إهداء
طر
النخاسون
جنون الجسد
صيد الجن
سكك الخطر
الحرية وقرينها
الكلمة
شيزوفرينيا المستلب
العنكبوت
كيف كفرت العمة خريفية؟
المؤمنون بي والكافرون
ملك الموت
في طريق ابن الإنسان
مريم الحبيبة
الموكب
إهداء
طر
النخاسون
جنون الجسد
صيد الجن
سكك الخطر
الحرية وقرينها
الكلمة
شيزوفرينيا المستلب
العنكبوت
كيف كفرت العمة خريفية؟
المؤمنون بي والكافرون
ملك الموت
في طريق ابن الإنسان
مريم الحبيبة
الموكب
مسيح دارفور
مسيح دارفور
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة النظيفة، النقية الشفيفة، مريم بنت أبي جبرين، أمي.
عبده بركة
أهون لجمل أن يلج من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.
مسيح دارفور
طر
القوة العسكرية المنوط بها حسم الأمر لا تتجاوز ال 66 جنديا، وفريق كبير من النجارين المهرة وشبه المهرة، تم جلبهم بالقوة من نيالا وكاس وزالنجي. في الحقيقة كان هذا العدد كافيا جدا للقضاء على ثورة نبي كاذب - كما تم وصفه من قبل القادة الميدانيين وبعض الساسة الضالعين في إطلاق الألقاب الجيدة - كل قوته التي لا تحمل أيا من الأسلحة هي 15 رجلا وامرأة واحدة، وما يسمونه بالنبي الكاذب هذا قد أحيا في الجمعة الماضية أربعين شخصا من الموت، وشكل من ريشة واحدة غرابا حقيقيا جميلا، وقال له طر؛ فطار.
الشخص الذي صمم طريقة القضاء على الرجل كان يمتلك خيالا خصبا يحسد عليه، كما أنه يتسم ببرود أعصاب وإصرار على القتل بصورة مدهشة، وكان عليه أن ينجز الأمر بأسرع ما يمكن، خاصة بعد أن تناوله الناس المروجون من المتربصين بالحكومة الوطنية في الفيسبوك والتويتر والمواقع الإلكترونية العميلة مثل؛ الراكوبة، وسودان فوراول وغيرهما، كما أن الأمم المتحدة التي تدخل أنفها في كل شيء فيما يخصها وما لا يخصها، تتداول النقاش مع بعض الدول على إرسال مبعوث خاص لمعاينة موضوع النبي الدارفوري الغريب، كما أسمته الصحافة الغربية، من قرب كاف ورفع تقرير بذلك، كما أن الجماعات التي أعلنت إيمانها المطلق به حتى قبل أن تعرف تفاصيل دعوته، تتجمع الآن من كل أنحاء العالم وتسير في قافلة عملاقة نحو دارفور. عليه أن يقطع الطرق أمام هذا وذاك ويقوم بالتخلص منه بقتله، ولكنه يريد أن يقتله بطريقته الخاصة، بأسلوبه الذي يحب، يريد أن يختار له نهاية تليق بأسلوب ادعائه.
يقول إنه المسيح، ليس متشبها به، وليس داعيا بدعوته، وليس أحد تلامذته ولا مريديه، وليس المسيح الدجال ولا المهدي المنتظر، ولا برمبجيل، يقول إنه السيد المسيح بلحمه ودمه، وبهذا يستحق صلبا حزينا بائسا يجعل كل من يحاول أن يدعي النبوة - وهم كثر في هذه الأيام - أن يفكر ألف مرة قبل أن يعلن ذلك.
كان النجارون وأشباه النجارين مشغولين في صنع خمسة عشر صليبا من أفرع أشجار السنط المقطوعة حديثا الصلبة وعليها بقايا الشوك، كانت صلبانا ثقيلة، يحاولون أن يجعلوها أثقل ما يمكن، يختارون السوق الأكثر رطوبة، المروية جيدا بماء الأنهر البعيدة في عمق الأرض، يضعون حولها دعامات ثقيلة من سوق أخرى أكثر ثقلا، يدقون في أعماقها مسامير غليظة من الحديد الصلب ذات نهايات حادة، ويتم تذكيرهم بين وقت وآخر أنهم قد يصلبون على ذات الصلبان التي يصنعونها الآن إذا لم تكن جيدة الصنع، كان النجارون وأشباه النجارين مجتهدين، يصلون الليل بالنهار، أمامهم ثلاثون ساعة لا غير، العساكر لم يكونوا على أهبة، ولم يصبحوا كذلك، لا يمكن أن يؤذي من لا سلاح له، بل من يقول إنه سوف يبارك قاتليه؟ فكانوا لا يكفون عن لعب الورق والشجار حول من الذي صنع البندقية الكلاشنكوف.
الجنود ال 66 شرسون، حاربوا في كل بقاع السودان، كانت لهم صولات وجولات في الجنوب والشرق والغرب، وقد يقاتلون في ميادين أخرى من أرض الوطن الحبيب، وهنا تكمن خطورتهم، إنهم متخصصون في القضاء على ثورات مواطنيهم بالذات؛ أي مثل القطط التي تأكل أبناءها، وتهرب من نباح كلب الجيران، الجنود ال 66 مدججون بأسلحة ثقيلة وخفيفة؛ دبابتين، ناقلتين للجنود، وعربتين لاندكروزر مزودتين بدوشكا، يلفون رءوسهم ووجوههم بشالات ملونة وكأنهم فرسان من قبيلة الطوارق. من الخطأ التعامل معهم وكأنهم شخص واحد، هم يختلفون كثيرا عن بعضهم البعض؛ في النشأة ، والموطن، استخدامهم للسلاح، حبهم للحياة، وفي فهمهم للحرب، بل في إيمانهم بالقضايا التي يحاربون من أجلها، أسرهم، عشيقاتهم وأحبائهم، من له أبناء وبنات ومن هو أعزب ومن ليس له غير نفسه، حبهم للحياة، مقدرتهم على التضحية بالروح والدم. فال 66 جنديا، هم في الحقيقة 66 إنسانا، يكتشف ذلك من يقترب منهم أكثر، من يستمع لنبض قلوبهم، من يتحسس سريان الدم في شرايينهم، من يستطيع أن يدخل أصابعه في جيوبهم ويلمس لزوجة فقرهم وحرمانهم. الجنود ال 66 مستعدون لتنفيذ الأوامر في الحال.
إبراهيم خضر، ليس هو القائد الميداني، كما أنه ليس صاحب قرار في مصير الرجل، وهو أيضا ليس من مهمته إقناعه وقيادته إلى جادة الطريق. كان مكلفا بفهم آراء الرجل، وكتابة تقرير واف عن ذلك، لا أكثر ولا أقل، تحت عنوان وإرشادات معطاة مسبقا، ولا نريد منك أكثر من ذلك، وليس من ضمن تلك الأسئلة القائدة سؤال مثل: هل هو نبي أم لا؟ كان بوده أن يسأل مثل هذا السؤال، ولكنهم للأسف يعرفون ويؤمنون بأنه ليس نبيا، فآخر الأنبياء في الدين الإسلامي هو النبي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وآخر الأنبياء عند الدين المسيحي هو السيد عيسى المسيح. أما البوذيون والصوفيون وغيرهم فيتمسكون بمقولة: كل عقل نبي، ويفتحون بذلك الباب واسعا لكل من هب ودب، الذين أرسلوه في هذه المهمة لا يخطر ببالهم مجرد خاطرة أن يكون هذا الرجل نبيا حقيقيا، أو كما يقول هو عن نفسه: عيسى ابن الإنسان.
