بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
أما بعد حمدًا لله الذي أشعرنا إلهامًا، وصير لنا أفهامًا، ويسر لنا بُرُود آداب، ونشرنا للانبعاث إلى إثباتها والانتداب، وصلى الله على سيدنا محمد الذي بعثه رحمة، ونبأه منّة ونعمة، وسلم تسليمًا: فإنه كان بالأندلس أعلام، فُتنوا بسِحر الكلام، ولقوا منه كل تحية وسلام، فشعشعوا البدائع وروّقوها، وقلّدوها بمحاسنهم وطوّقوها ثم هووا في مهاوي المنايا، وانطووا بأيدي الرزايا وبقيت مآثرهم غير مُثبتةٍ في ديوان، ولا مُجملةٍ في تصنيف أحد
1 / 147
من الأعيان، تجتلي فيه العيون وتجتني منه زهر الفنون، إلى أن أراد الله إظهار إعجازها، واتصال صدورها بأعجازها فحللت من الوزير أبي العاص حكم بن الوليد عند من رحّب وأهل وأعلّ بمكارمه وأنهل، وندبني إلى أن أجمعها في كتاب، وأدركني من التنشّط إلى إقبال ما ندب إليه، وكتابة ما حثَّ عليه فأجبتُ رغبته، وحلّيتُ بالإسعاف لَبَّته، وذهبتُ إلى إبدائها، وتخليد عليائِها، وأمليتُ منها في بعض الأيام، ثلاثة أقسام، القسم الأول: يشتمل على سرد غرر الوزراء وتناسق دُرر الكُتّاب والبلغاء. القسم الثاني: يشتمل على محاسن أعلام العلماء وأعيان القُضاة والفُهماء. القسم الثالث: يشتمل على سرد محاسن الأدباء، النوابغ النُجباء. وسميتها: مطمح الأنفُس ومسرح التأنُّس في مُلَح أهل الأندلس، وأبقيتها لذوي
1 / 148
الآداب ذِكرًا، ولأهل الإحسان فخرًا، يُساجلون بها أهل العراق، ويُحاسنون بمحاسنها الشمس عند الإشراق. والله أسأله إلهام المقصد، وانفراج بابه المُرصد بمنّه وكرمه.
1 / 149
القسم الأول
الوزراء
1 / 151
بسم الله الرحمن الرحيم
الحاجب جعفر بن عُثمان المُصحَفيّ
تجرَّد للعليا، وتمرَّد في طلب الدُّنيا، حتى بلغ المُنى، وتسوَّغ
1 / 153
ذلك الجنى، فسما دون سابقه، وارتقى إلى رُتبة لم تكن لبنيتِه بمطابقة فالتاح في أفياء الخلافة، وارتاح إليها بعطفه كنشوان السُّلافة، واستوزره المُستنصر، وعنه كان يسمع وبه يُبصر، فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشَّرك، واقتنى وادّخر، وأزرى بِمن سِواه وسَخِر، واستعطفه المنصور بن أبي عامر، ونجمه
1 / 154
غائر لم يَلح، وسِرُّه مكتوم لم يَبُح، فما عطف، ولا جنى من روضةِ دُنياه ولا قطف، فأقام في تدبير الأندلس ما أقام، والأندلس متغيرة والأذهان في تكيّف سعده متحيّرة، فناهيك من ذكرٍ خلّد، ومن فَخر تقلّد، ومن صعب راض وجَناح فتنة هاض، ولم يزل بنجَاد تلك الخلافة مُعتقَلا، وفي مطالعها مُنتقلا، إلى أن تُوفّي الحكم، فانُتقِض عِقدُه المُحكم، وانبرت إليه النوائب، وتسدّدت إليه من الخطوب سهام صوائب، واتصل إلى المنصور ذلك الأمر، واختص به كما مال بالوليد بن يزيد أخوه الغمر، وأناف في تلك الخلافة كما شبّ قبل اليوم عن طوقه عمرو، وانتدب
1 / 155
للمُصحَفي بصدر قد كان أوغره، وساءه وصغّره، فاقتص من تلك الإساءة وأغصّ حلقه بأي مَساءة، فأخمله ونكبه، وأرجله عمّا كان الدهر أركبه، وألهب جوارحه حَزَنا ونهب له مُدَّخرًا ومُختزنا، ودمّر عليه ما كان حاط، وأحاط به من مكروهه ما أحاط، وغير سنين في مهوى تلك النكبة، وجَوى تلك الكُربة، ينقله المنصور معه في غزواته، ويعتقله بين ضيق المُطبق ولهواته، إلى أن تكوّرت
