محمد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السّلماني
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السّلماني، قرطبيّ الأصل، ثم طليطليّ، ثم لوشيّ، ثم غرناطيّ. يكنى أبا عبد الله، ويلقّب بلسان الدين، وهو من الألقاب المشرقية. وزير، طبيب، أديب، مؤرخ، وفقيه مالكي أندلسي.
ولد بمدينة لوشة في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة ٧١٣ هـ.
نشأ لسان الدين بغرناطة، وتأدّب على شيوخها، وهم كثر، فأخذ عنهم القرآن، والفقه، والتفسير، واللغة، والرواية، والطب، وصناعة التعديل.
التزم خدمة عدد من السلاطين كأبي الحجاج والسروي محمد الخامس المعروف بالغني بالله وتعرف على علماء المغرب وأصحاب مناصبها كابن خلدون وغيره وبدأ فيها يكتب بعض آثاره المنظومة والمنثورة.
كما وتقلّد بعض المناصب الحكومية ولذلك كان يتوخى تسلم زمام الأمور على الإطلاق، فأخذ يقوم بإبعاد رقبائه، الأمر الذي كلّفه حياته. حتى أنه لم يكن يحتمل وجود صديقه الشهير عبد الرحمن ابن خلدون في غرناطة، إذ كان يقلقه اهتمام الغني بالله به.
ثم شعر ابن الخطيب بأنّ أعداءه، أخذوا يكيدون له عند الغني بالله، وتخيّل أن الغني بالله أخذ يميل إلى قبول وشاياتهم، فاتّصل سرًّا بسلطان المغرب أبي فارس عبد العزيز بن أبي الحسن المريني، فوعده بأن يؤمّن له الحماية اللازمة والرعاية الكافية، وأخذ منه عهدًا بالإقامة في كنفه. عندئذ استأذن الغنيّ بالله في تفقّد الثغور، وسار إليها في لمّة من فرسانه، ومعه ابنه عليّ، فمال إلى جبل طارق، فتلقّاه قائد الجبل، بناء على أمر سلطان المغرب المذكور أعلاه، فأجاز إلى سبتة في جمادى الآخرة من عام ٧٧٣ هـ، ثم توجّه إلى تلمسان فوصلها في التاسع عشر من رجب من العام المذكور، واستقبله السلطان أحسن استقبال، وأحلّه من مجلسه محل الاصطفاء.
وفي الشهر نفسه من السنة نفسها أرسل سلطان المغرب سفيره إلى غرناطة، فأتى بأسرة ابن الخطيب مكرّمة.
عندئذ وجّه إليه القاضي النباهي تهمة الإلحاد والزندقة والطعن في الشريعة والوقوع في جناب الرسول الكريم، بعد أن نعى عليه تدخّله في شؤون القضاء أيام ولايته القضاء، فأصدر فتوى بإحراق كتبه، فأحرقت في ساحة غرناطة، وصودرت أملاكه، واستحثّ سلطان المغرب على تسليمه لإجراء العقوبة عليه، فرفض. ولمّا توفي سلطان المغرب في ربيع الآخر من عام ٧٧٤ هـ فقد ابن الخطيب حاكمًا مخلصًا يحميه من أعدائه. وأخيرًا أودع في السجن، فطوقوا السجن ليلًا وقتلوه خنقًا. ثم أخرجوا جثته من القبر، وأشعلوا من حوله النار، فاحترق شعره واسودّت بشرته، ثم أعيد إلى القبر قبل أن يحترق، وذلك في ربيع الأول من العام ٧٧٦ هـ.
أفاد ابن خطيب من أبرز أساتذة ذلك العصر ولكنه لم يرب الكثير من التلامذة إذ لم يكن له مجلس درس.
آثاره
وله تأليفات كثيرة تربو على الستّين مؤلّفًا، ما بين كتاب ورسالة، منها: آداب الوزارة، الإحاطة في أخبار غرناطة، أوصاف الناس في التاريخ والصلاة، جيش التوشيح، رقم الحلل في نظم الدول، روضة التعريف بالحب الشريف، ريحانة الكتاب وغيرها.
Bilinmeyen sayfa
مقدمة
أن كتاب «معيار الاختيار فى ذكر المعاهد والديار» لابن الخطيب من اطرف كتب المؤلف الشهيرة، فقد صاغه على هيئة مقامة ادبية ذات منهاج وأسلوب فنى انفرد به لسان الدين روعة وابداعا، مستهدفا وصف اهم المدن الاندلسية والمغربية جغرافيا واجتماعيا كما رآها وعاصرها فى منتصف القرن الثامن الهجرى (منتصف الرابع عشر الميلادى) . فلم تكن المقامة التقليدية لديه هدفا لذاتها من شعوذة واستجداء كما هى عند الحريرى والهمذانى وغيرهما، أو وعظ وتذكير بالدار الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب كما هى عند الزمخشرى والدمياطى وامثالهما، بل ان المؤلف كانت غايته علمية بحتة ابرزها فى صورة ادبية ثقافية ممتعة، وبالرغم من قيود السجع والمحسنات البديعية الا أن وصفه للبلدان فى مناحى شتى قد جاء فى صورة مشوقة تنبض حياة، وتتألق براعة. ويصف المقرى هذا الكتاب فيقول:
«وللسان الدين مقامة عظيمة بديعة، وصف بها بلاد الاندلس والعدوة، وأتى فيها من دلائل براعته بالعجب العجاب «١»» .
ولقد أورد ابن الخطيب «معيار الاختيار» ضمن مؤلفه الادبى الضخم «ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب» الذي ما يزال مخطوطا، وان كان بعض الباحثين قد قام بتحقيق اجزاء منه، فمن اشهر نسخ «الريحانة» التى ورد بها «المعيار» واقتضت طبيعة التحقيق والدراسة الرجوع اليها فى كل من المغرب (الرباط- فاس) وتونس والجزائر والقاهرة واسبانيا وروما:
١- نسختان بدار الكتب بالقاهرة.
