدرسة أبناء الخمسين
ملهاة السعادة
كارل وأنا
مدرسة المشعوذين
فوز الطب
هدوء السر
العرق الذهبي
كنت أنتظرك
لم نبق بعد أطفالا
سميراميس
Bilinmeyen sayfa
سجين
برسيفونيه
من أدب التمثيل الغربي
من أدب التمثيل الغربي
تأليف
طه حسين
أحمر
لم تجد هذه القصة من النقاد حين مثلت إلا ثناء وإطراء؛ لأنها فيما يظهر لاءمت ميول الفرنسيين عامة، والباريسيين خاصة في هذه الأيام. ولعلها من بعض نواحيها تلائم ميول المثقفين والأدباء من غير الفرنسيين أيضا، فأظهر ما تمتاز به هذه القصة أنها رقيقة لينة لا عنف فيها، ولا جهد، وإنما تمس الأشياء مسا سهلا هينا؛ هو إلى الإشارة والتلميح أقرب منه إلى النص والتصريح. وأظن أن هذا النحو من الميل الأدبي قد أخذ يعم وينتشر في هذه الأيام، وأخذ الناس يكرهون التصريح الملح، ويعودون إلى الاكتفاء بالإيماء والرمز، وباللمحة الدالة كما يقولون، ولا سيما حين لا يكون الموضوع الذي يتناوله الأديب خليقا بالتصريح والجلاء.
وموضوع هذه القصة في ظاهره على أقل تقدير، هو الهجاء السياسي. وقد تعود الناس في الهجاء السياسي أن يكون صريحا كل الصراحة، واضحا كل الوضوح، يتجه اتجاها مباشرا إلى العاطفة التي يريد الكاتب أن يستثيرها. فإذا وفق الكاتب الأديب في هذه الأيام إلى أن يحسن الهجاء السياسي دون أن يورط نفسه فيما ألف الناس من تصريح لا يحتمل اللبس، ووضوح لا يتعرض للغموض؛ فقد وفق إلى الإجادة التي يألفها الذوق المترف الحديث.
وصاحب هذه القصة بارع في التعريض، موفق حين يقصد إلى السخرية، التي تلذع ولا ترى، وتؤذي وكأنها لا تحس. وهو قد أراد في هذه القصة أن يعبث بطائفة من رجال السياسة عرفتهم الحياة العامة في هذا العصر الحديث، يتخذون لأنفسهم آراء متطرفة مسرفة في التطرف، ولكنهم يتخذون لأنفسهم مع هذه الآراء سيرة تناقضها كل المناقضة، وتخالفها أشد الخلاف؛ فهم في مذهبهم السياسي اشتراكيون غلاة، أو شيوعيون مسرفون في الشيوعية. ولكنهم في سيرتهم الخاصة حراص كل الحرص على تقاليد بيئتهم التي نشئوا فيها؛ وهي بيئة الأغنياء، أوساط الناس، يعيشون إذا خلوا إلى أنفسهم عيشة فيها ترف، بل إسراف في الترف، وفيها يسر، بل إغراق في اليسر. وفيها تفنن في التماس اللذة وتذوقها. فإذا لقوا أتباعهم وأنصارهم، أظهروا زهدا في اليسر والترف، وهجوما عنيفا على أصحاب اليسر والترف. وهم كذلك يخدعون الناس ويمضون في هذا الخداع حتى ينتهوا أحيانا إلى خداع أنفسهم والاقتناع بأنهم اشتراكيون أو شيوعيون حقا. فإذا حللت حياتهم وسيرتهم؛ لم تجد بينهم وبين الاشتراكية والشيوعية سببا، إنما هم قوم قد اتخذوا السياسة صناعة يستعينون بها على إنفاق الوقت كما يستعينون بها على التماس ما يحتاجون إليه من السلطان والجاه؛ فهم يكذبون على الناس، وهم يكذبون على أنفسهم، وهم يظفرون بتصديق الناس، ويظفرون بتصديق أنفسهم أيضا. وما أكثر ما سمعنا عن هذا الزعيم أو ذاك من قادة الرأي الاشتراكي أو الشيوعي، يظهر للناس خصما شديد الخصومة لرأس المال وما يستتبع من نظام سياسي واقتصادي، صديقا قوي الصداقة للمساواة والثورة التي تؤدي إليها. ويتخذ لنفسه منزلين، منزلا يلائم مذهبه السياسي يلقى فيه أنصاره وأتباعه، من العمال والبائسين، ومنزلا آخر يلائم ذوقه المترف وشخصه الممتاز الحريص على الامتياز يلقى فيه أصدقاءه وأحباءه وشركاءه في الترف واللهو والتماس اللذة والنعيم.
Bilinmeyen sayfa
وقد ذهب الكاتب في قصته هذه مذهبا طريفا في تصوير ما أراد تصويره؛ فاعتمد على التناقض في هذا التصوير، وذلك أنه صور لنا شخصين متناقضين فيما بينهما تناقضا شديدا: أحدهما خرج من الطبقات الشعبية الدنيا، كان عاملا بائسا سيئ الحال، فما زال يجد ويكد ويحتمل الجهد والعياء حتى أثرى وعظم حظه من الثراء، وأصبح من أصحاب الملايين، وإذا هو ينظر إليه على أنه من الأغنياء، الذين يجب أن تحاربهم طبقات العمال وتحطمهم الثورة حطما. وهو على ذلك يعيش بين ملايينه عيشة الرجل الساذج السهل الذي يكره الترف ويمقت اللذة، ويحرص على القصد والاعتدال أشد الحرص، ويعطف على العمال والبائسين أشد العطف.
والآخر رجل خرج من بيئة غنية؛ فتعلم في المدارس، وتخرج في مدرسة الهندسة، وانتهى من الترف العقلي والشعوري إلى حظ عظيم، ثم اتخذ الاشتراكية أو الشيوعية له مذهبا، واندفع في نصر العمال وتأييد ميلهم إلى الثورة، حتى أحبه العمال وآثروه واتخذوه وكيلا لهم في مجلس النواب، وهو على ذلك يعيش عيشتين متناقضتين: إحداهما عيشة الثائر الزاهد، والأخرى عيشة المترف الحريص.
والتناقض بين هذين الرجلين في القصة واضح أشد الوضوح: فالأول مهمل في زيه وشكله، ساذج في حديثه وتفكيره وسيرته كلها، والآخر ظريف لبق واضح العناية بشكله، بين الحرص على أن يأخذ بحظه من نعيم الحياة، لا حظ له من سذاجة إذا قال أو فعل. على أن الكاتب لم يقف عند هذا الغرض في قصته هذه، وإنما قصد إلى غرض آخر ليس أقل خطرا من الغرض الأول؛ فصور لنا انخداع الفتاة التي لا تستطيع أن تحب إلا إذا أكبرت من تحبه إكبارا، وأخرجته عن طوره وجعلته أرقى منها، وجعلت نفسها دونه بحيث يستطيع أن يأمر وتستطيع هي أن تأتمر. وصور لنا في الوقت نفسه اضطراب الفتى الذي أحب، واستأثر الحب به، ولكنه رأى عشيقته تكبره وتراه بطلا؛ فلم يستطع إلا أن يلعب دور البطل كما يقولون، ويتخذ صورة الرجل العظيم، ويسير سيرته ليحتفظ بما يملأ نفس صاحبته من الحب.
ثم تتكشف الحوداث عن كل هذا الخداع والانخداع، ويظهر للعاشقين أن الحب خليق أن يعتمد على نفسه، وأن يستغني بها دون أن يستعين بالعظمة أو البطولة؛ فتعود الأمور إلى حيث يجب أن تكون، ويظهر الحب آخر الأمر ظافرا منتصرا. ولا بد من إتقان اللغة الفرنسية وإتقان الأدب الفرنسي أيضا؛ لتذوق هذه القصة وفهم ما ترمي إليه من الأغراض، فإن الكاتب قد أخفى سخريته إخفاء، وسترها سترا. وإن كثيرا من الناس لخليقون أن يقرءوا هذه القصة فلا يجدوا لها خطرا ولا يتذوقوا فيها جمالا.
ثم لا بد من شيء من الصبر والأناة والثقة بالكاتب؛ لينتهي القارئ أو الناظر إلى ما ينبغي أن ينتهي إليه، من الحكم الصادق على هذه القصة؛ فالحركة فيها لا تكاد تشعر، والحوار فيها مشتت مختلط، شديد الاختلاط لا يكاد يضبط وليس إلى تلخيصه الدقيق من سبيل.
فالقارئ أو الناظر خليق أن يجد السأم حين يقرأ القصة أو يشهدها، ولكنه إذا فكر واستأنى وجد في هذا العيب الظاهر مزية قيمة حقا. فهذا الحوار المختلط المنتشر يصور الحياة الواقعة أحسن تصوير وأصدقه، ويخفي أثر الفن في هذا التصوير نفسه، ويخيل إليك أنك تحيا مع هؤلاء الناس الذين تعرضهم عليك القصة وتشاركهم فيما يكون بينهم من حوار، وما ينجم بينهم من خصومة أو خلاف.
ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في قصر فخم من قصور الأغنياء؛ نرى سيدة قد جاوزت الشباب، ومعها فتى لم يجاوز الشباب بعد، وهما يسألان عن صاحب القصر، والخادم يدخلهما غرفة الاستقبال وينبئهما بأنه سيذهب ليدعو سيده، ولكن بعد أن يهيئه للاستقبال.
ونحن نفهم من الحوار بين هذه السيدة وبين الخادم أمورا؛ منها أن السيدة تعرف صاحب القصر ومن يحيط به معرفة دقيقة، ومنها أن بينها وبين الخادم معرفة قد ارتفعت منها الكلفة. فهي تسأله عن أبنائه، وهو ينبئها بأن أحدهم يدرس الصيدلة، وبأن الآخر يدرس علم المكتبات، وبأن الثالث يتهيأ لفن القصص. فهم إذن أبناء رجل موسر لا أبناء خادم يعيش من خدمة غيره. وهذا يدلنا على أن هذا الخادم قديم في القصر، ميسر عليه من مولاه. ومنها أن صاحب القصر رجل ساذج مهمل؛ فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في اتخاذ ما ينبغي له من اللباس، ولا بد من أن يعينه خادمه من ذلك على الجليل والدقيق. فإذا خلت السيدة إلى صاحبها الفتى فهمنا أن بينهما قرابة، وأنها قد أقبلت بهذا الفتى لتقدمه إلى صاحب القصر الذي يريد أن يتخذه مربيا لابنه. وهذا الفتى غريب الأطوار، فهو دكتور في الأدب، ودكتور في العلم، ودكتور في الحقوق، يجد لذة في الامتحان فيحرص عليه، ويجتهد في الظفر بما يستطيع من الدرجات الجامعية. وهو شديد الحياء، شديد الكبرياء أيضا، معتدل في عيشته، كان يحب امرأة عاش معها أربع عشرة سنة، ثم انصرف عنها وانصرفت عنه، فدفع لها مقدارا من المال، واشترى حريته ورد إليها حريتها كذلك.
وهذا صاحب القصر يقبل فلا يكاد يلقى هذين الزائرين حتى نفهم أن قد كانت بينه وبين هذه السيدة صلات حب لم تنته إلى الزواج، ولكنها انتهت إلى صداقة دائمة. وهذا الرجل كما صورناه آنفا ساذج لا يحب التكلف ولا الترف، غني كريم ولكن في غير إسراف، وهو يلقى مربي ابنه لقاء حسنا، ويعده منحا كثيرة إن استطاع أن يقوم ابنه ويثقفه ويجعل منه رجلا صالحا لاحتمال تبعات الحياة. وهو يقدم إليه تلميذه؛ فإذا غلام في الخامسة عشرة من عمره قد أفسده الترف أو كاد، فهو محب للطعام، مسرف في هذا الحب، لا يشتغل إلا بالمطبخ والطباخ. وقد خلا المعلم إليه وأخذ يلقي عليه الدرس الأول، ولكن أخت الفتى قد أقبلت ومعها شابان من أصحابها الذين يلعبون معها ويلهون. ويكفي أن نسمع ما بين هذه الفتاة وصاحبيها من الحوار لنعرف أنها فتاة مترفة لاهية، لا ترى الحياة إلا لعبة ولذة، وقد جلست تستمع للدرس، فلم يكد الأستاذ يمضي فيه حتى غضبت أشد الغضب؛ لأن الأستاذ ذكر الأغنياء والفقراء، فعطف على هؤلاء وقسا على أولئك، واصطنع في ذلك لهجة الشيوعيين. والفتاة ثائرة على الأستاذ أشد الثورة، والأستاذ يلقى الغضب بالغضب، والنكير بالنكير، ويعلن أنه لن يبقى في هذا القصر، وتعلن الفتاة أنها أيضا لا تريد أن يبقى. وقد فسد كل شيء وخرج الأستاذ، فأمر بإعداد متاعه للرحيل، وذهبت الفتاة إلى أبيها، فأنبأته بالأمر على حين لا يحفل الفتى إلا بالمطبخ والطباخ. وهذا صاحب القصر قد أقبل فلم يكد يلقى الأستاذ ويتحدث إليه حتى عرف أن الأمر يسير هين، وأن الأستاذ بريء من السياسة، وهو يدعو ابنته إليه، فينبئها بأنه قد قطع كل صلة مع هذا الأستاذ، وأنه سينصرف الآن. ولكنه يذكر فقر الأستاذ وما سيدركه من خيبة الأمل، وإذا الفتاة قد رقت ولانت وأعلنت إلى أبيها أنها قد أساءت إلى هذا الشاب وظلمته، وأنها تريد أن تعتذر إليه، ثم اقترحت على أبيها أن يضاعف له الأجر. وهذا الأستاذ يقبل، فتلقاه الفتاة لقاء جميلا، ولا تكتفي بالاعتذار إليه، وإنما تطلب إليه أن يكون أستاذها ومرشدها؛ فقد استكشفت أنها آثمة سيئة الخلق مسرفة في البطر، فاحشة الحظ من الكبرياء. ولا يكاد الستار يلقى حتى نفهم في وضوح وجلاء أن الفتاة مفتونة بالأستاذ، وقد وضعته في غير موضعه، ورأت فيه رجلا عظيما.
فإذا كان الفصل الثاني؛ فقد مضت الأمور مسرعة، وتم الزواج بين العاشقين. ونحن نراهما حين يرفع الستار وقد خلا كل منهما إلى صاحبه في الجناح الذي خصص لهما من القصر، والذي لم تتم تهيئته بعد. والفتاة هائمة بزوجها العظيم، والزوج يتكلف العظمة ليحتفظ بهذا الحب؛ فهو يتكلف الاقتناع بمذهب الشيوعية، بل هو زعيم من زعماء الحزب، وهو يتهيأ لاستئناف عمله السياسي بعد أن انقطع عنه شهر العسل. فأما امرأته، فقد اعتنقت مذهب الشيوعية واندفعت فيه مسرفة، فهي تعطف على البائسين أشد العطف؛ أليست قد وقفت سيارتها في الطريق لأنها رأت بائسة أدركها الرعاف فدفعت إليها منديلها، ولم تلق من هذه البائسة رضى ولا شكرا، وإنما لقيت منها لوما وتأنيبا لأن منديلها منديل صغير من مناديل المترفين، وكانت خليقة أن تكبر حجمه وتخفف من تعطيره. أوليست قد ذهبت إلى أبعد من هذا، فمضت توزع المنشورات الداعية إلى الثورة في مدرستها القديمة. وهؤلاء رجال الشرطة قد أقبلوا يتحدثون في ذلك إلى أبيها، وزوجها يهدئ من هذه الحدة، ويخفف من هذا العنف. فهو فيما بينه وبين نفسه لا يحب الثورة ولا يحفل بالشيوعية، وإنما يتكلف ذلك تكلفا، حتى لا يفقد إعجاب امرأته به. وهو قد دعا زعيما من زعماء الشيوعيين يمثلهم في مجلس النواب، فلما خلا إليه أنبأه بحقيقة الأمر، وفهمنا من حوارهما أنه حين كان فقيرا كان شديد الدفاع عن أصحاب اليمين، فلما أصهر إلى هذا الرجل الغني تحول إلى الشيوعيين، ولكنه لم يتحول إلا تكلفا كما رأيت. وهو يستعين بالزعيم الشيوعي على أن ينضم إلى الحزب ويخطب في الاجتماعات، وزعيم الحزب يعده بذلك ويدعوه إلى اجتماع سيعقد في اليوم نفسه، وينبئ امرأته بذلك فتبتهج له وتدعو الزعيم إلى العشاء، فيستجيب لها على أن يصطحب سكرتيرة الحزب.
Bilinmeyen sayfa
وقد انصرف الزعيم ومعه الفتى، وأقبل أبو الفتاة وصاحبته تلك فأخذا ينصحان للفتاة، ولكنها مقتنعة لا تقبل نصحا، ملحة في الشيوعية لأن فيها مستقبل زوجها العظيم. وهي تدعوهما إلى العشاء فيقبلان وهم يعلمون أن الاجتماع الشيوعي سيذاع في الراديو فيتهيئون لاستماعه. ولكنهم لا يكادون يسمعون حتى يتبينوا أن الفتى قد أخفق في خطبته، ولم يستطع أن يثبت للمقاطعين، فلا تستيئس الفتاة وإنما تزداد أملا وثقة، وتطلب إلى أبيها وأخيها وصاحبتها ألا يظهروا علمهم بما أصاب زوجها من الإخفاق. وهذا زوجها قد أقبل مع الزعيم وسكرتيرة الحزب، وزوجها ظاهر الحزن، والزعيم والسكرتيرة يهونان الأمر ويعللانه بأنه أول لقاء بين الخطيب والجمهور، ولكن ماذا؟ إن الزعيم رجل أنيق، حسن الزي، ظاهر الترف، والسكرتيرة فتاة جميلة بارعة الزي، كثيرة الحلي، شديدة التلطف للزوج، كأنها تداعبه، وتمنيه الأماني. وامرأته تلاحظ ذلك فتثور في نفسها الغيرة التي سترد الأشياء إلى نصابها.
ذلك أنها لم تكن تقدر أن يكون زعماء الشيوعيين وقادتهم من الترف والثراء بحيث ترى الفتاة وهذا الزعيم. وهي تحب زوجها لأنه عظيم، ولكنها لا ترى ولا ترضى أن يكون شركة بينها وبين غيرها من النساء. وهي تقبل تقسيم الثروة، وتقبل الشركة في الغنى والفقر، ولكنها لا تقبل الشركة في الحب، وهي تظهر غيرتها للزوج وتحذره من هذه المرأة اللعوب وتنذره بالمراقبة الشديدة.
فإذا ارتفع الستار عن الفصل الثالث؛ فقد اجتمع القوم إلى مائدة العشاء، ونحن لا نراهم، وإنما نسمع حوارهم حول المائدة، أو قل نسمع خصامهم. فهم يختصمون، ويختصمون اختصاما عنيفا كأقصى ما يكون العنف. ويختصمون في كل شيء، وربة البيت متعبة تحاول أن تصرفهم عن الخصومة، وأن تردهم إلى حديث يمكن أن يتفق فيه الرأي، ولكنها لا تفلح؛ فهم يختصمون في الدين؛ لأن الشيوعيين يلحدون، وهم يختصمون في الأدب والفن؛ لأن الشيوعيين يسرفون في التجديد، وهم يختصمون في كل شيء يمس الذوق؛ لأن الشيوعيين يسرفون في الحرية، وهم يختصمون في اللغة؛ لأن الشيوعيين يجرون على ألسنتهم ألفاظا مسرفة الابتذال. ومن خصوم الشيوعيين من يترك المائدة محتجا أو مشمئزا، والخدم يرون ذلك ويسمعونه وهم يتندرون بذلك ويسخرون منه. وربة البيت وزوجها يجتهدان في رد النافرين من المائدة إلى طعامهم، فلا يبلغون ذلك إلا بشق النفس. ثم ينتهي العشاء ويقبل القوم على غرفة الاستقبال؛ فنراهم وقد بلغ الخصام بينهم أقصاه، وجدت ربة البيت في التوفيق بينهم، فلم تفلح، وإذا هي تخاصم مع المخاصمين، وإذا ميلها إلى المحافظة ظاهر، ونفورها من الشيوعية بين. أليست هذه المرأة الجميلة التي تداعب زوجها وتحاول أن تغريه وتغويه بلمس اليد، وباللحظ وباللفظ، شيوعية؟! أليس هذا يكفي؟! بلى. وهذه الزوج تنضم آخر الأمر إلى صف المحافظين، وقد انقضت السهرة كما استطاعت أن تنقضي، وافترق القوم على غير فهم، ولا مودة. ولكن أزمة جديدة تبتدئ، فهذه الزوج الشابة قد لاحظت أنها أفسدت الأمر على زوجها حين أغضبت زعماء الشيوعيين، فهي إذن لا تحبه كما ينبغي؛ لأنها تبث أمامه العقبات، وهي نادمة وهي مشفقة وهي حائرة لا تعرف كيف ترضي زوجها، وهي تنبئ أباها بهذا كله، وأبوها يهون الأمر عليها ويزعم لها أن الحب سينتصر على كل شيء. وهذا زوجها قد عاد من تشييع المنصرفين وقد خلا إليها، وهي تعتذر إليه، وتلح في الاعتذار وإظهار الندم، ولكنه هو سعيد بكل ما كان، فلم يكن فيما بينه وبين نفسه شيوعيا، ولا زعيما، ولا رجلا عظيما، وإنما هو رجل مؤرخ لا يتمنى إلا أن يخلو إلى كتبه وحبه. وهو ينبئها بحقيقة أمره فلا تصدقه، وإنما تحمل ذلك منه على حب التضحية في سبيل من يهوى. وأي تضحية أجل خطرا وأبلغ أثرا من التضحية بالعظمة والزعامة والمستقبل في سبيل الحب؟
هي ساخطة إذن على نفسها، ولكنها راضية كل الرضى عن زوجها، فهو يأبى إلا أن يكون بطلا دائما. كان بطلا حين كان يريد الزعامة، وهو بطل حين يضحي بالزعامة.
أما زوجها فسعيد كل السعادة، راض كل الرضى؛ فقد تبين له أن امرأته تحبه لنفسه لا لزعامته ولا لعظمته، وإنما تحبه وتجعله بطلا لأنها تحبه. وهل كان يريد غير هذا، وهذه الزوج الشابة تسرع إلى التليفون فتطمئن أباها وتتمنى له نوما سعيدا، وتنبئه بأنها ما زالت مع زوجها في غرفة الاستقبال.
أصيل التمثيل
ليس حتما فيما أظن أن نتناول في كل هذه الأحاديث قصة تمثيلية أو غير تمثيلية على النحو الذي ألفه الناس في هذه القصص وفيما أكتب عنها من أحاديث، بل قد يكون لي أن أتجاوز هذا النحو المألوف من حين إلى حين، لأرفه على القراء مرة، ولأرفه على نفسي مرة أخرى بهذا التنويع الذي يشتد الحرص عليه من وقت إلى وقت، ولأفكر وأدعو القراء إلى التفكير في بعض المسائل التي يفكر الناس فيها من وراء البحر، والتي قد يكون من الخير أن نفكر فيها نحن أيضا.