شمسُه، وفاضت بين أثناء المِحن نفسُه، ومن بديع ما حُفِظ له في نكبته، قوله
يستريح من كُربَته:
صَبَرتُ على الأيّامِ لمّا تولّتِ ... وألزمتُ نفسي صبرها فاستمرّتِ
فَوَا عجَبًا للِقَلبِ كيفَ اعترافه ... وللنّفسِ بعد العزّ كيف استذلّتِ
1 / 156
وما النّفس إلاّ حيثُ يَجعَلُها الفَتَى ... فإنْ طَمِعَت تَاقَتْ وإلاّ تسلّتِ
وكَانتْ على الأيّامِ نفسي عزيزةً ... فلمّا رأت صَبْري على الذُّلِّ ذَلَّتِ
فَقُلتُ لها: يا نفسُ موتي كريمةً ... فقد كانت الدُّنيا لنا ثُمَّ ولَّتِ
وكان له أدب بارع، وخاطر إلى نظم القريض مسارع، فمن محاسن إنشاده، التي بعثها إيناس دهره بإسعاده، قوله:
لعَينيكِ في قلبي عليّ عيونُ ... وبين ضلوعي للشُّجونِ فنونُ
لَئِن كان جِسمي مُخلّقًا في يد الهوى ... فَحُبَّك عندي في الفًؤَادِ مَصونُ
وله وقد أصبح عاكفًا على حُميَّاه، هاتفًا بإجابة دُنياه، مُرتشِفًا ثَغر الأُنس متنسِّمًا ريّاه، والمُلكُ يغازله بطَرفٍ كحيل، والسَّعد
1 / 157
قد عقد عليه منه إكليل، يصِفُ لون مُدَامِه، وما تعرف له منها دون نِدَامه:
صفراءُ تَطرُقُ في الزّجاج فإن سَرَتْ ... في الجِسم دَبَّتْ مِثل صلٍّ لادغِ
خَفِيتْ على شُرَّابِها فكأنَّما ... يجدون رِيَّا مِن إناءٍ فارغِ
ومن شعره في السفرجل الذي قاله فيه مشبّهًا، وغدا به لنائم البديع منبهًا قوله يصف سفرجلة، ويقال: إنه ارتجله:
ومُصفَرَّةٍ تَختَالُ في ثَوبِ نَرجسِ ... وتَعبَقُ عن مِسك ذكيِّ التَّنفُّسِ
لها ريحُ مَحبوبٍ وقَسوةُ قَلبِهِ ... ولَونُ محبٍّ حُلَّةَ السُّقمِ مُكتسي
فصُفرّتُها من صُفرتي مستعارةٌ ... وأنفَاسُها في الطّيبِ أنفاسُ مُؤنسي
وكان لها ثوبٌ من الزُّغب أغبرُ ... على جِسم مصفرٍّ من التّبرِ أملّسِ
فلمّا استتمَّت في القَضيبِ شبَابها ... وحاكَت لها الأوراقُ أثوابَ سُندُسِ
مَدَدتُ يدي باللّطف أبغي اجتناءها ... لأجعلها رَيحانتي وَسطَ مَجلسي
1 / 158
فَبزَّت يدي غَصبًا ثَوبَ جِسمِهَا ... وأعريتُها باللّطفِ مِن كُلِّ مَلبَسِ
ولمّا تعرَّتْ في يدي من بُرُودِها ... ولم تبقَ إلاّ في غلالةِ نرجسِ
ذكرتُ بها من لا أبوحُ بذِكرِهِ ... فأذْبَلها في الطفِّ حرُّ التَّنفُّسِ
وله وقد أعاده المنصور إلى المُطبَق، والشّجون تُسرعُ إليه وتسبق، معزّيًا لنفسِهِ، مجتزيًا بإسعاد أمسهِ:
أُجَازي الزّمانَ على حاله ... مجازاةَ نفسي لأنفَاسها
إذا نَفَسٌ صاعِدٌ شفّها ... توارت به دونَ جُلاَّسِها
وإنْ عكفت نَكبَةٌ للزّمان ... عطفتُ بنفسي على رأسها
وممّا حفظ له في استعاطفه، واستنزاله للمنصور واستلطافه قوله:
عفا الله عنك إلا رَحمَة ... تجود بعَفوكَ إنْ أبْعَدا
لِئن جلّ ذنب ولَمْ اعتَمِدهُ ... فأنت أجلُّ وأعلَى يَدا
1 / 159
ألمْ ترَ عَبدًا عدا طَورهُ ... ومولىً عفا ورشيدًا هدى
ومفسد أمر تلافَيتَهُ ... فعادَ فأصلحَ ما أفسدا
أقِلني أقالك مَنْ لم يزلْ ... يَقيك ويصرف عنك الرّدى
قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور: سرت بأمره لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده، والحضور على إنزاله في ملحده، فنظرته ولا أثر فيه، وليس عليه شيء يواريه، غير كساءٍ خَلق لبعض البوّابين، فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل، فغسله - والله - على فردة باب اقتُطع من جانب الدار، وأنا أعتبر من تصرّف الأقدار، وخرجنا بنعشه إلى قبره، وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه، وما تجاسر أحد منا للنظر إليه، وإن لي في شأنه لخبرا ما سَمع بمثله طالبُ وعظ، ولا