الاولى: يوجد منها الجزء الاول وبعض الجزء الاخير فى مجلدين، وبخط مغربى، فى ثناياها ثقوب ونقص واضطراب، وهذان الجزآن مصوران بالفوتوستات عن النسخة الخطية المحفوظة بمكتبة تونس، ويقعان فى ٣٠٩ لوحة، مسجلين برقم ١٩٨٧٥ ز.
1 / 3
الثانية: بها نقص يسير من الخطبة، اولها بعد الديباجة: «.. وسميته لتنوع بساتينه المنسوقة، وتعدد افانينه المعشوقة، بريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب» .. الخ، وتقع هذه النسخة فى مجلدين كتبا بخط النسخ، وقد نقلا عن الجزاين المخطوطين المقيدين بدار الكتب المصرية برقم ٥٢٤ أدب س، ويقعان فى ٤٦٠- ٦٥٠ صفحة، مسطرتها ٢١ سطرا، وقد سجلا تحت رقم ٣٤٥٩ ز، وقد اتخذنا لهذه النسخة فى التحقيق الرمز «د» .
٢- نسخة الاسكوريال بمدريد.
وهى مسجلة برقم ٥٥٤ من فهرس الغزيرى، وهى نسخة جيدة للغاية قد كتبت بخط اندلسى باهت، وتقع فى ٢٨١ لوحة كبيرة، أعنى ٥٦٢ صفحة، بكل صفحة ٢٧ سطرا، وفى كل سطر ١٢ كلمة فى المعدل العام، وقد ذكر فى نهاية هذه النسخة أنها كتبت سنة ٨٨٨ هـ، وقد رمزنا اليها خلال البحث بالرمز «أ» .
٣- جزء مخطوط بمكتبة الفاتيكان الرسولية بروما، مكتوبة بخط مغربى وهى عبارة عن السفر الثالث من «الريحانة»، وعدد لوحاتها ١١٩ لوحة كبيرة، مسجلة برقم ٢٥٢.
وقد احتوى هذا السفر على «معيار الاختيار»، ورمزنا لهذا المخطوط اثناء التحقيق بالرمز «ف» .
٤- قطعة مخطوطة أخرى فى مكتبة الجزائر الوطنية من «الريحانة»، تشتمل على ١٨١ لوحة مزدوجة من القطع الكبير، مكتوبة بأكثر من خط معظمه قديم، والبعض منها- ولا سيما الوسط- قد أكمل مؤخرا، أو بتاريخ أحدث، وهذه النسخة تشتمل على النصف الثانى والاخير من «الريحانة»، حيث تبدا بالفصل الذي يحمل عنوان «جمهور الاغراض السلطانيات»، ويغلب على الظن أن هذه النسخة هى أقدم جزء من المخطوط رقم ٢٠١٠، وقد احتوى هذا الجزء- ضمن ما احتوى- كتاب «معيار الاختيار» موضوع الحديث، وقد رمزنا اليها بالرمز «ج» .
٥- وفى خزانة القرويين بفاس قطعتان من «ريحانة الكتاب»:
الاولى: تضم السفرين الرابع والخامس، وتقع فى ٩٩ لوحة مزدوجة من القطع الكبير، فى كل صفحة منها ٢٧ سطرا، قد كتبت بخط مغربى، وفى نهايتها تاريخ الفراغ من نسخها، وهو يوم الاحد قبل الزوال عام تسعة عشر
1 / 4
ومائة وألف (لم يذكر تاريخ اليوم أو الشهر) وهى برقم ٤٠- ٥٦٥، ورمزها «س» فى تحقيقتا.
أما القطة الثانية: فهى برقم ٣٠١١، وتنطبق عليها نفس أوصاف الاولى ولا سيما الخط.
٦- أما فى الخزانة العامة بالرباط (قسم المخطوطات والمحفوظات) فتوجد عدة نسخ من «الريحانة»، اظهرها واشهرها النسخة الكتانية المسجلة برقم ٣٣١ ك، وهى عبارة عن مجلد ضخم يتألف من ٦٠٩ صفحة من القطع الكبير، وفى كل صفحة ٢٥ سطرا، قد كتبت بخط مغربى واضح، وبها زيادات حديثة، أغلب الظن أنها ليست من انشاء ابن الخطيب، ولا سيما الجزء الخاص بذكر ملوك بنى امية والخلفاء من بنى العباس، وهو غفل من تاريخ كتابته، أما النسخة الاساسية للريحانة فتقع فى ٥٩٩ صفحة، وقد رمزنا اليها بالرمز «ك»
وتوجد بنفس هذه الخزانة غير التى ذكرنا- سبع نسخ من «الريحانة» قد اشتمل معظمها على «معيار الاختيار» وفيما يلى ما تضمن منها «المعيار»:
فأولها: نسخة كاملة عبارة عن مجلدين من الحجم المتوسط، ويشتمل أولها على ٢٢٢ لوحة، مكتوبة بخط مغربى واضح. والمجلد الآخر عبارة عن ٢١٥ لوحة من نفس الحجم، وقد كتب بنفس الخط المغربى الواضح. وهذه النسخة بمجلديها مسجلة برقم ٢١٩٥ بالمكتبة الملكية، وقد رمزنا اليها بالرمز «ل» اثناء التحقيق.
وثانيتها: تشتمل على السفرين الرابع والخامس من «الريحانة» وعدد لوحاتها ١٤٥ لوحة من الحجم الصغير، ورقم التسجيل ٦٠٠
وثالثها: عبارة عن النصف الثانى من «الريحانة»، وهى نسخة تحتوى على الاسفار الرابع والخامس والسادس، وتقع جميعها فى ١٨٦ لوحة.
ورابعها: نسخة ذات اوراق بالية وقديمة تشمل ٤٠ لوحة كبيرة، قد كتب على الصفحة الاولى منها «السفر الثالث من ريحانة الكتاب»، وفى نهاية اللوحة الاخيرة عبارة «كمل السفر الخامس» ورقم تسجيلها ٦٤٠٠.