وكان الجنود يلعبون الورق، يشربون المريسة اللذيذة التي يصنعونها من بقايا خبز الطعام وأشعة الشمس الحارقة، كانوا 66 جنديا، ينضوون تحت كتيبة جاءت لدارفور من شرق السودان؛ لذا يسمونهم الشرقية، شعارهم خنجر، عندما تراه تحس به يتوغل في جسدك، يخترق جلدك؛ ليقبل قلبك الخائف قبلة أخيرة لا فكاك منها. ليسوا بجا جميعا، بل في الحقيقة ليس من بينهم بجا، يعني أن البجا بهذه الفرقة الصغيرة عددهم خمسة أفراد، ليست لديهم شعور كثة، وليست بوجوههم وشام كتلك التي لدى جدودهم منذ ما قبل مملكة كوش ، أقصد تلك الخطوط الثلاثة الأفقية، التي تشير للرب، وهو في ذلك الزمان الفيل؛ حيث إنه كان أكبر المخلوقات حجما، للأرض، والسماء. الشرقية بها تشكيلة من كل سكان السودان القديم والحديث، يوحدهم شيء واحد، وهو أنهم شجعان ولا يعصون الأوامر، وأنهم يلعبون الورق في هذه اللحظة.
أما النجارون وأشباه النجارين؛ فكانوا مرهقين جدا وناقمين، وليسوا سعداء بالمرة، ولم يخفف عنهم دوام العمل الطويل الممل العمال المائة الذين ألحقوا بهم، وهم قاطعو الأشجار موضبو الأخشاب، الذين يثبتون المسامير في مواضعها، وطارقو المسامير الحديدية الحادة القاسية، وصانعو الطعام والشراب، الذين يرفضون رفضا قاطعا صناعة المحرمات مثل المريسة، كما أن لا خبرة لهم في صنعها، كانوا لا يعرفون لم يصر القائد الميداني على صناعة الصلبان، أليس من الأسهل والمفيد للوقت ولهم أن يتم إعدام هذا الكافر ومن يتبعه بالرصاص؟! نعم إنه مزعج ومخيف ويصدر ضجيجا مرعبا، ولكنه سيريحهم من صنع هذه الصلبان البغيضة المعقدة، الثقيلة، كانوا شبه أميين، لا يعرفون شيئا عن يوسف النجار، وحدثهم خطيب صلاة الجمعة أن الصليب الذي يلبسه المسيحيون في أعناقهم مصلوب فيه شبيه السيد المسيح، وليس سيدنا عيسى ابن مريم؛ لأن الله رفعه للسماء وأنزل بدلا منه هذا الرجل المسكين الذي صلبه اليهود وهم يظنونه عيسى ذاته، لم يصر هذا العسكري على صلبهم، بينما لم يصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم؟ إذن ما ذنبنا نحن النجارين؟
العسكر ال 66 لا يرغبون في الحرب، وليست هي من ضمن هوايات أي منهم. إنهم من أسر كريمة تقدس الحياة وتحترم الجار والصديق، وتقيم الصلاة أيا كانت، في الكنيسة أو في الجامع أو في أي من أمكنة الله الكثيرة، وتعرف أن الرب لا يحب أن تقتل النفس البشرية، وأنه حرم ذلك، ولكن من يطلق الأوامر هو من يتحمل الذنوب والخطايا التي ترتكب في الحرب، إنهم سيطلقون الرصاص إذا أمروا بذلك، ولكن المرتكب الحقيقي لجريمة القتل هو القائد الميداني، وهو الوحيد الذي يمتلك حق إصدار الأوامر. إنهم يعرفون ذلك جيدا، وهذا أخطر ما في الأمر ؛ لأن ضمائرهم ستصاب بالموت، بالخدر البارد مثل الطين المخلوط بماء آسن؛ أي إنهم عندما يذهبون إلى منازلهم بعد كل معركة، سوف لا يحملون في ظهورهم أوزار موتى أبرياء أزهقوا أرواحهم قبل ساعات قلائل، القادة الميدانيون بدورهم يحملون جرم ما يفعلون لقادة أكبر يتسكعون في المركز، يستحسنون شرب القهوة المعطرة بحدائق أوزون، وبيرة بافاريا على شاطئ النيل الحبيب، وهؤلاء يقولون إن القاتل هو من أشعل الحرب؛ أي ذلك السياسي الرقيق الذي ينام في بيته مع أطفاله بعد أن يغني لهم بعض التبتبات، ويرضي زوجته المتبرمة بأوقية من الذهب الخالص، والسياسي الحصيف يقف وراء المايكروفون قائلا: أمريكا وإسرائيل - وأخيرا أخذوا يضيفون حكومة جنوب السودان - وراء هذه الحروب، بذلك يكون قد ولغ من الدم ما يشبع روح غول رحيم.
النجارون وأشباه النجارين يصنعون الصلبان في مقاس واحد فقط، وهو يصلح للجميع، نساء ورجالا، يعملون عليه بصورة نظرية، فليس لديهم تصور على كيفية عملها؛ لأنهم لم يروا ذلك من قبل، بل لم يشاهدوا صورا لأشخاص مصلوبين. لقد أعطوا المقاسات من طول وسماكة الأخشاب وقوتها وعدد المسامير ونوعها، وفوق ذلك كله طلب منهم أن يقوموا بدق المسامير على المصلوبين فيما بعد. لا يوجد أكثر حرفية من نجار في دق المسمار، أليس كذلك؟! ومن الأحسن أن تكون أنت من يدق المسمار وليس من يدق المسمار في جبهته وكفتي يديه، وواحد طويل وسميك في منتصف الصدر.
الرجل ومحبوه ومؤيدوه كانوا يجلسون في مكان مجهول لدى الجميع، بمن فيهم العسكر الذين جاءوا لقتلهم، والنجارون الذين يصنعون الصلبان، وإبراهيم خضر إبراهيم نفسه، ولكي يتضح هذا اللبس، دعونا نلقي نظرة على المكان، وهو عبارة عن موقع لقرية قديمة تم حرقها وإزالتها من الوجود قبل عامين، تقع في وادي عميق خصيب، حولها سلسلة جبلية مستطيلة، تحيط بنصفها الجنوبي والغربي، يوجد في لصق الجبل الغربي منبع مائي صغير، وكان هو من الأسباب التي قادت الجنجويد إلى المكان وإبادة ساكنيه، وإنهم فيما بعد جلبوا إليه بضعة مئات من الجمال لترعى فيه مع بعض الأسر، ولكننا الآن لا نرى أيا من هؤلاء الجنجويد وأسرهم، لقد قضى عليهم الرجل بكلمة واحدة، قال لهم اذهبوا نحو بلدكم؛ فأخذوا جمالهم وأطفالهم ونساءهم وعادوا للنيجر، تركوا بعض بعر الإبل وقليلا من الوبر متناثرا هنا وهنالك، ورائحة بول ماشيتهم ظلت عالقة بالهواء لأيام معدودات، ثم زالت أو أنها لحقت بهم. هكذا بكل بساطة ويسر، على مبعدة من النبع ببضعة أمتار توجد مغارات كبيرة وصغيرة، وهي بقايا سكنات دولة الداجو القديمة في قرون ما قبل الميلاد، مرسوم بها تفاصيل حياتهم اليومية، إنهم يقضون وقتا طويلا بالداخل، لا يدري أحد ما يفعلون، ولكنهم يخرجون في صبيحة كل جمعة، ويبقون في ظل راكوبة كبيرة منصوبة بين الأشجار التي تحيط بالنبع، وفي هذا المكان والزمان سيجدون جنودنا في انتظارهم والصلبان الغليظة تتشهى أجسادهم النحيلة الكافرة وتتشوق لعناقهم الأبدي.