وقع في سمع ولا تُصُوِّر في لَحظ، وقفت له في طريقه من قصره، أيام نهيه وأمره، أروم أن أناوله قصة، كانت به مختصة، فوالله ما تمكّنتُ من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه، وكثرة من حَفَّ به، وأخذ الناس السِّكك عليه وأفواه الطرق داعين، وجارين بين يديه وساعين، حتى ناولتُ قِصَّتي بعض كُتَّابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القِصص، فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشَّرق بحاله والغَصَص، فلم تطل المُدَّة حتى غضِبَ عليه المنصور واعتقله، ونقله معه في الغزوات وحَمَله، واتفق
1 / 160
أن نزلت بجِلِّيقيَّة إلى جانب خبائه في ليلة نهى المنصور فيها عن وقود النيران، ليُخفي على العدو وأثره ولا ينكشف إليه خبره، فرأيت والله، عثمان تبنه يسفّه دقيقًا قد خلطه بماء يقيم به أوَدهُ، ويمسك بسببه رمقه، بضعف حال، وعدم زاد، وهو يقول:
تأمَلتُ صَرفَ الحادثات فلم أزلْ ... أراها توفّي عند موعدها الحُرّا
فلله أيام مضت بسبيلها ... فإنّي لا أنسى لها أبدًا ذِكرًا
تجافت بها عنّا الحوادثُ بُرهَةً ... وأبدتْ لنا منها الطّلاقة والبِشْرا
لياليَ لم يدرِ الزمانُ مكانها ... ولا نظرتْ منها حوادثه شَزْرا
وما هذه الأيّام إلاّ سحائب ... على كلّ أرض تُمطِرُ الخَيرَ والشَّرَّا
وكان مّما أعين به ابن أبي عامر على جعفر المُصحَفي ميل الوزراء إليه وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقّيه وأخذهم بالعصبية فيه، فإنها لم تكن حميّة إعرابية، فقد كانت سَلفيَّة سُلطانَّية، يقتضي القوم فيها سبيل سَلفهم ويمنعون بها ابتذال شرفهم، غادروها سيرة،
1 / 161
وخلّفوها عادة أثيرة، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة، ورأوا أن أحدًا لا يلحق فيها غاية، ولا يتلقّى لها رأية، فلما اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ووضعه من أثرته حيث وضعه، وهو نزيع بينهم ونابغ فيهم، حسدوه وذمّوه، وخصّوه بالمطالبة
وعمّوه، وكان أسرع هذه الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور عليه، والانحراف عنه إليه آل أبي عبدة، وآل شُهَيد، وآل فُطَيس من الخلفاء وأصحاب الرِّدافة، وأولي الشرف والإنافة،
1 / 162
وكانوا في الوقت أزمة المُلك وقُوَّام الخِدمِة، ومصابيح الأمة، وأغير الخلق على جاه وحرمة، فاحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة، ولبعض أسبابه الجامعة متابعة، وشادوا بناءه، وقادوا إلى عنصره سناءه، حتى بلغ الأمل والتحف يمينه بمناه واشتمل، وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر، استكان جعفر بن عثمان للحادثة، وأيقن بالنكبة، وزوال الحال وانتقال الرُّتبة، وكفّ عن اعتراض محمد وشركته في التدبير، وانقبض الناس من الرّواح إليه والتبكير، وانثالوا على ابن أبي عامر، فخفّ موكبه، وغار من سماء العزّ كوكبه وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح، وليس بيده من الحجابة إلاّ أسمها، وابن أبي عامر مشتمل على رَسمها، حتى محاه، وهتك ظلّه وأصحاه.