وأظن أن القصة التي سنتحدث عنها اليوم تجمع هاتين الخصلتين معا؛ فهي مخالفة لما ألف الناس من ناحية، وهي داعية إلى الروية والتفكير من ناحية أخرى. مخالفة لما ألف الناس، فلا يكاد الحب يحدث فيها أثرا ظاهرا، بل لا تكاد شخصية الأبطال الذين يمثلون القصة ويلعبونها تحدث أثرا ظاهرا أيضا، بل ربما لم يكن لهؤلاء الأبطال - إن صحت تسميتهم بهذا الاسم - شخصية واضحة، فهم إلى أن يكونوا رموزا لطبقات وطوائف من الناس أدنى منهم إلى أن يكونوا رموزا لأشخاص متميزين. ويكفي أن تعلم أن كل فرد من الأفراد الذين يظهرون في هذه القصة إنما هو رمز لطائفة من الطوائف وجماعة من الناس. فالكاتب لم يرد إلى تحليل شخصية من الشخصيات، بل هو لم يرد تصوير جماعة من الجماعات، وإنما أراد إلى تصوير ظاهرة من الظواهر العامة، التي نشهدها في هذه الأيام ، أو التي كنا نشهدها في وقت من الأوقات.
والقصة مع ذلك تدعو إلى الروية والتفكير لنفس السبب الذي ذكرته آنفا، وهو أنها تصور ظاهرة من الظواهر العامة لا فردا من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات. وهذه الظاهرة هي ما كان يشاهد منذ حين، وما لا يزال في أوروبا إلى الآن من ضعف التمثيل وتخاذله وانهزامه وإشرافه على الموت.
هذه الظاهرة شوهدت وما زالت تشاهد في أوروبا، وأظنها قد غمرتنا نحن فقضت على التمثيل عندنا قبل أن يستكمل نشأته. ويكفي أن نعلم أن مصر لم تشهد فصلا تمثيليا عربيا هذا العام، وأن مئات من الذين كانوا يحترفون التمثيل، وما يتصل به من المهن قد احتملوا الحياة في شيء من الصبر والجلد، خليق بالرثاء والإعجاب معا، وأن وزارة المعارف قد راعها الأمر فألفت للتمثيل لجنة درست شئونه ورفعت في أمره اقتراحات إلى الوزير، وأن هذه الاقتراحات الآن بين يدي الحكومة تدرسها، ويقال إنها تنظر إليها في شيء من العطف كثير.
Bilinmeyen sayfa
كل هذا - فيما أظن - خليق أن يدعونا إلى التفكير في أمر التمثيل من تلقاء أنفسنا، فكيف إذا عرضت لنا قصة من أروع ما أخرج الكتاب الممثلون أثناء العام الماضي تمس هذا الموضوع، بل تدرسه درسا عميقا. ولعل من الطريف حقا أن يتحدث التمثيل عن نفسه، وأن يدرس التمثيل أمره ويبحث عن أعراض العلة التي أصابته ويتبين مصادر هذه الأعراض، ويلتمس لها الدواء ويدل نفسه عليه، ويأخذ نفسه أيضا بالجد في إصلاح ما فسد من شئونه على اختلافها.
فكاتب هذه القصة من أبرع الكتاب الممثلين في باريس، ومن أعلمهم بالتمثيل وبكل ما يعرض له من العلل الظاهرة والخفية، وما ينتابه من الأحداث الواضحة أو الغامضة. وهو من غير شك محزون حزنا عميقا لما أصاب التمثيل من ضعف، وهو قد وضع هذه القصة ليظهر فيها أسباب هذا الضعف، وليظهر فيها التمثيل معترفا بعيبه، مسجلا لعيب غيره، ملتمسا الدواء لهذا العيب أو ذاك. ويقال إن هذه القصة عرضت على ملعب من ملاعب باريس، فقبلها وهم بتمثيلها، ثم عرض لهذا الملعب ما حال بينه وبين العمل في الفصل الماضي؛ فاشترك جماعة من الممثلين، وأنفقوا ما يملكون من جهود مادية وفنية، ومثلوا هذه القصة لحسابهم كما يقولون. وقد نجحت نجاحا باهرا؛ فأحبها جمهور النظارة، وشغف بها وأكثر الاختلاف إليها، وأجمع النقاد الفرنسيون على إكبارها والإعجاب بها. لم يلاحظوا إلا شيئا واحدا: وهو أن القصة جاءت متأخرة في فرنسا، فقد أخذ التمثيل الفرنسي ينهض من كبوته ويسترد قوته وسلطانه، ويغالب الصعاب في شيء غير قليل من الفوز والانتصار.
وإذا كانت هذه القصة قد جاءت متأخرة في فرنسا، فأظن أن الحديث عنها لم يأت متأخرا في مصر، وإنما جاء ملائما كل الملاءمة للوقت الذي ينبغي أن يذاع فيه؛ وهو وقت العناية بإصلاح أمر التمثيل.
وسترى أن الكاتب يرد ضعف التمثيل إلى أسباب مختلفة: منها ما يتصل بالممثلين، ومنها ما يتصل بالملاعب، ومنها ما يتصل بالكتاب، ومنها ما يتصل بالذوق العام، ومنها آخر الأمر ما يتصل بالسينما. ونحن حين يرفع الستار في دار قديمة مهملة من دور التمثيل يشرف عليها منذ ثلاثين عاما رجل يحب الفن حقا ولكنه يحب المال أيضا، وهذا الرجل قد عرف الثروة والفوز حين كان الزمان زمانا، وحين كان التمثيل متسلطا على الباريسيين لا يقاومه غيره، من أسباب اللهو والتسلية، فلما تغيرت الأيام ولم تتغير نفس هذا الرجل، أخذ يغالب المصاعب ما استطاع، ولكنه يقاوم هذه المصاعب بأسلحة قديمة لا تلائم العصر الذي يعيش فيه، وهو يائس من الفوز يهم أن يبيع ملعبه لرجل من الأمريكيين، يريد أن يحوله إلى دار من دور السينما، ولكنه لا يجد الشجاعة على هذا البيع، فهو يغالي في الثمن، ويتردد في إتمام الصفقة، وهو قد أجر ملعبه لممثلة غنية ضخمة الثروة وضخمة الجسم أيضا وعظيمة الحظ من الغرور والأثرة مع ذلك. وهذه الممثلة تستغل الملعب وتستغل الذين يعملون فيه من الممثلين وغير الممثلين من العمال، تفرض نفسها عليهم فرضا، وتتحكم فيهم تحكما عنيفا؛ لأنها صاحبة المال، تنفق فتمكنهم من العيش . وهي لا تتحكم في الملعب وأهله فحسب، وإنما تتحكم في الكتاب وقصصهم أيضا، فهي تريد أن تكون صاحبة الأدوار الأولى في كل قصة، وأن يمحى غيرها من الممثلين والممثلات بحيث لا يظهرون إلا إذا كانوا لها تبعا. وهي من أجل ذلك تفرض على الكتاب تغيير قصصهم بما يلائم أغراضها هي من الحذف، والزيادة، ومن التغيير والتبديل. وأهل الملعب ضيقون بهذا أشد الضيق، منكرون له أشد الإنكار، ولكنهم مضطرون إلى الإذعان والتسليم؛ ليعيشوا. والكتاب كذلك مضطرون إلى الإذعان والتمثيل لتظهر قصصهم في الملعب. ونحن نرى الممثلين أو بعض الممثلين والممثلات ومعهم كاتب من الكتاب قد وضع قصة رائعة كلها شعر من أرقى ما عرف الأدب التمثيلي. والممثلون معجبون بالقصة محبون لها، حريصون على أن تفوز، ولكن الشخصية البارزة في هذه القصة تصور أنثى من طير الماء ألفت بحارا من الناس، فأحبته وتبعته إلى وطنه. ولا بد لها من أن تكون خفيفة رشيقة ظريفة الحركة والحديث، وقد اختارت رئيسة الممثلين لنفسها هذا الدور وأخذته قهرا، وأخذت تتحكم في القصة وممثليها وصاحبها حتى أفسدت القصة إفسادا، وحالت بينها وبين ما كان مقدرا لها من الفوز؛ فأخفقت إخفاقا منكرا، وأجمع النقاد على عيبها والتشهير بها.
وفي أثناء ذلك تأتي رسائل برقية للكاتب تنبئه بأن قصته قد أعجبت أصحاب الملاعب في ألمانيا وإنجلترا وغيرهما من البلاد؛ فهم يشترون حق الترجمة وحق التمثيل، ويرى الكاتب وممثلة يحبها وتحبه في هذا كله عزاء عن إخفاق القصة في باريس. فقد رأينا إذن من هذا الفصل الذي ألخصه تلخيصا سريعا موجزا، سببين من الأسباب التي اضطرت التمثيل إلى الضعف والفناء؛ أولهما: شره صاحب الملعب إلى المال، وإهماله في تجديد ملعبه حتى يلائم الحاجات الجديدة للفن، والثاني: استبداد مدير الفرقة، وفرضه نفسه وهواه على الممثلين، وإيثاره نفسه بخير ما في القصة من الأدوار، سواء أكان خليقا بتمثيلها أم لم يكن. ولاحظنا أيضا في هذا الفصل اجتهاد السينما في مزاحمة التمثيل حتى على ملعبه.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في ألمانيا في ملعب من ملاعب برلين، وقد ترجمت القصة إلى الألمانية، ودفعت إلى المخرج وأعدها المخرج للتمثيل، والمترجم الألماني مفتون بالقصة حقا، والمخرج كذلك مفتون بهذه القصة، والكاتب مغتبط سعيد، ولكن انظر: أما المترجم فأديب يحب في القصة جمالها الأدبي ويترجمها ترجمة حرفية دقيقة، وأما المخرج فرجل عملي حديث متأثر بذوق العصر لا يحفل بالأدب ولا بالشعر، وإنما يرثي للذين يحفلون بالأدب والشعر، وهو قد أخذ القصة فغيرها تغييرا تاما؛ جعل مكان الطير قردة، وجعل مكان الكلام حركات، وإشارات، وأصواتا غامضة مبهمة تصور الشهوة الغليظة والحس الحاد، والشعور العنيف قطع كل صلة بين ما سيخرجه في الملعب وبين القصة الأولى. والكاتب يرى ذلك فينكره ويأباه، وينذر بالمحكمة وبالصحف وبما شاء من النذير، والمترجم يشاركه في هذا ولكن المخرج لا يحفل به، وإنما يعرض قصته على النظارة، فتظفر بالفوز الذي لا حد له. وإذا النظارة مبتهجون يلحون في رؤية الكاتب، فيعرض الكاتب عليهم رغم أنفه، وهم يلقونه بالتحية والهتاف والتصفيق، والكاتب ساخط ولكنه مضطر آخر الأمر إلى أن يظهر الرضى، وهو ينصرف من ألمانيا وقد فازت فيها قصته بعد أن مسخت مسخا تاما، وذهب كل ما فيها من الشعر وأصبحت كما يقول المخرج: حركات عنيفة تهيج حس النظارة وشعورهم.
ثم يرفع الستار بعد ذلك عن الملعب الذي شهدناه في باريس، وقد ازداد حظه من البلى والإهمال، وانصرفت عنه تلك المديرة المتحكمة، وجاء الرجل الأمريكي يفاوض مرة أخرى في شرائه، وصاحب الملعب متردد يريد أن يدافع عن التمثيل إلى آخر لحظة، وقد اعتزم أن يبذل الجهد الأخير، وأن يمثل قصة العاصفة من قصص شكسبير؛ فإن نجحت هذه القصة الخالدة فذاك، وإلا انصرف الرجل عن التمثيل انصرافا لا رجعة فيه.
ونحن نرى الكاتب يتحدث عما أصاب قصته من الفساد في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا؛ فنفهم أن الذوق العام في هذه البلاد قد تغير، فهو لا يحب الأدب من حيث هو أدب، والناس لا يذهبون إلى الملاعب ليروا فنا، أو ليسمعوا شعرا، وإنما هم يذهبون ليروا أنفسهم كما يحبون أن يروها، متأثرة بالذوق المادي الجديد، الذي يختلف باختلاف الأمم والشعوب، ولكنه على كل حال يتفق في شيء واحد، وهو الانحطاط والتجافي عن الأدب والفن. ولا بد من أن نرى الذوق الفرنسي الجديد نفسه، فهذه قصة شكسبير قد أخذ في تمثيلها، ولكن ماذا نرى؟ نرى أشخاصا يحصون لا يكادون يبلغون العشرة قد أقبلوا لشهود هذه القصة، وهم من طبقات مختلفة، ولكنها على كل حال طبقات متواضعة لم تأت إلى الملعب إلا لتنفق شيئا من الوقت. وقد شهد هؤلاء الناس الفصل الأول فناموا أو كادوا ينامون، ولم يبلغهم شيء من شعر شكسبير، وإنما أعجب الرجال ببعض الممثلات، وأعجب النساء ببعض الممثلين، ونحن نراهم بين فصلين يسخرون من التمثيل والممثلين، ومن الشعر والشعراء، ويتحدثون عن ملاكم فرنسي يخاصم ملاكما أمريكيا في الولايات المتحدة، وهم يتتبعون أخبار هذا الخصام في شغف لا آخر له. فتكون بينهم المحاورات والمراهنات ثم ينصرفون عن الملعب، ليذهبوا إلى حيث تبلغهم الأخبار الأخيرة لهذه الملاكمة.
وإذن فقد أخفقت قصة شكسبير أيضا وظهر سبب آخر من الأسباب التي انتهت بالتمثيل إلى الضعف: وهو فساد الذوق العام، وتأثره بهذه السخافات المادية الغليظة التي فرضها الذوق الأمريكي بعد الحرب على الناس.
وينتهي الأمر بصاحب الملعب إلى التسليم بالهزيمة والاستسلام للقضاء، وهو يبيع ملعبه لهذا الأمريكي، ونحن نرى موظفا من موظفي الملعب يجمع أدوات التمثيل البالية ليبيعها وليخلي منها الملعب إذا كان المساء، وقد اجتمع الممثلون والعمال وهم يتحدثون عما أصاب فنهم من الإخفاق. منهم المحزون الذي لا يتعزى، ومنهم المحزون الذي سيلتمس العزاء إذا عمل في السينما، ومنهم السعيد بموت التمثيل، وكلهم يلتمس أسباب هذا الموت؛ فيذكر ما قدمنا من الأسباب، ويذكر سببا آخر وهو ضعف الكتاب، وإهمالهم للفن، وما دفعوا إليه من التقصير أو القصور. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الحوار المؤثر بين الممثل الذي يحب فنه ولا يستطيع أن يتعزى عنه، وبين الممثل الآخر الذي كان يعيش من التمثيل فهو لا يكره أن يعيش من السينما، ولكن الممثلين قد أخذوا يتفرقون كل لوجهه بعد أن أقبل صاحب الملعب فودعهم وداعا مؤلما، وهذا الملعب قد خلا إلا من آخر موظفيه الذي غلق الأبواب وخرج. ثم يرفع الستار عن آخر منظر من مناظر القصة؛ فماذا نرى؟ نرى الممثل الذي يحب فنه، ويكلف به، ويشفق عليه أن يزول، وهو يتحدث إلى النظارة فيذكر لهم علة الفن، وإشرافه على الموت، ويذكرهم بأنفسهم، وبأن التمثيل إن مات فليس لموته معنى إلا أن النفس الإنسانية قد ماتت. وهو واثق بأن النفس الإنسانية وعواطفها وأهواءها وحبها للجمال وكلفها بالفن وطموحها إلى المثل الأعلى أبقى وأرقى وأقوى من أن تطغى عليها الحياة الآلية التي يمتاز بها العصر الحديث، فتصبح آلات لا تجد اللذة إلا في السينما وما يشبهها من الآلات.
Bilinmeyen sayfa
الدائرة
ونمضي في تلخيص هذه الطائفة من القصص التمثيلية التي لم يضعها الفرنسيون، وإنما ترجمت لهم، أو نقلت إليهم، عن اللغات الأجنبية. فقد لخصنا منذ حين قصة ألمانية ثم قصة أخرى روسية، والقصة التي نتحدث عنها اليوم إنجليزية. وإنما نذهب هذا المذهب لننوع موضوع هذه الأحاديث بعض التنويع، ولنعرض على القراء صورا مختلفة من الأدب التمثيلي الغربي، يمثل أمزجة الأمم الأوروبية الكبرى على اختلافها وتباينها، وإذا كان الفرنسيون لا يقنعون بتمثيلهم الفرنسي الخصب، القيم، على تنوعه وتباين مذاهب الكتاب والممثلين فيه، وإنما يلجئون إلى تمثيل الأمم الأخرى؛ ينقلونه إلى لغتهم ويعرضونه في ملاعبهم، فلا أقل من أن نذهب نحن بعض مذهبهم في هذا. وأقول بعض مذهبهم، فليس لنا أدب تمثيلي عربي مصري، أو غير مصري نستطيع أن نعتمد عليه، ونطمئن إليه، ونكتفي به. وليس لنا أدباء يعنون بترجمة الأدب الأجنبي أو نقله إلى لغتنا، وإنما أقصى ما نصل إليه، أن نلخص ونحلل ونتكلف هذه الصور المقاربة التي قد تعطي القارئ فكرة عن بعض الأدب الأجنبي، ولكنها على كل حال تفسده إفسادا وتشوهه تشويها.
فلا أقل من أن نجتهد حين نلخص هذا الأدب الأجنبي في أن يكون تلخيصا مختلفا منوعا مصورا للآداب المختلفة ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
وكم كنت أحب أن تقوم الترجمة مقام التلخيص، بعد أن حرمنا الكتابة والإنشاء، وكم كنت أحب وقد حرمنا الترجمة أيضا، أن ينهض بتلخيص الآداب المختلفة قوم يحسنونها ويتقنون لغاتها إتقانا، ويلخصونها من أصولها تلخيصا مباشرا، لا من تراجمها تلخيصا بالواسطة إن صح هذا التعبير.
فأنا إنما ألخص هذه القصص عن تراجمها الفرنسية، وواضح جدا أن الترجمة نفسها تذهب بجمال الأصل إلى حد بعيد، وأن التلخيص يذهب بجمال الترجمة إلى حد أبعد، فلا يبقى للقارئ العربي المسكين من هذه الآثار الأدبية الرائعة إلا صور ضئيلة شاحبة لا تكاد تغني شيئا. ولكني أبذل جهد المقل، وأنفق ما أملك من قوة، وأحتمل ما أستطيع احتماله من مشقة، وأرى واجبا علي أن آتي ما آتي من ذلك، وأرى من التقصير أن أكسل إذا كسل غيري، أو أهمل إذا آثر غيري الإهمال.
ولست أدري لم دفعت إلى هذا الاستطراد، ولكني أعترف للقارئ بأني لم أقدم يوما على تلخيص هذه القصص إلا وفي نفسي شيء كثير من السخط والألم. وقد كنت أحب أن تذاع هذه القصص أو ما يشبهها في قراء العربية مترجمة، وأن تكون أحاديثي عنها نقدا لها لا تلخيصا.
وبعد، فإني أعتقد أن كثيرين من القراء يحبون هذه الأحاديث ويجدون فيها بعض اللذة، فأظنهم يغفرون لي بعض ما أدفع إليه من الاستطراد بين حين وحين.
وهذه القصة التي أريد أن أتحدث عنها اليوم طريفة حقا: طريفة في موضوعها، طريفة في حوارها، طريفة في هذه المعاني التي يجري بها الكاتب ألسنة أشخاصه، طريفة في هذا الجد المر المؤلم، الذي يسوقه الكاتب في هذا المزاح الحلو اللذيذ.
فالقصة من أولها إلى آخرها فكاهة، ولا تكاد تقرأ محاورة من هذه المحاورات التي تقوم عليها، دون أن تغرق في الضحك، أو تضطر إلى الابتسام. ولكنها في الوقت نفسه مأساة، ومأساة شديدة الأثر في النفوس، عظيمة الوقع في القلوب، تدعو، بل تضطر من يشهدها أو يقرؤها إلى التفكير المتصل العنيف. ولعل أهم ما يلفت في هذه القصة هو هذه الدعابة الإنجليزية التي يتحدث الأجانب عنها كثيرا، ولكنهم يعجزون عن تصويرها فضلا عن محاكاتها، والتي لم يستطع ناقل هذه القصة إلى الفرنسية أن يحتفظ بها في ترجمته كما هي في الأصل؛ لأنها لا تلائم اللغة الفرنسية، ولا تلائم مزاج الفرنسيين. فاضطر إلى أن يقويها، ويثقلها - إن صح هذا التعبير - لتحتملها اللغة الفرنسية وليذوقها الفرنسيون. وأنا مجتهد في أن أعرض عليك صورا من هذه الدعابة أثناء التلخيص، ولكني قد قدمت عذري بين يدي؛ فأنا لا أنقل عن الأصل وإنما عن ترجمة، وعن ترجمة خضعت لتصرف غير قليل.
والقصة تقع في قصر من قصور الأرستقراطية الإنجليزية، من قصور هذه الأرستقراطية العاملة التي تتصل بالحياة العامة وتساهم فيها، وتحمل أثقالها، وتجني ثمراتها. فصاحب القصر؛ وهو لورد كليف شوبيون شيني، كان عضوا في مجلس النواب البريطاني، فلما ترك السياسة وأخذ يحيا لنفسه ويفرغ للذته، خلفه ابنه أرنولد على مكانه في مجلس العموم كما خلفه على ثقة الناخبين من مواطنيه. والأشخاص الآخرون الذين سنراهم في هذه القصة، كلهم من هذه الطبقة التي لم تمسك نفسها في هذه العزلة التي يلزمها نفر غير قليل من أشراف الإنجليز.
Bilinmeyen sayfa
ونحن إذا رفع الستار عن الفصل الأول في غرفة من غرف الاستقبال في هذا القصر، نرى صاحبه الشاب أرنولد معنيا بشيء من الترتيب والتنظيم، ينقل الأشياء من مكان إلى مكان، ويدق الجرس، فإذا دخل عليه الخادم لفته إلى أنه يكره هذا الاضطراب ويريد أن يوضع كل شيء في موضعه، ونبهه إلى أنه يحرص أشد الحرص على ثلاثة أشياء: النظافة، والدقة، وحسن الأدب. وهذه الأشياء الثلاثة تتكرر على لسان هذا الشاب في غير موضع من القصة، فهو حريص عليها أشد الحرص، مشغوف بها أشد الشغف، لا يرى اضطرابا إلا أصلحه، ولا يسمع لفظا نابيا إلا أنكره، ولا يسمع حديثا إلا اجتهد في أن يرده إلى ما ينبغي له من الدقة والبعد كل البعد عن الغموض والإبهام.