النجارون وأشباه النجارين تعبوا من معالجة الأخشاب الصلبة الحمراء، استعانوا بالأغنيات التي تزخر بها ذاكرتهم المملوءة بنشارة الخشب، فحيح المناشير وأنين الأشجار. بالنسبة للكثيرين منهم إن هذه المهمة التعيسة قد توفر لهم كثيرا من المال أو بعضه بالقدر الذي يمكنهم من توفير مصروفات منزلية ملحة، ظلت عالقة في حبال المشيئات يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر، وقد تبدو بسيطة تافهة لدى البعض مثل أحذية الأطفال، أو ثوب جديد للزوجة التي لا تملك سوى بعض الأحلام، قل بيتا صغيرا، أو تحسينات في القطيات القديمات، أو سروالا جديدا لطفل كبير: قد يعطوننا مالا كثيرا. أما بالنسبة للقلة فإنهم يتشاءمون كثيرا بصنع الصلبان، وإن المال الذي سوف يجنونه من ذلك هو مال حرمته مؤكدة، يقيسون في لا وعيهم بتحريم الإسلام للخمور، فما حرم شربه تقطيره حرام بالتالي، ما حرم لبسه فحرام صنعه، وها هم يفعلون ما حرم الخالق، ويستر الله إذا لم يدخلوا النار يوم القيامة من جراء هذه الصلبان التي يقومون بصنعها الآن؛ يعملون بجد واجتهاد، بينما تدور كل هذه الهواجس في رءوسهم.
الجنود ال 66 والنجارون وأشباه النجارين، لا دخل لهم بما يدعيه الرجل من نبوة أو ألوهية أو ما يشاء، وما تنوي الحكومة من نوايا تجاهه، هو لا يضر بنا بشيء، كما أن ما تنويه الحكومة لا شأن لنا به، ولكنهم كانوا لا يسألون أنفسهم مثل هذه الأسئلة، أقصد أنها لا تخطر ببالهم. بمعنى آخر، إنهم لا يمضون بها إلى حيث نهاياتها، لم ينالوا فيما قبل المعرفة التي تمكنهم من صياغة مثل هذه الأسئلة. لقد حالت أسئلة اليوم دون أية أسئلة أخرى، أسئلة أكثر جمالا وتعقيدا، أو بالإمكان القول: لقد حيل بينهم وبين الأسئلة الفعلية أو طرائق نهاياتها، الأسئلة التي تخصهم كبشر، التي تخص خياراتهم بالذات، التي تجعلهم أحرارا في نهاية المطاف.
سمعوه يقول فيما بعد: السجان هو سجين باختياره، والصليب لنا، ولمن صنعه لنا.
ويقول أيضا: لا يصبح حرا من لا يستطيع أن يتبين أسئلته.
وكان يقصد الأسئلة التي تطلقهم أحرارا مثل طيور السمبر، ولم يتحدث يوما عن الإجابات؛ لأنها كما علموا: متغيرة.
في الجمعة السابقة خرجوا من أوكارهم وتمشوا قليلا ناحية ما كان في الماضي وسط القرية. وقف الرجل عند كوم تراب عليه بعض الحجارة، قال لأصحابه، بلغة دارفورية قديمة يجيدونها جيمعا عربا ودارفوريين: من منكم يرى ما بداخل هذه الكوم من التراب؟
كانت مريم، تلك المرأة الجميلة التي سميت فيما بعد بمريم الحبيبة، ومن قبل سماها القائد العسكري المتمرد شارون بمريم المجدلية، قبل أن تتركه وتنضم لجماعة الرجل، قالت له: أنا لا أرى شيئا.
وكذلك أكد بقية أصحابه أنهم لا يرون شيئا، قال لهم إن بإمكانهم أن يروا إذا أرادوا، وكانوا يريدون ولكنهم لا يرون شيئا، وقال لهم أشياء كان يقولها كثيرا، تخص الموت والحياة والإنسان وقدراته غير المتناهية. وفي تلك اللحظة هبت ريح خفيفة كانت بها ريشة طائر، هبطت الريشة على كتف أحد أصحابه وكان يقف قريبا منه؛ أي بينه وبين مريم الحبيبة. أخذ الريشة، لونها رمادي تميل للسواد، كانت أشبه بريشة غراب أو طائر سنبر صغير، قال لهم: إن الريشة هي الطائر.
وبينما كانوا مندهشين ينظرون، إذا به يرسم غرابا على الأرض، يضع الريشة في مكانها المناسب، بل الصحيح، تنمو بقية الرياش في أماكنها بالقرب من الريشة الأولى، تكتمل بنية الرياش؛ من ثم يظهر المنقار، القوائم، المخالب، إلى أن اكتمل الغراب، يبتسم، سألهم: هل منكم من يستطيع أن يجعل هذا الغراب يطير؟
قال رجل من الأعراب اسمه حامد: لا أظن أن أحدنا يستطيع ذلك.
فقال للغراب: طر.
فطار الغراب، حلق بعيدا، تقلب في الفضاء مستعرضا جناحيه وسواد أرياشه، نعق مخترقا السماء الصافية نحو الشرق إلى ما لا يدرون، إلى أن اختفى عن دائرة نظرهم جميعا، فقال لهم: إذا كان قد قال أي منكم لهذا الغراب كما قلت له لفعل، كل ما ينقصه هو كلمة: طر.
وقال لهم: إذا كانت الريشة تدري الكلمة لقالتها لنفسها، فجمعت أشلاء الجسد الذي كانت تنتمي إليه، استدعت دمها ونعيقها وروحها وطارت، لما انتظرت مجيئنا لحظة.
وظن الكثيرون أنه قد يعني بذلك أن الكلمة في الأحياء كما هي في الأشياء.
وقال لهم: أعدوا العدة للموكب.
وما كانوا حينها يدرون ما هو الموكب، ولكنهم أخذوا يعدون له العدة.
وقال لهم: الموكب الموكب.
كان النجارون وأشباه النجارين، مشغولين في صناعة الصلبان الثقيلة، الجنود ال 66 يلعبون الورق، والرجل يعلم الكلمة للمؤمنين به وللكافرين على حد سواء، ويعدهم للموكب، لا يدرون متى قال لهم: الكفر يا أحبائي درجة بالغة التعقيد من الإيمان.
النخاسون
يبدو أن مصائرهما قد ارتبطت بعضها البعض رباطا لا فكاك منه، وليست هي الصدفة وحدها، ولكنهما في أحيان كثيرة كانا يسعيان لذلك، قد التقيا في المرة الأولى بتخطيط من القدر، وعملت أياد نجسة - وسمياها فيما بعد شيطانية - كثيرة في جعل ذلك اللقاء: ممكنا، مؤلما ونهائيا.
