وظل نبع العرعار منذ ذلك الحين مطمح الأنظار حتى من غير أهله، ومحط ركاب حتى الغرباء عن البلاد، ولقد خطر ذات مرة لقوم من عمال قياصرة روما أن يحرزوه، وأن يقدموه قربانا لواحد من آلهتهم شيدوا له هيكلا فوق أطلال هيكل بعل مرقد، فأقاموا للنبع قبوا معقودا بالحجارة الضخمة، وعمدوا إلى الصخور فأفرغوها، ونحتوا منها قساطل لجر المياه، فعرف أجدادنا آنذاك أتعس عهد من عهودهم. غير أن العرعار ما عتم أن حطم قيوده، ومزق قساطل الحجر، وعاد إلى بقاعه يحمل الخير والبركات.
وها نحن اليوم نعيش في كنفه ونتبرك بوجهه سواء في ذلك فقيرنا وغنينا، فقد يولد واحدنا معدما ويعيش معدما لا يملك حجرا يسند إليه رأسه، غير أنه لمجرد ما هو حفيد من حفدة أجدادنا الأولين، سيظل له حق بأن يتملك وحده، ساعة من الزمن كل أسبوع، جميع مياه النبع، يغتسل بها وأهله ويروي بها ما يستأجر من أرض، ويمتع بصره برقراقها، ولعل هذه المساواة في الحقوق حيال العرعار هي كل ما بقي لنا من عهد صبية الجن.
الرصد
قبل أن يتفرق الآلهة في الأرض، فكر بعل كبيرهم أن يدعوهم إلى مأدبة يقيمها لهم في مغارة قاديشا.
وكان الليل الذي اختاره ليلا صافيا نقيا من أعذب ليالي لبنان، أمر فيه الرياح أن تهدأ، والبحر أن يسكن، والهواء أن يعتدل. في الهزيع الأول من ذلك الليل كانت أشباح جبارة تتخطى رءوس جبال الجرمق والريحان والباروك وصنين والعاقورة والشيخ، هابطة من فم الميزاب وضهر القضيب، تسير في مواكب من العظماء والعظيمات على ضوء النيرات المدلاة لهم من أعالي السماء.
فإذا بلغت المواكب الطريق المؤدية إلى المغارة ارتفعت النيرات عائدة إلى سمائها، وداس الآلهة طريقا فرشها لمقدمهم الإله الأكبر برمال من الذهب، تؤدي بهم إلى مغارة غطيت حيطانها بالحرير الأرجواني، وفرشت أرضها بالأخضر منه، وأضيئت جوانبها بأشعة تنبعث من شموع لا تذوب، كأنها من جوهر الماس، وزينت بمختلف أنواع الزهر الشذي النضير، في سلال محبوكة بالنور.
ودعي الآلهة إلى مقاصف ارتفعت على أعمدة من الفضة، فوق مجرى النبع، ووضعت من حولها الطنافس الناعمة النادرة، وقدم الطعام الشهي، وهو من خير ما عرفت الدنيا، والفاكهة، وهي من ألذ ما أنبتت جنائن لبنان، والخمرة المعتقة منذ الأزل في أقبية بعل، أدارها عليهم، في آنية من الإبريز مرصعة بالياقوت والمرجان، صبايا حييات مجللات بالأبيض، مؤتزرات بالأرجوان، أرق أديما وأندى من وجه الفجر.
وكانت الراقصات في أثناء الطعام، يقمن بأبرع ما علمهن بعل مرقد من فنون تحار بها الألباب، على أعذب وأطرب أنغام عرفتها السماء ومرت في أجواء الأرض.
وما أن هم الآلهة بمغادرة المقاصف، حتى وقف الإله الأكبر فقال: لقد قسمت بينكم الأرض، وسيسافر غدا كل واحد منكم إلى حيث أعددت له العباد والهياكل.
ولكنه لا يصلح لنا جميعا أن نتخلى عن حماية هذه الديار أنى أقمنا من الأرض؛ فهي بلادنا الأصيلة ونعيمنا الأول، ترعرعنا في أكنافها، وتظللنا سماءها، وعببنا من أنهارها وينابيعها، وغسل بحرها أقدامنا.
Bilinmeyen sayfa