إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات؛ فيترك ما يشتهي حذرا من عقابه، أو رجاء لثوابه ، أو إجلالا له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودا هنديا على مجمر فيفوح طيبه؛ فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو، وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوي تقوي محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم، ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته.
وقد تمتد هذه الأراييج بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرها أبدا.
قال أبو الدرداء: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، فتلمحوا ما سطرته، واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية، والجزاء على مقدار الإخلاص.
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة ... والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل ... لها إن الذي خلق الظلام يراني
يقول محمد بن عدي الترمذي: اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
درس في المراقبة
يقول الإمام الغزالي: كان لأحد المشايخ تلاميذ وطلاب علم، فأراد أن يلقنهم درسا في مراقبة الله عز وجل، فدعا بعدة طيور، وناول كل واحد منهم طائرا وسكينا، وقال: ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه فيه أحد ... فرجع كل طالب بطائره مذبوحا إلا طالبا واحدا، فقد رجع بطائره دون أن يذبحه.
فقال له الشيخ: ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك؟ فقال: لم أجد موضعا لا يراني فيه أحد .. إذ الله مطلع علي في كل مكان .. فاستحسن الشيخ منه ذلك.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
Sayfa 54