قال محمد بن إسماعيل: رأيته يُساق إلى مجلس الوزراء للمحاسبة راجلًا فأقبل يدرم، وجوارحه باللّواعج تَضطرم، وواثق الضاغط يَنهرُهُ، والزَّمع والبُهر قدها ضاه، وقصّرا خطاه، فسمعته يقول: رفقًا بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه، وترى ما كنت ترتجيه، وياليتَ أنّ الموت بيع
1 / 163
فأغلى الله سومه، حتى يَرِدَه من قد أطال عليه حومه، ثم قال:
لا تأمننَّ من الزّمان تقلُّبَا ... إنَّ الزّمانَ بأهلِهِ يتقلّبُ
ولقد أراني والليوث تخافني ... وأخافني من بعد ذاك الثعلبُ
حَسبُ الكريمِ مذلّةً ومهانةً ... ألاّ يزالُ إلى لئيمٍ يُطلَبُ
فلمّا بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد، أو يومئ إليه بعين أو يد، فلمّا أخذ مجلسه تسرّع إليه الوزير محمد بن حَفص بن جابر فعنَّفه واستجفاه،
وأنكر عليه ترك السلام وجفاه، وجعفر معرض عنه، إلى أن كثر القول منه، فقال له: يا هذا، جهلتَ المبرّة، فاستجهلتَ معلّمها، وكفرت اليد فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها، ولو أتيتُ نكرًا لكان غَيرُك أدرى، وقد وقعتَ في أمر ما أظنك تخلص منه، ولا يسعك السكوت عنه، ونسيت الأيادي الجميلة، والمبرّات الجليلة، فلمّا سمع محمد بن حَفص ذلك من قوله، قال: هذا البَهَتُ بعينه، وأيّ أياديك الغرّ التي منَنت بها، وعنيتَ أداء واجبها؟ أيدُ كذا أم يدُ كذا؟ وعددَ أشياء أنكرها منه أيام إمارته، وتصرّف
1 / 164
الدّهر طوع إشارته، فقال جعفر: هذا ما لا يُعرف، والحقُّ الذي لا يُردُّ ولا يُصرَف، رفعي القطع عن يُمنَاك وتبليغي لك إلى مُنَاك، فأصرّ محمد بن حَفص على الجَحد، فقال جعفر أُنشِدُ الله من له علم بما أذكره، إلاّ اعترفَ به ولا ينكره، وأنا أحوج إلى السكوت، ولا تُحجَبُ دعوتي فيه عن المَلكَوت، فقال الوزير أحمد بن عباس: قد كان بعض ما ذكرتَه يا أبا الحسن، وغير هذا أولى بك وأنت فيما أنت فيه من مِحنّتك وطلبك، فقال: أحرجني الرجل فتكلّمت، وأحوجني إلى ما به أعلمت، فأقبل الوزير أبو الوليد محمد بن جَهوَر على محمد بن حَفص، وقال: أسأتَ إلى الحاجب، وأوجبتَ عليه غير الواجب، أوَ ما علمتَ أنَّ منكوبَ السُّلطان لا يسلّم على أوليائه، لأنه إن فعل ألزمهم الردَّ لقوله تعالى: (وإذَا حُيّيتُمْ بتحيّةٍ فَحَيّوا بأحْسَنَ مِنهَا أوْ رُدّوُهَا). فإن فعلوا أطاف بهم من إنكار السلطان ما يُخشَى ويُخَاف، لأنه تأنيسُ
1 / 165
لمن أوحش وتأمين لمن أخاف، وإن تركوا الردّ أسخطوا الله فصار الإمساك أحسن، ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن، فانكسر محمد ابن حَفص، وخجل ممّا أتى به من النقص.
