لأول مرة في تاريخ الفقه الإسلامي
موسوعة
القواعد الفقهية
جمع وترتيب وبيان
الشيخ الدكتور
محمد صدقي بن أحمد البورنو أبو الحارث الغزي عفا الله عنه
الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
القسم الأول
حرف الهمزة
المجلد الأول
PageV01P01
بسم الله الرحمن الرحيم
PageV01P02
الإهداء
إلى من أراد الله عز وجل بهم الخير ففقههم في دينه وجعلهم أمناء شرعه وحملة شريعته وورثة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. من علماء هذه الأمة الأخيار وفقهائها الأبرار الذين قعدوا قواعد الفقه وأرسوا أركانه وضبطوا حدود الشرع وأعلوا بنيانه فكانوا العلماء حقا الفقهاء صدقا. إليهم أهدي دعوة صادقة من قلب مخلص أن يغفر الله عز وجل لهم أخطاءهم ويعفو عن زلاتهم وأن يورثهم بإخلاصهم لدينه وذبهم عن شرعه وعن سنة رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يورثهم الفردوس الأعلى في جنات النعيم مع الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن يلحقنا بهم غير ضالين ولا مضلين ولا فاتنين ولا مفتونين برحمته فهو سبحانه خير الراحمين وخير الغافرين.
PageV01P03
التمهيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله بشيرا ونذيرا وسراجا منبرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
من يطع الله ورسوله فقد فاز ورشد، ومن يعص الله ورسوله فقد خاب وخسر، ولا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا
{يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)} (1).
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102)} (2).
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما} (3)
__________
(1) الآية 1 من سورة النساء.
(2) الآية 102 من سورة آل عمران.
(3) الآيتان 70 - 71 من سورة الأحزاب.
PageV01P05
أما بعد ..
فإن علم القواعد الفقهية من أعظم علوم الشريعة وأهمها للفقيه والمفتي والقاضي والحاكم، إذ به تتدرب النفوس في مآخذ الظنون ومدارك الأحكام. فمن استوعب القواعد وأحاط بها فقد استوعب وأحاط بالفقه كله، وبالتالي فقد حصل على الخير كله، و"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) ".
ومن جمع القواعد الفقهية فقد سلك لأحكام المسائل الفقهية - مهما اختلفت موضوعاتها وتباعدت مخارجها - أيسر سبيل وأقوم طريق. فهو علم عظيم النفع جليل الفائدة إذ هو علم الحلال والحرام.
وقد اعتنى به العلماء قديما وحديثا، فلتعدد مذاهب الفقهاء، واختلاف طرقهم في الاستنباط، ولكثرة المسائل الفقهية وتنوعها وتشعبها فقد رأى العلماء المجتهدون والفقهاء المتمرسون أن الحاجة ماسة لوضع قواعد كلية وأصول عامة تجمع تلك الفروع والمسائل الكثيرة المتفرقة حتى لا يتوه طالب الحكم بين أشتات الجزئيات وأحكام المسائل المختلفات، فقام عدد من أكابر فقهاء المذاهب الذين أحاطوا علما بمناهج كبار الأئمة السابقين وأصولهم فتعرفوا علل الأحكام التي يستنبطها أولئك، واستقصوا أنواع الأحكام المتشابهة التي تجمع بين المسائل المختلفة، فجمعوا الشبيه إلى شبيهه وضموا النظير إلى نظيره، وضبطوا ما تشابه وتماثل برباط وضابط واحد هو القاعدة فتكونت بذلك القواعد الفقهية التي تجمع كل واحدة منها المسائل
__________
(1) إشارة للحديث الذي رواه أحمد في المسند ج 3 ص 94.
PageV01P06
المتحدة في حكمها وتنظمها بسلك واحد.
فكان هذا العمل الجليل العظيم أساسا سليما وقياسا صحيحا مستقيما لاستنباط واستخراج علل الأحكام الفقهية.
ولا أجد ما يمثل أهمية ومكانة القواعد الفقهية خير تمثيل، ويدل على عظمها وجلالة قدرها خير دلالة أفضل وأجزل من قول القرافي (1) رحمه الله تعالى، في مقدمة كتابه الفروق حيث قال: مبينا مكانة القواعد الفقهية وأثرها في الفقه والفقهاء -: أما بعد ..
فإن فروع الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان:
أحدها: المسمى ب "أصول الفقه" وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح، ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة، كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه. لكل قاعدة من الفروع في
__________
(1) القرافي شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي، من علماء المالكية، مصري المولد والنشأة والوفاة، له مصنفات عظيمة في الفقه والأصول، منها الفروق والأحكام والذخيرة، وشرح تنقيح الفصول، وغيرها كثير. مات سنة 684 ه. الأعلام مختصرا وله ترجمة في الديباج المذهب ص 62 - 67 وغيره.