1 / 5
هذا، ولا يغيب عن الفكر أن هناك نسخا أخرى من مؤلف ابن الخطيب «ريحانة الكتاب» فى حوزة المكتبات الخاصة، جلها فى المغرب الاقصى، ومعظمها قد انتظم «معيار الاختيار»، بيد أنه لا يتسنى للباحث أن يستدل ويطلع عليها فى سهولة ويسر لسبب أو لآخر، فمن ذلك على سبيل المثال النسخة الجيدة التى بمكتبه صديقى الاستاذ عبد الكبير الفهرى الفاسى بالرباط، وقد تصفحت سفرا خاصا ب «معيار الاختيار» فوجدتها نسخة قريبة الشبه خطا ونسخا من النسخة الاولى الخاصة بالمكتبة الكتانية التى أشرنا اليها فى ثنايا الحديث عن نسخ الخزانة العامة بالرباط.
ونرى- بهذه المناسبة- أن نذكر أن مؤرخ المملكة المغربية الاستاذ عبد الوهاب بن منصور قد أخبرنا فى صدد «معيار الاختيار» بأنه سبق أن رأى نسخة تكاد تكون فريدة منه لدى أحد شيوخ مدينة «تلمسان» منذ مدة طويلة، وترجع أهميتها لكون هذه النسخة قد اشتملت على وصف تلك المدينة وهو ما تنفرد به من دون النسخ الاخرى الخالية منها تماما، ويعزز رواية الاستاذ عبد الوهاب وجود وصف مدينة تلمسان فى كتاب «نفح الطيب» (ج ٩ ص ٣٤٠- ٣٤١) وهو لابن الخطيب كما اثبته المقرى، والاسلوب فى الوصف على نمط الاسلوب الذي انتهجه المؤلف فى «معيار الاختيار» من بداية بالاستفسار: «قلت فمدينة تلمسان؟ فاجابة من الراوى: قال:
«تلمسان مدينة جمعت بين الصحراء والريف، ووضعت فى موضع شريف..
الخ»، ثم يعقب وصفه للمدينة بما عودنا من ايراد أبرز المثالب كمثيلاتها، فقال: «.. ألا أنها بسبب حب الملوك، مطعمة للملوك. ومن أجل جمعها الصيد فى جوف الفرا، مغلوبة للامراء،.. الخ» .
حقا لقد كانت «تلمسان» يومئذ ضمن مملكة بنى مرين حينما امتد ملكهم الى الجزائر عام ٧٩٦ هـ (١٣٩٣ م)، واضحى ملك بنى زيان تابعا لبنى مرين، وبقى الامر كذلك حتى دب الضعف فى الدولة المرينية، واستبد بنو وطاس ووزراؤهم بالامر، فهيأ ذلك لبنى زيان أن يستقلوا مرة أخرى بأمر تلمسان، كما هيا مثل هذا الاستقلال للاشراف أن يظهروا فى مراكش بجنوب المغرب «١» .
وقد وفد ابن الخطيب فى ذلك الابان على مدينة تلمسان سفيرا ثم زائرا، وأخيرا عندما لجا فارا من الاندلس، حيث احتمى بظلال بنى مرين على ما
1 / 6
سنفصله فى الترجمة للمؤلف من بعد، الامر الذي يقطع بأن المؤلف أورد وصف تلمسان ضمن «المجلس الثانى» الخاص بأهم المدن المغربية، كما لا نستبعد من ناحية أخرى أن تأليف لسان الدين للمعيار كان زمن امتلاك المرينيين لتلمسان، وربما كان ذلك أواخر أيامه، حيث أتيحت له أكثر من فرصة لدراسة المدينة وسواها من مدن المغرب، ورسم صورة واقعية لها، كعهدنا به نحو المدن الاخرى التى تناولها بالوصف فى مؤلفه هذا.
لقد كنت تواقا الى رؤية تلك النسخة، عسى أن أتمكن من ازالة علامة الاستفهام التى ترتسم حيال بقية النسخ من «الريحانة» المشتملة على «معيار الاختيار» والتى خلت- للاسف- من وصف مدينة «تلمسان»، ومن يدرى فربما كانت نسخة الجزائر اقرب من غيرها الى عصر المؤلف أن لم تكن قد نسخت على أيامه، ولكن ما الحيلة وقد طوى الزمن صاحب النسخة، ولا ندرى بالتالى الى من آلت، هذا أن لم تكن قد انقرضت هى بدورها حيث لم نسمع عنها حتى يومنا هذا من قريب أو بعيد، ولم تتناولها من قبل فهارس المستشرقين، كما لم تشر اليها أقلام الباحثين من المهتمين بالتراث الاندلسى خاصة.
وعلى اى حال فلا مناص من الحاق وصف مدينة «تلمسان» فى نهاية «المجلس الثانى» للمدن المغربية، وذلك نقلا عن «نفح الطيب» بنصه، مقدرا للاستاذ عبد الوهاب بن منصور لفتته العلمية.
هذا، وقد نوهت اثناء عرض الكتاب ب «الفصل الثالث» أن النسخة التى رأيت أنها أوفى واحق بالاعتماد فى التحقيق- مع اعتبار بقية النسخ- هى نسخة الاسكوريال (٥٥٤) .
وقد رأيت استكمالا للفائدة، والماما بما قد يحتاجه الباحث أن اختط فى هذا التحقيق النحو التالى فى أربعة فصول:
الفصل الاول:
وقد أوردت فيه ترجمة تكاد تكون وافية بالغرض لحياة المؤلف «لسان الدين ابن الخطيب» .
الفصل الثانى:
وبه بيان لوجهة نظر بعض المستشرقين والباحثين تجاه ابن الخطيب.
1 / 7
الفصل الثالث:
وقد أوردت فيه دراسة خاصة ب «معيار الاختيار» فى عرض تحليلى من الناحيتين الادبية والتاريخية، واهمية الكتاب كعمل أدبى، ثم كوثيقة تاريخية هامة.