وهو يكرر ذلك في قوله وعمله حتى يصبح تكراره إياه مضحكا حقا، كأنه لازمة من اللوازم أو مظهر من مظاهر الاضطراب العقلي اليسير. وهو يكلف الخادم أن يدعو سيدته إليزبث، وهو لا ينتظر أن يدعوها الخادم، بل هو يدعوها بنفسه، يدعوها من مكانه، ويدعوها من النافذة. يسأل عنها من يمر به، ويسأل عنها من يدخل عليه. هو شديد الحاجة إليها، متعجل لقاءها، كأن لديه أمرا ذا بال، يريد أن يلقيه إليها. وها هي هذه قد أقبلت، فلا يكاد يراها حتى يلقي إليها النبأ الخطير، وهو أن أباه قد أقبل من باريس وانتهى إلى بيته الصغير غير بعيد من القصر، وأعلن أنه سيتناول عندهما طعام الغداء. ويقع هذا النبأ من إليزبث موقعا منكرا، فتعلن ضيقها به في لفظ منكر مبتذل، ولكنها لا تكاد تنطق بهذا اللفظ حتى يشمئز أرنولد ويعلن سخطه العنيف، فهو يحب كما قدمنا ثلاثة أشياء: الدقة، والنظافة، وحسن الأدب. وهذا اللفظ الذي جرى به لسان امرأته لا يلائم حسن الأدب، وهو قد نسي النبأ الذي يزعجه، ويزعج امرأته، ودخل في خصومة طارئة مع إليزبث فيما يجب من تخير الألفاظ التي تجري بها ألسنة المترفين المثقفين. ولكن شابا يقبل، وهو من ضيوف القصر، جميل وسيم تظهر عليه نضرة الشباب، ونشاطه، ومرحه، فلا يكاد يدخل حتى يشترك في الحديث. وهذه فتاة أخرى من ضيوف القصر، تشترك معهم جميعا في الحديث، وهو حديث خطير حقا، فمقدم اللورد الشيخ من باريس فجأة قد صادف شيئا لم يكن ينبغي أن يصادفه؛ ذلك أن أم أرنولد كانت قد فارقت زوجها منذ ثلاثين عاما، وتركت له ابنهما الصبي ولما يتجاوز خمسة أعوام، وقد كانت هذه المرأة فاتنة رائعة الجمال، فتنت صديقا لزوجها، وزميلا له في البرلمان، هو اللورد برتوز؛ فاختطفها - إن صح هذا التعبير - ذات مساء، ومضى بها إلى إيطاليا، وأقام معها في مدينة فلورنسا ثلاثين عاما. ثم هما يعودان الآن إلى لندرة، وتعرف إليزبث مكانهما في فندق ريتز، وهي مشوقة إلى أن تعرف أم زوجها، مشوقة إلى ذلك لأسباب مختلفة نفهمها أثناء هذا الفصل. فهي قد فقدت أمها طفلة، وهي قوية الشعور، حادة الحس، متعلقة بالخيال، متأثرة بهذه المثل العليا في الحب. وهي شديدة الميل إلى أن ترى هذه المرأة التي ضحت بزوجيتها وأمومتها ومنزلتها الاجتماعية في سبيل الحب، وهي بعد هذا كله ليست سعيدة ولا ناعمة البال في حياتها الزوجية. هي على هذا النحو الذي أصوره لك وزوجها صاحب جد، يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، ويعمل في السياسة لا يريح ولا يستريح، لا يفرغ لنفسه، ولا يفرغ لامرأته أيضا. وإذن فلم تكد إليزبث تعلم بمقدم الشيخين العاشقين إلى لندرة حتى ألحت على زوجها في أن يلقى أمه ويتعرف إليها، ويستأنف الصلات معها، ويدعوها إلى أن تزور القصر مع خليلها فتقضي فيه أياما. وواضح جدا أن أرنولد قد أبى على زوجه وألح في الإباء، فهو لا يعرف أمه إلا باسمها وبما تركت في نفسه من ألم ممض، وبهذه الذكريات التي لا يستطيع أن ينساها؛ ذكريات الفضيحة التي اضطرت أباه إلى أن يطلب الطلاق، وإلى أن يستقيل من البرلمان، وإلى أن يتجنب الحياة العامة، والتي تحدث الناس بها، ولجوا فيها، ووضع الشعب فيها الأغاني، وتغنى بها الأطفال في الشوارع، وتحدث بها أترابه، حين كان يطلب العلم في أكسفورد. ولكن المرأة إذا أرادت شيئا لم تنثن حتى تبلغ ما تريد، وقد ظفرت إليزبث من زوجها بما أحبت، فزينت له أنها أمه وأن السن قد تقدمت بها، وأن من الإثم والعقوق أن تعود إلى بلادها بعد ثلاثين عاما، فتعيش فيها عيشة الغريب. وقد تمت دعوة الشيخين العاشقين، وقبلا هذه الدعوة، وسيبلغان القصر بعد حين. وكان أرنولد يقدر أن أباه سيقيم في باريس أسبوعا، فإذا عاد إلى القصر أو إلى هذا البيت الصغير الذي يقيم فيه غير بعيد عن القصر كانت الزيارة قد انتهت، وكان العاشقان قد عادا إلى فندقهما في لندرة.
ولكن الشيخ أقبل فجأة من باريس، ولم يكد يستقر في بيته الصغير حتى تحدث إلى ابنه في التليفون ينبئه بمقدمه ويدعو نفسه إلى الغداء على مائدته.
وهو إذن سيلقى مطلقته، وسيلقى صديقه الخائن الذي أغوى امرأته واختطفها اختطافا. والزوجان حائران من غير شك، في هذه المصادفة المنكرة، وضيفاهما حائران أيضا، وإليزبث تهدئ زوجها وتعلن إليه أنها تحتمل وحدها تبعة هذا الشر، ولكن زوجها لا يفهم هذا الكلام المبهم الغامض، فهو يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، وهو لا يرى أن احتمال امرأته للتبعة وحدها يغير من الواقع شيئا. والواقع أن ثلاثة من الناس سيلتقون بعد حين ولم يكن ينبغي أن يلتقوا. على أن حوار الزوجين لا يطول؛ فهذا أبوهما الشيخ قد أقبل وهو يحييهما من النافذة في رشاقة ودعابة، ثم يدور حتى يأتي الحجرة من بابها. وهم يتلقونه متكلفين للرضى، فإذا أعاد عليهم أنه سيشاركهم في الغداء ظهر على بعض الوجوه طول والتواء، ثم يتفرق القوم جميعا ولا يبقى أمامنا إلا الشيخ وإليزبث.
ونحن نسمع إليزبث تداعب الشيخ وتتلطف له، وهو يتوقع أنها ستنبئه بخبر سيئ. وهي في حقيقة الأمر تريد أن تنبئه بشيء، ولكنها لن تفعل إلا إذا جلست على حجره مبالغة في التلطف والدعابة. فإذا تلقاها لطيفا بها مداعبا لها ألقت إليه النبأ، فلا يظهر سخطا عنيفا، ولكنه لا يخفي ضيقه بما سمع، على أنه قد فهم الآن لم طالت الوجوه والتوت منذ حين. ثم لا يلبث الشيخ أن يستأنف مرحه ودعابته، ويعلن إلى امرأة ابنه أنه سيعود إلى بيته الصغير، وسيتغدى فيه وهو سعيد بذلك لأنه سيشارك الخدم في طعامهم. وسيأكل إذن ما لم يكن ينتظر أن يأكل. وقد انصرف الشيخ وأقبل الشاب الضيف واسمه تدي ليتون، فلا يكاد يتحدث إلى إليزبث حتى نعرف أن بينهما حبا يريد أن يظهر. وهذا زوجها يعود ومعه الفتاة التي رأيناها منذ حين وهما ينبئان بمقدم الزائرين المنتظرين، وما هي إلا لحظات حتى تدخل الليدي كيتي وخليلها ميجي.
وصورة هذه المرأة طريفة حقا، وهي من أجمل الصور التي يعرضها الأدب التمثيلي؛ فهي قبل كل شيء مخيبة لأمل إليزبث، امرأة قصيرة بادنة لا تصور حبا ولا جمالا ولا فتونا، قد ظهرت عليها السن، ولكنها مع ذلك شديدة النشاط، شديدة التكلف للنشاط بنوع خاص، تتحدث في غير انقطاع وفي غير عناية بما تقول، ولا تقدير له، تثب من موضوع إلى موضوع في خفة، وسرعة، وعلى غير انتظار كأنها الطائر يثب من غصن إلى غصن أو من شجرة إلى شجرة، لولا أن هذه المرأة ليس فيها من جمال الطائر شيء. وهي لا تعرف ابنها، ولكنها مع ذلك تسرع على الضيف الشاب فتقبله معلنة أنه ابنها أرنولد، وأنه صورة لها مطابقة كل المطابقة، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. فإذا نبهت إلى مكان ابنها، لم يظهر عليها اضطراب، ولا اختلاط، وإنما اندفعت إليه فقبلته وأعلنت أنه صورة دقيقة لأبيه، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. وهي تتكلم في كل شيء، لا تكاد تلم بالحديث حتى تدعه إلى غيره؛ فهي تتحدث في الدين، وتتحدث في الصين، وتتحدث في المرضع التي كانت تسرق النبيذ، وتتحدث في التصوير، وتتحدث في الثياب، ثم ترى البيانو فتسرع إليه وتأخذ في العزف. وخليلها مناقض لها أشد المناقضة، لا يشبهها إلا في الشيخوخة. فهو قليل الكلام، لا يكاد يتكلم إلا زمجرة، وهو ساخط على إنجلترا لسوء الإقليم فيها، ولأن طرقها غير صالحة للسيارات. وهم في هذا الاختلاط المضحك البديع حقا، وإذا الأب الشيخ قد أقبل. ولم لا يفعل؟ لقد ذهب إلى بيته الصغير فرأى أن الخدم قد انصرفوا يتناولون غداءهم حيث يريدون بعد أن علموا أن سيدهم سيتغدى في القصر. فرأى الشيخ أنه مخير بين اثنين: إما أن يجوع، وإما أن يتغدى مع هذين الزائرين. وقد آثر الثانية وهو يرجو ألا يضيق به أهل القصر، وأهل القصر لا يضيقون به، ولكنهم يلقونه لقاء حسنا ولا سيما مطلقته، فهي سعيدة بلقائه، وهي تطلب إليه أن يقبلها، وهو لا يرى بذلك بأسا بشرط أن يأذن له صديقه القديم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى يومان على ما رأيت في الفصل الأول، ونحن في حجرة الاستقبال نفسها بعد الغداء ، وقد جلس القوم جميعا إلى مائدة اللعب بعضهم يلعب وبعضهم يتحدث. ونفهم أن أرنولد قد انصرف عنهم لبعض شأنه السياسي، فالمعركة الانتخابية قائمة والشاب يتهيأ لإلقاء خطبة سياسية إذا كان الغد، وهو يحب الدقة، والنظام، وحسن الأدب. وإذن فهو يتفق منذ الآن مع الذين سيقاطعونه إذا خطب من الغد. يهيئ لهم موضع المقاطعة من خطبته، ويهيئ لهم الأسئلة التي يلقونها عليه، ويهيئ لنفسه الجواب على هذه الأسئلة. وعلى هذا النحو يتم الاجتماع السياسي دون أن يخالف ما ينبغي له من الدقة والنظام وحسن الأدب. والقوم في هذا الحديث، ولكن الشيخ العاشق يسخط ويعلن سخطه؛ لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب وحديث السياسة. وقد انتقل الحديث من السياسة إلى هذا الضيف الشاب الذي يعمل في تونس، والقوم يتحدثون إليه عن تونس هذه، وهو يجيبهم، ولكن الشيخ العاشق يعود إلى إعلان سخطه لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب والحديث عن تونس.
ثم يمضون في لعبهم وحديثهم واختلافهم في اللعب، وتلاحيهم فيما يصيبون وما يخطئون، حتى يضيق الشيخ العاشق بهم جميعا؛ فيكف عن اللعب ويتفرق القوم ولا يبقى منهم إلا العاشقان والزوج القديم. والعاشقان مختصمان اختصاما شديدا: فأما الشيخ فيلوم صاحبته؛ لأنها متكلفة ملحة في التكلف، ولأنها قد أفسدت عليه حياته وكلفته تضحيات ثقالا، ولولا حبها لأصبح الآن رئيسا للوزراء، فقد كان الناس يتوسمون فيه ذلك، وهي تنكر عليه هذا الغرور، وتزعم أنه لم يكن ينبئ بذكاء ولا استعداد لنباهة الشأن، وأن الناس لا يرقون إلى المناصب بذكائهم أو تفوقهم، وإنما يرقون بفضل نسائهم وما يمتزن به من لباقة ورشاقة وجمال. وقد كانت هي خليقة أن ترقى بزوجها إلى رياسة الوزارة، لولا هذا الحب الذي أفسد عليها كل شيء. ويرد عليها عاشقها ساخطا معنفا منكرا قيمة زوجها القديم؛ فهو لم يكن يصلح للمناصب الكبرى، وإنما كان رجلا متواضعا، ولو أني بلغت رياسة الوزراء لعينته وزيرا في هولندا أو في البرازيل. ولا تكاد صاحبته تسمع هذا حتى يشتد سخطها، وتعلن أنها لا ترضى منصبا حقيرا كهذا المنصب في بلد صغير كهذا البلد، ولا يرضيها إلا أن يكون زوجها سفيرا في باريس.
وتشتد الخصومة بين العاشقين، على هذا النحو الظريف، حتى تنتهي إلى أقصاها، وإذا العاشقة الشيخة قد انصرفت مغضبة باكية، وتبعها عاشقها الشيخ كأنه يريد أن يترضاها. وبعد قليل نرى إليزبث قد أقبلت وأقبل معها ضيفها الشاب، وهما يتحدثان في حبهما وقد صرح بينهما كل شيء، وتم الاتفاق بينهما على أن يعيشا معا، وعلى أن تفارق المرأة زوجها وتذهب معه إلى تونس. وهي لا تريد أن تهرب، وإنما تريد أن تعلن أمرها إلى زوجها وتطلب إليه الطلاق.
وهذا الزوج قد أقبل بعد حين، فلم يجد في الغرفة أحدا، ولكنه لا يكاد يستقر حتى تأتي أمه فيكون بينهما حديث ظريف حقا، لا يمس شيئا، ولكنه يمس كل شيء. ثم تخلو إليزبث إلى زوجها أرنولد، فتنبئه بأمرها وتطلب إليه الطلاق. وهو ساخط ولكن في دقة، ونظام، وحسن أدب غالبا. على أنه يخرج عن طوره آخر الأمر، فيأبى الطلاق، ويدعو إليه ضيفه الشاب فيطرده من القصر طردا لا حظ له من الدقة والنظام وحسن الأدب.
Bilinmeyen sayfa
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الحجرة نفسها بعد العشاء من مساء اليوم نفسه، ونحن نرى أرنولد يتم مع أبيه حديثا كان قد بدأه قبل أن يرفع الستار، ونفهم أن هذا الحديث إنما هو تشاور بين الابن وأبيه في هذه الكارثة الجديدة. وقد ألقى الأب إلى ابنه نصيحة، وهو يلح عليه في أن يتبعها، ثم يقبل سائر أهل القصر فيتحدثون حديثا مختلفا مختلطا، ولكننا نتبين على كل حال أن الشيخين العاشقين ما زالا على ما كانا فيه من المغاضبة والخصام، فليس أحد منهما يرضى أن يتحدث إلى صاحبه. وهم ينظرون في مجموعة من الصور ويتحدثون عما يرون، وعن صور النساء وأزيائهن خاصة أحاديث مختلفة جميلة ومؤثرة، ولكنهم ينتهون إلى صورة بعينها تعجبهم جميعا ولا يعرفون صاحبتها، فإذا أنبأهم الزوج القديم بأنها صورة مطلقته زاد إعجابهم بما كان لهذه المرأة من جمال، ولا سيما إليزبث؛ فإن إعجابها شديد حقا. أليست قد أنبئت بأن بينها وبين هذه المرأة حين كانت شابة بعض الشبه؟ أليست هي آخذة الآن في إعادة التاريخ وفي تمثيل القصة التي مثلتها هذه المرأة حين كانت تنعم بنضرة الشباب وحين تهيأ لها الحب فلم تستطع عليه امتناعا؟ على أن الشيخة نفسها إذا نظرت في هذه الصورة لم تستطع أن تكف دموعها عن الانحدار، فأين هذا الجمال الرائع من هذه المرأة المتهدمة التي تغاضب عاشقها المتهدم! وقد تفرق القوم جميعا عن العاشقين الشيخين، وإذا الشيخ يدنو من صاحبته متلطفا مسترضيا معتذرا مما قدم إليها من الإساءة قبل العشاء، وهي تقبل منه متلهفة؛ فلم تكن أقل منه شوقا إلى الصلح، وهو يعترف لها بأنه كان مغرورا حين زعم أنه كان خليقا أن يبلغ رئاسة الوزراء لولا الحب. وهي تؤكد له أنها كانت مسرفة، وأنه كان حقا جديرا أن يبلغ رئاسة الوزراء، فإذا سمع ذلك منها أرضاه وأعلن إليها أنه كان مسرفا حين أنبأها أنه لو تولى الحكم لعين زوجها في هولندا، والواقع أنه كان خليقا أن يعينه في باريس، وهي تستكثر باريس وترى أن في هولندا أو في البرازيل ما يكفي. ويمضي الحديث بينهما على هذا النحو المؤثر الظريف، وهذا الشيخ يتأمل في الصورة فيزعم لصاحبته أن السن لم تغيرها إلا قليلا وهي سعيدة بهذا الثناء، ترد عليه بثناء مثله، فتزعم له أنه قوي، وأنه وسيم، وأن منظره يخلب النساء، ويلفتهن إليه. ولكن هذا الزوج القديم قد أقبل وأخذ ينبئهما بقصة إليزبث واعتزامها فراق زوجها مع هذا الشاب، وهو يطلب إلى الأم أن تنصح لهذه الفتاة وأن تعظها، وأن تفكر في ابنها. والأم تتردد شيئا ثم ترضى، وقد أقبلت إليزبث وانصرف الرجلان، وأخذت العاشقة الشيخة تعظ العاشقة الشابة. فيا له من حديث مؤثر حقا، دقيق حقا، فيه تصوير رائع لجنون الحب ثم لعواقب هذا الجنون حين يفتر النشاط وتنكسر الحدة، وتتصل الحياة بين عاشقين قد فتر بينهما العشق. وفيه تصوير رائع لهذه الغيرة الملتهبة التي تحرق فؤاد المرأة حين تحس انصراف العاشق عنها، وفيه تصوير رائع لضعف المرأة وسوء حالها في الجماعة إذا خرجت عن الحياة المنظمة وخالفت ما ألف الناس.
ولكن شيئا من هذا لا يؤثر في الفتاة ولا يغير عزيمتها بحال من الأحوال، وهي مصرة على هذا الفراق محتملة تبعاته، واثقة بصاحبها، أشد الثقة.
ثم يقدم أرنولد بعد حين ويخلو إلى امرأته، وإذا هو قد تغير تغيرا تاما، فهو معتذر إلى امرأته من ذلك الحديث الغليظ الجاف الذي لقيها به حين طلبت إليه الطلاق، وهو يترضاها فلا ترضى، ويستعطفها فلا تعطف، فإذا يئس من ذلك عرض عليها أن يعينها بشيء من المال لأنها فقيرة ولأن صاحبها ليس غنيا، وهي تأبى، ولكنه يعلن مصمما أن المال سيوضع في أحد المصارف لحسابها، وقد كان يأبى الطلاق فهو يقبله الآن، ولكن شرط أن يكون هو المذنب وأن يكون الحكم عليه لا عليها. وهي تسمع هذا فتتأثر له تأثرا عميقا، ويتركها الفتى وهي في أشد ما تكون من التردد والاضطراب والاعتراف بالجميل. على أن صاحبها الشاب قد أقبل يتعجلها، فتأبى عليه إباء شديدا لما سمعت من زوجها، والفتى يلح وهي تأبى. وإنهما لفي هذا الحوار وإذا الشيخان العاشقان قد أقبلا واشتركا في حوارهما، وهما ينصحان أول الأمر للفتاة بألا تفارق زوجها ولا تتعرض لحرب النظام الاجتماعي، فهي غير قادرة على هذه الحرب، ولكن الفتى لبق حسن الحديث، عاشق، صادق العشق، مقنع قوي الإقناع، وها هو ذا قد أثر في نفس الفتاة وسيطر عليها. وانظر إلى هذين الشيخين وقد ذكرا شبابهما واستحضرا قصتهما، وهما يعينان على تمثيل القصة. فأما الشيخ فيعيرهما سيارته ليهربا بها في جنح الليل، وإذا الشيخة تعير الفتاة معطفها لتتقي به برد الليل، وإذا العاشقان الشابان ينصرفان وقد تركا في نفس هذين الشيخين وجدا وحنينا وعطفا كثيرا. وهذا الأب الشيخ قد أقبل راضيا، سعيدا، مبتهجا ينبئ بأنه قد نصح ابنه فاستمع لنصيحته فنجح إلى أقصى حدود النجاح. رد إلى امرأته حريتها فحمدت ذلك منه وزهدت في هذه الحرية وقررت أن تقيم. والشيخ فخور بهذا الفوز، وهو يضحك فخرا والشيخان العاشقان يضحكان منه فيحسب أنهما يضحكان له، ويرخى الستار عليهم جميعا، وهم مغرقون في ضحك مظهره واحد ولكن سببه مختلف أشد الاختلاف.
الطائر الحديث
للكاتب الفرنسي رستان برنار
ليس هذا العنوان ترجمة صادقة ولا دقيقة للعنوان الفرنسي، وإنما هي ترجمة مقاربة، أو قل هي إشارة إلى معنى العنوان الفرنسي؛ لأن نقل العنوان إلى لغتنا ليس باليسير.
ولسنا نقصد بهذا الحديث عادة إلى الدقة العلمية في الترجمة، وإنما نقصد إلى تقريب الصور الفنية التي يعرضها كتاب التمثيل إلى قراء العربية الذين لا يستطيعون أن يروا بأنفسهم هذه الصور في أصولها الأولى. والصورة التي أريد أن أقربها إلى القراء في هذا الحديث جميلة رائعة حقا، وهي لا تستمد جمالها ولا روعتها من ثورة العواطف وحدة الحس وعنف الشعور، وإنما تستمدها من هذه الفلسفة الهادئة المبتسمة الساخرة التي امتاز بها هذا الكاتب الفرنسي العظيم، فهو أستاذ السخرية في فرنسا بعد كورتلين، ولكنه أستاذ السخرية التي لا يكاد يشعر بها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من دقة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وحسن القراءة بين السطور. وهو على هدوء فلسفته وخفة سخريته، ورقة دعابته، لاذع ممض حقا لمن عرف كيف يقرأ، وكيف يفهم، وكيف يذوق، بل هو قد يتجاوز السخرية اللاذعة الممضة إلى السخرية القاسية، التي تريد أن تكون عنيفة، وتبلغ من العنف ما تريد دون أن يظهر عليها ذلك ظهورا واضحا.
وقد أراد رستان برنار في هذه القصة أن يصور، من ناحية، نزق الشباب وخفته، وطيشه، وضعفه عن فهم ما يحيط به من الأحداث، بل عن فهم نفسه، وأقرب الناس إليه، وانخداعه بأيسر الأشياء. ومن ناحية أخرى عبث الظروف بالناس وتحكمها فيهم بما يسوءهم في كثير من الأحيان، وبما يرضيهم ويمنعهم في بعض الأحيان. والنقاد مجمعون على إكبار هذه القصة، ومنهم من يبلغ بها منزلة الآية الأدبية الخالدة التي لن يعرض لها الفناء، وهم يعجبون بهذه البراعة التي أتاحت للكاتب العظيم أن يتخذ موضوعا يسيرا ضئيلا كهذا الموضوع الذي ستراه، فينشئ منه قصة تمثيلية ممتعة، ترضي، بل تمتع النظارة والقراء جميعا دون أن تشق عليهم، أو تخيل إلى أحدهم أنه أحس شيئا من الجهد قليلا أو كثيرا في مسايرة القصة منذ ابتدأت باسمة ساخرة إلى حيث انتهت باسمة ساخرة أيضا.