PageV01P07
الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه، وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل.
[مكانة هذه القواعد]
وهذه القواعد مهمة في الفقه، عطيمة النفع، بقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف، وتتضح مناهج الفتوى وتكشف، فيها تنافس العلماء، وتفاضل الفضلاء، وبرز القارح على الجذع (1)، وحاز قصب السبق من فيها برع.
ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية، دون القواعد الكلية، تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزت خواطره فيها واضطربت، وضاقت نفسه لذلك وقنطت، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى، وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها.
ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات، لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عند غيره، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان، وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان.
فبين المقامين شأو بعيد، وبين المنزلتين تفاوت شديد (2).
__________
(1) القارح من الإبل ما أكمل خمس سنين والجذع ما قبل الثني ومن الإبل ما لم يكملها والمعنى غلب القوي الضعيف.
(2) الفروق ج 1 ص 1 - 2.
PageV01P08
صلتي بعلم القواعد الفقهية ودواعي تأليف هذة الموسوعة:
تعود صلتي بهذا العلم الجليل إلى قريب من خمس عشرة سنة - أي سنة أربعمئة بعد الألف لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم - إذ اقترح قسم أصول الفقه في كلية الشريعة التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تدريس هذ العلم لطلاب الكلية وأسند إلي وضع منهج هذا العلم وتدريسه، وبهذا كانت كلية الشريعة هذه أسبق الكليات الشرعية لتقرير هذا العلم باعتباره مقررا دراسيا لطلابها إذ أن ما سبقها من كليات الشريعة في العالم الإسلامي ما اعتنوا بهذا العلم ولم يقرروه على الطلاب إلا في بعض أقسام الدراسات العليا، مع أن إحدى مدارس مكة المكرمة وهي المدرسة الصولتية كان يدرس لطلابها القواعد التي صدر بها الإمام السيوطي كتابه الأشباه والنظائر ولكن ما عدا ذلك - بحسب علمي - كان هذا العلم مجهولا عند كثير من طلاب العلم الشرعي لعدة قرون.
ولكن حين أسند إلي وضع منهج لهذا العلم وتدريسه أخذت أبحث وأنقب عن المؤلفات في هذا العلم فلم أجد من كتبه مطبوعا غير بضعة مؤلفات لأئمة من الفقهاء المتأخرين وكان أهم ما عثرت عليه كتاب تأسيس النظر للإمام الدبوسي مع أصول الإمام الكرخي، وكتاب تقرير القواعد وتحرير الفوائد للحافظ أبي الفرج ابن رجب الحنبلي المعروف باسم "قواعد الفقه الإسلامي" ثم كتاب الأشباه والنظائر للإمام السيوطي الشافعي، وكتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي،
PageV009
وكتاب إيضاح المسالك للونشريسي المالكي - مطبوعا على الآلة - وكتاب الفروق للقرافي، وعثرت أيضا على شرح علي حيدر لمجلة الأحكام العدلية حيث صدرت المجلة بتسع وتسعين قاعدة فقهية، وما كتبه شيخي وأستاذي الجليل مصطفى بن أحمد الزرقا الحلبي في كتابه العظيم المدخل الفقهي العام في الباب الثالث منه حيث تحدث فيه عن القواعد الفقهية ونشأتها وتدوينها وذكر بعض ما ألف فيها وذكر قواعد المجلة مع شرح موجز لها وأضاف إليها إحدى وثلاثين قاعدة أخرى من قواعد المذهب الحنفي. وعثرت أيضا على كتاب أبي سعيد الخادمي مجامع الحقائق وشرحه منافع الدقائق حيث ختمه بثلاثين ومائة قاعدة مرتبة ترتيبا أبجديا. وكتاب الفرائد البهية للمفتي محمود حمزة، وكتاب غمز عيون البصائر شرح كتاب الأشباه والنظائر لأحمد بن محمد الحنفي الحموي، وشرح الخاتمة - أي خاتمة مجامع الحقائق، لسليمان القرق أغاجي، ومن المخطوطات: الأشباه والنظائر لابن السبكي، وتوفيق الإله حاشية على فن من الأشباه لسنبلي زاده،
ومن خلال البحث المستمر والتنقيب الجاد في أمهات مصادر المؤلفين والمؤلفات اطلعت على أسماء أعداد كبيرة من الكتب التي اعتنت بهذا العلم تدوينا وشرحا وتمثيلا وتعليلا وتأصيلا، عدا ما انتثر من القواعد في ثنايا أبواب الفقه ومسائله.