وبلغه أن أقوامًا توجّعوا له، وتفجّعوا مِمّا وصله، فكتب إليهم:
أحنّ إلى أنفاسكم فأظنُّها ... بواعثَ أنفَاسِ الحَياةِ إلى نفسي
وإنّ زمانا صرتُ فيه مقيّدًا ... لأثقلُ من رَضوى وأضيقُ من رَمْسِ
الوزير أبو العبّاس أحمدٍ بن عبد الملك بن عُمَر بن
شُهَيْد
مَفخَر الإمامة، وزَهرُ الكِمَامة، حاجِبُ الناصر عبد الرحمن، وحامل الوزارتين على سموهما في ذلك الزّمان، استقل
1 / 166
بالوزارة على ثِقَلهَا، وتصرَّف فيها كيف شاءَ على حدّ نظرها، والتفات مُقِلِهَا، فظهر على أولئك الوزراء، واشتهر مع كثرة النُّظراء، وكانت إمارةُ عبد الرحمن أسعد إمارة، بَعُد عنها كل نفس بالسَّوءِ أمّارة، فلم يطرقها صَرف، ولم يرمقها بمحذور، طَرف، ففَرَع الناس فيها هِضاب الأمانيِّ ورُبَاها، ورتعت ظباؤها في ظلال ظُبَاها، وهو أسدٌ على براثنه، رابض، وبَكَلٌ أبدا على قوائم سيفه قابض، يروع الروم طَيفُه، ويجوس خلال تلك الديار خَوفه، ويُروى من نجيعهم كُلَّ آونةٍ سيفُه، وابن شهيد ينتج الآراء ويُلقحها، وينتقد تلك الأنحاء وينقّحها والدولة مشتملة بفنائه، متجمّلة بسنائه، وكرمه منتشر على الآمال، ويكسو الأولياء بذلك الإجمال، وكان له أدب تزخر لُجَجُه، (وتبهر حُجَجُه)، وشعر رقيق لا ينقّد، ويكاد من اللطافةُ يُعقَد، فمن ذلك قوله:
ترى البَدرَ منها طالعًا وكأنّما ... يجول وشاحاها على لُؤلُؤٍ رَطبِ
بعيدةُ مهوى القُرْطُ مُخطَفَةُ الحَشَا ... ومُفعَمَةُ الخَلخَال مُفعَمة القُلبِ
1 / 167
من اللاّءِ لم يَرْحلنَ فَوقَ رَوَاحِلٍ ... ولا سِرنَ يومًا في رِكابٍ ولا رَكبِ
ولا أبرَزتهُنّ المُدَامُ لِنَشوَةٍ ... فتشدو كما تشدو القيان على الشَّربِ
وكانت بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولي الأمر معه، ومشاركة في التدبير إذا حضر موضعه، منافسة، لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة وكلاهما يتربص بصاحبه دائرة السوء، ويغصُّ به غَصَصَ الأُفقِ بالنَّوءِ، فاجتاز يومًا إلى رَبَضِه، ومال إلى زيارته ولم تكن، من غرضه، فلمّا استأمر عليه، تأخر
خروج الأذن إليه، فثنى عِنَانَه حَنَقًا من حِجَابه، وضجرًا من حُجَّابه، وكتب إليه مُعرِّضًا، وكان يلقّب بالحمار:
أتيناك لا عن حاجةٍ عَرَضتْ لنا ... إليكَ ولا قَلبٍ مشوقُ
ولكنّنا زُرْنا بفَضْل حُلُومِنَا ... حمارًا تولّى بِرَّنا بعُقوقِ
فراجعه ابن جهور يغضّ منه، بما كان يشيع عنه، بأن جدّه أبا هشام، كان بيطارًا بالشام، بقوله:
1 / 168