في 23 نوفمبر 2002 حوالي الرابعة مساء، عند نقطة تفتيش سوبا على مشارف مدينة الخرطوم، توقف الباص خلف باصات كثيرة سبقته في المكان والزمان، ترجل السائق وفي معيته المضيف، اختفيا لبعض الوقت، عندما عادا كان في صحبتهما رجل يحمل قائمة أسماء المسافرين بيد، وبالأخرى يحمل قلما أزرق ماركة بك، يرتدي بذلة سفاري رمادية، له عينان صغيرتان ضيقتان، ولكنهما حادتان كعيني نسر كاسر، بنظرة واحدة - في ثوان معدودات - شاهد كل الركاب. نظر إلى قائمة المسافرين، خطط بقلمه ثم أشار إلى البعض بأن يترجلوا من الباص ويتبعوه، وذلك دون أن يكلف نفسه قول كلمة واحدة، نزل خمسة من الشبان في أعمار متقاربة - بصمت - في ترقب مضوا خلف الرجل ذي السفاري الرمادي، الذي دخل خيمة من الكانفاس غبشاء، تقع شرق الطريق السريع، خلفها يقف لوري عليه قفص من الحديد به نوافذ صغيرة للتهوية منسوجة من السيخ الصلب، باختصار كان اللوري قبيحا، بائسا ومثيرا للتشاؤم. وانتبه الجميع وهم يصعدون إليه، إنه أشبه بقبر من الحديد على الأسفلت.
يصعب تتبع الدوامات الأولية التي وجدا فيها نفسيهما؛ لأنها كانت سريعة، بل تمر بصورة لولبية وعنيفة لا تصدق، أدخلا عددا من المكاتب الحكومية الصفراء التي تفوح من جوانبها رائحة الورق والسجائر البرنجي، مختلطة بزنخ الجوارب المتعبة، قابلا رجالا من العسكر والمدنيين لهم نفس الملامح والسحنات، تم سؤالهما ذات الأسئلة مرارا وتكرارا، وقيل لهما ذات الكلام مرارا وتكرارا، وحذرا من ذات الأفعال، فعل ذلك كل من التقى بهما من الرجال العسكريين والذين أخطر منهم وهم «العسكر ومدنيون»، طلب إبراهيم خضر، وهو الأصغر عمرا، كان شحما بعض الشيء، يتحدث بصورة متقطعة، وهي عادة ورثها جدا عن جد، طلب منهم أن يتركوه يوصل أخته التي تدرس بالجامعة وهي في سنتها الأولى وزيارتها الأولى لمدينة الخرطوم، أن يوصلها إلى الداخلية ويكمل إجراءات تسجيلها ويعود إليهم مرة أخرى، ضحكوا من سذاجته وقالوا له فيما يعني: تجدها عند الغافل، وأكد له «عسكر ومدني» نحيف له شفاه مبتلة ترتجف لاإراديا، أن الحكومة سوف تعين لها من يسهل كل ما يخصها، فقط عليه أن يتفرغ لأداء الخدمة الوطنية العسكرية الإلزامية، وأن يمضي إلى المعسكر خالي البال من كل هم.
الشخص الآخر الذي سوف نتتبع أخباره عبر هذه الحكاية أيضا، هو شيكيري توتو كوه، الذي ظل صامتا طوال فترة التحقيق، حتى إنه لم يذرف دمعة واحدة في اللحظة التي بكى فيها كل المجندين، عندما أقلعت بهم الطائرة العسكرية اليوشن الروسية العجوز نحو ما لا يعلمون من البلاد، لكنهم جيمعا كانوا موقنين أنهم يتوجهون إلى ميدان معركة ما، حامي الوطيس، في الجنوب أو الغرب، بعد أن قضوا فترة التدريب على الأسلحة الخفيفة في الأربعين يوما السابقة، وكانوا يعرفون أنهم سوف لا يرون الخرطوم مرة أخرى إلا إذا كانت في الجحيم مدينة بهذا الاسم.
الشخص العادي - وأقصد هنا الطبيعي - في رأي إبراهيم خضر، هو الذي لا يرى غضاضة في أن يحب مدينة نيالا ويعشق الأستاذ محمود محمد طه. لا يوجد ربط بين الاثنين غير أنهما ينطبقان على الشخص الطبيعي، شيكيري توتو كوه لم يسمع بالأستاذ محمود محمد طه قبل أن يلتقي إبراهيم خضر، الذي ينتمي لهذا المفكر والفكرة معا، ولا نظن أن ذلك سوف ينقص من أن شيكيري توتو كوه شخص طبيعي، ولكن والده توتو أخبره كثيرا عن مدينة نيالا، وحكى له عن أخته غير الشقيقة التي انقطع عنها قبل ميلاده، بل قبل أن يتزوج كاجيلا أمه، تسكن حي الوادي. يستطيع الآن أن يتذكر اسمها؛ لأنه غريب، وكان دائما ما يوحى له بصورتها، بل كان يراها كما يصورها اسمها وسط عشب كثيف وأبقار وأغنام ترعى، ومطر لا يتوقف. كان اسمها خريفية تور جاموس، سوف يبحث عنها عندما يستقر به الحال في المدينة، وإذا سمحوا لهم بالخروج من المعسكر. لا بد أنها قد أصبحت عجوزا كما هو الحال بأبيه الآن.
يؤرخان للقائهما الحقيقي باليوم الذي اختيرا فيه عشوائيا من قبل أيد ما، للعمل ضمن وحدة الاستخبارات الخاصة بالكتيبة التي أدغما فيها، وعندما شاهدا بعضهما البعض تذكرا ذلك اليوم جيدا، الذي تم صيدهما فيه على مشارف مدينة الخرطوم، ربما قابلا بعضهما البعض في معسكر التدريب بصحراء بغيضة شمال الجيلي، ولكنهما كانا وسط ألفين وثلاثمائة واثنين وعشرين مجندا، وكان المجندون إما مشغولين بالهرب؛ لأن الفرصة الوحيدة للنجاة هي الهرب من هذا المعسكر بالذات، بالرغم من الحراسة المشددة التي به، إلا أن المجند إذا لم يتمكن من الهرب منه، فإنه لا محالة مواجه للموت في معركة ما، ضد سودانيين متمردين على الحكومة المركزية في غابة أو صحراء ما، وإما أنهم مشغولون بمحاولة الاتصال بأحد ذويهم من أولي النفوذ الواصلين لكي يتدخل في الوقت المناسب ويفك أسرهم. في المعسكر الوقت يمضي سريعا نحو ميدان القتال، ولا أحد يثق في الآخر، فيشاع أن من بين المجندين مندسين يعملون لصالح السلطة، ولا يعرفون إلا عند الذهاب للقتال، حيث إنهم يتخلفون، وإذا اشتركوا في المعركة فإنهم بصدد تصفية بعض من يسمونهم الطابور الخامس. والمربك في الأمر أن أيا من المجندين عرضة لكي يصنف طابورا خامسا ولأسباب واهية، ربما لطريقة لبسه أو لمجرد كلمة تفوه بها عرضا، بل لمجرد لون بشرته؛ لذا لم تتوطد علائق لا جيدة ولا حسنة من قبل، بين شيكيري توتو كوه وإبراهيم خضر إبراهيم، ولا بين أحدهما وأي إنسان آخر. ونستطيع أن نقول: الأيام الأولى لهما في شعبة الاستخبارات شهدت شكوكا متبادلة بين الاثنين، ومشادات عنيفة كادت أن تنتهي بمعركة يدوية لولا برود أعصاب إبراهيم وحكمة شيكيري، ولكنهما وجدا نفسيهما معا ذات موقف إنساني عميق وظلا معا للأبد.
الليل في الصحراء بعيدا عن البيت لا يعني شيئا غير العدم، والصحراء لا تعني للجندي غير الهلاك، الجندي المعني ليس ذلك الثوري الذي يحارب من أجل قضية وطنية ضد عدو أجنبي دخيل، طالما آمن بها وتبناها، ولكن الحديث هنا عن الجندي الذي يدفع للحروب دفعا، الذي يصفي السياسيون بدمه حسابات ومطامع تخصهم، حتى إذا كانت ضد قبيلته وأسرته، بل مسقط رأسه، مثل الذي ظل يحارب ثلاثين عاما في ميدان معركة ولا يدري شيئا عمن يقتل أو من سوف يقتله هو في آخر المطاف، ذلك الجندي الحزين. وكان إبراهيم الخضر دائما ما يسخر من الشهداء والأبطال الذين توجوا بهذه الألقاب وهم يحاربون بني جلدتهم ذات بني ترابهم.