ولكن ما لفت نظري وشد انتباهي أن كل من ألف في القواعد الفقهية جمعا لها أو شرحا وتمثيلا إنما اعتنى بها وألف فيها في نطاق مذهبه، فكان عمله منحصرا في قواعد المذهب وقلما يشار إلى قاعدة
Sayfa 10
أو حكم مسألة في مذهب أخر، ولم أجد كتابا في القواعد مقارنا بين المذاهب مثل كتب الفقه المقارن غير كتاب تأسيس النظر للإمام الدبوسي، وقد استفدت من هذا الكتاب فائدة عظيمة جدا في شحذ همتى لإخراج موسوعة القواعد الفقهية الشاملة لكل القواعد في كل المذاهب ما اتفق منها وما اختلف.
فأخذت على نفسي أن أسلك طريقا غير ما سلكه أولئك المؤلفون وانهج نهجا مغايرا لما نهجوه، فقمت أولا بتأليف كتاب الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية،، ليكون بأيدي الطلاب الذين يدرسون هذا العلم في مختلف الكليات الشرعية في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها حيث أن كثيرا من كليات الشريعة في العالم العربي سارت على نهج كلية الشريعة في جامعة الإمام في تقرير هذا العلم وتدريسه لطلابها، واشتمل كتاب الوجيز على ثمانين ومائة قاعدة تقريبا كلية وفرعية وفي مقدمتها القواعد الست الكبرى وما تفرع عليها من قواعد مستخلصة من مختلف كتب القواعد من مختلف المذاهب وقمت بشرح هذه القواعد والاستدلال لكثير منها، وكان تمثيلي لفروعها غير منحصر في مذهب معين بل حاولت أن يكون الكتاب شاملا لمسائل من مختلف المذاهب مع المقارنة بينها وبيان أوجه الخلاف في كثير من المسائل، وقد لاقى هذا الكتاب بحمد الله وتوفيقه إقبالا ونهمة شديدين من المشتغلين بالفقه وطلاب العلم الشرعي وغيرهم وقد طبع ثلاث طبعات والرابعة في الطريق بإذن الله.
Sayfa 11
وكنت قدرت أن يكون هذا الكتاب بداية ومقدمة لتأليف حديث في القواعد الفقهية تتلوه كتب أخرى أشمل وأوسع، وبخاصة وفي خلال عقد واحد من الزمن حقق ونشر عدد كبير من أمهات كتب القواعد والأشباه والنظائر ومن أهمها: الأشباه والنظائر لابن الوكيل، والأشباه والنظائر لابن السبكي، وقواعد الحصني - مختصر قواعد العلائي. وقواعد ابن خطيب الدهشة - مختصر قواعد العلائي والأسنوي - وقواعد المقري، والإعتناء للبكري وغيرها كثير، كما ألف في القواعد الكلية الكبرى مؤلفات نال بها مؤلفوها درجات علمية كالماجستير والدكتوراه.
ولكن مع هذا كله لم أجد كتابا واحدا شاملا لكل القواعد في كل المذاهب يلم شتاتها ويبرزها بصورة جلية واضحة، وحتى الكتب الخاصة بالقواعد أو بالأشباه والنظائر - كما أطلق على كثير منها، أو كتب الفروق - لم أجد كتابا خالصا للقواعد الفقهية بل إن المؤلفين لتلك الكتب - سواء من تقدم منهم ومن تأخر - مع ذكرهم واعتنائهم بكثير من قواعد الفقه - خلطوا مع القواعد الفقهية أحكاما فقهية مختلفة بعناوين مختلفة، أو خلطوها بقواعد أصولية أو لغوية أو كلامية، من ذلك على سبيل المثال: المجموع المذهب للإمام العلائي، والأشباه والنظائر لابن الوكيل، ولابن السبكي وللسيوطي، ولابن نجيم وغيرهم.
ولذلك عزمت مستعينا بالله سبحانه وتعالى متوكلا عليه واثقا به أن أقوم بجمع شتات القواعد الفقهية من مختلف كتب القواعد وكتب
Sayfa 12
الفقه العام وحيثما وجدت في مختلف المذاهب لأخرج منها موسوعة شاملة لكل القواعد الفقهية التي يمكنني العثور عليها، لتكون معلمة فقهية عظيمة النفع جليلة الفوائد وتسد في صرح الفقه الإسلامي ثلمة أرجو أن يكون قد آن لها أن تنسد، وتضع هذا العلم الجليل في الطريق الصحيح النافع المفيد، وليلمس طلاب العلم الشرعي وغيرهم ما في صرح الفقه الإسلامي من كنوز مخبوءة قد آن لها بإذن الله أن تظهر وتكشف ليعم النفع بها.