الفصل الرابع:
وقد أوردت فيه «المجلس الاول» من النص، وهو الخاص بوصف «المدن الاندلسية» .
الفصل الخامس:
وقد أوردت فيه «المجلس الثانى» من النص، وهو الخاص بوصف «المدن المغربية» . وفى ذيلا كلا «المجلسين» اثبت فى التعليق ما اقتضاه التحقيق، واستوجبته الدراسة.
ولا يسعنى- اذ أقدم هذا العمل كتحقيق جديد فى مجال التراث الاندلسى- الا أن أعترف بالفضل لكل سابق فى هذا الميدان، ولا سيما حيال من أسهموا بدراسة أو تحقيق لابن الخطيب ومؤلفاته فقد كانت بحوثهم عونا جديرا بالتقدير، كما اذكر لاستاذنا العلامة عبد الله كنون فضله فى هذا العمل، جزاه الله خير الجزاء، وانوه بسبق الزميل الدكتور أحمد مختار العبادى، معترفا بالاستفادة الحقة من دراسته فى هذا الموضوع.
أخيرا، آمل بهذا التحقيق- على هذه الصورة- لكتاب «معيار الاختيار» أن أكون قد أسهمت بلبنة فى صرح الذخائر الاندلسية.
والله أسأل أن يجد فيه رواد الفكر وعشاق التراث ما ينشدون أو يؤملون، أنه سميع قريب، وبالاجابة جدير.
وهو- سبحانه- ولى التوفيق
المحقق دكتور محمد كمال شبانه أستاذ التاريخ والحضارة الاسلامية بجامعات المغرب
القاهرة/ ٢- ٣- ٢٠٠٢
1 / 8
الفصل الأوّل حياة ابن الخطيب وآراء بعض المستشرقين حوله
1 / 9
ابن الخطيب ٧١٣- ٧٧٦ هـ (١٣١٣- ١٣٧٤ م)
ثانى اثنين أرّخا لعصر بنى الأحمر، فكشفا عن السلالة النصرية، حتى عصرهما الذي عاشاه جنبآ الى جنب، ولم ينل من علاقتهما الطيبة سوى التنازع على المزيد من السلطة، فى دولة طالما استبد فيها الحجاب والوزراء، وانتقصوا من سلطة السلطان، فكانت نهايتهم على يدى من نازعوهم أمور المملكة، بايعاز من صاحب سلطة قضائية أو ادارية، وهذا ما حدث بين ابن الخطيب، وبين قاضى الجماعة أبى الحسن على النباهى الجذامى، على نحو ما سنرى من خلال سيرة الأول.
هو لسان الدين أبو عبد الله محمد، بن عبد الله، بن عبد الله، بن سعيد، بن على، بن أحمد، السلمانى، نسبة الى سلمان، بقعة باليمن نزلت بها بعض القبائل القحطانية، وكانت أسرة ابن الخطيب احدى هذه القبائل، ومن اليمن وفدت الأسرة الى الأندلس، حيث اتخذت قرطبة مقرا لها.
ثم هاجرت الأسرة الى طليطلة- كما أخبر بذلك ابن الخطيب نفسه فى مقدمة «الاحاطة» - عام ٢٠٢ هـ ٨١٧ م، وهو العام الذي حدثت فيه ثورة أهل الربض بقرطبة، ضد أمير الأندلس الحكم بن هشام، حيث حرض الفقهاء أهل الربض ضد الأمير، ولكن الحكم قضى على الثورة فى الموقعة المشهورة
1 / 11
ب (موقعة الربض) وشنتت شمل القائمين بها، فنفى من نفى، وشرد من شرد، وغادر قرطبة جمهور من المعارضين وعديد من العلماء، ومن هؤلاء أسرة ابن الخطيب، حيث قصدت طليطلة، فبقيت بها قرابة قرن ونصف، ولما أحست أسرة المترجم له بالخطر المحدق بالمدينة- حيث أصبحت هدفا للأسبان فى أواسط القرن الخامس الهجرى (أوائل القرن الثانى عشر الميلادى) - بادرت بالنزوح عنها الى مدينة لوشة «١» مسقط رأس ابن الخطيب فى ٢٥ رجب ٧١٣ هـ (١٦ نوفمبر ١٣١٣ م) .
تربى ابن الخطيب فى أسرة عرفت بالاصالة والعلم والجاه، فقد كان أبوه عبد الله من أكابر العلماء والخاصة، كما أخبر بذلك ابن الخطيب نفسه، حيث ترجم لأبيه فى كتابه (الاحاطة فى أخبار غرناطة) فروى لنا أنه ولد فى (٦٧٢ هـ ١٢٧٣ م) واستقر حينا فى غرناطة، ثم عاد الى لوشة مقر الأسرة، ثم رجع الى غرناطة أخيرا، حيث التحق بخدمة السلطان أبى الوليد اسماعيل ملك غرناطة (٧١٣- ٧٢٥ هـ- ١٣١٤- ١٣٢٤ م) .
وقد كانت أسرته تحمل اسم «الوزير» الى أن جاء جده سعيد فعرفت باسم «الخطيب» .
ولما توفى هذا السلطان، وخلفه ابنه السلطان أبو عبد الله محمد، التحق والد ابن الخطيب بديوان كتابته أيضا، ثم بأخيه السلطان أبى الحجاج يوسف (٧٣٣- ٧٥٥ هـ- ١٣٣٣- ١٣٥٤ م)، حيث عاصر الكاتب الكبير، والرئيس العظيم أبا الحسن على بن الجيّاب، والذي منح من قبله لقب الوزارة، وأخيرا سقط عبد الله مع ولده الأكبر- أخى لسان الدين- قتيلا فى موقعة طريف الشهيرة، التى تمخضت عن فوز الأسبان على المسلمين من الأندلس والمغرب، وسقوط كل من طريف ثم الجزيرة الخضراء وقلعة بنى سعيد، وذلك فى جمادى الأولى ٧٤١. هـ (١٣٤٠ م) .