الليل في الصحراء صحراء أخرى، تدب في النفس مثل ثعبان أسطوري، كانا يزحفان على بطنيهما فوق رمل بارد، قرب معسكر للمتمردين يطلقون عليه الاسم الحركي ط 50، كان الهدف مراقبة طريق الإمداد الصحراوي الذي يمر بنقطة شمال مدينة الفاشر بثلاثمائة ميل، وتحديد الوقت اللازم للاعتراض، وهو عمل روتيني يقوم به العسكريون عادة، وهو أيضا لحد ما سهل وأقل مخاطرة في ظل أجهزة الرصد الصينية الحديثة، التي لا تتطلب من الراصد أن يبقى قريبا من موقع الحدث، بل يكفي أن يختار الزاوية المناسبة والوقت المناسب، وأن يقبع في مسافة معقولة لكي يحصل على أفضل النتائج، المشكلة هي أن القائد طلب من شيكيري توتو كوه أن يقوم بمراقبة إبراهيم خضر، وأن يعد تقريرا عنه، بل قيل لشكيري صراحة إنهم يشكون في ولاء إبراهيم.
ولا يدري شيكيري توتو كوه هل كان الضابط جادا أم أنها هفوة كبيرة منه عندما أتبع أوامره بلفظة قاسية ومربكة، حيث قال: راقب العبد.
وافتكر شيكيري توتو كوه أن اللفظة أطلقت عليه هو، حيث إنه استبعد تماما أن المقصود بها إبراهيم خضر إبراهيم، حيث إن إبراهيم لا يمكن أن ينطبق عليه هذا اللفظ وفقا للثقافة اليومية الموروثة؛ فإبراهيم له بشرة صفراء ناصعة وشعر ناعم، ويبدو واضحا من شكله الخارجي أنه من تلك المجموعات التي تطلق لفظ عبد على الآخرين، وليس هو من يطلق عليه هذا اللفظ؛ لذا اعتبر شيكيري أن الملازم يعنيه واستعد لمشاجرة عنيفة، إلا أن الملازم شرح له الأمر، وأكد له أنهم يمتلكون التفاصيل عن كل شخص؛ أي ما وراء المظهر الخارجي، وقالوا له: إن أسرة إبراهيم لوقت قريب لها أسياد، بل إن جدته المباشرة لها أسيادها الذين لولا الإنجليز لكانوا لا يزالون تحت القيد، وإن جد إبراهيم هو ابن السيد، ليس يعني هذا أنه ابن غير شرعي؛ لأن أمه مما ملكت أيمان سيدها، وهذا حلال في الشريعة ولم يختلف عليه فقيهان، ولكنه - كما أكدوا له - شخص حاقد على الآخرين والمجتمع؛ لذا يتبنى الأفكار الهدامة، مثل الشيوعية والجمهورية وغيرها.
كانت الأفكار تدور في رأس شيكيري وهو يزحف على الرمل البارد قرب إبراهيم، وربما شطح بعض الشيء وهو يفكر في علاقة جدة إبراهيم بالسيد، وهل لها زوج آخر، بل هل يحق لها أن تمتلك زوجا آخر، وما هي علاقة الزوج بالسيد، بل كيف صاد الصائدون النخاسة جدوده الأولين، لماذا لم يهربوا، هل قاوموا كثيرا، بل من هم النخاسة، أهم سودانيون كذلك؟ وتخيل نفسه مملوكا لسيد يمارس الجنس مع أمه؟ كان إبراهيم مشغولا بقراءة إشارات الجهاز الصوتية، يعتبر إبراهيم أن هذه المهمة ليست سوى مضيعة للزمن لا أكثر؛ لأنه سوف لا ينقل لقائده أية معلومة مفيدة عما يسمونهم الطورابورا، ويتمنى في عمق ذاته أن يستطيع الطورابورا الحصول على الإمدادات الكافية التي تمكنهم من الانتصار على جيشه وسحقهم جميعا، بمن فيهم هو نفسه.
في الحقيقة ما كان يثق في شيكيري توتو كوه إطلاقا؛ أولا لأن شيكيري لا يتكلم كثيرا ولا يعبر عما في نفسه، بل لا يعرف عنه حتى الآن إلا القليل، ولقد حدثه هو كثيرا عن أسرته وأهله وهمومه اليومية، بل حتى حبيبته، وأبعد من ذلك، إنه حكى له كيف أصبح جمهوريا في اليوم ذاته الذي ذهب فقط للضحك والشماتة على الجمهوريين في سجن كوبر، يوم إعدام ما يسميه أو يرمز إليه إبراهيم بالأستاذ. في 18 يناير 1985 الساعة العاشرة صباحا، برفقة كثير من المستهترين والجبهجية، قال له بصدق تام: عندما اعتلى الأستاذ منصة المشنقة، بمجرد النظر إليه - وقد تجنب الجميع أن تلتقي أعينهم بعينيه - عرفت أنه على حق، وأننا جميعا لسنا سوى القتلة؛ فلم يعدمه القضاة ونميري وحدهما، ولكن أيضا الذين لم نبذل جهد المقل في توقيفهم، قتلناه أكثر. لقد كان جميلا، شجاعا، نبيا، قديسا وإنسانا لا شبيه له، وهو يرفع رأسه في سلطة مطلقة. أحسست في تلك اللحظة أنه كان بإمكانه أن يحول تلك المشنقة إلى عرش عظيم، ويتوج نفسه ملكا أسطوريا ونهائيا لهذا العالم، إذا أراد. لكنه كان يريد أن يبقى هنالك، لوقت أكثر، وقت يمكن جلاديه من أداء واجبهم التاريخي، مثل ذلك الوقت الذكي الذي تكرم به السيد المسيح بين أيدي بعض الغوغاء المتعطشين للدم الأنقى. يحكي له يوميا عن كل ما يخطر بباله، لكن شيكيري كان يبتسم، يعلق باختصار، لكنه لا يقول شيئا خاصا به أبدا.
لكن لدى شيكيري اليوم رغبة كبيرة في التحدث، يريد أن يقول شيئا مهما لإبراهيم، سيحكي له عن القائد ويخبره عن التقرير ورأي القيادة فيه، بل لا يخفي عنه حكاية أنه عبد لقوم ما زالوا يمتلكونه طالما كان حيا، وسوف يتوارثونه أبا عن جد، وأبعد من ذلك سيقول له إنه نتاج معاشرة «ما ملكت أيمانكم»، ولكنه عندما تحدث أخبره عن رغبته في الهرب من الجيش، بأسرع ما يمكن؛ مما أدهش إبراهيم خضر؛ لأنه ما كان يتوقع ذلك من شيكيري بالذات، كان يحس بينه وبين نفسه أن هذا الشيكيري قد تم تجنيده ضمن آليات السلطة. حدثه شيكيري أنه منذ أن قبض عليه كان يفكر في شيء واحد: الانتقام أو الهرب.
كما يجب أن يحس أي شخص ذكي في مثل هذه الظروف، أحس إبراهيم خضر - وتأكدت له شكوك قديمة - أن شيكيري يريد أن يقيس ماءه، ويسبر أغواره؛ فابتسم كما يبتسم شيكيري عندما يحكي له هو آلامه وأفراحه، فتشكك شيكيري توتو كوه في نوايا إبراهيم خضر، وأحس أنه لم يقدر الموقف جيدا؛ من ثم قرر أن يتراجع عن تصريحه، ولكنه وجد نفسه قد تورط أكثر، عندما أضاف: أفضل الانتماء للمتمردين.