والموضوع - كما قلت - يسير ضئيل؛ فهناك صديقان؛ أحدهما شاب في السادسة والعشرين من عمره، وهو تيبو، والآخر كهل قد بلغ الأربعين، وهو تييري، وقد صدقت بينهما المودة، وتمت الثقة، وكلاهما صاحب لهو وعبث، ولكن الشاب الحدث، مطمئن إلى الكهل المجرب، فهو يلجأ إليه، ويعتمد عليه كلما تعقدت أموره في الحب بعض التعقيد. وهذا الكهل المجرب محبب إلى النساء، فاتن لهن، فلا يكاد يعرض مخلصا لحل ما يتعقد على صاحبه الشاب من الأمر حتى يضطر إلى خيانته اضطرارا. وصاحبه الشاب لا يحس ذلك ولا يلمحه، وإنما هو ماض في ثقته، دافع صاحبه إلى الخيانة دفعا، والظروف تعينه على ذلك، وتغريه به، كما تعين صاحبه على الخيانة، وتورطه فيها حتى يأذن الله لفتاة هي أليس بأن ترد الشاب إلى الرشد، وتحول بين هذا الكهل وبين المضي في الإثم على غير عمد أو على عمد، غير متعمد، إن صح هذا التعبير الغريب.
فموضوع القصة - كما ترى - هين لا خطر له في نفسه، ولكن الكاتب قد استطاع أن يرتفع به، إلى أرقى منزلة من منازل التفكير الخلقي الفلسفي الخصب. ومهما ألخص هذه القصة ومهما أتحر الدقة في هذا التلخيص، فلن أستطيع أن أعطيك من جمالها الفني صورة مقاربة، فجمالها الفني مستقر في هذا الحوار البديع الذي لا بد من ترجمته، ومن ترجمته كله لتذوق ما فيه من فن دقيق. وترجمته ليست شيئا يسيرا؛ لأن الكاتب - كما قدمت - من أدق الكتاب الفرنسيين في التصوير والتعبير معا.
Bilinmeyen sayfa
ونحن حين يرفع الستار في فندق فخم من فنادق الصيف في مدينة مترفة من مدن الساحل، هي مدينة دوفيل، نرى هذا الكهل المجرب تييري يتحدث إلى خادم من خدم الفندق، وهو يهيئ له غرفة الاستقبال في الجناح الذي احتجزه لنفسه، ليقضي فيه بعض الصيف. والخادم ينبئه بأن فتاة قد أقبلت تطلب لقاءه، وهي تنتظر في بهو الفندق واسمها أليس إرسان. فإذا أذن لها بالصعود رأينا فتاة جميلة ولكنها شديدة الاحتشام، شديدة الذكاء، متئدة فيما تعمل وفيما تقول. وفهمنا من أول حديثها إلى هذا الرجل أنها قريبة صديقه تيبو، وأنها تعمل في قصره كرفيقة لأمه الغنية التي تقدمت بها السن، ولكنها تأبى أن تشيخ. فهي تلهو وتعبث وتختلف إلى الكازينو كل مساء تقامر مع المقامرين، وهي تربح حينا فتزعم أنها خاسرة، وتخسر حينا فتزعم أنها رابحة: تعلن الخسارة في أوقات الربح لترد عن نفسها أصحاب الحاجات، وتعلن الربح في أوقات الخسارة لترد عن نفسها العذال والشامتين. وهي في حقيقة الأمر لا تحفل بخسارة ولا بربح؛ لأنها واسعة الغنى عظيمة الثراء، وحسبك أن بعض مواردها يغل لها أربعة عشر مليونا من الفرنكات.
وهذه الفتاة تعمل في القصر رفيقة لقريبتها هذه، ولكنها لا تراها ولا تتصل بها، وإنما تلزمها من بعيد، تشتري لها الكتب، وتقرؤها نيابة عنها، وتلخصها لها تلخيصا موجزا لتكون على علم بها إذا تحدثت إلى الناس، وقد ترافقها إلى الكازينو ولكنها لا ترافقها إلى غرفة اللعب، وإنما تنتظرها في مكان آخر. وهي قد أقبلت اليوم تبلغ هذا الرجل أن قريبها تيبو سيزوره بعد حين، ليتحدث إليه في أمر ذي بال، وما دامت قد ذكرت تيبو، فهي تصوره لنا كما صورت أمه؛ فهو فتى رائع الشباب، ولكنه لا يقدر شبابه قدره، وإنما يبذر فيه تبذيرا وينفقه بغير حساب، قد أفسده الغنى فاتبع هواه، وتنقل به هواه من حب إلى حب، ومن لذة سريعة إلى لذة سريعة، حتى فقد قلبه وعقله، وكل هدوء، وكل استقرار.
والفتاة ترى ذلك محزونة له، ساخرة منه، ملاحظة دقائقه مع ذلك مستخرجة منها العبر والعظات التي لا يحسن استخراجها إلا المجربون الذين مارسوا الحب واللذة وعرفوا آثامهما وآثارهما، وهي تزعم أنها تجد من نقاء ضميرها، وصفاء سريرتها، وحسن سيرتها ما يمكنها من أن تفهم الحياة وتستخلص عظتها وعبرتها أحسن مما يفعل المجربون الممارسون. وهذا الفتى تيبو قد أقبل، فذكرته الفتاة بأنه مضطر إلى أن يتناول العشاء مع أهله هذه الليلة؛ لأنها ليلة عيد من أعياد أمه، قد اجتمعت لها الأسرة كلها على كره من الأم التي كانت تؤثر على مائدة العشاء مائدة القمار. وقد انصرفت الفتاة وخلا الصديقان، فلم يكادا يتحدثان حتى فهمنا قصة هذا الفتى. فهو يحب منذ عهد بعيد امرأة جميلة غنية، هي هنرييت هربلان، ولكنه لقي في بعض زياراته امرأة أخرى جميلة، هي لورنس هربر، فأحبها وأحبته، وأبعدا في الحب حتى كادا يبلغان الزواج. وكانت خليلته الأولى تصطاف مع زوجها في أقصى الغرب الجنوبي على الأطلنطيك، بينما يصطاف هو مع صاحبته في هذه المدينة الجميلة على ساحل المانش. ولكن الظروف الخادعة الماكرة زينت لهذا الزوج الأحمق أن يفارق امرأته أياما لتزور إسبانيا، فأسرعت هذه المرأة إلى دوفيل ونزلت ضيفا على أسرة صديقة تقيم من الفندق غير بعيد.
والفتى حائر بين هاتين الخليلتين، فهو يحب لورنس ويريد أن يتخذها له زوجا، وهو يريد أن يتخلص من هنرييت، ولكن في شيء من الرفق، ومن غير أن يؤذيها في حبها إيذاء عنيفا. وقد خطر له أن السبيل إلى التوفيق بين هذين الأمرين، إنما هو أن يقلل من لقاء لورنس ويحتاط في هذا اللقاء، حتى تسافر هنرييت من دوفيل. ولكنه لا يجرؤ على أن يبين حقيقة الأمر للورنس، فهو يعتمد على صديقه تييري في ذلك، ولا شك في أنه سيؤدي إليه هذه الخدمة راضيا سعيدا. وهو قد نظم له لقاء لورنس فستزوره بعد لحظات، وهو من أجل هذا ينصرف مسرعا وينبئ صاحبه بأنه سيلقاه في الغد ليعرف منه ما سيكون بينه وبين لورنس من حديث.
وما هي إلا لحظات حتى تستأذن لورنس على صاحبنا الكهل، فيأذن لها ويلقاها، ولا يكاد يأخذ معها في الحديث حتى يرى أنها تعلم من أمر صاحبه كل شيء. فليس من المعقول أن يتقرب رجل من امرأة بالحب دون أن يسعى الساعون إليها بأنباء هذا الرجل، ما ظهر منها وما بطن.
وهي ليست غافلة ولا جاهلة فتظن أن صاحبها قد ظل ينتظرها طول حياته نقيا بريئا من الحب، فهي إذن تعذره ولكنها تلومه لأنه لم يتحدث إليها بنفسه في هذا الموضوع. على أنها لا تكره آخر الأمر أن تعفو له عن هذا النزق الذي دفعه إليه الشباب، وهي تهم أن تنصرف ولكن تييري يستبقيها ليتحدث إليها طرفا من حديث، ولينبئها بأنه سعيد حقا بها، فما كان يقدر أنه سيلقى امرأة يرتفع بها الذكاء والفطنة وحسن التقدير للأشياء إلى حيث تتجاوز المألوف، وتعرض عن الصغائر، وهو سعيد بأن يثني عليها غير طامع فيها لأنها خليلة صديقه، وهي سعيدة أيضا بالاستماع لهذا الحديث الذي ليس وراءه طمع ولا رغبة، والذي لا يفسده تملق ولا تقرب؛ فقد سئمت ثناء المحبين، كما سئم هذا الرجل أيضا حديث المحبات. وهما سعيدان حقا بهذا الود الذي أخذ ينبت بينهما؛ لأنه ود بريء يرتفع عن الحب ويكتفي بالصداقة. لقد ظفرت هي يإعجاب الرجال حتى أذلتهم، وظفر هو بإعجاب النساء حتى أذلهن. فما يمنعهما أن يلتقيا كما يكتفي الفاتحان الظافران فيتحدثا في غير الفتح والظفر، ويسمرا في غير الحب والغرام.
وليس من شك في أن هذه المرأة لا تستطيع أن تحب هذا الرجل؛ لأنه متقدم في السن، ولأنها تحب صديقه الشاب. وليس من شك أيضا في أن هذا الرجل لا يستطيع أن يحب هذه المرأة؛ لأنها شابة بالقياس إليه، ولأنها خليلة صديقه، فلن يكون بينهما إلا ود الأصدقاء، وإذن فسيجتمعان إلى العشاء وستعتذر هذه المرأة إلى قوم دعوها للعشاء معهم، ولن يتعشيا في الفندق، ولا في الكازينو، ولكنهما سيذهبان إلى مطعم بعيد، ولن يشربا على طعامهما الشامبانيا، ولا هذه الأنبذة التي تدير الرأس وتحجب العقل، ولكنهما سيشربان نبيذا من هذه الأنبذة التي تطلق اللسان وتبعث الحرارة في القلب وتحبب حديث الصداقة إلى الأصدقاء.
وقد نهضت لتتهيأ للخروج، فهم أن يقبل يدها، فردته عن ذلك ردا، فما ينبغي للصديق أن يقبل يد الصديق وإنما يتصافح الأصدقاء في قوة كما يتصافح الرجال.
ويرفع الستار عن الفصل الثاني من الغد، فإذا نحن في الغرفة نفسها نرى هذين الصديقين، وقد أحدث الليل بينهما ما لا يحدث بين الأصدقاء، وهما يعتنقان اعتناق العاشقين وقد فتن كل منهما بصاحبه وسقط بينهما ذلك الفتى الغر، فمرا على جثته إلى حبهما العنيف ثم تم الاتفاق بينهما على أن يرحلا بحبهما عن هذه المدينة لينعما به في مأمن من الرقباء. وستسافر هي أول النهار، ويدركها هو إذا كان المساء أو إذا كان الغد؛ لأنه ينتظر اليوم مقدم أخيه.
وقد انصرفت عنه على كره منها وعلى كره منه، ولكنه لم يكد يخلو إلى نفسه حتى أفاق من نشوة الحب، ونظر إلى نفسه فازدراها وإلى صديقه فرثى له وعطف عليه.
Bilinmeyen sayfa
وهذا الخادم قد أقبل يصلح من شأن الغرفة، فإذا هذا الرجل لا يستطيع أن يمنع نفسه من التحدث إليه؛ لأنه شقي بالندم الذي يملأ قلبه. وهو يسأل الخادم عن سنه، ثم عن حبه، ثم عن خليلته، فينبئه الخادم بأنه يحب امرأة صديق له، فقد وجد هذا الرجل إذن زميلا له في الخيانة، فهو يسأله كيف أقدم على هذه الخيانة وكيف وجد أثرها في نفسه، والخادم ينبئه بأنه كره ذلك أول الأمر ولكنه ألفه وتعوده بعد قليل.
ولكن التليفون ينبئ بأن الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول تستأذن في لقاء هذا الرجل، فإذا أذن لها رأيناها قد أقبلت اليوم كما أقبلت بالأمس تحمل رسالة من تيبو إلى صديقه، فهو قد أنفق الليل كله أو أكثره خارج القصر وعاد مع الصبح، فسيزور صاحبه متأخرا بعض الشيء.
والفتاة ساخرة من قريبها، ساخرة من صديقه، تزعم له أن قريبها يثق به الثقة كلها، فلا يكاد الرجل يسمع لفظ الثقة حتى يضطرب له، وتثور نفسه، وإذا هو ساخط أشد السخط على هؤلاء الأصدقاء الذين يثقون بأصدقائهم، وعلى هؤلاء الضعفاء الذين يثقون بالأقوياء ، وعلى هؤلاء الناس الذين يعجزون عن تدبير أمورهم، فيعتمدون على غيرهم في تدبير هذه الأمور. والفتاة لا تفهم هذه الثورة المفاجئة، ولكننا نحن نفهمها حق الفهم؛ فالرجل نادم على ما فرط في ذات صديقه، ولكنه يحمل صديقه تبعة هذا التفريط؛ فهو الذي وثق به وكلفه تدبير أمره عند لورنس، ولو لم يفعل لما لقيها، ولما فرط في ذات الصديق.
وهذا تيبو قد أقبل، فانصرفت الفتاة وخلا الصديقان، ولم يكد تييري ينبئ صاحبه كارها متكلفا بأنه قد دبر الأمر عند لورنس، وأن لورنس قد قبلت عذره ورأت أن تسافر أياما تجنبا لكل مضايقة، لم يكد ينبئه بهذا حتى سمع منه عجبا. سمع منه أنه لا يحفل بلورنس ولا يريد أن يراها؛ لأنه لقي هنرييت فتجدد حبه لها وشق عليه فراقها، وأنفق الليل كله في إقناعها بأنه لم يخنها وبأنه لم يحب لورنس ولم يزد على أن أكثر معها الحديث، وقد اقتنعت هنرييت ثم شكت، ثم اقتنعت، ولكنها ستعود قطعا إلى الشك. ومن أجل ذلك يعتمد الفتى على صديقه في أن يمحو من نفسها كل ريب، ويرد إليها الثقة والاطمئنان.
والصديق سعيد بما يسمع؛ فهو يبرئه من الخيانة. وأي بأس عليه من أن يحب لورنس، وقد انصرفت عنها نفس صاحبه، وأي بأس عليه من أن يقنع هنرييت بأن الفتى لم يخنها؛ فذلك يرد هذين العاشقين إلى عشقهما، ويخلي له وجه صاحبته. فهو إذن يقبل هذه المهمة الثانية، وينصرف عنه الفتى بعد أن ينبئه بأن هنرييت قادمة للقائه وبأنه هو سيلقاه بعد الغداء.
وما هي إلا لحظات ينعم فيها الرجل براحة الضمير وهدوء البال، حتى تدخل عليه هنرييت، فإذا امرأة في الثالثة والعشرين من عمرها جميلة ضعيفة محزونة كثيرة البكاء، لا يكاد الرجل يراها حتى يرفق بها، ويخلص في النصح لها، وفي تشجيعها وتبرئة صديقها من الخيانة، ولكن حديثه لا يخلو من نبرات فيها حنان وعطف وشيء قد لا نستطيع أن نسميه الإغراء، ولكنه ليس بعيدا من الإغراء.
وقد أخذت المرأة تتأثر بهذا العطف وترق لهذا الحنان، وتسحر بهذا الصوت، وإذا هي تدنو منه، وتستدنيه، وهو يحس بهذا الخطر فيبعد عنها ويتكلف الجد، ولكن بعد أن فات وقت الجد. فقد دنت منه المرأة وأخذت في استعطافه، وهو قريب العطف، وما هي إلا أن تلح عليه في قبلة وداع، فإذا منحها القبلة الأولى أخذه الشرك وألقي الستار من دونهما وهي تقول: لن أفارقك؛ لأني لا أحب إلا إياك.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في قصر تيبو بعد الظهر من اليوم نفسه نرى تييري يتحدث إلى الفتاة «أليس» يسألها عن صديقه أين هو، فتنبئه بأنه خرج يلتمسه، وكان شديد الاضطراب كأن أمرا ذا بال يعنيه، فينبئها هو بأنه سيغيب لحظة ليسعى إلى أخيه الذي سيقبل من سفر بعيد ثم يعود بعد ذلك، ولا يكاد يخرج حتى يقبل تيبو ثائر النفس بادي الاضطراب يسأل عن صديقه، فتنبئه الفتاة بأنه سيعود بعد قليل، ولكنه لا يملك نفسه من أن يتحدث إلى الفتاة ببعض اضطرابه، وإذا الفتاة تقص عليه من أمره كل شيء قد علمت ذلك من نفسها، وفهمته من أحاديث الناس، وهي تزدري الفتى وتزدري حبه، وتحزن على هذا الشباب الضائع الذي يسرف فيه صاحبه بغير حساب، وعلى هذه العواطف المبتذلة التي تنحط لها نفوس كان ينبغي أن ترتفع، وتنبئ الفتى أن صاحبته هنرييت لم تكن تحبه حين أظهرت ما أظهرت من الغيرة، وإنما كانت تريد أن تنتقم لما أحست من الخيانة، فإذا سألها الفتى: وما أنت وهذا وما علمك بهذه الأشياء وهل أحببت قط؟ أنبأته بأنها قد أحبت، ولكنها لم تجد صاحبها أهلا لحبها، فأعرضت عن هذا الحب وأخذت نفسها بحياة العزوبة، وأنبأته بأنها تعاف هذه الحياة التي تحياها وبأنها مسافرة مع المساء لتعيش مع أختها وتعنى بابنيها الصبيين، فإذا سألها عمن أحبت أنبأته بأنها أحبته هو، ثم عافته لما رأت من سيرته، ولولا ذلك لما أنبأته بهذا الحب.
ولا يكاد الفتى يسمع بهذا النبأ حتى يفتنه ويسحره، وإذا هو يتلطف للفتاة ويعلن إليها حبه، فتعرض عنه وتفر منه، ويهم أن يتبعها، لولا أن صديقه قد أقبل ومعه أخوه، فلا يلقاهما إلا ريثما يستأذن منهما لحظة ويمضي في أثر الفتاة. ويخلو الأخوان فيتحدثان عن اضطراب الفتى وعما كان من سوء حظه مع صاحبتيه، وعن ندم الصديق الخائن، وعما ينبغي أو لا ينبغي أن ينبئ به صديقه من الأمر، ولكن الفتى قد عاد، وخلا إلى صديقه، ولم يكد صديقه يحدثه عن هنرييت حتى يرده عن الحديث ردا ويعلن إليه أنه يحب أليس، وأن أليس أحبته. ومن يدري لعلها ما زالت تحبه ولكنها لا تريد أن تعترف بهذا الحب. وهو يعتمد على صديقه في إقناعها ... ولكن الصديق يثور هذه المرة ويأبى أن ينهض بهذه المهمة، وهو يلح في الإباء وصديقه الفتى يلح عليه في الرجاء، ثم ينبئه فجأة بأنه قد أنبأ أليس بتوسطه عندها، ثم ينهض فيدعو أليس وينصرف.
والرجل ضيق النفس مضطرب الضمير، كاره لهذه المهمة مشفق من خيانة ثالثة، ولكن الفتاة قد أقبلت فلم يكد يتحدث إليها حتى أحس أنه يتحدث إلى امرأة ليست من جنس النساء اللاتي عرفهن من قبل. يتحدث إلى امرأة لا تحب عن عاطفة، ولا عن شهوة، ولا عن هوى، وإنما تحب بقلبها كله، وبعقلها كله، تحب عن علم بالحياة والأحياء، وعن بصيرة بما تأتي وما تدع، لا ترى في الحب لذة سريعة عارضة، وإنما ترى في الحب ثقة وأمنا وسعادة ومتاعا متصلا.
Bilinmeyen sayfa
وإذا هو يحاول أن يغري الفتاة بنفسه، وقد كان يخاف أن تتهالك عليه الفتاة، وإذا هو يرى الفتاة ترده عن نفسها ردا، رفيقا ولكنه حازم، وإذا هو ينهض معتذرا معترفا بضعفه، وفساد سيرته وسوء مستقبله في كل ما يمس السعادة الراقية النقية مستعطفا على صديقه محسنا الدفاع عنه، منتهيا آخر الأمر إلى حمل الفتاة على شيء إن لم يكن هو الرضى فهو قريب من الرضى. وإذا هو يفتح هذا الباب المغلق ويدعو صديقه، فإذا أقبل تلقاه بهذه الجملة: لقد كانت تريد أن تفرغ لابني أختها الصبيين، ولكنها قبلت أن تفرغ لك. فيدنو الفتى منها هائما، ولكنها ترده عن نفسها في رفق وتجلس مفكرة قد أخفت وجهها بين يديها، والفتى يهمس في أذن صديقه: ستعنى أنت بأمر هنرييت. فيجيبه الصديق: ليس من ذلك بد.
مدرسة أبناء الخمسين
أما قصة اليوم فسيرة ضئيلة لا تحتمل نقدا ولا تحليلا، ولا تحتاج من القارئ إلى روية أو تفكير، إنما هي حديث سهل عذب فيه فكاهة حلوة، وفيه حزن شاحب مر، ولكن مرارته لا تبلغ الألم الممض، وإنما تحمل بعض الناس على أن يلتفتوا إلى ما مضى من أيامهم، ثم ينظروا إلى ما يستقبلون من هذه الأيام، وقد أحسوا أسفا خفيفا ولكنه مقيم، فيه إذعان لما لا بد من الإذعان له من هذا السلطان الصارم الحازم؛ سلطان القضاء.
ولم ينظم الشاعر قصته هذه الصغيرة ليعظ ولا يهدي، ولا ليكون صاحب فلسفة وأخلاق، ولا ليقصد إلى شيء من هذه المقاصد التي يتوخاها أصحاب التمثيل حين يريدون الوعظ والإرشاد أو التصوير وتسجيل الحقائق. وإنما قصد إلى دعابة مريحة يتخفف بها من أثقال الحياة ويتيح لغيره من النظارة أن يتخففوا بها من أثقال الحياة ساعة من ليل أو ساعة من نهار. ومن أجمل ما يدخر الأدب للناس أنه يستطيع أن يكون مريحا مسليا، لا يشق عليهم ولا يكلفهم جهدا، ولكنه يمنحهم لذة هادئة لا تكاد تشغلهم عن أنفسهم، ولكنها مع ذلك تصرفهم عن همومهم وتنسيهم أحزانهم بعض الشيء.
وهذه القصة فصل من فصول هذا الأدب الهادئ المريح. والفرنسيون يحسنون هذا الفن من فنون الأدب ويتصرفون فيه تصرفا خصبا كثير التنوع في التمثيل وغير التمثيل من القصص القصيرة، ومن هذه المقطوعات الشعرية التي تمتعك وتسليك دون أن تكلفك مشقة أو جهدا. وقد حدثتك منذ حين عن كاتب فرنسي عظيم خالد برع في هذا النحو من التمثيل المريح، هو كورتلين، والكاتب الذي أحدثك عنه اليوم والذي حدثتك عنه في الأسبوع الماضي هو نظير كورتلين وشريكه في هذا النحو من الأدب. ولست أكره أن ألم بهؤلاء الكتاب بين حين وحين ، فقد يحسن التنويع في هذه الأحاديث، وقد يحسن بنوع خاص أن نفتح لشبابنا أبوابا متفرقة من الأدب لعلهم أن يدخلوا من بعضها في يوم من الأيام.
ونحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الفذ في بهو فندق من الفنادق الكبرى مشرف على البحر، أو على المحيط في مدينة من مدن البحر أو مدن المحيط. ونحن نرى القادمين يصلون إلى الفندق ويطلبون إلى الخادم ما يحتاجون إليه؛ هذا يطلب الثقاب، وهذا يطلب لفافات التبغ، وهذا يطلب الدواة والقرطاس، والخادم مسرع يجيبهم إلى ما يريدون في رشاقة وخفة ونشاط. ولكننا نرى أخوين قد تقدمت بهما السن، أحدهما رجل هو جاك وقد نيف على الخمسين، والأخرى امرأة هي كرستين، وقد تجاوزت طور الشباب. وفي الرجل بقية من نشاط ومرح، وعلى أخته مسحة من جد وتحرج. وقد أرادت الأخت أن تخلو إلى أخيها، فلما بلغت من ذلك ما تريد قالت له لائمة: لقد رآك من رآك في الغابة أمس. فيقول مداعبا: نعم، إني أفر إليها من هواء الساحل أحيانا. فتقول الأخت: ولكنك كنت سعيدا ولم تكن وحيدا، وإنما كانت معك هذه الفتاة التي كنت تأخذ بيدها. فيجيبها ماضيا في الدعابة: لعلي لقيتها في بعض الطريق. فتقول: منذ ثلاثة أعوام؟ فيجيب: بل منذ عامين.
وهنا تمضي أخته في لومه لأن هذا العبث لا يليق بسنه ولا بمكانه في المدينة. أما هو فلا يرى بذلك بأسا لأنه لم يبلغ الشيخوخة بعد، ولكنه في طريقه إليها ومن حقه أن يلهو ما دام قادرا على اللهو. فإذا زعمت له أخته أنه لا يليق أن يلقى هذه الفتاة ولا مصادفة، قال لها مداعبا: إذن فينبغي أن تنصرفي لأنها ستأتي بعد حين.
وقد انصرفت أخته مغضبة وخلا هو إلى نفسه، فهو يتحدث إليها في صوت عال لأنه يريد أن تسمعه، وهو يتحدث عن أخته التي يحبها ولكنه يضيق بها؛ يحبها لأنها أخته ولأنها طيبة القلب، ولأنها تحسن تدبير البيت وتهيئة المائدة، وتكفل له حياة مريحة يملؤها النعيم، ويضيق بها لأنها تراقبه وتثقل عليه وتدخل فيما لا يعنيها من أمره. ثم هو يحدثنا عن نفسه، فهو في السادسة والخمسين من عمره لم يشخ قلبه بعد، ولم يفتر جسمه عن المرح واللهو، ولكن آيات ظاهرة تدل الناس على سنه وتحملهم على أن يراقبوا ويسخروا منه ويلوموه إن تجاوز الوقار. وقد ماتت امرأته وتزوجت ابنته، وهو غني لا عمل له، وإذن فماذا يصنع بالحياة، وبم يستعين على الحياة؟ بشيء من اللهو. وهو يلهو، ولكن الناس ينغصون عليه لهوه بهذا اللوم الذي يلقونه به حينا، ويسرونه من دونه حينا آخر. وهو يحدثنا عن صاحبته، فهي فتاة في العشرين من عمرها جميلة رائعة الجمال ذكية حادة الذكاء، قد اختلفت إلى المدرسة، ثم إلى معهد التمثيل، وهي متقنة للتاريخ، وهي من هذه الطبقات الذكية القوية الفقيرة، التي تنبت في أحياء الفقراء من باريس. وهو يحدثنا بهذا كله في شعر سهل حلو، لا يتكلف له لفظا مختارا، وإنما يرسل لسانه على سجيته فيأتي باللفظ المنتقى وباللفظ المبتذل الشائع، وفي صوته حنان حزين كأنه يتغنى غناء هادئا مريحا. ثم هو ينهض إلى النافذة فينظر إلى البحر ويطيل النظر. ثم هو يلاحظ أن صاحبته قد أبطأت عليه، وأن سنها تبيح لها التأخر عما تضرب من المواعيد، وأن سنه تفرض عليه الانتظار والانتظار دائما. ولكن صاحبته كلارا قد أقبلت، فهو يلقاها باسما، وهو يدعوها إليه في لفظ ظريف رقيق تملؤه الدعابة ذات المعنى، فهو يذكر لها أن قلبها وفي دقيق في الوفاء، ولكن ساعتها لا تأمن الاضطراب والاختلاط.
فإذا سألته الفتاة عما يصنع؛ أنبأها في شعر جميل بأنه ينظر إلى نفسه في مرآة البحر، ثم مضى يصف البحر وصفا ظريفا حقا، ويشبهه ألوانا من التشبيه؛ منها الرائع، ومنها الذي يضحك أو يثير الابتسام. وانظر إليه يشبه انتظام المد والجزر بانتظام الموظفين حين يذهبون إلى الوزارات وينصرفون عنها.
وهو يمضي في هذا الشعر، ولكن الفتاة معرضة عنه لا تسمع له، فإذا سألها عن رأيها فيما يقول طلبت إليه في سخرية أن ينبئها إذا فرغ من حديثه؛ فإن لديها شيئا ذا بال تريد أن تعرضه عليه، وهو يستمهلها لحظة لأنه مفتون بهذا الموقف الشعري، يرى جمال البحر الرائع أمامه، ويرى جمال صاحبته إلى جانبه، ويرى نفسه تواقة إلى أن تمتلئ بهذين الفنين من فنون الجمال، ثم يفرغ للفتاة بعد حين، وإذا هي تنبئه بأن ابنته قد أقبلت إلى المدينة، وبأنها هي تخشى الفضيحة وحديث الناس، وتريد أن تسافر مع الظهر. وهي تقدر شعور الأسرة وما يفرضه هذا الشعور على صاحبها من التزام الحشمة والاحتفاظ بالوقار، وهي لا تحب لصاحبها أن يعق أسرته، أو يزدري الواجب أو يخرج على التقاليد. ولكنه هو ثائر لا يقبل أن تكلفه الأسرة وتقاليدها ما لا يحب، وهو مصر على أن يحتفظ بحب الفتاة ولقائها جهرة في هذه المدينة إن أقامت، وفي غير هذه المدينة إن سافرت.
Bilinmeyen sayfa
وهو سيدعو ابنته وسيعلن إليها ما صمم عليه لا يقبل في ذلك حوارا ولا جدالا، وهو يضرع إلى الفتاة في ألا تهجره، ولا تنصرف عنه، ولا تتركه نهبا للوحدة القاسية. وقد انصرف عنها لحظة فإذا الفتاة آسفة لأنها لم تبلغ ما كانت تريد. كانت تريد أن تقطع ما بينها وبين هذا الرجل من سبب، ولكنه أثار في نفسها الرحمة؛ فرقت له، وبقيت معه، وعجزت عن إيذائه. وهذا فتى شاب قد أقبل عليها، فلما رأته طلبت إليه أن يعود أدراجه، فليس له في حبها أمل، وهذا الفتى يحبها ويعجبها، وهي تميل إليه، بل تفتن به. ولكن ماذا تصنع؟ وقلبها رحيم رقيق لا يريد أن يؤذي هذا الشيخ، والفتى يلمح لها بالزواج فلا تحفل بتلميح ولا بتصريح؛ لأن لها قلبا قد يحب الشباب، ولكنه يرحم الشيوخ. وهذا الشيخ يقبل فينصرف الفتى، ولكن الشيخ قد رابه مكان هذا الشاب، فهو يسأل عنه الفتاة في خوف، والفتاة ترده إلى الأمن في حزم؛ لأنها تريد أن يصدر وفاؤها عن اختيار، لا عن مراقبة، ولا عن قهر. ويطمئن الشيخ إلى هذا الحزم، ويمضي الحديث بينه وبين صاحبته في الحب، والأسرة، يتكلف الشيخ الشجاعة والجرأة والقوة، وتضحك منه الفتاة في شيء من العطف وتنصح له بألا يتخذ لغة الأبطال حين يتحدث عما سيكون بينه وبين ابنته من حوار. وهذا الخادم قد أقبل ينبئ الشيخ بمقدم ابنته، فتنصرف عنه الفتاة، وقد أوصته بالشجاعة والجلد، وهذه ابنته قد أقبلت عليه، فقبلته وقبلها، ثم أخذ يتحدث إليها عن أمره في لهجة الحازم المصمم الذي لا يقبل مراجعة ولا جدالا. وكلما همت ابنته أن تتحدث اضطرها إلى الصمت، ومضى في حديثه، حتى إذا استطاعت ابنته أن تقول شيئا أعلنت إليه أنها تشجعه وتؤيده وتعجب به كل الإعجاب. هنا يدهش الشيخ لأنه لم يكن ينتظر من ابنته كل هذا، بل هو كان ينتظر منها نقيض هذا.
ولكن ابنته تنبئه بأن حياتها وآراءها قد تغيرت منذ ثلاثة أشهر، فهي ضيقة بأسرة زوجها، وهي ضيقة بزوجها نفسه، وهي ضيقة بهذه الحياة المنظمة المتشابهة المطردة التي لا خروج فيها عن التقاليد ولا تجاوز فيها للمألوف. وهي تواقة إلى الحرية مشوقة إلى الهواء الطلق، وقد أتيح لها منذ حين ما كانت ترغب فيه وتشتاق إليه، فقد عاد من أفريقيا الوسطى صديق لزوجها شاب كان زميلا له في المدرسة، ثم فرقت بينهما الأيام.
عاد من أفريقيا الوسطى عودة الظافر المنتصر الذي جاهد حتى فاز، والذي كون لنفسه في الأخلاق والحياة والتقاليد آراء لا يألفها الناس. وهو حلو الحديث، طريف الأنباء، خصب العقل، واسع القلب، وهو يرى الحرية قوام الحياة ويبيح طلب اللذة والانتهاء إليها حين تشتهيها النفس. وهي لم تقع في شركه بعد، ولكنها تحب حديثه وتمضي معه على أجنحة الخيال إلى آماد لا تحد، وهي تستمد منه الدفاع عن أبيها حين تهاجمه أسرة زوجها، فهو يعلمها أن من القلوب ما لا يبلغه الشيب، وأن اللهو مباح للإنسان ما وسعه اللهو، والشيخ يسمع من ابنته هذا الحديث في هدوء ظاهر، واضطراب خفي، ولكنه عنيف، فإذا فرغت ابنته من حديثها، كان الحق قد استبان للشيخ، وكان قد كون لنفسه رأيا لن ينصرف عنه، فهو لن يمضي في حبه لتلك الفتاة؛ لأن ما يبيح لنفسه من الحرية التي قد لا ينكرها القانون يغري ابنته بحرية آثمة يأباها النظام. هو في لهوه لا يخون أحدا، ولكنه يغري ابنته بخيانة زوجها. هو إذن ليس حرا؛ لأنه لم يخلق وحيدا في الحياة، ولأنه ليس ملكا خالصا لنفسه من دون ابنته، ومن دون أسرته، ومن دون الناس. هو إذن مضطر إلى أن يثوب إلى الرشد الاجتماعي، وإلى أن يضحي بحبه في سبيل ابنته، وفي سبيل النظام الاجتماعي الذي لا يقوى الفرد على إنكاره والخروج عليه. أكانت ابنته صادقة فيما ألقت إليه من حديث؟ أكانت ماكرة به، تريد أن تصور له الغي، وآثاره البشعة وأن ترده إلى الرشد وصراطه المستقيم؟ من يدري؟ ولكن الشيخ أعلن إلى ابنته تضحيته لهذا الحب، وهي تطلب الروية والأناة، فيأبى عليها، ويصرفها عن نفسه، ثم يدعو الفتاة التي كانت تنتظر فينبئها محزونا صادق الحزن بانهزام الحب وانتصار العرف، وتهم الفتاة أن تقاوم مخلصة، ولكنه يأبى عليها الحديث، ويصرفها في حنان، وقد وعدها أن يكتب إليها، وسألها أن تكتب إليه. وهذه أخته التي رأيناها في أول الفصل قد أقبلت تهنئه برجوعه إلى الرشد، وهو يلقاها في غير نشاط ويصرفها في غير عنف، فإذا خلا إلى نفسه تحدث إليها بهذا الشعر الجميل:
إني لأعرف على الساحل نهيرا حكيما، صافي الماء إلى أقصى غايات الصفاء، فإذا نظرت فيه رأيت شابا قد ذوى شبابه وأدركه الذبول، ليس فرحا ولا مبتهجا، ولكنه على ذلك راض مطمئن.
ملهاة السعادة
وأظنك لا تكره أن تلهو بعض الشيء عن حياتنا هذه اليومية التي يستقبلنا صبحها بما يحزن، ويلقانا مساؤها بما يسوء. ولا بأس من أن تقرأ الجهاد هذه المرة، فتجد فيه ما يسليك عن قصة وزير التقاليد مع مدرسة أسيوط، ومتاعها اليسير الذي اشتراه وزعم أنه هدية، والذي أخذه وزعم أنه حمل إليه. فمن الخير أن تألم لهذه المأساة الصغيرة الحقيرة، ولكن من الخير أن تسلو عن هذه المأساة الصغيرة الحقيرة أيضا. وأنا متطوع يا سيدي بأن أسليك وأسلي وزير التقاليد نفسه عما في هذه القصة مما يخجل، ويحزن، ويسوء. وأؤكد لوزير التقاليد أني دفعت إلى قراءة هذه القصة لألتمس فيها التسلية عن قصته، وأني دفعت إلى الحديث عن هذه القصة لأسلي القراء عن قصته، وأن شيئا من العطف عليه والرفق به، فهو خليق بالعطف والرفق، يدعوني إلى أن أسليه هو عما قد تثير هذه القصة في نفسه من ألم وحسرة واستحياء.
وقصتي هذه خليقة أن تسلي وأن تلهي؛ فصاحبها لم يضعها إلا لهذا. أستغفر الله، بل هو وضعها لهذا، ووضعها لما يناقض هذا كل المناقضة. وضعها للتسلية والتلهية، ووضعها كذلك للتأمل والتفكير. ففي القصة عبث مضحك، وفي القصة فلسفة عميقة خالدة، وحسبك أنها تعرض عليك غرور الحياة. والناس جميعا يعرفون غرور الحياة، ويؤمنون به، ولكنهم ينسونه أحيانا حين يملأ هذا الغرور قلوبهم ونفوسهم، فليس عليهم بأس من أن يذكروه، وقد يستكشفونه أحيانا فتضيق به صدورهم وتتأذى له نفوسهم، ولا بأس عليهم من أن يعزوا عن هذا الأذى وذلك الضيق، ومن أن ينبهوا إلى أننا قد خلقنا لنغر وإلى أننا محتاجون إلى هذا الغرور لنتعزى به عن أثقال الحياة ولنستعين به على احتمال هذه الأثقال، ولنستمد منه النشاط الخصب لكل عمل منتج مفيد.
وكاتبنا قد لاحظ هذا كله، وفكر فيه تفكيرا قويا حين وضع قصته هذه الجميلة الرائعة، بل هو قد ذهب - كما سنرى - إلى أبعد من هذا، فود لو عنيت الدولة بتلهية الناس وتسليتهم وشغلهم بالغرور عن أن يطيلوا التفكير في آلام الحياة وأثقالها، فإن ذلك بعض ما يجب على الدولة لدافع الضرائب. وما دامت الدولة تكفل الأمن والعلم والسلم للمواطنين، فقد يكون من الحق عليها أن تكفل لهم اللهو أيضا، وأن تحميهم من اليأس من هذا العدو المنكر الذي يأتيهم من أنفسهم، كما تحميهم من غارة العدو الخارجي الذي يتربص بهم الدوائر ليغير على الوطن، وليقتحم الحدود. وأنا أعلم أن هذا المذهب في السياسة قد لا يرضي وزير التقاليد؛ لأن فيه شيئا من الدعابة، ووزير التقاليد صاحب جد، ولأن فيه شيئا من العبث، ووزير التقاليد لا يحب العبث. أليس قد أغلق معهد التمثيل لأن فيه شيئا من الإسراف في أموال الدولة؟ فأموال الدولة لا تجبى لتنفق في اللهو، ولكنها تجبى لتنفق في تأثيث بيوت الوزراء بما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه من أكواب الشاي وموائد اللعب. ولكن وزير التقاليد يستطيع أن يقبل هذا المذهب السياسي ما دام بعيدا عن الحكم، فأما حين يرقى إلى المنصب ويستقر فيه، فهو يستطيع أن يرفضه رفضا وأن يعرض عنه إعراضا.
ولست أدري ما الذي يغريني بوزير التقاليد اليوم، وما الصلة بين هذا الحديث وبين وزير التقاليد، ولكنها قصة تذكر بقصة، وعبث يدعو إلى التفكير في عبث، فلندع وزير التقاليد - وإن كنا لا نحب أن ندع وزير التقاليد - ولنتحدث عن قصة هذا الكاتب الروسي العظيم.
ولا بد من أن تهيئ نفسك لقصة كثيرة الدوران والتعقيد، محتاجة إلى شيء غير قليل من الصبر والأناة، فأنا سأبذل كل ما أملك من الجهد لتيسيرها، ولكنها رغم ذلك لن تكون يسيرة كهذه القصص التي تعودت أن تسمع حديثي عنها. وحسبك أنها قصة روسية، وأن كاتبها متأثر بالكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو أو مؤثر فيه، فالنقاد يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا.
Bilinmeyen sayfa
نحن على كل حال في غرفة غريبة مظلمة مضيئة في وقت واحد. في غرفة من غرف الأسرار هذه التي تملؤها الألغاز وتجري فيها أمور غير مألوفة. ولا غرابة في ذلك، فنحن في غرفة امرأة عرافة تنبئ بالغيب، تقص ما كان، وتصف ما هو كائن، وتنبئنا بما سيكون.
وبين يدي هذه المرأة العرافة سيدة جميلة غنية ظاهرة الغنى، كثيرة الكلام، منطلقة اللسان، لا تكاد تكف عن السؤال، ولكنها في الوقت نفسه لا تكاد تكف عن الشرح والتفسير، والتعليق على ما تقوله. وهي قد جاءت تسأل العرافة عن أمرها وتستعين بها على أن تهتدي إلى زوجها الذي خانها خيانة غريبة. فهو قد اتخذها له زوجا حين كانت فتاة فقيرة بائسة تعيش عند خالة أو عمة لها وتلقى كثيرا من الألم والحرمان في حياتها. فلما اتخذها له زوجا أتاح لها من النعيم ومنحها من الحب ما حبب إليها الحياة وسلاها عن كل ما وجدت من شقاء.
وقد ضمن لها السعادة عشر سنين، ثم ماتت خالتها أو عمتها وأصبحت هي غنية واسعة الغنى، وإذا زوجها يتركها فجاءة دون أن يعدها لذلك أو ينبهها إليه؛ وهي تبحث عنه، وتلح في البحث، ولكنها لا تهتدي إليه، وإنما تهتدي إلى أنه قد تزوج امرأة أخرى خرساء صماء، فمنحها حظا من سعادة. ثم استخفى، وبحثت عنه الخرساء الصماء، فلم تهتد إليه، ولكنها اهتدت إلى أنه قد تزوج امرأة ثالثة، كانت مومسا، ملحة في الغي، فاستنقذها من الإثم، ومنحها حظا من سعادة وحب، ثم استخفى منها، فلم تقف له على أثر. وصاحبتنا هذه لم تيأس، ولم تكل، فهي ملحة في البحث عنه، قد وكلت به من يلتمسه في كل مكان وفي كل بيئة، وجاءت تسأل عنه العرافة لأنها تحبه أشد الحب، ولا تستطيع أن تسلوه ولا أن تتعزى عن هذه السعادة التي وجدتها في عشرته. وهي لا تكتفي بسؤال العرافة عن أمر نفسها، ولكنها تسأل العرافة أيضا عن أمر كلبها هذا الذي تصطحبه، والعرافة تعبث بها، وترثي لها، وتنبئها من أمر الكلب بما ترضى وما تكره. فإذا خرجت هذه المرأة أقبل على العرافة رجل شيخ ضعيف مريض محزون يستعينها على ابنه الشاب الذي يطلب العلم في الجامعة، والذي أفسدت أزمات الشباب عليه أمره، فهم أن يقتل نفسه، فلما حيل بينه وبين ذلك مرة هم به مرة أخرى. والعرافة تعده بالنظر في ذلك والجد في شفاء ابنه من هذا الداء العضال. ويخرج هذا الرجل وتدخل امرأة جميلة تصطنع الرقص في بعض ملاعب التمثيل، جاءت تستعين بهذه المرأة على زوجها الشاب الذي لا يحبها ولا يحرص على عشرتها، وإنما هو يهملها إهمالا، ويلهو عنها بكل من تعرض له من صاحبات العبث والمجون، والعرافة تعدها وتمنيها وتشجعها وتؤكد لها أنها تعرف زوجها حق المعرفة ولا تشك في أنه ثائب إليها إذا عرفت كيف تثير الغيرة في نفسه، ثم تتنبأ لها بأن حياتها ستتغير إذا كان المساء. فسيعرض عليها في الملعب شيء ذو بال. فإذا خرجت هذه المرأة أقبلت امرأة أخرى متقدمة في السن، ومعها ابنتها وشاب آخر لا نكاد نسمع حديثه حتى نعرف أنه طالب في الجامعة مفتون بعلم العلماء، ساخر من هذه العرافة ومن سخفها، وحتى نعرفه فهو ابن ذلك الشيخ الذي تحدثنا عنه آنفا، وهو الشاب الذي هم أن يقتل نفسه مرات.
أما الفتاة التي تصاحب هذه الشيخة، ففتاة بائسة قبيحة الشكل دميمة الصورة مريضة قد أصابها السل، وهي تأبى أن تستشير الطبيب؛ لأنها يائسة من الحياة أشد اليأس. وهي اليوم تشكو ألما في أسنانها، وقد زعمت لها أمها أن هذه العرافة تشفي من كل داء، فأقبلت تلتمس عندها شفاء مما تجد. وهذه العرافة تنهض وتصطحب الفتاة لحظة ثم تعود، فتطلب إلى الفتى أن ينصرف، وتتحدث إلى الشيخة حديثا نفهم منه أنها قد سلطت على الفتاة النوم المغناطيسي لتعرف سرها ولتتبين مصدر هذا اليأس الذي يملأ قلبها، ويزهدها في الحياة. ثم تدعو الفتاة، فإذا أقبلت سألتها عما تجد، فتعلن الفتاة أنها محزونة يائسة؛ لأنها قبيحة الشكل دميمة الصورة، تتمنى الحب، ولا تجد إليه سبيلا. ومن ذا الذي يحب فتاة مثلها لها هذا الشكل البغيض. ثم توقظ العرافة هذه الفتاة، وإذا هي قد برئت مما كانت تجد من ألم. فإذا انصرفت المرأة وابنها أقبل رجل آخر لا يريد أن يسأل العرافة عن شيء، وإنما يريد أن يلقى طبيبا يقيم في هذا البيت، واسمه الدكتور فريجولي، فلا يكاد يسأل العرافة عن هذا الطبيب حتى تلقي عن نفسها ثوبا وعن رأسها شعرا، وإذا هي من دون ذلك رجل كان مستخفيا قد اتخذ زي المرأة، وهو الدكتور فريجولي نفسه. وصاحبه الذي جاء سائلا عنه ودهش أشد الدهش، لم يكن يقدر أن الطبيب يتخذ زي المرأة ويحترف صناعة العرافة ويعبث بعقول الناس ويأخذ أموالهم، ولكننا نفهم من هذا الحديث أن الطبيب ليس صاحب لهو ولا عبث، وإنما هو رجل قد وقف جهوده على معونة الفقراء والبائسين، وهو يأخذ المال من الأغنياء ولكنه يعين به الفقراء، وهو إنما ضرب لصاحبه هذا الموعد ليتحدث معه في بعض هذا الشأن، وليتم معه اتفاقا غريبا له خطره وقيمته.