1 / 12
لقد نشأ ابن الخطيب فى العاصمة غرناطة، وتلقى بها دراسته «٢»، فقد كانت وقتئذ ميدانا احتشد فيه الأكابر من العلماء والأدباء، فدرس اللغة والشريعة والأدب على جماعة من أقطاب العصر، مثل «أبى عبد الله بن الفخار الألبيرى» شيخ النحاة فى عصره، «وأبى عبد الله بن مرزوق» فقيه المغرب الكبير، «والقاضى أبى البركات بن الحاج البلفيقى»، ودرس الأدب والشعر على الوزير «أبى عبد الله ابن الحكيم اللخمى» وعلى الرئيس «أبى الحسن على بن الجياب»، وغير هؤلاء، كما درس الطب والفلسفة على حكيم العصر وفيلسوفه الشيخ «يحيى بن هذيل» . فلا نبالغ اذن اذا قلنا: ان غرناطة- فى ذلك الوقت- كانت أعظم مركز للدراسات الأدبية والعلمية والاسلامية، فى هذا القطر الغربى من العالم الاسلامى، وكان هذا من حظ ابن الخطيب الى حد بعيد.
هذا، وقد تأثر مستقبل ابن الخطيب السياسى بحكم منصب والده، فمنذ شب عن الطوق ونفسه تطمح للوصول الى مركز أبيه، فلما توفى الوالد دعى ابنه للخدمة مكانه، وكان حينئذ فى الثامنة والعشرين من عمره، حيث تولى أمانة السر لأستاذه الرئيس «أبى الحسن بن الجياب» وزير السلطان ابى الحجاج يوسف الأول النصرى وكاتبه «٣»، ثم خلف أستاذه فى الوزارة، وتقلد ديوان الانشاء لهذا السلطان، وكان ابن الخطيب يومئذ قد ملك زمام أرفع الأساليب شعرا ونثرا، بفضل أستاذه الراحل، وظهر أثر هذه التلمذة على رسائله السلطانية، التى حررها بقلمه على لسان ملوك الأندلس والمغرب، والتى نعتها المؤرخ ابن خلدون بالغرائب، وقد جمع ابن الخطيب نفسه منها الكثير فى كتابه «ريحانة الكتاب، ونجعة المنتاب»، كما أورد المقرى عددا منها فى مؤلفه «نفح الطيب»»
، ويعتبر كتاب ابن الخطيب «كناسة الدكان بعد انتقال السكان» مجموعة من الرسائل السلطانية التى تمثل العلاقات السياسية بين غرناطة والمغرب، فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى، على لسان سلطانه يوسف الأول ابن الأحمر، الى معاصره فى فاس أبى عنان فارس المرينى.
1 / 13
ولقد كسب ابن الخطيب ثقة هذا السلطان الغرناطى، حيث قربه من مجلسه، وخلع عليه الجم من النعم، كما أنه أصبح أثيرا لديه، مودعا اياه أمانة سره وكتابته، وذلك لروعة هذه المكاتبات السلطانية التى دبجها له من جهة، ولنجاح سفاراته مع ملوك النصارى والمغرب من جهة أخرى، فقد بعثه عاهل غرناطة سفيرا الى أبى الحسن المرينى ملك المغرب عام ٧٤٩ هـ (١٣٤٨ م) .
ولما توفى السلطان أبو الحجاج يوسف قتيلا- فى يوم عيد الفطر ٧٥٥ هـ (١٩ أكتوبر ١٣٥٤ م) - خلفه فى الملك ولده السلطان محمد الخامس الغنى بالله، واستمر ابن الخطيب فى معاونة الوزير أبى النعيم رضوان على خدمة السلطان الجديد، كما تولى الوصاية على الأبناء القصر للسلطان المتوفى، ثم قام بسفارة الى السلطان «أبى عنان فارس المرينى» عام ٧٥٥ هـ ١٣٥٤ م، ولقد نجح ابن الخطيب فى مهمته هذه نجاحا عظيما، ذلك أن ملك المغرب استجاب للمطالب التى حملها ابن الخطيب لصالح ملك غرناطة، وفى مقدمتها العون الحربى لمقاومة أطماع ملك قشتالة.
ولقد ظفر ابن الخطيب بمكانة ممتازة لدى الغنى بالله، اذ منحه ثقته كأبيه من قبل، وخلع عليه لقب (ذو الوزارتين)، لجمعه بين وزارة القلم ووزارة السيف.
ولكن حدث أن اندلعت الثورة بغرناطة، فى رمضان ٧٦٠ هـ ١٣٥٩ م، ونتج عنها فقدان السلطان الغنى بالله لملكه، واستيلاء أخيه الأمير اسماعيل على العرش، كما تمخضت هذه الثورة عن مقتل الحاجب أبى النعيم رضوان، ثم فرار الغنى بالله الى وادى آش «٥»، وعليه فأصبح ابن الخطيب لا يملك من الأمر شيئا، غير أنه حاول أن يستميل السلطان الجديد، فقبله فى منصب الوزارة مؤقتا، ثم تشكك بعد قليل فى نواياه، وذلك بتحريض منافسيه وحساده، فقبض عليه، وصادر أملاكه، وبذلك فقد ابن الخطيب جاهه ونفوذه، بل ومتاعه بين عشية وضحاها.
1 / 14
لم تطل هذه النكبة بابن الخطيب، فقد بعث ملك المغرب السلطان أبو سالم سفيره (الشريف أبا القاسم التلمسانى) الى ملك غرناطة الجديد، يطلب اليه أن يسمح للملك المخلوع (الغنى بالله) ووزيره ابن الخطيب بمغادرة الأندلس الى المغرب ضيفين عزيزين، فرضخ سلطان غرناطة لهذا الطلب، سياسة منه فى الابقاء على أواصر الوداد مع بنى مرين، واحتفاظا بهم سندا لمستقبل الدولة الاسلامية بالأندلس. ولهذا أطلق سراح ابن الخطيب، ولحق بسلطانه، حيث لجأ إلى وادى آش، ومن ثم الى المغرب، ومعهما نفر كبير من الحاشية، فوصل الركب فاس فى محرم ٧٦٠ هـ (ديسمبر ١٣٥٨ م) حيث استقبلهما السلطان أبو سالم استقبالا حارا، واحتفل بقدومهم احتفالا عظيما، وألقى ابن الخطيب فى هذه المناسبة- بين يدى المضيف- قصيدته الشهيرة «٦»، يستنصره ويستصرخه؛ ليعين سلطانه على أمره.