كانا يزحفان في الرمال منسحبين؛ فقد حان ميعاد استلام الوردية الثانية، الرمل البارد: بارد، جسداهما الباردان ينسحقان على الرمل، كانت الوساوس باردة، ولكن في داخل الرجلين لغة واحدة مشتركة تنمو رويدا رويدا، لم يستطيعا التعبير عنها جيدا، بل كلما حاولا الاقتراب منها ضلا سبل الإفهام، لكنهما أصبحا الآن أكثر قربا، عندما أخبر شيكيري إبراهيم بأن القائد طلب منه أن يراقبه ويكتب عنه تقارير مفصلة، يعني ذلك فيما يعني ربما يتوج إبراهيم قريبا بلقب: البطل الشهيد، طالما كان يسخر من هذا اللقب بمرارة ويكرهه.
جنون الجسد
العمة خريفية، امرأة سمينة، وليس ببيتها أشجار، يتكون منزلها من حجرتين مبنيتين من الطوب الأحمر، وحولهما برندة متسعة، وقطية جميلة منفصلة تقع على الجهة الجنوبية من المنزل، ربما كانت تستخدم للضيوف في الماضي، وهي الآن تخص ابنتها، تحيط بالمنزل أشجار المانجو العملاقة، يقع البيت على تخوم وادي برلي العظيم. على الرغم من أن هذا الوادي هو المكان الوحيد للحب في نيالا، إلا أن العمة خريفية ليس لديها أي أطفال نتيجة علاقة حب أو عاطفة ما. لديها بنت واحدة كانت مشردة فآوتها، ثم اعتادت عليها ثم تبنتها، ثم أصبحت بنتها وهي البنت الوحيدة في نيالا - وربما في السودان - تحمل اسم عبد الرحمن، على الأقل هذا هو الاسم الذي عرفت به وهم يلتقطونها من لظى المذبحة، حيث إن موظفي الإغاثة وجدوها حية تحت جثتين متحللتين، وعندما سألها أحدهم عن اسمها، قالت: عبد الرحمن.
كانت عبد الرحمن هي أول من استقبل شيكيري، وقادته إلى الراكوبة، وطلبت منه أن ينتظر هنالك إلى أن تعود العمة من سوق الجمعة، سقته ماء، جلبت له إفطارا، أعطته شبشبا خفيفا طلبت منه أن يحرر رجليه من البوت، ثم أخذت تحكي له عن عمتها خريفية، وأبدت له رغبة واضحة ومباشرة في أنها ترغب في أن تكون جنديا. يقدر عمرها بعشرين عاما؛ أي إنها قد تصغره بأكثر من سبعة عشر عاما، كانت رقيقة جدا وناعمة، وبها أنوثة طاغية وملفتة، على الرغم من آثار التقرحات القديمة البادية على ساقيها المنحسر عنهما ثوبها القصير، وأثر الجرح العميق في خدها الأيسر، ذلك التشوه الذي أصبح أثرا جماليا رهيبا، قالت له عندما شاهدته يحملق فيه: إنها سقطت من على ظهر فرس، كان لأسرتها في قرية خربتي أفراس وخيول كثيرة، وهي تمتطي الخيل منذ سن مبكرة جدا، وهي أحب الحيوانات لديها، وحدثته عن خيل جارهم صاحب جنينة المانجو، هنا في الجوار، الحديقة الملاصقة لبيتنا، الذي يقيم وحده بعد أن قتل أبناؤه في الحرب، وكيف أنه يسمح لها بامتطاء الخيل واللهو بها في وادي برلي، وقالت له إنها ستأخذه لحظيرة خيله إذا بقي معهما في المنزل طويلا: هل تسمع صهيلها؟
استطاع أن يخمن من أي القبائل هي بسهولة ويسر، الأهم من ذلك، وهو الشيء الذي يحدث أول مرة لشيكيري توتو كوه في حياته، أن هذه العبد الرحمن يتشهى أن يمارس معها الجنس، الآن وقبل أن تأتي عمتها خريفية، ربما للحرمان الذي عايشه بعيدا عن النساء طوال هذا العام الذي قضاه في ميادين الموت والحرب، ربما لرغبة جنسية عارمة أثارتها فيه أنوثتها، ربما لسبب عصي لا يدريه، ولكنها على أية حال تحرك الآن فيران رغباته، بل يحس بالمني يتجمع في رأس شيئه ويفتعل حرقانا لذيذا، ولكنه ملح ومربك. اعتذرت بشدة على أنه ليس بالبيت جلباب رجالي يلبسه؛ لأن ليس بالبيت رجل، آخر أزواج العمة خريفية طلقها قبل عشرين عاما، وليس هنالك سبب يجعله يزور البيت مرة أخرى، وليس هنالك رجل تدعه خريفية يدخل بيتها؛ لأن العمة تظن أن الرجل لا يمكن أن يتقرب إليها وهي في هذا العمر، إلا لشيئين؛ إما أنه يرغب في غواية بنتها عبد الرحمن، أو أنه يريد الاستيلاء على مالها، وهو كما تؤكد عبد الرحمن: مال كثير مثل التراب.
أخذ البوت ووضعه في الخارج، أحس أن رائحته قد لا تطاق، هو لا يستطيع أن يشمها، لقد اعتاد عليها. كانت تغيب عنه لبعض الوقت، تقضي أغراضا ثم تعود لتحدثه عن عمتها خريفية التي تظن أن كل ما تفعله غريب ومدهش، بدءا من علاقاتها بالناس، حتى طريقتها في شرب القهوة، طلبت منه أن يتكئ قليلا ويرتاح، لا بد أنهم يرهقونه كثيرا في الخدمة، في الحق كان مرهقا، ولكن ما أصابه من شبق عارض كان أقوى من النعاس، بعد إحدى غيباتها، أخبرته بأن الحمام جاهز، وبإمكانه أن يستحم إذا أراد، الحمام عبارة عن صريف من القش والقنا، له ما يمكن أن يطلق عليه مجازا باب من الصفيح، على ركن المنزل الجنوبي، تظله أفرع شجرة مانجو عملاقة، ظن أن العمة خريفية وابنتها عبد الرحمن لا تحبان المانجو أو أنهما قد شبعتا منه أو ملتا أكله؛ لأن الفروع التي تظلل الحمام تحتوي على ثمار مانجو ناضجة وشهية كثيرة مهملة، إلا أنه عرف فيما بعد أنهما لا تأكلان تلك الثمار؛ لأنها ليست ملكا لهما، ما لم يأذن لهما صاحب الجنينة بذلك.
جلس على بنبر من الحديد الصلب منسوجا بحبال البلاستيك، وضع لغرض الاستحمام، كان الماء كثيرا في سطل كبير، ونقيا؛ لأنه يستطيع أن يشاهد أسد الملك تنبل بيه الأحمر المرسوم في بطن سطل الطلس العملاق. تخلص من ملابسه سريعا، وبدلا من أن يصب الماء على رأسه، أرغى الصابون ومسح به شيئه المنتعظ، مسه برفق، ثم أخذت كفه تمر عليه طلوعا ونزولا، وفي ذهنه تلك الندبة العميقة في وجه عبد الرحمن، عندها سمع عبد الرحمن تطلب منه ألا يفعل، عليه أن يستحم سريعا فحسب، كانت تقف خلف باب الحمام الموارب، ونصف وجهها داخل الحمام، عيناها تبحلقان في الشيء، صهيل الخيل الآتي من خلف الصريف يطربها، ويمثل لها موسيقى تستمتع بها دائما عندما تكون بهذا الحمام.