فهذا الرجل مدير ملعب من ملاعب التمثيل، وقد أقبل يتم مع الطبيب عقدا يبيح للطبيب أن يأخذ من فرقته بعض الممثلين؛ ليستعين بهم على تمثيل قصة خاصة في ملعب خاص، على نحو غير مألوف. وقد تم الاتفاق بين الرجلين وأمضى العقد ودفع الأجر في حديث ممتع لذيذ.
وقد خرج الرجلان ليذهبا إلى الملعب حيث الممثلون يتهيئون للتمثيل، وحيث يستطيع الطبيب أن يختار من بينهم من يريد.
ويتغير المنظر، فإذا نحن في الملعب نشهد الممثلين وهم يجربون أنفسهم للتمثيل، وهم يعدون قصة معروفة تصور الحياة الرومانية في عصر نيرون. وكم كنت أحب أن ألخص لك هذا الموضع من القصة، فهو طريف حقا؛ لما فيه من تصوير حياة الممثلين إذا خلوا إلى أنفسهم وأخذوا يتهيئون من وراء الستار للتمثيل أمام النظارة. ولكني مضطر إلى أن أهمل هذا القسم البديع من القصة اجتنابا للإطالة، ولما تستتبعه من الشرح والتفسير. ولكننا نتبين بين هؤلاء الممثلين ثلاثة أشخاص ممتازين، فأما أحدهم فشاب جميل وسيم له حظ عظيم من الرشاقة وخفة الروح، وهو يمثل في القصة رجلا رومانيا جميلا خلابا، وهو زوج الراقصة التي أشرنا إليها في أول الحديث. والشخص الثاني هو الراقصة نفسها، وهي فتاة جميلة خلابة تحب الفن وتخلص له. والشخص الثالث رجل خفيف الروح غليظ الجسم محبب إلى النفوس، كان يمثل في القصة الرومانية مضحك نيرون. وقد اختار الطبيب هؤلاء الأشخاص الثلاثة واتفق معهم على قصته الخاصة، وعرض على كل واحد منهم دوره في هذه القصة وأرضاه فيما طلب من أجر. وهذه القصة الخاصة التي يريد الطبيب من هؤلاء الأشخاص أن يمثلوها يسيرة جدا. فهي ستمثل في غير ملعب ، وهي ستمثل بغير قصة مكتوبة. هي قطعة من الحياة اليومية سيمثلها هؤلاء الناس ليعينوا بها قوما بائسين على احتمال البؤس، وينقذوا بها قوما أشقياء مما يجدون من شقاء.
فأنت قد رأيت في أول الفصل هذه الفتاة البائسة اليائسة التي تؤثر الموت؛ لأنها دميمة لا تجد سبيلا إلى الحب، ورأيت هذا الفتى الذي هم أن يقتل نفسه مرتين، ورأيت هذا الشيخ البائس المريض المشفق على ابنه من الموت، فلا بد من أن يتعزى هؤلاء الأشخاص الثلاثة، وعزاؤهم هو قصة هؤلاء الممثلين. فأما الممثل الجميل فيجب أن يتكلف حب الفتاة الدميمة حتى يرد إلى قلبها الأمل وإلى جسمها الصحة. وأما الراقصة الجميلة، فيجب أن تتراءى لهذا الفتى اليائس وتتلطف له وتظهر له حبا وكلفا، حتى ترد إلى نفسه الرجاء والإيمان بالحياة. وأما مضحك نيرون فيجب أن يتكلف صداقة الشيخ المريض حتى يعينه على احتمال مرضه وفقره، ويجب أن ينهض مع ذلك بتلهية القوم جميعا. ومن أجل هذا كله ستصبح الراقصة خادما عند تلك الشيخة، وسيصبح الفتى موظفا في بعض الشركات يستأجر غرفة من الغرفات عند هذه الشيخة أيضا، وسيصبح المضحك طبيبا من أطباء الجيش قد أحيل إلى المعاش. أما الدكتور فريجولي نفسه فسيتغير اسمه مرة أخرى، فيصبح تاجرا لأسطوانات الفنوغراف يسمى شميدت.
ثم يرفع الستار بعد شهر من هذا التدبير، وإذا نحن في الفصل الثاني من فصول هذه القصة نشهد الممثلين وهم يعملون. فأما الفتاة الراقصة فهي خادم تغسل الأرض، وقد وقف الفتى الذي كان بائسا منها غير بعيد ينظر إليها، وينظر في كتاب من كتب الفقه الروماني يتحدث إليها ويتكلف القراءة في الكتاب، والفتاة رفيقة به مغرية له شفيقة عليه، وهو من غير شك مشغوف بها، يحبها أشد الحب، ويريد أن يعرب لها عن ذلك، ولكنه لا يجد الجرأة على هذا الإعراب. وأما الفتاة التي كانت مريضة يائسة منذ شهر، فقد عاد إليها شيء من الصحة، وكثير من النشاط، وأخذت تحب الحياة وتتزين لها، فأصلحت من زيها ومن شكلها؛ لأنها أخذت تحس أن الممثل الجميل يظهر ميلا إليها، وعناية بها. ولم لا؟ إنه يتعلم عليها الكتابة على الآلة الكاتبة. وانظر إليه وقد أقبل يتلقى درسه فإذا هو يداعب الفتاة ويلاطفها، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يعلن إليها حبه، وإذا الفتاة قد ردت إليها الحياة، وانفتحت لها أبواب الأمل على مصاريعها، وهي مجنونة أو كالمجنونة مرحا وفرحا، تضحك وتبكي في وقت واحد.
وأما الشيخ الذي كان مريضا منذ شهر مشفقا على ابنه متألما لفقره، فقد عاد إليه شيء من صحة ونشاط أيضا، أليس المضحك قد أصبح له رفيقا يذهب معه إلى الكنيسة ويلعب معه الشطرنج، ويسليه ويسلي غيره من أهل البيت عن آلام الحياة؟ كلهم راض وكلهم مبتهج، إلا امرأة تقيم في البيت وتعمل في بعض المدارس قد أحبت العلم، وآمنت به، واستسلمت له، فجفف عقلها تجفيفا، وملأ قلبها قسوة وجدا، فهي تنكر ما ترى، وتأنف من هذا العبث الذي تراه بين هؤلاء الناس، ومن هذا الحب الآثم الذي تحس نشأته بين هؤلاء الشبان. وإن كانت هي في حقيقة الأمر تكذب نفسها بعض الشيء؛ فهي تحب هذا المضحك وتخفي هذا الحب، حتى على نفسها. وهي تتكلف المرض لتستشير هذا المضحك الذي ينتحل الطب، والمضحك لا يكره هذا الحب لأنه ينتظر من ورائه مالا.
Bilinmeyen sayfa
وقد جاء وقت الغداء واجتمع القوم إلى طعامهم وهم يعبثون ويمضون في تمثيلهم هذا على أحسن وجه، لا يحس أحد أن في الأمر مكرا مدبرا، إلا أن الممثلين أنفسهم يعرفون ما يأتون، ويجدون في إتقان التمثيل. وهذه المعلمة تنكر تكلف ذلك العبث، كما تنكر تكلف الأدب، وكما تنكر التكلف كله. وهنا يصطدم الجد والهزل ويصطدم الصدق والكذب، وتصطدم الصراحة والمصانعة، وتتبين الحقيقة واضحة جلية مؤلمة؛ لأننا لا نريد أن نعترف بها. فهذه المعلمة تريد أن يعود الناس إلى طبيعتهم، وأن يطرحوا التكلف والرياء، وهؤلاء الناس يبينون لها أن التكلف والرياء أصل من أصول الحياة المنظمة وأساس من أسس الحضارة التي لا تستقيم بدونها، فإذا أنكرت عليهم ذلك أظهروا الرجوع إلى الطبيعة، فملئوا قلبها خوفا ورعبا واضطروها إلى الفرار. أما هذا فيأكل بملء يديه، وأما هذا فيتجشأ في غير احتياط، وأما هذا فيتجرد من ثيابه، والمعلمة ترى فتنكر ثم تفزع ثم تولي منهم فرارا. وإذن فلا حياة بين الجماعات إلا إذا قامت على التكلف، ولا حضارة إلا إذا قامت على الرياء. والخير أن يتخذ الرياء الذي لا بد منه وسيلة إلى السعادة وسببا إلى الأمل والرجاء. •••
ثم يرفع الستار بعد ستة أشهر، وقد أشرفت هذه القصة الغريبة القريبة على آخرها، فلا بد لكل قصة من آخر. وهذا اليوم الذي نحن فيه هو الذي سيشهد انتهاء التمثيل. ولا بد من أن ينتهي التمثيل انتهاء حسنا، والقوم مبتهجون مضطربون يتهيئون لعيد من أعياد الكرنفال سيكون فيه عبث كثير وسيكون فيه تنكر وتغيير للأزياء. وهم يعدون ثياب الكرنفال، كل قد اختار الزي الذي يرضيه والشكل الذي يلائمه، وإنما يعنينا من هذه الأزياء والأشكال زيان اثنان؛ أحدهما هذا الزي الذي اختاروه للمرأة المعلمة، وهو زي يمثل الموت، وهم يقدرون أنها سترفض اتخاذ هذا الزي، بل سترفض اتخاذ أي زي آخر. والثاني زي الدكتور فريجولي، فهو قد اتفق معهم على أنه سيتخذ زي شخص من أشخاص اللهو، ولكنه اتفق سرا مع الممثل الجميل على أنه سيرى في بعض الوقت مقدم راهب من الرهبان؛ ذلك أن هذا الممثل الجميل يشتغل بحرفة أخرى يكتمها، فهو جاسوس، وهو يبحث لأولئك النسوة الثلاث اللاتي أشرت إليهن في أول القصة عن هذا الرجل الذي خدعهن وتزوج بهن جميعا. وقد وعدته العرافة بأن تدله على هذا الرجل، وقد أنبأته بأن هذا الرجل سيشهد العيد معهم اليوم في زي راهب. فما عليه إلا أن يدعو هؤلاء النسوة ليستكشفنه وليظفرن به وليدفعنه إلى موقف القضاء.
ونحن نفهم مما نسمع من أحاديث القوم أن أعضاء الفرقة التمثيلية سيحضرون جميعا متنكرين ليشهدوا هذا العيد، وأهل البيت يعلمون حق العلم أن القصة تنتهي اليوم. فأما الممثل الجميل فقد أنبأ الفتاة التي كانت بائسة بأنه يحبها حقا، ولكنه متزوج وامرأته مريضة فلا بد له من أن يسعى إليها. وأما الراقصة فقد أنبأت الفتى الذي كان بائسا بأنها مضطرة إلى أن تعود إلى أهلها في الريف، وإن كانت تجد في هذه العودة ألما شديدا لأنها تحبه حقا، وقد رضيت الفتاة عن سفر صاحبها، فهي تحبه ولكنها لا تريد أن تدفعه إلى القسوة والإثم. والحب الصادق لا يدفع إلى قسوة ولا إثم، وحسبها أنها ظفرت منه بهذه السعادة التي ردت إليها الأمل والحياة، والفتى راض عن صاحبته، وإن كان يحزنه هذا السفر؛ فهو يحبها ولكنه لا يستطيع أن يفرق بينها وبين أهلها. فالحب الصادق لا يحتمل القسوة ولا الجحود، وحسبه منها أنها أسعدته وردت إليه الأمل والحياة. وهذه المعلمة قد أقبلت وهم يتحدثون إليها عن زيها، فتعلن كما كان مقدرا أنها لن تشترك في هذا العبث، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تكرهها على ما لا تريد. ولكن صاحبها المضحك قد تبعها إلى غرفتها وخرج يعلن إلى أصحابه أنها قد رضيت أن تشترك معهم في لهوهم، وقبلت أن تتخذ زي الموت. والحب من غير شك هو الذي استطاع أن يردها إلى قبول ما كانت ترفضه منذ حين.
ولكن انظر هذا الدكتور فريجولي قد خلا لحظة إلى المضحك، وإذا هو يعلم منه أنه قد خدع المعلمة وخيل إليها أنه يهواها فانخدعت له وصدقته، وأنه قد انتهى إلى ما كان يريد، فستمنحه مقدارا ضخما من المال يستعين به على إنشاء ملعب خاص له. ولا يكاد الدكتور يسمع منه هذا حتى ينكره أشد الإنكار، ويشفق على هذه المرأة من هذا الكذب والتضليل، ومن هذا الخداع الذي اتخذ وسيلة إلى الشر. وهو يحاور صاحبه ويريد أن يصرفه عن ذلك فصاحبه يأبى عليه. والخصام بينهما شديد قد انتهى إلى الفرقة، وهذا المضحك يعلن إلى الطبيب أنه سيفضح الأمر كله، وسيعلن أن القصة من أولها إلى آخرها كيد متكلف لا أصل له، فليس هناك حب ولا شيء يشبه الحب، وكل هذه الأسماء، وكل هذه الأعمال قد اخترعت اختراعا ودبرت تدبيرا. ويلح الطبيب على صاحبه ألا يفعل فلا يسمع له، فيدعه وما يريد بعد أن يعلن إليه أن أحدا لن يصدقه ولن يطمئن إلى ما يقول. وهما في هذا الحوار، وإذا باب المعلمة قد فتح ووقفت المعلمة من دونه تسمع لهما دون أن يشعرا بها، ثم يغلق الباب وقد فهمنا نحن ولم يفهما أن المعلمة قد عرفت كل شيء، وعرفت بنوع خاص أن صاحبها قد كان كاذبا فيما زعم لها من حب. وقد افترق الرجلان؛ فأما المضحك فذهب ينبه أهل البيت جميعا إلى أن القصة كلها كيد وخداع، ولكن أحدا لا يسمع له، ولا يحفل به، وإنما هم جميعا يسخرون منه، ومنهم من يتجاوز السخرية إلى البغض وإلى النذير. ويعود الرجل مستيئسا، ولكنه ينظر فيرى شبح الموت، فيتحدث إليه يظن أنه المعلمة، ولكنه ينظر فلا يرى شيئا، فيرتاع لذلك ويستغيث، فإذا أسرع إليه أهل البيت دخلوا معه غرفة المعلمة فوجدوها ميتة. وبينما هم جميعا مرتاعون لما يرون مشغولون به، يقبل النساء الثلاث يلتمسن الراهب فيجدنه، فإذا كشف لهن عن وجهه عرفنه، وهذه زوجته الغنية تعنفه وتريد أن تقوده إلى القضاء، ولكن هذه زوجته التي كانت مومسا فاستنقذها من الإثم تحبه وتدافع عنه، وتقوم دونه وتراه قديسا، وتتحدث إليه بنفس اللهجة التي كانت تتحدث بها الخاطئات إلى المسيح. وزوجه الخرساء الصماء مضطربة بين المرأتين، ثم منتهية إلى الرضى والصفح، والغنية تحس الخذلان من صاحبتيها فتنصرف معهما راضية أو كالراضية. بل راضية، أليست مستعدة لأن تدفع إلى الجاسوس أجره، وإن لم يصنع شيئا؟ وهذا الجاسوس قد أقبل وأراد أن يأخذ الراهب ليقدمه إلى القضاء، ولكن الراهب قد ألقى عن نفسه ثياب الرهبان، فإذا هو يظهر في زيه الذي تم عليه الاتفاق، وإذا هو يعرف نفسه إلى صاحبه، فهو الطبيب، وهو العرافة، وهو الزوج الخائن، وهو الراهب. هو كل هؤلاء الأشخاص، وهو يدفع إلى الجاسوس ما كان ينتظر من أجر. وهذا شخص آخر يقبل راضيا، فالمعلمة لم تمت وإنما همت أن تذوق الموت حين عرفت خيانة صاحبها فردت إلى الحياة. وهؤلاء قوم كثيرون يقبلون متنكرين في أزياء مختلفة، وهم أعضاء الفرقة التمثيلية الذين اختار الطبيب من بينهم أشخاصه الثلاثة الممثلين. فقد تمت القصة ولا بد من أن تعرف لها خاتمة. وهم يتساءلون فيما بينهم عن هذه الخاتمة كيف تكون أو كيف يقدر النظارة أنها ستكون. وهم يقترحون حلولا لهذه العقد، فمن يدري لو استمرت القصة، لعل الراقصة كانت تحب صاحبها البائس حبا صحيحا وترغب في فراق زوجها، ولعل زوجها كان يحب صاحبته حبا صحيحا ويرغب في فراق امرأته. ولكن الطبيب يريد أن يريح جمهور النظارة من هذا التفكير الطويل، وأن يظهر لهم حقيقة الأمر. وحقيقة الأمر سهلة جدا، فكل هؤلاء الذين تراهم على المسرح ممثلون من أولهم إلى آخرهم. الطبيب ممثل، والشيخة ممثلة، والفتاة البائسة والفتى البائس والشيخ المريض والمعلمة؛ كلهم ممثلون، ولكنهم أرادوا أن يمثلوا الحياة وأن يمثلوا التمثيل نفسه، فوفقوا من ذلك إلى ما رأيت. وهم جميعا يعلنون الحق ويعترفون به، وينبئونك أنت وينبؤنني أنا بأنهم لم يكن فيهم خادع ولا مخدوع، وإنما كانوا جميعا خادعين، يخدعونك أنت ويخدعونني أنا، ويخدعون غيرك وغيري من هؤلاء النظارة الذين يملئون دار التمثيل. وهم يريدون أن يعزوك ويعزوني ويعزوا النظارة جميعا عن هذا الخداع، فيفرحون ويمرحون ويرسلون نيران الفرح والمرح. وتنتهي القصة التمثيلية في هذا الابتهاج العام: ممثلون قد أتقنوا التمثيل حتى خدعوك وغروك وهم مبتهجون بهذا الإتقان، ونظارة قد أحسنوا الاستماع، وأحسنوا الانخداع، وأحسنوا التأثر بالتمثيل، وهم مبتهجون لهذه الحقيقة التي تتجلى لهم، بعد أن خفيت عليهم وغرتهم عن أنفسهم غرورا.
أرأيت إلى هذا الفن الطريف في التمثيل؟ فاعلم إذن أن بيراندلو قد أتقنه وبرع فيه ووضع فيه قصصا ثلاثا، هي حديث النظارة والنقاد في هذه الأعوام الأخيرة، وأنا أرجو أن أتحدث إليك عنها أو عن بعضها في يوم من الأيام.
كارل وأنا
للكاتب الألماني ليونارد فرانك
يجب أن تكون قلوب الناس قد صيغت من الصخر أو من الحديد، أو يجب أن تكون ذاكرة الناس أضعف وأوهى من أن تذكر شيئا أو تستبقي شيئا، أو يجب أن تكون شهوات الناس ومنافعهم العاجلة أقوى وأعظم سلطانا على النفوس من أن تحفل بالأهوال أو تتعظ بالخطوب، أو يجب أن يكون الإنسان إنسانا ليقدم اليوم على ما لقي منه أمس الشر كل الشر، وليستأنف غدا ما يجني منه اليوم أخبث الثمر وأمره وأشده إفسادا للحياة.
فهؤلاء الأوروبيون يتحدثون عن الحرب حديث المنتظر لها المتوقع لمقدمها، ومنهم من يهيئ لها تهيئة ويدبرها تدبيرا. ولو قد أقبلت الحرب لرأيتهم ينفرون إليها خفافا ويقدمون عليها سراعا، كأنها لم تعذبهم أثقل العذاب، ولم تبلهم بأعظم المحن التي عرفها الإنسان منذ بضع عشرة سنة. ومع ذلك فهم كانوا وما يزالون يذكرون سيئات الحرب الكبرى ويصورون في آدابهم وفنونهم وعلى ملاعبهم ومسارحهم روعها وهولها وطائفة من آثارها التي تسجل قسوة الناس على الناس، وتسجل عجز الحضارة الحديثة عن أن ترقى بالإنسان إلى مثله الأعلى الذي هو السلم والأمن.
وهذه القصة التي ألخصها لك اليوم في إيجاز صورة من هذه الصور المنكرة التي استحدثتها الحرب الأخيرة، والتي عرضت على الأوروبيين فزعموا أنها أثرت في نفوسهم أعظم تأثير وأبلغه.
Bilinmeyen sayfa
1
والنقاد يحدثوننا بأن هذه القصة عرضت في سبعين ملعبا من الملاعب الألمانية في وقت واحد، وبأنها قد عرضت قبل ذلك في السينما، وهي بعد هذا كله قد ترجمت إلى لغات مختلفة ومثلت في ملاعب أجنبية مختلفة، منها ملاعب باريس، وظفرت بإعجاب النظارة في هذه البلاد كلها، واستأثرت بثناء النقاد في هذه البلاد كلها أيضا، وهي مع ذلك لم تعظ أحدا، ولم تصرف عن الحرب أحدا من القادرين على أن يشبوا أو يخمدوا نار الحرب. فلنسلم راضين أو كارهين بأن طبيعة الإنسان أقوى من الحضارة، وبأن منافع الإنسان أقوى من مثله الأعلى، وبأن غرائز الإنسان أقوى من فنه وأدبه. ولننتظر راضين أو كارهين أن تشرق على الإنسان غدا أو بعد غد في هذا القرن أو في القرن الذي يليه، شمس ذلك اليوم الذي يسمع الناس فيه القول فيتبعون أحسنه، ويرى الناس فيه الشر فيجتنبونه، ويرون فيه الخير فيسعون إليه.
أما الآن فلنكتف من إكبار الفن بحبنا له وإعجابنا به والتوسل إلى الله في أن يهيئ له الفوز والاستئثار بالنفوس.
وهذه القصة التي أريد أن ألخصها اليوم تصور طائفة من آثار الحرب لا غلو فيها ولا مبالغة، وإنما هي أمور شهدها الناس في بلاد المحاربين، وسمعوا الحديث عنها وقرءوا ما كان يكتب فيها. ولعلهم رأوا بأنفسهم بعض ما أثارت من هذه الخصومات المنكرة التي لم تمح آثارها بعد. والكاتب متأثر في هذه القصة بكاتبين أجنبيين قد بعد أثرهما في كتاب هذا العصر الذي نعيش فيه؛ أحدهما الكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو، والآخر الفيلسوف النمسوي فرود.
ولست أريد أن أطيل عليك في تفصيل الأثر الذي تركه هذان الكاتبان في هذه القصة، وإنما الخير أن يدلك التلخيص نفسه على هذا الأثر دون أن أضيع وقتك ووقتي في الشرح والتعليل. •••
نحن أمام سجن من هذه السجون التي كانت تتخذ في البلاد المحاربة لاعتقال الأسرى، وهذا السجن في روسيا بين أوروبا وآسيا كما يقول الكاتب في بعض أجزاء القصة.