ويشهد ابن خلدون المؤرخ ذلك الحفل- بصفته من كبار رجال البلاط المرينى- فيصفه لنا ويقول: «إن ابن الخطيب استولى على سامعيه، فأبكاهم تأثرا» .
هذا وقد طاب العيش لابن الخطيب بالمغرب فى رعاية السلطان «أبى سالم»، الذي أقطعه الأراضى، ورتب له الرواتب، حيث استقر فى مدينة «سلا» «٧» حوالى ثلاثة أعوام منفيا ٧٦٠- ٧٦٣ هـ (١٣٥٨- ١٣٦١ م)، اقتنى خلالها الضياع والأموال، ولكن لم ينس- فى الوقت نفسه- نزعته الثقافية والتأليفية، فجاس خلال مدن المغرب دارسا باحثا، ملتقيا بالعلماء فى تجواله، وفى نهاية المطاف يرجع الى سلا، حيث يرابط بضاحية «شالة»، قرب أضرحة ملوك بنى مرين.
1 / 15
ولقد أصيب ابن الخطيب- ابان هذه الفترة- فى زوجته أم أولاده، وبالرغم من كل ما أصابه من نكبات متوالية فانه لم يقعد عن التأليف، ولم يخلد الى الراحة والسكينة، ويكفى دليلا على هذا تلك المؤلفات التى حررها وقتئذ، ومن أهمها:
١) معيار الاختيار، فى ذكر المعاهد والديار (هذا الكتاب) .
٢) نفاضة الجراب، وعلالة الاغتراب.
٣) اللمحة البدرية، فى تاريخ الدولة النصرية.
٤) الحلل المرقوقة، فى اللمع المنظومة «٨» .
٥) رقم الحلل، فى نظم الدول.
٦) كناسة الدكان، بعد انتقال السكان.
٧) رسائل فى فنون مختلفة، معظمها نظمه شعرا.
وفى هذه الأثناء تم انقلاب فى فاس، ترتب عليه مصرع السلطان أبى سالم، فى ذى القعدة ٧٦٢ هـ (١٣٦٠ م)، وتقلد السلطان صاحب الانقلاب الوزير عمر بن عبد الله، الذي أعان ابن الأحمر المخلوع على أمره، ووقف الى جانبه فى استرجاع عرشه، حتى سنحت الفرصة، وواتت الظروف، باندلاع ثورة جديدة فى غرناطة، صرع فيها السلطان اسماعيل بن الأحمر على يد الرئيس أبى سعيد، الذي فر الى (قشتالة) عقب عودة الغنى بالله الى الأندلس، واستيلائه على ولاية مالقة، ثم دخوله غرناطة، وتربعه على العرش من جديد عام ٧٦٣ هـ- ١٣٦١ م.
لقد استدعى سلطان غرناطة الجديد، محمد الخامس الغنى بالله، وزيره المنفى ابن الخطيب، ليقدم الى دار ملكه، برسالة مؤرخة: ١٤ جمادى الآخرة ٧٦٣ هـ (١٥ أبريل ١٣٦١ م) وليتقلد منصبه السابق، فاستجاب ابن
1 / 16
الخطيب، وجاز البحر صحبة أسرة السلطان وأسرته، ثم وصل العاصمة، وهناك وجد من يزاحمه منصبه، وينافسه السلطة، وهو شيخ الغزاة (عثمان بن أبى يحيى)، صاحب اليد على السلطان فى استرجاع العرش، فنشب خلاف بين الرجلين، وحقد كلاهما على الآخر، ولكن ابن الخطيب كان أشد مراسا بأساليب الكيد والدس، فتغلب على خصمه؛ اذ زين للسلطان خطورة نفوذ عثمان هذا، وبدأ يخيفه من غدره وغدر أشياعه، فاستجاب ابن الأحمر لنصح ابن الخطيب، وقضى على عثمان وآله فى شهر رمضان ٧٦٤ هـ- ١٣٦٣ م، وبذلك استرد ابن الخطيب كامل سلطته، دون مناوئ أو منافس، ولكن الى حين، فقد شعر مرة أخرى بما يحاك حوله من دسائس ومكائد، ورأى سلطانه يتأثر بسعاية الخصوم، وقد تزعم هذه الحملة الجديدة ضد ابن الخطيب رجلان وثيقا الصلة بالسلطان بحكم وضعيتهما فى الخدمة السلطانية، ولمكانتهما السياسية فى الدولة، وهما:
١) الشاعر محمد بن يوسف المعروف ب «ابن زمرك» تلميذ ابن الخطيب، ومعاونه فى الوزارة.
٢) قاضى الجماعة أبو الحسن على بن عبد الله النباهى، ولى نعمة ابن الخطيب.
وحينئذ شعر ابن الخطيب بخطورة موقفه عند السلطان، بين هذين الرجلين الداهيتين، فدبر أمره على مغادرة الأندلس نهائيا، دون أن يشعر السلطان مطلقا بذلك، وفعلا طلب منه أن يأذن له فى تفقد بعض الثغور والموانئ الأندلسية، فأجابه السلطان، وكان وزيرنا- من جانبه- قد أعد العدة للابحار الى المغرب، حيث يحل ضيفا لاجئا على السلطان أبى عنان فارس بن أبى الحسن المرينى، وقد تم له ذلك بوصوله الى جبل طارق، الذي كان يومئذ ضمن أملاك المرينيين، ونجحت الخطة، اذ استقبله قائد الميناء بحفاوة، وسهل له مهمته، بأمر من سلطان المغرب، وأجازه الى سبتة هو ومن معه من ولده، وقبل أن يودع هذه البقاع بعث برسالة مؤثرة الى السلطان الغنى بالله
1 / 17
يعلل فيها مسلكه هذا، ويبرر تصرفه الاضطرارى، وأخيرا يطلب غفرانه، راجيا عونه لأسرته التى خلفها وراءه فى غرناطة.