عملي في هذه الموسوعة والنهج الذي سرت عليه في إنجاز ما تم منها:
تأليف الموسوعات عمل شاق مجهد يعلم صعوبته ومشقته كل من عانى أو شارك في تأليف شيء منها. فالعمل الموسوعي يحتاج إلى جهود متضافرة، وعقول متعاونة، وهمم عالية، وأوقات متوافرة، وأزمان متطاولة، وعلماء شبابا منحوا القوة والجلد والصبر على البحث والتنقيب، وإمكانيات عظيمة، وأما أن يقوم بهذا العمل الضخم فرد واحد - مهما بلغ هذا الفرد من العلم والمعرفة والقوة والجلد والصبر والهمة العالية ومهما منح من سعة الوقت وفضل المنة والصحة فهو عمل متعذر أو كالمتعذر، فكيف إذا كان هذا الفرد طويلب علم، قصير الباع، ضيق العطن ضعيف المنة، مشغول الأوقات، وفوق ذلك قد نيف على الستين!
ولكني لما رأيت الهمم متقاصرة عن إنجاز مثل هذا العمل وخشيت إن طال انتظاري أن يضيع العمر ولم تقض نفسي من هذا
Sayfa 13
الشأن مناها، استعنت الله سبحانه وتعالى وتوكلت عليه وابتهلت إليه أن يمنحني القوة والعزم لأقوم - لا أقول بكل هذا العمل - ولكن لأقوم بالبدء فيه وفتح الطريق أمام العلماء والفقهاء وطلاب العلم ليكون لهم حافزا وداعيا ليسيروا معي في طريق أقوم بتمهيده وتعبيده ليسلكوه معي ومن بعدي على هدي منائر نصبتها، وصوى أشعلتها، ومعالم حددتها، إن ساروا على هداها أرجو أن يتم العمل ويعلو البناء وتظهر الموسوعة كاملة يستفيد منها العلماء والفقهاء وطلاب العلم على مدى الأجيال القادمة، وإن أراد غيري أن ينصب لنفسه منائر أخرى ويشعل لسبيله صوى ومصابيح بديلة، ويحدد معالم جديدة، فليس لي أن أحجر واسعا، أو أضيق رحبا، ولكل وجهة، ولكن المهم أن يتم العمل وتنمو الشجرة وتنضج الثمرة لتكون قريبة المتناول دانية القطاف وأن يكون العمل مقصودا به وجه الله سبحانه والدار الآخرة.
أقول حينما عزمت على البدء في هذه الموسوعة وذلك منذ عشر سنوات تقريبا أخذت أستعرض كتب القواعد الفقهية، والأشباه والنظائر والفروق واستخرج ما فيها من قواعد أو ضوابط وأسجلها في سجل خاص ثم أخذت أستعرض بعض كتب الفقه العام وأستخرج منها كذلك ما أعثر عليه من قواعد وضوابط ترد في مقام تعليل الأحكام، ثم ميزت بين القواعد والصوابط حيث أردت أن تكون الموسوعة للقواعد الفقهية دون غيرها، ولا أقول إنني استعرضت كل كتاب في القواعد ولا كل كتاب في الفقه وإنما الذي استعرضته كان قلا من كثر وغيضا من فيض ولكنه جهد المقل.
Sayfa 14
وقد وضعت نصب عيني مناهج عدة لأتخير المنهج الذي أعتقد أنه أنسب من غيره وأكثر جدوى وأعم فائدة، فنظرت في طرق التأليف في الموسوعات المختلفة وكيف سار فيها مؤلفوها، فرأيت منهم المقصر والمطول والمتوسط، منهم من يذكر المصطلح ثم يشرحه ويورد كل ما يتعلق به كما فعل مؤلفو موسوعة الفقه الإسلامي الصادر بعض أجزائها عن جمعية الدراسات الإسلامية القاهرة.
ومنهم من يذكر المسألة أو المصطلح ويبين المعنى اللغوي والإصطلاحي ويذكر بعض الأحكام، كما فعل مؤلفو موسوعة الفقه الإسلامي - الكويت - مع عدم الإلتزام في كل الموسوعة بذلك، ومنهم من يكتفي بذكر المسألة ويشير إلى مراجعها ومصادرها فقط كما فعل سعدي أبو جيب في موسوعة الإجماع.
ولكني رأيت أن أنهج نهجا وسطا لا هو بالقصير المخل ولا بالطويل الممل فسرت على الخطوات التالية.
أولا: رتبت القواعد ترتيبا أبجديا بحسب الحرف الأول الذي تبدأ به القاعدة ثم ما بعده، وهي طريقة سار عليها بعض من ألف في القواعد وجمعها، وهي في نظري أسد طريقة في جمع القواعد وترتيبها، ورأيت أن أبدأ أولا بتلك القواعد التي تبدأ بحرف الهمزة - فإذا أنهيتها تماما أخذت فيما بعدها، وقد بلغت قواعد حرف الهمزة قريبا من سبعمئة قاعدة من مختلف المذاهب، ورأيت أن أخرجها أولا حاملة اسم "القسم الأول" وأعطيت كل قاعدة منها رقما مميزا.