ونحن نشهد في حجرة من حجر هذا السجن أسيرين ألمانيين؛ أحدهما ريشار؛ وهو أكبرهما سنا، والآخر كارل؛ وهو أدناهما إلى الشباب. ونحن نرى ريشار مريضا يألم أشد الألم؛ لأن ساقه تؤذيه، وهي متورمة، وتورمها يزداد من حين إلى حين. وهو يشفق على حياته من هذا المرض، وهو يتمنى أن يعنى به الجراحون قبل أن ينتهي به الداء إلى طور لا ينفع فيه الجراحة. ولكنه لا يدري كيف يسعى إلى ذلك أو يبلغه، فحياة الأسرى لا تسمح بالمرض ولا بذكره ولا بالشكوى منه ولا بالتماس العلاج له، وليس من سبيل إلى إبلاغ أمر هذا المرض إلى الطبيب ولا إلى من هو دون الطبيب. فرقيب هذا السجن رجل منكر خبيث شرير، والشكوى في هذا السجن ذنب يعاقب عليه بالموت. ألم ينفذ حكم الموت في نيف وستين من الأسرى مرة واحدة لأنهم تأخروا قليلا عن الاستجابة لدعاء الليل؟ وهؤلاء الأسرى مع هذا كله لا يتعظون ولا يعتبرون. وهم يشكون من سوء حالهم يكتبون شكواهم في ورقة ويقترعون بينهم على أيهم يعلق هذه الورقة بحيث يراها مدير السجن. وهم يعلمون أن من ستقع عليه القرعة ميت لا محالة إن أخذ وهو يعلق ورقته أو استكشف بعد ذلك. ولكنهم مع ذلك يتمون أمرهم ويجمعون على أن لا بأس بأن يذهب واحد في سبيل الجماعة، وإن كانوا يخافون أن الروسيين ربما أماتوا الجماعة في سبيل واحد.
حياة هؤلاء الأسرى شر كلها، وشر لا يكاد يحتمله الإنسان؛ غذاؤهم رديء، وعيشتهم كلها ألم وأذى، وهم يحتملون راضين أو كارهين، وهم يتعزون عن هذه الآلام التي لا توصف كما يستطيعون. أما هذان الأسيران اللذان نراهما، فليس لهما عزاء إلا المودة والحديث. وأي حديث هو حديث امرأة غائبة، ولكنها على ذلك شاهدة تملأ نفسيهما وتملك قلبيهما وتستأثر بعقليهما استئثارا، وهي «آنا» زوج ريشار. وماذا تريد أن يصنع هذا الأسيران اللذان قضي عليهما بالإسار منذ ثلاثة أعوام، منذ أول الحرب، وأنفقا أكثر هذا الوقت وحيدين يعملان معا في احتفار الخنادق في بعض الفضاء الروسي؟ هما مضطران إلى الحديث، وإلى أن يعيدا الحديث ويبدآه. وفيم يتحدثان؟ أحدهما وحيد في الأرض، كان وحيدا قبل الحرب وهو وحيد بعد الإسار، ليس له إلا صديقه هذا، والآخر وهو ريشار له امرأته التي أحبها أشد الحب، ثم اختطفته الحرب من بين ذراعيها، ولما يطل عهده بها. فهو يتحدث بحبه، وهو يتحدث بشوقه، وهو يتحدث بحرمانه، وهو يقص على صاحبه تفصيل حياته قبل أن يتزوج وبعد أن يتزوج، وهو يقص عليه تفصيل حياة امرأته قبل الزواج وبعد الزواج. وهو يحدثه بدقائق هذا كله وهو يصف له بيته المتواضع في برلين، ويصف له مكان الأشياء في غرفته المتواضعة التي تجمع بين نومه واستقباله وطعامه وكل ما يحتاج إليه الزوجان. وهو ينبئه بمكان هذا الكرسي وبلون هذا الفراش وبوضع هذه المائدة وبهذا الصفير الذي يحدثه الغاز إذا أشعلت النار فيه. وهو يحدثه بكل شيء يمكن أو لا يمكن أن يكون موضوعا للحديث.
وهذا الحديث لا يتصل يوما ولا أياما ولا شهرا ولا أشهرا، وإنما يتصل ثلاثة أعوام كاملة. فأي غرابة في أن يعرف الفتى من أمر صاحبه كل شيء؟ بل أي غرابة في أن تمتزج حياة الفتى بحياة صاحبه، وأن يحس مثل ما يحس، ويجد مثل ما يجد، ويفكر في «آنا» كما يفكر فيها صاحبه، وينتهي إلى حب «آنا» كما يحبها صاحبه؟ ويشتد به هذا الحب حتى ينتهي إلى أقصاه، بل حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه الحب عادة من هذه الغيرة العنيفة من الزوج نفسه، بل ينتهي إلى هذه الجرأة التي لا تتصور إلا في حياة الأسرى الذين استيأسوا من الحرية أو كادوا يستيئسون، والذين طالت بهم العزلة حتى أشرفت بهم على الجنون أو ما يشبه الجنون. كلاهما يتمنى محضر هذه المرأة، وكلاهما يتعلق بهذه الأمنية، وكلاهما يجسم هذه الأمنية تجسيما ثم يمضي بعد ذلك إلى أبعد ما يدفعه إليه الخيال. وهذا الفتى يسأل صديقه الزوج لو أن امرأته حضرت، أفيأذن له في ... ثم يتردد، ثم يلمح، وهذا الزوج لا يضيق أول الأمر بهذا السؤال، ولا يبخل بالإذن على ألا يتكرر، فإن تكرر فمن ورائه الموت.
قلت لك إن العزلة قد انتهت بهما إلى الجنون، ولكنها قد انتهت بالفتى على كل حال إلى طور من هذه الأطوار التي يصورها بيراندلو أقوى تصوير وأروعه. فهو لا يحب «أنا»، ولكنه يراها، وهو يحقق مكانها وما تأتي من الحركات. وهو يتحدث بأنه يراها الآن في شارع من شوارع برلين قائمة تنتظر تحت الأشجار. وهو يرى ثوبها ويفصله ويحقق لونه وصورته. وهو يتحدث إلى صديقه من أمره ومن أمر زوجه بما جهله أو نسيه هذا الصديق. وهو يقص على صديقه حلما رأى فيه «آنا»، وهو يصف له ما رأى في البيت حين زاره، ويصف له وضع الأشياء في هذا البيت كما يعرفها؛ قد انتهى به الحب وانتهى به طول ما سمع وطول ما فكر وطول ما استحضر من الصور، إلى شيء يشبه الكشف الذي يتحدث عنه أصحاب التصوف.
Bilinmeyen sayfa
وهما في هذا كله وإذا الرقيب أو المفتش يقبل ساخطا صاخبا يسبق الشر مقدمه، فإذا دخل دخل معه مكر سيئ وحقد لا حد له. وهو يهين هذين الرجلين أبشع الإهانة وينذرهما أقبح النذير؛ فأما الفتى فصابر مالك نفسه، وأما الآخر فمغتاظ محفظ يريد أن يخرج عن طوره ولكنه يكظم غيظه في مشقة. ولا يكاد المفتش ينحني على أحد الأسرة ليتبين نظافته حتى يثب ريشار إلى أداة حادة يريد أن يهوي بها على المفتش ليقتله، ولكن صديقه ينزع الأداة من يده انتزاعا ويرده عما أراد ردا سريعا فيه عنف، فيسقط مغشيا عليه لأن ساقه المريضة قد مست في عنف. ويلتفت المفتش فيرى الفتى قائما وفي يده الأداة الحادة، فيدعو بالحرس ليأخذوه وقد وثق أنه كان يريد قتله، وهو ينذره بالموت وبالعذاب قبل الموت. ولكن الفتى قد استطاع أن يفلت من الحرس وأن يمضي أمامه كالسهم، ونحن نسمع طلق الرصاص ولكن الستار يلقى دون أن نعرف شيئا.
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في برلين بعد سنة كاملة من هذه القصة التي سمعت خلاصتها. ونحن في بيت ريشار نرى زوجه «آنا» تتحدث إلى صديقتها ماري حديثا عاديا أول الأمر؛ حديث البؤس والضنك وما انتهى إليه أمر الألمان من الإعدام بتأثير الحرب، حتى أصبحوا لا يجدون الخبز كلما طلبوا وإنما يوزع عليهم توزيعا؛ توزعه عليهم الحكومة على أن يدفعوا ثمنه. وهذه الفتاة تتحدث عن هذا في غير تكلف ولا شكوى، فهو شيء مألوف. ولكن الحديث لا يلبث أن يأخذ شكلا آخر حادا خطيرا ملؤه الشر والنكر، فأخت هذه الفتاة قد خانت زوجها مضطرة إلى الخيانة: زوجها في ميدان القتال قد طالت غيبته، وعجزت هي عن أن تجد ما تنفق، ثم أتيح لها رجل أعانها وأعان بقية أسرتها على الحياة. وقد عاشت مقاومة نقية حينا، ولكن الضرورة والحاجة الملحة والجوار المتصل في غرفة واحدة إذا كان الليل وإذا كان النهار؛ كل ذلك قد انتهى إلى غايته المحتومة. وهذه المرأة قد أصبحت أما، ولكن زوجها قد أرسل ينبئ بأنه قادم في إجازة عسكرية. وهو قادم اليوم والفتاة خائفة على أختها وعلى نفسها أيضا، ولها في ذلك فلسفة تصور حياة هذه الطبقات الفقيرة البائسة في ذلك الوقت تصويرا دقيقا، فلا بد من أن يعقل الرجال ومن أن يلتمسوا المعاذير لنسائهم البائسات، أو من أن يقبلوا هذه المعاذير على أقل تقدير. ومنهم من يلتمسها، ومنهم من يقبلها، ولكن منهم مع ذلك من لا يستطيع أن يرضى هذه الكوارث أو يطمئن إليها، وإنما تأخذه غيرة تنتهي به إلى أن يقتل نفسه أو إلى أن يقتل غيره. والفتاة تشفق من هذا كله وصديقتها آنا تهدئها جاهدة، وإن كانت فيما بينها وبين نفسها تعذر الرجال؛ فهم يلقون في الميدان ما يلقون من الشر ويحتملون ما يحتملون من الجهد، ومن حقهم إذا عادوا إلى دورهم أن يستمتعوا بحياة نقية هادئة فيها خفض ولين. ولكن النساء البائسات ماذا يصنعن وكيف يعشن وما ذنبهن إذا اضطرتهن الحياة إلى ما لا يحببن ولا يردن؟ على أن هذه الصديقة العاقلة الرشيدة تتمنى أن تنقضي هذه القصة في أقل ما يمكن من الشر. وهي تريد أن تعين تلك المرأة البائسة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فهي تطلب إلى ماري أن ترسلها إليها لتقيم معها ساعات، حتى إذا أقبل زوجها لم يلقها وحدها. فلعل محضرها أن يخفف الصدمة بين هذين الزوجين.
وقد خرجت ماري وخلت آنا إلى طعامها تهيئه، ولكنها لم تكد تخلو حتى يطرق الباب. ولا تكاد تأذن حتى يدخل عليها فتى لا تعرفه، ولكنه يدعوها باسمها ويتحدث إليها حديث الزوج المحب. وقد عرفناه نحن، فهو كارل، وقد نجا إذن في هربه وقضى عامه متنقلا من مكان إلى مكان، حتى انتهى إلى برلين وانتهى إلى آنا. وهو يتحدث إليها حديث الزوج الذي يعرف من أمرها كل شيء جملة وتفصيلا، هي تنكر ذلك أشد الإنكار وترتاع له أشد الارتياع وتكاد تفقد له صوابها؛ فهي لا تعرف هذا الرجل ولم تره قط، وهي لا تدري كيف عرف من أمرها ما عرف حين تزوجت وبعد أن تزوجت، وعرف أمرها حين كانت صبية تلعب في فناء الدار، وحين كانت صبية تختلف إلى المدرسة. وهو لا يكتفي بهذا الحديث، ولكنه يزعم لها أنها تحبه الآن، وأنها أحبته دائما، وأنها انتظرته وما زالت تنتظره وقد أقبل لميعاده. وأنت بالطبع تقدر وقع هذه الأحاديث الغريبة المروعة في نفس هذه المرأة الهادئة المطمئنة؛ لما هي فيه من بؤس وحرمان، ولا سيما منذ أنبأتها الحكومة بأن زوجها قد سقط في ميدان الشرف منذ أول الحرب. فهي أرملة منذ أربعة أعوام، تعيش مع الذكرى واليأس من لقاء الزوج. وهذا الرجل قد أقبل عليها فجأة يحدثها كل هذه الأحاديث، ويزعم لها أنها تحبه وأنه يحبها، وأنها كانت تنتظره وأنه لم يخلق إلا لها. وهو لا يزعم في صراحة أنه زوجها ريشار، ولكنه لا ينكر ذلك ولا يأباه، وإنما يلمح به ويشير إليه. ونحن حين نشهد هذا أو نقرؤه نتبين تأثير بيراندلو في الكاتب وفي قصته. ولكن امض معي قليلا فسنتبين تأثير الكاتب الآخر «فرود»؛ ذلك أننا نحس في وضوح واضح أن هذه المرأة قد أخذت تستكشف أنها أحبت هذا الرجل الغريب، وهي تقاوم هذا الحس وتجاهده وتريد أن تخفيه، وهي تعنف هذا الرجل وتزجره، ولكننا نحس مع ذلك في صوتها ونرى في بعض ما يبدو على وجهها أنها تحبه، وأن شيئا خفيا كان مختبئا في أعماق نفسها غير الشاعرة، قد أخذ يظهر شيئا فشيئا؛ وهو هذه الصلة الجنسية أو هذا الميل أو هذه الجاذبية الجنسية التي لا نشعر بها والتي تسيطر على ما نعمل وعلى ما نقول، والتي يتخذها «فرود» موضوعا لبحثه وفلسفته.
هذه المرأة تحب هذا الرجل، وتحاول أن تنكر هذا الحب وأن تخفيه، ولكن الحياة الممتعة ستكرهها على التسليم والإذعان لهذا الحب الخفي الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا إلى الإفلات من سلطانه العظيم. وهذه امرأة تقبل ومعها طفل ترضعه، هي التي تحدثنا عنها آنفا، ولا تكاد تدخل ويستقر بها المقام حتى يقبل زوجها فرحا مسرورا؛ لأنه سيقضي أسبوعا مع امرأته. على أنه لا يكاد يراها ويرى معها هذا الطفل وتنبئه باسم أبيه، حتى يعود أدراجه صامتا لا يقول شيئا، متوجها نحو المحطة ليأخذ القطار وليعود إلى الميدان. لقد يئس من إجازته ومن حبه ومن حياته، فعاد إلى حيث الموت يسعى إلى الناس ويسعى الناس إليه.
وهذا المشهد المريع خليق أن ينبه «آنا» إلى الخطر الذي تتعرض له إن أطاعت هذا الحب الخفي أو استسلمت لهذا الرجل. وهي تقاوم لأنها شعرت بهذا الخطر، ولأنها امرأة شريفة نقية لم تفقد صوابها بعد. ولكن انظر هذه صديقتها ماري قد أقبلت، ولا تكاد ترى هذا الرجل حتى يتحدث إليها حديث من يعرفها ويعرف حياتها معرفة دقيقة، فتنكر ذلك وتسأل هذا الرجل من هو فلا يجيبها، فتسأل صديقتها عن هذا الرجل، من هو؟ فتنبئها بأنه ريشار، فإذا أنكرت الفتاة ذلك لأنها تعرف ريشار ولأنها تعرف أنه قد قتل في أول الحرب، زعمت لها صاحبتها أنه ريشار وأنه لم يقتل وأنه قد عاد. والفتاة تلح في الإنكار وترمي الرجل بأنه كاذب خادع، ولكن آنا تدافع عنه وتزعم أن لا كذب مع الاقتناع. وقد فهمت الفتاة أن صديقتها تحب هذا الرجل، فقبلت ذلك وانصرفت محزونة يائسة راثية لهذا الزوج البائس، ولكنها عاذرة صديقتها في الوقت نفسه. ولا تكاد (آنا) تخلو إلى كارل حتى تستأنف مقاومتها له وامتناعها عليه، ولكن ماذا تجدي المقاومة وماذا يفيد الامتناع بعد هذا الإذعان الذي ظهر آنفا، وبعد هذا الاعتراف الذي أعلنته منذ حين إلى صديقتها الفتاة. إنها مذعنة آخر الأمر، مذعنة في شيء من الحزن والرثاء لزوجها، قد ضعفت واستسلمت وأخذت دموعها تنهمل، ولكن كارل قد نهض إليها فالتزمها، ولذا هي تستسلم له وتمنحه من حبها ما يريد.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أشهر خمسة على هذه القصة التي يصورها الفصل الثاني، وقد انقضت الحرب منذ وقت قصير ، وقد أخذ الجنود يعودون إلى أوطانهم، وقد انقضت الحرب في ميدان القتال، ولكنها استؤنفت في الدور بين الرجال والنساء؛ بين هؤلاء الذين كانوا يؤدون واجبهم الوطني وهؤلاء النساء اللاتي عجزن عن مقاومة الشر والامتناع على الإثم؛ إما لأنهن عجزن عن النهوض بأثقال الحياة، وإما لأنهن عجزن عن مقاومة الطبائع الإنسانية التي لا تذعن للخلق والدين والقانون إلا كارهة وبشرط أن تعينها الظروف على هذا الإذعان.
هذا الزوج يعود فإذا امرأته قد خانته، فهو يقتلها أو يقتل خليلها أو يقتل نفسه، أو لا ينتهي إلى القتل ولكنه يعذب نفسه أو يعذب امرأته أو يعذب نفسه وامرأته جميعا. وهذا الزوج قد يذعن لما لا بد من الإذعان له؛ فيعيش على مضض. وهذا الزوج قد يكون أيسر طبيعة وأهدأ مزاجا، فيقبل ما لا يقبل ويطمئن إلى ما لا يطمئن الناس إليه. وصاحبتنا آنا سعيدة من غير شك، قد استكشفت أنها تحب صاحبها كارل حبا خاصا لم تحسه لزوجها، بل لم تحس لزوجها حبا يشبهه أو يقاربه. وهي حامل، وهي مبتهجة بهذا الحمل الذي لم يتح لها مع زوجها؛ لأنها لم تكن تجد من حب زوجها مثل ما كانت تجد من حب هذا الفتى. وليست الحياة في برلين ناعمة، وإن كانت الحرب قد انقضت؛ فالبؤس شديد، والفقر ملح، وحاجات الناس على اختلافها عسيرة ليس إلى إرضائها من سبيل.
انظر إلى هؤلاء النساء دهشات أشد الدهش؛ لأن إحداهن رأت برتقالة تعرض في بعض الحوانيت. هذا عجيب، هذا خيال، هذا حلم من غير شك. برتقالة تعرض في الأسواق؟ لعلها مصنوعة. كلا، هي برتقالة حقا ولكنها معروضة لترى لا لتباع.
آنا إذن سعيدة، ولكنا نرى صاحبها كارل شقيا بائسا قلقا أشد القلق مشفقا أشد الإشفاق؛ فقد عاد إلى بيته وامرأته غائبة في بعض شأنها، فوجد كتابا فضه وقرأه، فليته لم يقرأ، فالكتاب من ريشار وهو ينبئ بنجاته وبمقدمه.
والفتى قلق خائف من غير شك. هو لا يخاف من ريشار، ولكنه يخاف من آنا. فستعلن الحرب بينه وبين الزوج، وستكون آنا موضوع هذه الحرب، فمن تختار وإلى من تميل؟ وهذه آنا قد أقبلت فرحة مبتهجة مستبشرة بالحياة، وهو يلقاها محبا لها، عطوفا عليها، مشفقا أن يؤذيها الجهد. ولكنه يتحدث إليها بأمر الكتاب فلا تظهر الاحتفال به أول الأمر، فإذا ألح عليها أدركها ضميرها ففرغت وسمعت منه. وكان في نفسها هذا الصراع العنيف بين الوفاء الذي يفرضه عليها حبها القديم وصدق زوجها في هذا الحب، ويفرضه عليها الدين والقانون، وبين الحب؛ هذا الحب الذي كان خفيا فظهر، وهذا الصراع عنيف ولكنه قصير. فهي لا تستطيع أن تعيش إلا مع صاحبها كارل. وكيف تستطيع الحياة مع غيره وهو أبو هذا الجنين الذي يضطرب في أحشائها؟ ثم هي تحبه مهما تكن الظروف ومهما ترد أوضاع الحياة. هي تحبه وهي عاجزة كل العجز عن أن تخلص من هذا الحب. وهي راضية بما فرض القضاء، فستلقى زوجها وستنبئه بكل شيء. فإن شاء أرسلها فعاشت سعيدة، وإن شاء قتلها فأدت ثمن السعادة التي استمتعت بها في هذه الأشهر الخمسة الماضية. وهي قد اطمأنت إلى هذا واستأنفت حركتها في البيت، وهي تهيئ المائدة، وتهيئها اليوم على خير حال؛ تضع عليها غطاء أبيض ناصعا وتضع عليها بعض الزهر. تريد أن يكون عشاؤها مع صاحبها فرحا مبتهجا. فمن يدري؟ وقد انصرف الفتى لبعض شأنه وصعدت هي عند صديقتها لحظة، ولكن ماذا؟ هذا الباب يطرق ثم يفتح ثم يدخل ريشار، رثا، سيئ الحال، قذرا، عظيم اللحية، كأنه متوحش قد أقبل من بعض الغابات. ولكنه مبتهج سعيد شديد الرضى، كثير الاستبشار. ولم لا؟ أليس في بيته الذي طالما ذكره وذكره وحن إليه؟ فقد بلغه الآن، وهو يراه ويستمتع بالحياة فيه، وسيرى امرأته بعد حين.
Bilinmeyen sayfa
وهو يراها في الفصل الرابع، فلا تسل عن ابتهاجه ولا تسل عن وجومها، فهو يتحدث ويتحدث ويتحدث في غير انقطاع. يريد أن يقبلها فتنفر منه، فيعلل ذلك بلحيته العظيمة وبما عليه من آثار السفر الطويل. وهو يتحدث معربا عما يملأ قلبه من بهجة وغبطة، ولكن امرأته قد أفلتت منه إفلاتا وانصرفت مدبرة. فلا يشق عليه ذلك، وإنما يفسره بالدهش وطول أمد الفراق ويجلس مطمئنا. ثم يخرج من متاعه شيئا ضئيلا يضعه على المائدة. وهو في ذلك وإذا كارل يقبل، فلا يكاد يراه حتى يبتهج لمقدمه، ولكنه لا يرى شرا ولا ريبة، وإنما يرحب بصديقه ويذكر أيام الأسر، ويذكر ذلك اليوم الذي افترقا فيه، ويتحدث عن نفسه وعن زوجه حديثا لا ينقطع. وكلما هم كارل أن يقول كلمة لم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأن الرجل سعيد سعيد مغتبط لا حد لسعادته ولا لاغتباطه.
وهذه ماري قد أقبلت، فلا تكاد ترى ريشار حتى تعرفه وتسرع إليه، وهو يتحدث إليها في غير انقطاع كما كان يتحدث إلى صاحبه في غير انقطاع أيضا. وكلما سألته أو سأله صاحبه عن آنا، قال إنها ذهبت لبعض الشئون وستعود من غير شك بعد قليل. وأكبر الظن أنها عرفت مقدم كارل فذهبت تشتري ما تتم به العشاء.
وما هي إلا لحظة حتى تعود آنا، وكأنها ذهبت تلتمس صاحبها، فإذا دخلت واجمة ذاهلة مضى صاحبنا في الحديث. ولكن صديقه يطلب إليها أن يخلي بين آنا وبين حريتها، فلا يظهر الاستماع، فإذا كرر عليه الطلب واستمع له وفهم عن صاحبه، ثار واضطرب وهم أن يقتل صاحبه، ولكن آنا تحول بينهما ثم تطلب إليه إذا لم يكن بد من القتل أن يقتلها هي أيضا؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بدونه.