وصل ابن الخطيب الى سبتة ومنها التحق بتلمسان، مقر السلطان عبد العزيز الذي احتفى به وأكرمه، ثم بعث بسفرائه الى غرناطة، يلتمس من سلطانها ان يجيز أسرة ابن الخطيب، فأجابه ابن الأحمر الى طلبه، وكان ذلك عام ٧٧٣ هـ- ١٣٧١ م.
وكان من المتوقع أن يهنأ ابن الخطيب بهذا المقام بالمغرب، فالسلطان قد أحله مكانته اللائقة به، وأبدله مما فقد الشيء الكثير، ولكن- للأسف- اتخذ منافسوه بغرناطة من هربه- على هذه الصورة- مادة دسمة للكيد، وأكدوا للسلطان محمد الخامس ابن الأحمر ادانته، وعدم وفائه لولى نعمته، وزاد الاتهام تأكيدا أن ابن الخطيب كان حريصا على أن يحمل معه أمواله وذخائره الى المغرب، وفى هذا يخاطب القاضى النباهى غريمه- فى الرسالة المعروفة التى بعث بها اليه: «فهمزتم ولمزتم، وجمعتم من المال ما جمعتم، ...، ثم هربتم بأثقالكم» «٩» .
كان القاضى النباهى فيما سبق من أنصار الوزير ابن الخطيب، بل إن تعيينه قاضيا للجماعة واستصدار ظهير هذا المنصب قد تم على يدى ابن الخطيب نفسه، كما نجد فى كتاب الاحاطة ترجمة للنباهى تنبئ عن تقدير ابن الخطيب لهذا الرجل؛ اذ ينعته بأنه «قريع بيت مجادة وجلالة، وبقية تعين وأصالة، عف النشأة، طاهر الثوب، مؤثر للوقار والحشمة، بعيد الغور، مرهف الجوانب، ناظم، ناثر، نثره يشف عن نظمه، ذاكر للكثير، بعيد المدى فى باب النزاهة، ماضي غير هيوب ... الخ»، ولكن ذلك «النباهى» تنكر تماما لابن الخطيب، ولم يحفظ له هذا الجميل؛ فقد آزر الوزير «ابن زمرك» ضده، وسعى سعيا حثيثا فى سبيل القضاء عليه، وتتجلى هذه الروح الشريرة، وما يمليه الحقد الشخصى، والضغائن الدفينة، فى تلك
1 / 18
الرسالة التى بعث بها القاضى النباهى الى ابن الخطيب بالمغرب، وفيها يعيب عليه الانصراف الى اقتناء الضياع والديار، كما أنه نسب اليه- فى بعض مؤلفاته- بعض محدثات فى الدين، مما يمس الشريعة الاسلامية، كما تناول فى بعض هذه المؤلفات الأموات من الناس، وذلك بالطعن أو العيب فيهم، الأمر الذي يستنكره الدين....، الى آخر ما جاء فى تلك الرسالة من هذه المثالب، وحتى مغادرة ابن الخطيب للأندلس مؤخرا- على تلك الصورة- رأى فيها النباهى غدرا بالسلطان ولى نعمته، كما كذبه فى ادعائه الانقطاع للعبادة فى المغرب، وأنه لو أرادها حقيقة لقصد الديار المقدسة، أو أبقى على نفسه بغرناطة بجوار الكفاح والجهاد، لنصرة المملكة الاسلامية التى يتهددها خطر الأسبان كل حين.
وفى الأخير ينهى النباهى رسالته بالنيل من أسرة ابن الخطيب، بأنها حديثة النعمة، وأن ثروتها هذه لم تأت الا عن طريق المنصب والسلطة..
وقد كان لهذه الرسالة أثر كبير فيما بعد؛ حيث كانت صك الاتهام، وأدين ابن الخطيب على أساس ما ورد فيها، وذلك عندما حلت نكبته، ودنت ساعة نحسه «١٠» .
هذا، ويرجع تاريخ الرسالة هذه الى أواخر جمادى الأولى ٧٧٣ هـ- ١٣٧١ م، وقد تسلمها ابن الخطيب بتلمسان، وأجاب على ما جاء بها مفصلا، فى كتابه «الكتيبة الكامنة فيمن لقيناه بالأندلس من شعراء المائة الثامنة»، وشدد النكير على القاضى النباهى، عندما وصقه بأنه «الجعسوس» أى: القزم الدميم، وزاد ابن الخطيب فوضع رسالة خاصة للنيل من خصمه اللدود، وسماها «خلع الرسن، فى وصف القاضى أبى الحسن» .
ظل القاضى النباهى وابن زمرك على عزمهما بسحق غريمهما ابن الخطيب، فبعد احراق كتبه العقائدية، عهد النباهى الى قضاة غرناطة باستصدار حكم الشرع فى جريمة الالحاد، وهو الاعدام، وحصل من السلطان على مصادقة بهذا
1 / 19
الحكم، وبعث القاضى أبو الحسن بنوابه الى السلطان عبد العزيز وبأيديهم هذا الحكم، فقابل السلطان رسل غرناطة بالاستنكار، وخاطبهم قائلا: «هلا أنفذتم فيه حكم الشرع وهو عندكم، وأنتم عالمون بما كان عليه!!!» وبالغ فى اكرام ابن الخطيب، وأضفى عليه مزيدا من عنايته.