Sayfa 15
ثانيا: رأيت أن أصدر الموسوعة بمقدمات توضح مبادئ علم القواعد ولتكون مدخلا لهذا العلم ولهذه الموسوعة.
ثالثا: نظرت فرأيت أنني إن اكتفيت بسرد القواعد وذكرها مرتبة بإيراد نصوصها فقط تكون الفائدة منها قليلة جدا, لأن أكثر القواعد صيغت بأسلوب موجز - حيث يعتبر أكثرها من جوامع الكلم - ومع وجازة الأسلوب قد لا يفهم مضمون القاعدة إلا من تمرس بدراسة الفقه وعرف مصطلحات أهله، وقد يختلف المصطلح بين مذهب ومذهب، ولم تؤلف هذه الموسوعة للعلماء المتخصصين فقط، وإن كانت ألزم لهم من غيرهم.
وقد سرت في بيان كل قاعدة تبعا للخطوات التالية:
أولا: وضعت رقم كل قاعدة في أعلى الصفحة بخط كوفي معدل واضح.
ثانيا: أذكر على يسار رقم كل قاعدة بخط أدق المصطلح الفقهي الذي تشير إليه القاعدة أو موضوع القاعدة.
ثالثا: أذكر لفظ أو ألفاظ ورود القاعدة، إن وردت القاعدة بصيغة واحدة أعطيها رقما واحدا، وكذلك إذا تعددت صيغها دون اختلاف جوهري، وأما إن تعددت ألفاظ القاعدة وصيغها وكان بينها خلاف جوهري أو زيادة فائدة - إن كانت القاعدة مبتدأة بحرف الألف - الهمزة - أعطي كلا منها رقما خاصا، وأما إن كانت إحداها مبتدأة بغير حرف الألف أشير إلى أنها سترد في حرفها ولا أعطيها رقما.
Sayfa 16
رابعا: أذكر معنى القاعدة ومدلولها. حيث أشرح كل قاعدة شرحا موجزا أبين فيه المعنى اللغوي لبعض ألفاظها ومضمون القاعدة وموضوعها والمعنى الاصطلاحي لما يرد فيها من مصطلحات فقهية.
ولا أطيل في الشرح إلا إذا كان في القاعدة خلاف إلا قاعدة النية فقد أطلت الشرح لها مقصودا.
خامسا: أمثل لكل قاعدة بمثال أو أكثر يوضح مضمونها ويظهر الحكم الذي أشارت إليه القاعدة، وإذا وجد خلاف في حكم مسألة أذكر الخلاف باختصار.
سادسا: رأيت خلال استخراج هذه القواعد ودراستها أن بعض المؤلفين في قواعد مذهب ما يشير إلى خلاف في القاعدة أو في بعض مسائلها عند مذهب آخر أو عند إمام من الأئمة فأخذت على عاتقي أن أتحقق من ذلك الخلاف ومدى صدق القول في ذلك وواقعيته من كتب صاحب المذهب المشار إلى خلافه، وقد رأيت أن كثيرا من مسائل الخلاف المنسوبة للمذاهب الأخرى غير صحيحة وينقصها دقة النظر أو صحة النقل لأن في المذهب المنسوبة إليه خلافها. فأشير إلى ذلك وأذكر الصواب من كتب المذهب ذاته.
سابعا: أذكر في الهوامش مظان وأماكن وجود كل قاعدة حيث أذكر اسم الكتاب والجزء والصفحة، ورقم القاعدة إن كان لها في مصدرها رقم خاص أو فقرة خاصة.
ثامنا: قمت بترقيم الآيات الواردة في الموسوعة وعزوتها إلى سورها.
Sayfa 17
تاسعا: قمت بتخريج كل حديث ورد في الموسوعة، سواء كان الحديث هو نص القاعدة أو ذكر ضمن شرح وبيان معنى القاعدة أو خلال التمثيل لها.
عاشرا: ترجمت للأعلام الذين وردت أسمائهم بترجمات موجزة مشيرا إلى موضع الترجمة من كتب التراجم.
حادي عشر: كتبت نص القاعدة بالخط النسخي الواضح، وما يشير إلى رقم القاعدة، وألفاظ ورودها، وبيان معناها، والتمثيل لها، بخط كوفي معدل واضح، وما عدا ذلك بخط النسخ العادي.
ثاني عشر: قمت بعمل فهارس علمية شاملة:
1 - فهرس الآيات الكريمة حسب ورودها.
2 - فهرس الأحاديث الشريفة كذلك.
3 - فهرس القواعد بحسب ترتيبها في الكتاب.