وقد كان الرجل مذعنا لا يريد إلا أن يقتل هذا الفتى، وكان فيما يظهر مستعدا للعفو عن امرأته والعناية بأمر هذا الجنين. فإذا رأى حب هذه المرأة لصاحبه ودفاعها عنه واستعدادها للموت دونه، أخذه اليأس فصعق وسقط على كرسيه أبله حائرا لا يدري ماذا يصنع ولا يعرف كيف يقول! وهذا الحب الخفي الذي كان قد ظهر، ثم أخذ يستحيي لمقدم الزوج؛ هذا الحب الخفي قد عاد إلى الظهور واسترد قوته كلها وصراحته كلها. وهذه المرأة تهيئ أمرها للسفر وتأخذ من ثيابها ما لا بد من أخذه ، يعينها صاحبها على ذلك، والرجل ينظر مخذولا وصديقتها ماري تنظر إليهما حائرة مبهوتة، فهي تحب صديقتها ولكنها تحب ريشار أيضا، وقد طالما تكلفت إخفاء هذا الحب وفاء لصديقتها وحياء منها ومن نفسها.
وقد مضت آنا ومضى معها كارل، وبقي الرجل صعقا مخذولا وبقيت ماري. وينظر الرجل إلى المائدة فيرى هذا الشيء الضئيل الذي كان قد استخرجه من متاعه منذ حين، وكان يعده هدية قيمة لامرأته، فيأخذه بيده ويدفعه إلى الفتاة وهو يقول بصوت محزون متهدم يائس: «إنها قطعة من الشوكولاتة.»
مدرسة المشعوذين
مثلت منذ أعوام في باريس فأثارت لغطا كثيرا، كما مثلت قصة أخرى من قبلها في موضوع مقارب لموضوعها فأثارت لغطا ودهشا وإعجابا لم ينقض بعد.
ذلك أن موضوع القصتين يتصل بالطب والأطباء، وبالمرضى والمرض، وبالصلات بين الأطباء والذين يحتاجون إليهم من المرضى والأصحاء جميعا. وتعرض التمثيل للطب والأطباء وللمرض والمرضى قديم، قد سن فيه موليير سنة ما زالت آثارها باقية ومناهجها واضحة، وما زال الكتاب الممثلون يتبعونها ويذهبون مذهبه فيها.
فقصة الطبيب على كره منه، وقصة المريض الواهم ما تزالان من الآثار الأدبية الخالدة التي يقرؤها الناس أو يشهدونها فيعجبون بها أعظم الإعجاب، على اختلاف العصور وتباين الظروف وتفاوت البيئات. بل يقرؤها الناس المرة بعد المرة ويشهدونها كذلك المرة بعد المرة، فيتجدد إعجابهم بها وإكبارهم لها وضحكهم لما تعرض من المشاهد واعتبارهم بما تثير من الملاحظات، لا يبلغون من ذلك أقصى ما يريدون؛ لأن اللذة الفنية الخالدة من طبيعتها أن تجدد هذه اللذات، وأن تحدث لنا إعجابا وإمتاعا كلما أحدثنا لها قراءة أو استماعا. وقد أراد الكاتب الفرنسي العظيم جول رومان أن يذهب مذهب موليير في العناية بالطب والأطباء، وفي تسليط سخرية الفن ودعابته وهجائه اللاذع أيضا على هذه الطائفة الموقرة التي نتملقها جميعا؛ لأننا جميعا نحتاج إليها ونشفق منها، ونذعن لما تأمر، ونؤمن لما تقول. فوضع قصته المعروفة كنوك أو انتصار الطب، ثم قدمها إلى ملاعب التمثيل، فلم تضحك باريس وحدها وإنما أضحكت فرنسا كلها، ثم أضحكت وما زالت تضحك العالم المثقف كله. وأكبر الظن أنها أضحكت الأطباء أنفسهم قبل أن تضحك غيرهم من الناس؛ فقد أظهر الكاتب فيها الفروق القوية بين الطبيب الشيخ، المحافظ، المعتدل، المتواضع أيضا، الذي يعيش في قرية من القرى ويتكسب بمهنته صادقا ناصحا لا مسرفا على المرضى ولا مسرفا على الأصحاء، فهو يكسب حياته وشيئا من الثروة معتدلا، ولكنه لا يستغل فنه كما يستغل التجار المسرفون تجارتهم، أو كما يستغل المرابون المسرفون ما بين أيديهم من المال؛ وبين الطبيب الشاب الذي لم يفرغ لدرسه ولم يقصد إليه عن عناية واستعداد، وإنما دفعته إلى ذلك المصادفة، فواتته الظروف وأسعدته الحيلة، وانتهى إلى الظفر بالإجازة الطبية، فهو يريد أن يستغل هذه الإجازة كأشد ما يكون الاستغلال، وأن يكرهها على أن تجلب له من المال أكثر ما يمكن أن تجلب له. وهو يخلف الطبيب الأول في قريته، وقد اتخذ لنفسه قاعدة هي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى وأن الصحة شذوذ. وهو يجد في أن يقنع الناس بهذه القاعدة، يستعين على ذلك بالوهم والخوف، وهو يبلغ من ذلك ما يريد، وهو يملأ القرية وما حولها من القرى إيمانا بالطب ويقينا بالمرض. فهو يشتغل في الليل ويشتغل في النهار، وهو يمكن الصيدلي من أن يشتغل في الليل والنهار أيضا، وهو يمكن الفندق من أن يمتلئ دائما حتى يضيق بالقاصدين إليه من الأصحاء الذين بلغتهم شهرة الطبيب في قراهم البعيدة فتأثروا بها واستيقنوا أنهم مرضى وأقبلوا يلتمسون الصحة والشفاء عند هذا الطبيب البارع.
وليس جمال هذه القصة فيما بين الطبيبين من التناقض، ولا في تطبيق هذه القاعدة الغريبة وتحويل الأصحاء إلى مرضى فحسب، وإنما يأتيها الجمال من هذا ومن نواح أخرى قد أعرض لها حين أحلل هذه القصة في غير هذا الفصل. وكأن هذه القصة قد ألهمت الكاتبين اللذين أتحدث عنهما اليوم، وأثارتهما للرد على جول رومان نحوا ما، فكتبا قصتهما هذه ووضعا أمر الطب والأطباء والمرض والمرضى وضعا آخر مخالفا كل المخالفة للوضع الذي لخصته لك آنفا، معاكسا له كل المعاكسة. فقد كان الطب متسلطا على الناس سواء منهم المرضى والأصحاء. في القصة الأولى كان الطب يضطهد طلاب الشفاء ويستبد بهم، أما في هذه القصة فالمرضى هم الذين يضطهدون الطبيب، وهم الذين يريدون أن يخرجوه من طوره وأن يضطروه إلى أن يتخذ طبه تجارة وإلى أن يستغل هذه التجارة استغلالا عنيفا مسرفا لا قصد فيه. والقصة صراع بين الطبيب الذي يريد أن يكون شريفا وأن يظل شريفا مخلصا لنفسه ولشرفه ولحاجة المرضى الذين يعتمدون عليه، وبين الناس الذين يريدون أن يكونوا مرضى وإن أتم الله عليهم نعمة الصحة، ويريدون أن يكرهوا الأطباء على أن يعترفوا لهم بهذا المرض ويداووهم منه، ويمنحوهم من الوقت والجهد والعناية ما ينبغي أن يمنحوه للمحتاجين إليه حقا. وقد نستطيع أن نقول في عبارة موجزة: إن الكاتبين اللذين وضعا هذه القصة أرادا أن يثأرا للأطباء، وأن يضحكا النظارة والقراء من الناس بعد أن عبث جول رومان بالأطباء فأضحك منهم النظارة والقراء.
Bilinmeyen sayfa
وكلتا القصتين مع ذلك صادقة كل الصدق موفقة كل التوفيق، لا تضحكنا إلا لأنها تصور ما يضحك حقا، ولا تحزننا إلا لأنها تصور ما يحزننا حقا؛ فمن الذي يستطيع أن ينكر أن بين الأطباء في كل زمان وفي كل بيئة مشعوذين يتخذون الطب تجارة وتجارة خاطئة آثمة، يخيلون إلى الصحيح أنه مريض ويخيلون إلى المريض أنه مشرف على الموت، لا يبتغون بهذا التضليل إلا الربح وبعد الشهرة والصوت.
فجول رومان إذن لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، وإنما نظر فرآه بين يديه، فوصفه أصدق وصف وصوره أجمل تصوير. وكلنا يستطيع أن ينظر فيرى الطبيب المشعوذ بين يديه، ولكننا جميعا لا نستطيع أن نصفه ولا أن نصوره، وإن كنا جميعا نستطيع أن نشكو منه حين ينشب فينا أظفاره فيبتز منا المال ويوشك أن يبتز منا الحياة، بل هو يبتزها من كثير من الناس. ومن ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الترف والفراغ والوهم وقراءة الصحف والكتب في غير فهم ولا تمييز؛ كل ذلك يحمل كثيرا من الناس على أن يعنوا بأنفسهم أكثر مما ينبغي، ويراقبوا صحتهم أكثر مما ينبغي، ويقفوا تفكيرهم على ملاحظة أجسامهم وما يعرض لها أو ما يظنون أنه يعرض لها من العلة أو مما يتوهمون أنه العلة. هذا يلاحظ قلبه فهو يتسمع خفقانه وهو يتلمس النبض ويعده، وهذا يلاحظ معدته، وهذا يلاحظ كبده، وهذا ينظر إلى لسانه بين حين وحين. وكلهم يظن بصحته الظنون، وكلهم يحدث نفسه عن صحته إذا خلا إلى نفسه، ويحدث الناس عن صحته إذا لقي الناس. وكلهم يود لو أنفق حياته مع الطبيب لا يبخل عليه بالمال، وقليل منهم تتيح له الظروف أن يرضي حاجته وأن يلقى الطبيب متى أراد، وأن يؤثره بخير ما يملك من المال. والأطباء أمام هؤلاء الناس بين رجلين: رجل شريف نزيه ينظر إلى فنه نظرة الجد، ويضن على وقته بالضياع، ويكره أن ينفق جهده في العناية بمن لا يحتاجون إلى العناية، ويكره كذلك أن يأخذ المال في غير استحقاق له؛ فهو يعرض عن هؤلاء الناس ولا يحفل بهم، وإنما يصرفهم عن نفسه صرفا. ورجل آخر يرى العناية بهؤلاء الناس والفراغ لهم مذهبا يسيرا في كسب المال والشهرة لا يكلف صاحبه جهدا ولا جدا، وإنما يغل عليه المال الكثير ويقيم له الثروة الضخمة دون أن يأرق لذلك ليله أو يكدح لذلك نهاره أو يكلف عقله مشقة البحث والتحصيل؛ فيندفع في هذه الطريق السهلة، ويبلغ من رضى هؤلاء الناس عنه ومن بذلهم له ما يريد وفوق ما يريد.
فكما أن جول رومان لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، فهذان الكاتبان لم يخلقا طبيبهما النزيه من لا شيء، وإنما نظرا فوجداه قائما مجاهدا في الحياة يحمي المرضى من عدوان المرض ويحوط العلم والخلق من فساد المشعوذين، فصوراه تصويرا صادقا جميلا. وأكثر قراء العربية يجهلون في أكبر الظن أن أحد هذين الكاتبين، وهو ترستان برنار، من أبرع الكتاب الفرنسيين في الدعابة الحلوة والفكاهة اللاذعة التي تثير الابتسام على الثغور، ولكنها مع ذلك تثير العبرة في النفوس؛ لأنها صادقة مستمدة من الحقيقة الواقعة لا من الخيال المتكلف ولا من التصنع السقيم. وحظ قصتنا من فكاهة هذا الكاتب العظيم لا بأس به؛ فقد انتثرت فيها الملاحظات الصادقة والفكاهات الحلوة انتثارا، فجعلت قراءتها لذيذة حلوة في كل وقت. وأنت تقرأ القصة أو تشهدها، فلا تجد في ذلك مشقة، ولا تحس أن الكاتبين قد وجدا في إنشائها مشقة ما. وأنت مع ذلك تسأل نفسك كيف يمكن تصوير هذا الحق وتوفير هذه اللذة الفنية في غير تعب ولا جهد؟ وجواب ذلك يسير، فهذا ممكن؛ لأن الكاتبين اللذين حاولاه من الفنيين الذين يعرفون كيف يجهدون ويخفون الجهد، وكيف يشقون ويخفون الشقاء.
ونحن في أول القصة في بيت متواضع يقوم في قرية جديدة غير بعيد من باريس، نرى خادما تهيئ مائدة الطعام وهي تتغنى ببعض هذه الأغاني الشعبية المضحكة التي يكلف بها الفرنسيون، وإنها لفي ذلك وإذا سيدتها هيلانة تدخل عليها وتطلب إليها أن تلاحظ طعامها الذي يوشك أن يحترق لكثرة ما أهملته وأعرضت عن ملاحظته إعراضا. ولكن الخادم مطمئنة على طعامها محتاجة إلى أن تتحدث إلى سيدتها حديثا يظهر فيه العبث والمزاح، ولكنه مع ذلك جد كله. فالخادم ساخطة غير راضية، ترى أن مقام سادتها في هذه القرية الناشئة لا يغني عنهم شيئا؛ لأن سيدها طبيب وسكان القرية قليلون، وهم بخلاء لا يثقون بالطب ولا يحسنون البذل للأطباء. وهي تؤكد في ظرف أنها خادم تعلم حق العلم أن ليس لها أن تدخل فيما لا يعنيها وأن تتحدث في مثل هذه الأشياء، وأنها قد رسمت لنفسها خطة ألا تدخل في أمور سادتها وأن تلزم حدها، ولكنها مع ذلك تتجاوز هذا الحد وتلاحظ في غير تحرج أن حياتها وحياة سادتها ليست سهلة في هذه القرية، وهي لا تحب أن تنصح ولا أن تلوم فليس ذلك من حقها، ولكنها مع ذلك تأسف أشد الأسف وتلوم سيدتها أشد اللوم لأنها خالفت رأي والديها وتزوجت من هذا الشاب الطبيب الذي قد يكون بارعا في الطب متقنا للعلم، ولكنه غير محسن لكسب المال ولا موفق إلى تيسير الحياة. وسيدتها تزجرها عن هذا الحديث وتلح عليها في أن تلاحظ طعامها، ولكنها لا تزدجر، ولا تحفل بإلحاح سيدتها ولا تنصرف إلا حين تسمع صوتا تحس منه مقدم سيدها فتسرع إلى المطبخ. وقد فهمنا من حديثها حال هذه الأسرة الصغيرة التي تبتدئ الحياة الزوجية في شيء من الجهد والضيق. ويدخل الزوج جورج فإذا شاب ذكي شديد النشاط، محب لزوجته مفتون بصناعته، ولكنه شقي في بدء حياته لأنه بعيد من المستشفيات التي يستطيع أن يلاحظ فيها المرضى ويتابع فيها البحث العلمي. وهو على ذلك لا يكسب من المال ما يمكن أن يعزيه عن هذا الحرمان؛ فهو في قرية ناشئة لا تطيب نفوس أهلها عن المال، وهو قد ذهب لعيادة طفل مريض فأبعد في المشي ثم رأى الطفل فلم يجد به بأسا، فلما أنبأ أمه بذلك قالت له: فهل ترى بأسا في أن تأخذ نصف الأجر ما دام الطفل لا بأس عليه؟ وغاظه هذا الجواب وهذا البخل فانصرف ولم يأخذ من المرأة شيئا.
والزوجان ينتظران زيارة بعد حين، وهي زيارة ينكرانها ويدهشان لها؛ فهذا عم هيلانة كان ممانعا في اقترانها بهذا الفتى أشد الممانعة، مقاطعا للزوجين منذ اقترنا، وهو الآن ينبئ بزيارته فجأة وبأنه سيشارك هذين الزوجين في الغداء. وهما يتساءلان عن هذه الزيارة ما سببها، وما غايتها. فأما الفتى فيظن أن هذا الرجل إنما أقبل ليرى سوء حال الزوجين وليشمت بهما، ثم ليعود بعد ذلك إلى أسرة الفتاة فيصور لها ما رأى ويلومها على أنها لم تسمع له، ولم تمانع في هذا الزواج. وأما الفتاة فلا تظن ذلك، ولكنها لا تخفي دهشتها من هذه الزيارة، وهي تنتظر وتؤثر الانتظار. على أن الانتظار لا يطول، فهذا صوت العم مقبلا، وما أسرع ما يستخفي الفتى معتلا بالعمل؛ لأنه يكره أن يرى هذا الرجل ويريد أن لا يلقاه إلا على المائدة. ولا يكاد العم يقبل ويتحدث إلى الفتاة حتى يتغير كل شيء، فهو لم يكن يعرف هذا الفتى، ولم يكن يقدر قيمته، حتى لقي أستاذا عظيما من أساتذة الطب منذ أيام فسمع منه ثناء جميلا على هذا الفتى، فأعجب به وأقبل يزوره ويحمل إليه نبأ سارا، وهو يأبى أن يعلن هذا النبأ إلى الفتاة. والفتاة محتاجة إلى أن تعرف النبأ، فهي لا ترى بأسا بأن تدعو زوجها وبأن تصرفه عن العمل الذي كان يريد أن ينقطع له.
ويقبل الفتى، فيكون اللقاء الفاتر أول الأمر، ولكن العم يتقرب إليه ويتلطف له ثم ينبئهما النبأ؛ وإذا هما سعيدان، وإذا المودة بينهما وبين هذا الرجل قوية حقا، وإذا هم جميعا يستعدون لغداء فيه كثير من الفرح والابتهاج وفيه الشمبانيا التي أحضرها العم معه من باريس. ذلك أنه أقبل يعرض على الفتى عملا يعجبه حقا، عملا في مدينة من مدن الاستشفاء قريبة من سويسرا، يقصد إليها المرضى المترفون من أهل أمريكا الجنوبية خاصة وهم يحملون إليها أجساما معتلة تعبث بها أمراض مختلفة غريبة، فسيجد الفتى إذن فرصة للتجربة وفرصة للاستكشاف، وسيجد الزوجان فرجا بعد حرج وسعة بعد ضيق.
ثم يرفع الستار عن الفصل الثاني، فإذا نحن في مدينة الاستشفاء هذه، وإذا الكاتبان يقدمان إلينا نموذجا من هؤلاء المرضى الذين صورتهم في أول هذا الفصل. وهم رجال ونساء مترفون مسرفون في الترف لم تشغلهم هموم الحياة ولم تثقلهم أعباؤها، فشغلوا بأنفسهم عن هذه الهموم والأعباء. وهم مستيقنون بأنهم مرضى وبأن أمراضهم خطيرة حقا. هذه تزعم أن الطبيب السابق قد أنبأها بأن مرضها قد هزم علم الطب، وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد أكبر علتها وعني بها عناية علمية خاصة، فكتب عنها فصلا في مجلة طبية كبرى، ولفتها إلى هذا الفصل فاشترت خمسين نسخة من هذه المجلة. وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد زعم لها أن علتها قد اضطرت الطب الحديث إلى الإفلاس. فأما هذا الرجل الذي أقبل منذ حين، فصرف هؤلاء النساء عما كن فيه من الحديث؛ فرجل غريب الأطوار حقا؛ هو لا يثق بموازين الحرارة لأنها تفسد في سرعة، وقد يتعمد أصحاب الفنادق إفسادها حتى لا يضطروا إلى الإسراف في التدفئة. وهو من أجل ذلك قد استكشف طريقة خاصة يقيس بها حرارة الجو، فهو ينفخ أمامه نفخا يسيرا إذا دخل غرفة من الغرفات، فإذا رأى نفسه فليس من شك في أن الجو بارد إلى حد ما لا ترتفع الحرارة فيه إلى ثماني عشرة درجة، وإذا لم ير نفسه فالجو معتدل أو حار. وهم جميعا ينفخون ليروا أتظهر لهم أنفاسهم. وكلهم يتحدث في المرض والصحة وفي المرضى والأصحاء، وكلهم يشكو من هؤلاء الأصحاء الأثرين الذين يخدعون المرضى ويخيلون إليهم أن ليس عليهم بأس، لا يصدقون في ذلك وإنما يريدون أن يتخففوا من واجب العناية بهم والتفرغ لهم. وكلهم قد شغله مرضه عن كل شيء، عن الأزواج والزوجات وعن البنين والبنات، بل عن قراءة الكتب التي تصل إليهم من أهلهم. ولا ينتهي هذا الفصل حتى يكون الكاتب قد شفى نفسه من هجاء هؤلاء الأثرين الذين تضعف عقولهم وإرادتهم، فيرون أنفسهم مرضى وليسوا من المرض في شيء.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد استقر الطبيب الجديد في عيادته، وقد أخذ يعرف من شئون هذه المدينة شيئا غير قليل، وهو مزدر للطبيب الذي سبقه وإن كان الناس يحبونه، وهو مزدر لأكثر الذين استشاروه من المرضى، قد أغضب منهم جماعة لا بأس بها، زعم لهم أنهم أصحاء وصرفهم وأبى أن يعنى بهم؛ فمنهم من سافر مغضبا، ومنهم يتهيأ للسفر. وأصحاب الفندق وأصحاب الكازينو مغضبون ثائرون، يشفقون من كساد التجارة ومما يتعرض له الكازينو من الخسران. وهم يتقدمون إلى الطبيب في أن يتلطف للمرضى ولا يزهدهم في المدينة ولا يصرفهم عن الفندق والكازينو، ولكن الطبيب لا يحفل بهذا لأنه لم يأت تاجرا ولا مقامرا، وإنما جاء طبيبا. ومع ذلك فزوجه سعيدة في هذه الحياة، قد ضمنت السعة واليسر والترف أيضا. ها هي هذه تشتري فروا غالي الثمن ما كانت لتحلم بشرائه لولا هذا العمل الجديد. وها هي هذه قد أخذت تخالط الأغنياء وتجد في مخالطتهم لذة ونعيما، والطبيب يرى هذا ويقدره ويألم له، ولكنه مع ذلك طبيب لم يهيأ للشعوذة ولا للتأثر لمدرسة الشعوذة هذه، فلن يكون تلميذا نجيبا من تلاميذ هذه المدرسة. وقد انتهى الطبيب بالنزاهة إلى أقصاها، فقد رد أكثر المرضى وهم يسافرون أفرادا وجماعات، وصاحب الفندق جزع ومدير الكازينو ليس أقل منه جزعا.
ويرفع الستار عن الفصل الرابع، وقد اجتمع مجلس إدارة الفندق والمستشفى للتشاور في الأمر وهم يئسون، فليس لهم أمل في التغيير من خطة الطبيب، وهم مضطرون إلى أن يلغوا ما بينهم وبينه من عقد، ولكنهم مشفقون من أن يقاضيهم، لا لأن مقاضاتهم ستكلفهم مقدارا ضخما من المال؛ فأمر المال هين ومهما يتكلفوا منه فلن يكون ما ينفقونه شيئا بالقياس إلى ما يخسرونه في كل يوم بفضل النزاهة التي يتشدد فيها الطبيب.
ورئيس المجلس وهو شيخ قانوني يتوسل إلى الطبيب في حوار ممتع حقا، ولكن الطبيب متشدد. ورئيس المجلس يحاول أن يستعين بحب هيلانة للترف لعلها تقنع زوجها وتغير من خطته، ولكن هيلانة تحب زوجها وتكبره وتكره أن تتقدم إليه فيما لا يريد، وهي تحب الترف وتألم إن حيل بينها وبينه، ولكنها مع ذلك مستعدة للشقاء والحرمان، تضحي بالترف والنعيم في سبيل الاحتفاظ بحب زوجها ورضاه.
Bilinmeyen sayfa