وتجدر الاشارة هنا الى أن ابن الخطيب قد لاحظ وقتئذ قوة المغرب فى عهد صديقه السلطان عبد العزيز، ومبلغ العداء بين فاس وغرناطة وقد بلغ أوجه، فحرض السلطان على ضم غرناطة لمملكته، وقد رمى من وراء ذلك الى سحق أعدائه هناك، وتأمين مقامه بالمغرب، وما يتبع ذلك من حماية مصالحه.
ويظهر أن هذه السياسة قد لاقت قبولا عند السلطان عبد العزيز، فصمم على تنفيذها، وفى ذلك يقول ابن خلدون: «ثم تأكدت العداوة بينه (ابن الخطيب) وبين ابن الأحمر، فرغب السلطان عبد العزيز فى ملك الأندلس وحمله عليه، وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان الى المغرب «١١»»، وبلغت ابن الأحمر رغبة ملك المغرب هذه، فتخوف لذلك كثيرا، وأسرع الى ايفاد رسله بالهدايا والتحف الثمينة الى بلاط فاس، آملا فى نيل رضا السلطان عبد العزيز، واتقاء شره. ثم تفاجئ الظروف الموقف، فيموت السلطان عبد العزيز بعدئذ بقليل، ويجلس على عرش المغرب ابنه «أبو زيان محمد السعيد» طفلا فى الرابعة من عمره، فى ربيع الآخر ٧٧٤- ١٣٧٢ م، وقبض على زمام السلطة الفعلية وزيره «أبو بكر بن غازى»، فتغيرت الأوضاع السياسية بالمغرب تماما، واضطر ابن الخطيب حينئذ أن يتزلف الى الملك الطفل ووزيره، فألف كتابه المعروف باسم «أعمال الأعلام، فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الاسلام»، وفيه يبرر هذا الوضع الجديد شرعا، وعرفا وتاريخا، وأورد لذلك الأشباه والنظائر، ردا على المناهضين بالمغرب، وخاصة بنى الأحمر وعملائهم.
1 / 20
وفى هذه الأثناء قام السلطان ابن الأحمر بمحاولة أخرى للايقاع بابن الخطيب، وذلك بأن أوعز الى الوزير «ابن غازى» أن يبعث اليه بابن الخطيب، فامتنع ابن غازى، وتوترت العلاقات مرة أخرى، بين غرناطة وفاس، الأمر الذي جعل ابن الأحمر يوغر صدور هؤلاء الأمراء المرينيين ضد النظام القائم فى فاس، وبذل فى سبيل القضاء على هذا النظام مساعدات ضخمة، كما أقنع من اتصل بهم من حكام الأقاليم- وخاصة حاكم سبتة أبا محمد بن عثمان- بأن من الأفضل للمغرب أن يكون الملك رجلا راشدا، لا طفلا صغيرا، لا يدرك شيئا، واتفق معه على تنصيب الأمير المرينى أبى العباس أحمد بن أبى سالم ملكا على المغرب، وأنه- أى محمد بن عثمان- سيكون الوزير مستقبلا، وأعطاه المزيد من المساعدات الهائلة لتنفيذ هذا الاتفاق، على أن يحقق هذا الوزير لابن الأحمر ثلاثة مطالب، بعد نجاح الخطة، وهى:
١) تسليم ابن الخطيب.
٢) تسليم الأمراء المناهضين لابن الأحمر.
٣) تسليم جبل طارق.
ووقعت بعض الحوادث بالمغرب، وتمخضت عنها ثورة قاضية، أدت الى حدوث الانقلاب المنشود لابن الأحمر، ونودى حينئذ بالأمير أحمد بن السلطان أبى سالم واليا على المغرب (٧٧٦ هـ- ١٣٧٤ م) .
وهنا أسرع السلطان الجديد بالقبض على ابن الخطيب، وسجنه، وبذلك تهيأت الفرصة لوضع نهاية الوزير المنكود؛ فقد كان الوزير الجديد ببلاط فاس سليمان بن داود من ألد خصوم ابن الخطيب، ومن جهة أخرى فقد أرسل سلطان غرناطة سفيره ووزيره عبد الله بن زمرك الى فاس ليشهد آخر فصل فى هذه الرواية، وليدق آخر مسمار فى نعش ابن الخطيب، وبوصول ابن زمرك عقد السلطان أحمد مجلسا من مستشاريه وكبار رجال الدولة، ونوقش ابن الخطيب أمام هذا المجلس، حول كافة الادعاءات المقامة ضده، وبالأخص دعوى الالحاد، تلك الدعوى التى صاغها القاضى النباهى من قبل، وكان مجلسا
1 / 21
صوريا بطبيعة الحال؛ فان نتيجة المحاكمة كانت مقررة، ومتفقا عليها من قبل، فى كل من غرناطة وفاس.
لقد أوذى ابن الخطيب أمام شهود هذه المؤامرة، وأفتى الفقهاء المتعصبون باعدامه شرعا، فأعيد الى سجنه حيث دبر الوزير سليمان بن داود أمر قتله فى السجن، وفعلا بعث اليه ببعض الأشرار الذين قتلوه خنقا أواخر عام ٧٧٦ هـ- ١٣٧٥ م، وفى الصباح سحبت جثته الى الفضاء، حيث تم حرقها، ودفن بضاحية فاس «١٢» .
ويروى المقرى أنه تمكن مؤخرا من معرفة قبر ابن الخطيب، وذلك خلال اقامته بفاس، أوائل القرن الحادى عشر الهجرى (القرن السابع عشر الميلادى)، فزاره مرارا حيث يرقد، وفى هذا يقول: «وقد زرته مرارا- رحمه الله تعالى- بفاس المحروسة، فوق باب المدينة الذي يقال له: باب الشريعة، وهو يسمى الآن «باب المحروق»، وشاهدت موضع دفنه غير مستو مع الأرض، بل ينزل اليه بانحدار كثير «١٣»» .
رحم الله ابن الخطيب كفاء ما زود التاريخ من ذخائر، وأهدى العلوم والمعارف من نفائس.
1 / 22