4 - فهرس المصطلحات الفقهية مرتبة ترتيبا أبجديا.
5 - فهرس الأعلام مرتبة أيضا ترتيبا أبجديا.
6 - فهرس المصادر والمراجع مرتبة أبجديا مع ذكر المطبعة وسنة الطبع ورقم الطبعة عند الوجود.
هذا جهدي فما كان فيه من حق وصواب فمن الله سبحانه وتعالى وبهدايته ودلالته، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله العظيم وأتوب إليه.
المؤلف
القصيم - بريدة فاتح المحرم من عام 1416
Sayfa 18
المقدمة الأولى: معنى القواعد الفقهية والتعريف بها
1 - المعنى اللغوي للقواعد:
القواعد جمع قاعدة، ومعنى القاعدة: أصل الأس، وأساس البناء والقواعد الإساس، وقواعد البيت إساسه، ومنه قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا} (1) ومنه قوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} (2).
قال الزجاج (3): القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج فيها.
قال أبو عبيد (4): قواعد السحاب أصولها المعترضة في آفاق السماء، شبهت بقواعد البناء (5). قال ابن الأثير (6): أراد بالقواعد ما اعترض منها وسفل تشبيها بقواعد البناء (7).
قال ذلك في بيان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل
__________
(1) الآية 127 من سورة البقرة.
(2) الآية 26 من سورة النحل.
(3) الزجاج إبراهيم بن محمد بن السري بن سهل الزجاج. نحوي ولد ببغداد سنة 241 وتوفي بها سنة 311. وفيات الأعيان ج 1 ص 49. مختصرا.
(4) أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي اللغوي الفقيه المحدث صاحب كتاب الأموال توفي سنة 224 ه. تذكرة الحفاظ ج2 ص 417. مختصرا.
(5) غريب الحديث ج3 ص 104، والمعجم الوسيط ج 2 ص 755.
(6) ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري. المحدث الأصولي من كتبه النهاية في غريب الحديث. توفي في إحدى قرى الموصل سنة 606 ه الأعلام ج 5 ص 272.
(7) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري ج 4 ص 87.
Sayfa 19
عن سحابة مرت فقال: كيف ترون قواعدها وبواسقها (1). وقالوا في المرأة التي قعدت عن الحيض والأزواج قاعد والجمع قواعد، ومنه قوله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا} (2).
ومن معاني القاعدة في اللغة: الضابط وهو: الأمر الكلي ينطبق على جزئيات,, مثل قولهم: كل أذون ولود وكل صموخ بيوض,, (3)
2 - المعنى الاصطلاحي للقاعدة
وأما معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي فقد اختلف الفقهاء في تعريفها بناء على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟.
فمن نظر إلى أن القاعدة هي قضية كلية عرفها بما يدل على ذلك حيث قالوا في تعريفها: القاعدة هي:
1 - قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها (4).
2 - قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها (5).
3 - حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه (6).
__________
(1) الحديث ذكره في كنز العمال رقم 15247 ج 6 ص 147.
(2) الآية 60 من سورة النور.
(3) المعجم الوسيط ج 2 ص 555، ومعنى هذا الضابط: إن ما كان له أذن خارجية فهو يتكاثر عن طريق الولادة، وما كان له صماخ - أذن وسطى فقط - فهو يتكاثر عن طريق البيض كالطيور والسمك.
(4) تعريفات الجرجاني علي بن محمد الشريف الجرجاني ص 177.
(5) المحلى على جمع الجوامع ج 1 ص 21 - 22.
(6) التلويح على التوضيح للتفتازاني ج 1 ص 37 ط مكتب صنايع 1310 ه
Sayfa 20
4 - حكم كلي ينطبق على جميع حزئياته ليتعرف به أحكام الجزئيات والتي تندرج تحتها من الحكم الكلي (1).
5 - الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه (2).
6 - أمر كلي منطبق على جزئيات موضوعه (3).
7 - عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها (4).
8 - هي القضايا الكلية التي تعرف بالنظر فيها قضايا جزئية (5).
9 - قضية كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعها (6).
10 - أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها (7).
11 - أصول ومبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكاما تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها (8).
__________
(1) منافع الدقائق شرح مجامع الحقائق للخادمي أبي سعيد ص 305.
(2) أشباه ابن السبكي ج 1 ص 16.
(3) كشاف القناع للبهوتي ج 1 ص 16
(4) شرح الكوكب المنير لابن النجار الحنبلي ج 1 ص 44.
(5) شرح مختصر الروضة للطوفي سليمان بن عبد القوي الحنبلي ج 1 ص 120.
(6) تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور محمد أنيس عبادة ج 1 ص 107.