كانت العمة خريفية تعمل في سوق النسوان تبيع البهارات والويكة قرب الجزارة، تعود مع مؤذن الجمعة، حيث يغلق السوق إجباريا، وهي لا ترغب في أن تجلد أربعين جلدة، وأيضا لا ترغب في أداء صلاة الجمعة ولا غيرها من الصلوات؛ لذا تحمل ما تبقى من سلع لم تبع وتأتي للبيت، بعد أن تشتري حاجيات الغداء والعشاء، بعض الحلوى واللبان لعبد الرحمن. وقد اعتادت أن تشتري لها ذات الحلوى واللبان منذ خمس سنوات؛ أي منذ أن كانت عبد الرحمن في السادسة عشرة من عمرها، وهو العمر الذي أخذتها فيه من السوق، حيث إن عبد الرحمن قد هربت من معسكر كلمة للنازحين، وفضلت عليه التشرد التام في سوق نيالا، كانت تعمل مراسلة للنساء اللائي يبعن الشاي، تغسل لهن الأكواب، تناول الشاي للشاربين، وتقوم بتنفيذ المراسيل القصيرة، استقطبتها خريفية لتساعدها في سحن الويكة وتقشير الفول السوداني، ثم مؤانستها في المنزل، عبد الرحمن تدين لخريفية بكل شيء جميل في حياتها.
عندما سمع الأذان انتفض، أبقته على جانبها برفق، كانت في شبه إغماءة، وهي تلصق جسدها العاري بجسده، ذكرها بأن العمة تتحرك الآن من السوق كما قالت له من قبل، وأنها قد تجدهما في وضع حرج، ولا يريد أن تراه عمته لأول مرة وهو في علاقة جنسية غير شرعية مع من تعتبرها ابنتها، منتهكا حرمة بيتها. لكنها، كما لو لم تستمع إليه مطلقا أبقته بجانبها، ضمته إليها بشدة، عبثت بأناملها فيما بين فخذيه، وللمرة الثالثة دخلا في مجاسدة ساخنة ومجنونة، استسلما لها كلية. لقد افتقد شيكيري النساء كثيرا، يمتلك الآن رغبة طازجة لأجلها وشهية لا تحدها حدود. أما هي فلم تمارس الجنس برغبتها الكاملة إلا اليوم. عندما سمعا كركبة باب الشارع، انتفض فزعا مرة أخرى. ولكنها بحركة من يديها طلبت منه أن يبقى كما هو وحيث هو. ارتدت ملابسها برفق، استعدلت خصلات شعرها، ببعض ثوب جففت ما بين نهديها، مسحت وجهها بكفها ومضت للقاء العمة خريفية، التي بادرتها بسؤال ملح عن مكان شيكيري توتو كوه ابن أخيها، ولماذا لم تره، قالت لها: إنه جاء مرهقا وهو الآن ينام في غرفتها. كان شيكيري يسمع كل ذلك، ولكنه لم يتوقع قط أن تهاجمه العمة خريفية في القطية وهو في لباسه الداخلي فقط، كانت تضمه إليها وهي تضحك وتبكي في آن واحد، لقد افترقا مع والده منذ أكثر من أربعين عاما، وكانت ترى فيه صورة والده وتشم فيه رائحته، ولكنها مخلوطة برائحة عرق تعرفه تماما، وعبق سائل شهير لا يخفى عليها أبدا، قالت له مندهشة وهي تحملق في حافظة صدر (ستيانة) عبد الرحمن المسجاة في السرير: ود البقس، أنت عرست عبد الرحمن؟
قال لها دون تردد وهو يحاول أن يخفي ما تعرى من جسده: نعم، عرستها يا أمي.
قالت وهي تخاطب عبد الرحمن التي تقف خلفها تشاهد وتسمع وفي فمها ابتسامة مطمئنة، وتبدو الندبة التي في خدها الأيسر أكثر جمالا وإشراقا، وتظهر عليها علامات السعادة المفرطة: ليه ما انتظرتيني، ولا قلت لي إنك حتعرسي الولد لما جيتيني في السوق وقلت لي ولد أخوي توتو جاء؟
ابتسمت عبد الرحمن في خجل، وبتأثر شديد ضمت العمة خريفية إليها وقبلتها في وجهها، وأخذت تبكي، في ذلك الحين كان شيكيري يرتدي ملابسه على عجل ثم يذهب للحمام ويترك عبد الرحمن وعمتها متعانقتين.
صيد الجن
لقد نسيت عبد الرحمن كل شيء، حتى الجثتين اللتين وجدتا فوقها، نسيت الحرب، وأزيز الطائرات، نسيت المجزرة التي كان ضحيتها أمها، أباها وإخوانها الثلاثة: هارون، إسحاق وموسى، وأختها مريم التي يقال إنها تعيش في معسكر ما للاجئين بجمهورية تشاد، حيث إنها لم تصادف المجزرة، فكانت قد ذهبت للاحتطاب مع أخريات؛ لذا لم تكن متأكدة من موقعها، ولكنها مجرد ظنون وتوقعات، وإذا كانت حية فستصبح هي العضو الوحيد من أسرتها الذي تبقى لها في الحياة. نسيت تجربة الاغتصاب الأولى يوم المعركة، نسيت الثانية، الثالثة، والرابعة بمعسكر كلمة، أو ربما تناست ذلك بمحض إرادتها. المهم، يبدو في ظاهر الأمر أن عبد الرحمن أرادت أن تغلق صفحة من حياتها وللأبد، ولا يدري أحد لماذا لم تنس اسمها أيضا؛ فقد كان بإمكانها فعل ذلك في أية مرحلة من حياتها. حذرته العمة خريفية من أن يتطرق لماضيها أو أن يحكي عن الحرب وما شاكلتها، لقد شبعا من ويلات الحرب وشبعا من أخبارها. تريدان الآن فتح صفحة جديدة من كتاب الحياة.
لم يعترض، بل شجع بحماس إبراهيم خضر فكرة زواج صديقه شيكيري، كما لم يستغرب ما قامت به العمة في تلك الجمعة، أن أخذت شيكيري وعبد الرحمن إلى الجامع، وقد اضطرت في ذلك اليوم لأداء الصلاة في الجزء الخاص بالنساء، وبعد أن سلم المصلون عقد المأذون على ابن أخيها وابنتها، بالرغم من أن المأذون والمصلين جميعا احتجوا على أن تسمى العروس باسم عبد الرحمن، الشيء الذي يجعل قسيمة الزواج كما لو كانت شهادة لزواج مثلي، وهذا غير مسموح به في القانون والشريعة، وأصرت عبد الرحمن على الاسم حتى ولو يبطل الزواج، رافضة اسم مريم الذي اقترحه عليها المأذون، إلى أن جادت قريحة أحد المصلين الحريصين على إتمام مراسم زواج بنت نازحة متشردة لعسكري غريب؛ أي آفتين اجتماعيتين لا خير منهما يرجى؛ أن تكتب في القسيمة كلمة السيدة، ثم يليها الاسم مضافا إليه نون وتاء؛ أي أن يصبح السيدة عبد الرحمانة، وعبد الرحمانة اسم شائع في كثير من قرى دارفور، فرضي المأذون ولم تمانع عبد الرحمن. لاحظ شيكيري بمجرد أن عادا للمنزل أن زوجته عبد الرحمن ليست بالمرأة الطبيعية، ليس لأنها واضحة وصريحة وجنسية أكثر مما يتوقع ويظن، لكن لأنها طلبت منه طلبا غريبا ومباشرا وهما في الساعة الأولى من الزواج، طلبت منه: إما أن ينتقم لها، أو يساعدها على الانتقام، ولا خيار ثالث.
