لم يرحبوا به، لكنهم لم يطلقوا عليه النار، طلبوا منه أن يبتعد، قال لهم إنه أسير هارب من جيش المتمردين جماعة شارون، قالوا إنه لا يمتلك أدلة تقنعهم، وهم لا يعرفون ما هي الأدلة التي تقنعهم، عليه أن يبتعد، أن يذهب نحو القرية التي تبعد خمسة كيلومترات غربا وأن يسلم نفسه للشرطة، وأنهم سيعتنون به، لا مكان لدينا هنا للأسرى أو الهاربين من الجيش وغيرهم، نحن قوات مراقبة وكتابة تقارير.
ما اسم هذه القرية؟
البوليس سوف يحدثك عن كل شيء ويعطيك المعلومات الضرورية التي تحتاج إليها.
كان المترجم يستخدم نفسه كآلة للكلام لا غير، ولو أن بوجهه انطباعا لم يرتح له إبراهيم خضر كثيرا، يعرف أن السبب هي بشرته الصفراء وشعره الكث، لولا لغته لحسبه كل من رآه جنجويدا؛ فالجنجويد يستخدمون لغة وطنهم وهو عربي النيجر أو ما يسمى «بالضجر»، وغالبا ما تحتاج إلى مترجم يفسر معانيها بلهجة عربي السودان، ولكن إبراهيم خضر يتحدث عربي وسط السودان بلكنة الشرق. كانوا يقفون على مبعدة عنه، يشهرون سلاحهم في خوف ورعب واضحين.
عليك أن تبتعد، أن تذهب نحو القرية إنها قريبة جدا وبها نقطة شرطة تعمل 24 ساعة.
كان مرهقا وجائعا وعطشان، كان الشرطيون أكثر رحمة، حيث إنهم أعطوه ماء، وبقية عشاء كانوا قد أطعموا معظمه، تحروا معه، ولكنهم أدخلوه الحبس إلى أن يتأكدوا من صحة المعلومات في الصباح الباكر، يمكنك أن تنام، قدموا له برشا من السعف وبطانية عسكرية قديمة ونصيحة غالية: أوعك تحاول الهروب، كل من هرب من الحبس مات.
لم يحلم بشيء؛ لأنه حلم بالعالم كله، حلم بأنه قد نجى أخيرا وعاد إلى مدينة كسلا مسقط رأسه، لأمه وأبيه وأخته وجيرانه. كانت المدينة كلها هنالك ترحب بعودته، تستقبله منذ بوابتها عند الطريق العام، أطفالها ونساؤها، عمالها، موظفوها، البجا بشعورهم الكثة وصدرياتهم الجميلة السوداء والزرقاء والبيضاء، الجنود النظاميون يقفون صفا واحدا طويلا تتقدمهم موسيقى القرب، الأستاذ يقف تحت شجرة نيم عملاقة، في وجهه ابتسامة عريضة، يحمل كتابا بيده اليمنى، كان يلبس جلبابا أبيض ويلتحف ثوبا جميلا من التوتال، المدينة كلها على ظهر سفينة عملاقة، كأنها سفينة نوح، بها مخلوقات غريبة وكبيرة جدا، يحملها الموج بعيدا في السماء، تبحر خفيفة كمركب من ورق كان يصنعها وهو طفل بالروضة، ثم دقت الأجراس، دقت الأجراس الكبيرة، صليلها تردده الدنيا كلها. كان الشرطي يفتح باب الحبس وفي صحبته رجل من الاستخبارات العسكرية، عندما سمع اسمه، استيقظ، كان رجل الاستخبارات يضحك بصورة هستيرية وهو ينهض إبراهيم مستخدما كلتا يديه: قوم يا كلب.
كان هذا صديقه الحميم قدورة إسحاق، لقد عملا معا في الفاشر، وهربا من الأسر أيضا ذات مرة من جيش العدل والمساواة، وإن إبراهيم عالجه مرتين من جروح خطيرة بميدان القتال.
قال لقائد المنطقة العسكرية العميد الشاب، إنه يريد فقط أن يعود لأسرته، ها هي سنته العاشرة التي قضاها في ميدان القتال، وتعرض للموت أكثر من عشرين مرة، أسر مرتين، وكاد أن يقتله الشبحان بالأمس، وإنه يريد أن يرى أمه وأباه، يريد أن يتزوج وينجب أطفالا مثله مثل الآخرين، فأنا لست مقاتلا ولست عدوا لأحد، ولا أرغب في أي عمل بطولي، بل قال له صراحة، إنه لا قضية له يحارب من أجلها، إنه لا يريد أن يصبح شهيدا أو بطلا، وكأن لسان حاله يقول: توجني جبانا وأعدني لأسرتي.
أكد له القائد الطيب أنه متعاطف معه قلبا وقالبا، ولكن لا توجد وسيلة لنقله لمدينة نيالا ولا أية مدينة أخرى، وأنهم شبه محاصرين، وأن الطائرات ترمي لهم بالطعام من السماء ولا يمكنها أن تهبط، وطلب منه أن ينتظر قليلا ربما تفرج، أنا متأكد أنها ستفرح قريبا، هنالك اتفاقية سلام تلوح في الأفق، تقودها دبي، والصين وروسيا يضغطان على المتمردين ويدعمان الحكومة.
Bilinmeyen sayfa