(7) المدخل الفقهي العام للأستاذ مصطفى أحمد الزرقا فقرة 556.
(8) المدخل في التعريف بالفقه الإسلامي للأستاذ محمد مصطفى شلبي ص 324.
Sayfa 21
وهذه التعريفات كلها متقاربة تؤدي معنى متحدا وإن اختلفت عباراتها حيث تفيد حميعها أن القاعدة هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام الجزئيات التي تندرج تحت موضوعها وتنطبق عليها.
ومن نظر إلى أن القاعدة الفقهية قضية أغلبية نظرا لما يستثنى منها عرفها بأنها "حكم أكثري لا كلي - ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه (1) ".
وقال في تهذيب الفروق: ومن المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية (2). والقول إن أكثر قواعد الفقه أغلبية مبني على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد تخالف أحكامها حكم القاعدة، ولذلك قيل: حينما ارجع المحققون المسائل الفقهية عن طريق الاستقراء إلى قواعد كلية كل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة، واتخذوها أدلة لإثبات أحكام تلك المسائل رأوا أن بعض فروع تلك القواعد يعارضه أثر أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثرة تخرجها عن الاطراد فتكون مستثناة من تلك القاعدة ومعدولا بها عن سنن القياس فحكموا عليها بالأغلبية لا بالاطراد.
فمثال الاستثناء بالأثر جواز السلم والإجارة في بيع المعدوم الذي الأصل فيه عدم جوازه، ومثال الاستثناء بالإجماع عقد الاستصناع.
ومثال الاستثناء بالضرورة طهارة الحياض والآبار في الفلوات مع ما تلقيه الريح فيها من البعر والروث وغيره (3).
ولكن العلماء مع ذلك قالوا: إن هذا - أي الاستثناء وعدم الاطراد -
__________
(1) غمز عيون البصائر شرح الأشباه والنظائر للحموي ص 22، ج 1 ص 51 ط جديدة.
(2) تهذيب الفروق ج 1 ص 36 حاشية الفروق.
(3) مجلة الأحكام العدلية شرح الأتاسي ج 1 ص 11 - 12 بتصرف وتوضيح.
Sayfa 22
لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها للأسباب الآتية:
أولا: لما كان مقصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة - وكانت القواعد التي قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع - كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا على العموم الكلي العام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما.
ويقول الشاطبي (1): في موافقاته تأييدا لهذا: إن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضاه لا يخرجه عن كونه كليا، وأيضا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي.
ثانيا: إن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت، وهذا شأن الكليات الاستقرائية - وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحا في الكليات العقلية.
فالكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات (2).
كما يقال كل حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ. وهذه قاعدة كلية استقرائية خرج عنها: التمساح. حيث يقال: إنه يحرك فكه الأعلى حين المضغ فخروج االتمساح عن القاعدة لا يخرجها عن كونها كلية. فكأنه قيل: كل حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ إلا التمساح.
فالعموم العادي المبني على الاستقراء لا يوجب عدم التخلف بل
__________
(1) الشاطبي: هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي المالكي المتوفي سنة 790 ه الأعلام ج 1 ص 75 مختصرا.
(2) الموافقات للشاطبي ج 2 ص 52 - 53 بتصرف.
Sayfa 23
الذي يوجب عدم التخلف إنما هو العموم العقلي لأن العقليات طريقها البحث والنظر، وأما الشرعيات فطريقها الاستقراء ولا ينقضه تخلف بعض الجزئيات.
ثالثا: ومن ناحية أخرى فإن تخلف مسألة ما عن حكم قاعدة ما يلزم منه اندراج هذه المسأله تحت حكم قاعدة أخرى، فالمسألة المخرجة تندرج ظاهرا تحت حكم قاعدة، ولكنها في الحقيقة مندرجة تحت حكم قاعدة أخرى وهذا من باب تنازع المسألة بين قاعدتين.
فليس إذا استثناء جزئية من قاعدة ما بقادح في كلية هذه القاعدة ولا بمخرج لتلك الجزئية عن الاندراج تحت قاعدة أخرى.
Sayfa 24
المقدمة الثانية: الفروق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية
علم الفقه وعلم أصول الفقه علمان مرتبطان بارتباط وثيق بحيث يكاد في المرء يجزم بالوحدة بينهما، وكيف لا يكون ذلك وأحدهما أصل والآخر فرع لذلك الأصل، كأصل الشجرة وفرعها، فالأصولي ينبغي أن يكون فقيها، والفقيه ينبغي أن يكون أصوليا وإلا كيف يمكنه استنباط الحكم من الدليل؟ وكيف يكون مجتهدا من لم يتبحر في علم الأصول؟.
ومع ذلك يمكن أن يقال: إنهما علمان متمايزان فأحدهما مستقل عن الآخر من حيث موضوعه واستمداده وثمرته والغاية من دراسته.
وبالتالي فإن قواعد كل علم منهما تتميز عن قواعد الآخر تبعا لتمايز موضوعي العلمين: فموضوع علم أصول الفقه هو أدلة الفقه الإجمالية والأحكام وما يعرض لكل منها، وأما موضوع علم الفقه فهو أفعال المكلفين وما يستحقه كل فعل من حكم شرعي عملي. وبالتالي فإن قواعد علم أصول الفقه تفترق وتتميز عن قواعد علم الفقه.
وإن من أول من فرق بين قواعد هذين العلمين وميز بينهما الإمام شهاب الدين القرافي (1) في مقدمة كتابه - الفروق - حيث قال: أما بعد فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفا وعلوا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض
__________
(1) الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس الصنهاجي الشهير بالقرافي من علماء المالكية. ولد ونشأ وتوفي بالقاهرة كان بارعا في كثير من العلوم والفنون، له كتاب الفروق والإحكام والذخيرة وغيرها توفي سنة 684 ه. الأعلام ج 1 ص 94 - 95 مختصرا.
Sayfa 25
لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوحوب، والنهي للتحريم، والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه، لكل قاعدة عن الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع - .. إلخ ما قال (1).
وقال في موضع آخر: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا (2).
وإذا دققنا النظر في قواعد الأصول وقواعد الفقه لرأينا أن فروقا عدة تميز بينهما منها:
1 - أن قواعد الأصول إنما تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.
2 - أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية، وأما قواعد الفقه فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب برباط متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.
__________
(1) الفروق ج 1 ص 2 - 3.
(2) نفس المرجع ج 2 ص 110 وتهذيب الفروق ج 2 ص 124.
Sayfa 26
3 - إن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.
وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلا لها.
4 - إن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد الفقه فهي ليست محصورة أو محدودة العدد بل هي كثيرة جدا منثورة في كتب الفقه العام والفتوى عند جميع المذاهب ولم تجمع للآن في إطار واحد، وكان هذا هو الدافع لتأليف هذه الموسوعة التي أرجو الله سبحانه أن يعينني على إتمامها بمنه وكرمه.
5 - إن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثني منها شيء فهي قواعد كلية مطردة - كقواعد العربية - بلا خلاف.
وأما قواعد الفقه فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب كالاستثناء بالنص أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك من أسباب الاستثناء ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة.
ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد قواعد مشتركة بين العلمين ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية ينظر إليها من حيث كونها دليلا إجماليا يستنبط منه حكم كلي، والقاعدة الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكما جزئيا لفعل من أفعال المكلفين.
Sayfa 27
فمثلا قاعدة: "الاجتهاد لا ينقض بمثله أو بالاجتهاد". ينظر إليها الأصولي من حيث كونها دليلا يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال.
وينظر إليها الفقيه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين فيبين حكمه من خلالها، فإذا حكم حاكم أو قاض بنقض حكم في مسألة مجتهد فيها كالخلع هل هو فسخ للعقد أو طلاق، وقد كان حكم حاكم في مسألة بعينها بأن الخلع طلاق فيقال له: لا يجوز ذلك لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله،.
ولكن لك في مسألة أخرى مشابهة أن تحكم فيها باجتهادك لا أن تنقض حكمك أو حكم غيرك في مسألة اجتهادية لا نصية.
Sayfa 28
المقدمة الثالثة: ميزة القواعد الفقهية ومكانتها في الشريعة وفوائد دراستها
قال القرافي: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلا (1).
هذه المقولة الصادقة من عالم مدقق فاحص تعطينا ميزات عظيمة من ميزات القواعد الفقهية وهي كونها قواعد كثيرة جدا غير محصورة بعدد، وهي منثورة في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام، وهو رحمه الله قد أراد من تأليف كتابة الفروق سمع هذه القواعد في كتاب واحد يجمع شتاتها ويكشف أسرارها وحكمها، ولكنه - رحمه الله - ما استوعب ولا قارب.
والميزة الثانية من ميزات القواعد أنها تمتاز بإيجاز عبارتها مع عموم معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية إذ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة مكونة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعدة "العادة محكمة" وقاعدة: "الأعمال بالنيات" أو "الأمور بمقاصدها" وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير" فكل من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم إذ يندرج تحت كل منها ما لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.
والميزة الثالثة من ميزات القواعد أنها تمتاز بأن كلا منها ضابط يضبط فروع الأحكام العملية ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت
__________
(1) الفروق للقرافي ج 2 ص 115 وتهذيب الفروق ج 2 ص 124 على هامش الفروق.
Sayfa 29