أخبرته أنها كانت في انتظار أن يكون لها رجل، مهنته جندي وشجاع، ينتقم لأجلها، على الأقل يقتل عشرة من الجنجويد، وهي سوف تأكل كبدهم جميعا نيئة. لم يستطع أن يخفي هول المفاجأة عليه، ربما أنه شهق. لقد دخل معارك كثيرة ضد الطورابورا، لكنه لم يقتل ولو دجاجة واحدة، كان يطلق الذخيرة في الأهداف الوهمية، ومع أول بادرة للانسحاب كان ينسحب، ولكن هل تعلم زوجته عبد الرحمن أنه يحارب مع الجنجويد جنبا لجنب؟ أخبرته أنها تعرف كل صغيرة وكبيرة عن الحرب، وقالت له بصورة واضحة إن الذين قتلوا أمها وأباها واغتصبوا أخواتها حتى الموت، ليسوا جنودا نظاميين ولكنهم الجنجويد، وهي تعرف وتفهم الفرق، نعم كان بإمكان الجيش أن يحميها، ولكنه لم يفعل، تعرف أفرادا في الجيش من قبيلتها، وتعرف أنهم كانوا يتمزقون من الحزن وهم يشاهدون الجنجويد يقتلعون أسرهم وأهلهم اقتلاعا من الحياة أمام أعينهم، يكفيهم ذلك عذابا وموتا وألما، وتعرف العشرات الذين انضموا إلى الطورابورا بعد ذلك. وكل ساكني دارفور يعرفون قصص ومصائر الطيارين الذين رفضوا أن يلقوا القنابل على أبناء جلدتهم. هي تريد الجنجويد وليس إلا. قال لها إنه لا يعرف كيف يقتل إنسانا، جنجويدا كان أم طورابورا، ولا يعرف كيف يساعد على ذلك، بل لا يشجع ذلك التوجه، وأنه ليس جنديا محترفا، بل فردا يؤدي الخدمة الوطنية مكرها ومجبرا، ويساق إلى ميدان المعركة كما تساق النعاج إلى السلخانة. قالت له يمكنه أن يدربها على إطلاق النار، ويعطيها ثمن بندقية جيم ثلاثة، وألا يخبر العمة خريفية بالأمر، لا أكثر؛ لأنها اتفقت معها على ألا تنفتح طاقة الحرب مرة أخرى.
كان رأي إبراهيم خضر أن يتجنب شيكيري خريفية وابنتها معا، وإلا تورط في أفعال صعبة ومعقدة، ولكن يبدو أن شيكيري قد بدأ يحب البنت بالفعل، والأسوأ أنه لا يستطيع أن يتخلى عنها أبدا، والأسوأ من ذلك كله هي تعرف ولا تتنازل عن طلبها قيد أنملة، ولو أنها حتى الآن لم تمارس ضده أي ضغوط، بل تزداد رقة وجمالا وشبقا.
أخذ يدرسها طبيعة السلاح، فك وتركيب وأداء، كل يوم جمعة، حيث إنه كان شبه مقيم بالحامية العسكرية، يحضر ليلة الخميس ويغادر فجر السبت. كانت تتعلم الشيء منذ الوهلة الأولى بسهولة ويسر، وفي جمعتها الرابعة فاجأته بأنها امتلكت بندقية جيم ثلاثة، فكاد أن يغمى عليه من الخوف وهول المفاجأة معا، قالت إنها سرقتها من جنجويد سكران، وجدته نائما في الوادي قريبا من المطار، بينما كانت هي تتجول في الغابة الصغيرة غرب معسكر كلمة، لجمع حطب الوقود. يعرف أنها تكذب؛ لأنها لا يمكن أن تذهب لقطع الحطب ليلا، ولا يمكنها أن تأخذ بندقية الجنجويد نهارا، والشيء المهم هو أنها لا تذهب للاحتطاب مطلقا؛ لأنها لا تحتاج إليه في المنزل، فلدى العمة خريفية موقد غاز حديث، ويعرف أيضا أن النساء لا يخاطرن بالذهاب للاحتطاب في تلك المنطقة بالذات، خوفا من أن يغتصبهن الجنجويد الذين يتواجدون بكثرة هنالك، ويعرف أيضا أن الاحتطاب في هذه الأيام لا يتم إلا في جماعات محمية من قوات الاتحاد الأفريقي، وقال لها كل ذلك بالتفصيل الممل، قالت له بصرامة: سرقتها من جنجويد سكران، تصدق أو لا تصدق أنت حر.
يحس الآن باقتراب الكارثة، بدت له عبد الرحمن متهورة وغامضة في نفس الوقت، بدت له كوحش متعطش للدماء، كثائر مجنون لا يرى غير الأعداء والمكائد، يعمل من أجل هدف كبير، لكن تنقصه الخبرة والخطة، أحس بها تتبلد في كل لحظة، كانت تلغي عقلها بسرعة رهيبة، ولكنه لم يكرهها بعد، كانت رقيقة معه ، وتتجمل بصورة مستمرة، تتطيب بما يحب من العطر، وتعطيه نفسها في الفراش بجمال منقطع النظير، وهو في حاجة ماسة لمثل هذه الرعاية الجسدية، ولكنه أيضا يريد أن يظل حيا. من النظرة الأولى للبندقية عرف أنها ملك للجيش السوداني، ولكنها تحظى برعاية شخصية كبيرة، وذلك للنقش الذي في دبشكها بآلة حادة، وتزيين حمالتها ببعض الخرز الملون، ويبدو أنه قد تم بيد نسائية، ليست بها نمرة عسكرية، ولكن رائحتها تدل على أن صاحبها من الجنجويد، للقوم رائحة متميزة، خليط ما بين وبر الحيوان - الخيل والإبل - والعرق البشري، كانت صينية حديثة الصنع، ولكنها استخدمت كثيرا، فرائحة البارود ما زالت تنطلق من فوهتها التي تلمع من الداخل، الفوهة مغطاة بخرقة جلباب قديمة بها آثار زيت الخروع. لم تكن لديها خطة خاصة لاستخدام البندقية.
نيالا مدينة كبيرة وجميلة، يسميها عمال الإغاثة الأوروبيون لاس فيغاس دارفور، لا يعلم أحد عدد سكانها، إنهم في تزايد ونقصان مستمرين، وفقا لسير الحرب في دارفور، يسكنها الضحايا المهجرون من قراهم معا والقتلة الذين يرتكبون فعل التشريد والتهجير، بها أيضا المواطنون الذين لا تعني الحرب لهم شيئا ذا بال، وبها كبار التجار، وهم المستفيدون الوحيدون من الحرب، وقد تضاعفت أموالهم نتيجة للاحتكار والمضاربات والندرة الفعلية والمفتعلة للسلع، بها الجنجويد يسكنون في الأحياء الطرفية في معسكرات ضخمة، يتمظهرون في المدينة في عربات لاندكروزر مكشوفة عليها مدافع الدوشكا، وتعلق على جوانبها الآر بي جي البغيض، وهم عليها في ملابس متسخة مشربة بالعرق والأغبرة، يحيطون أنفسهم بالتمائم الكبيرة والخوذات، لهم شعور كثة تفوح منها رائحة الصحراء والتشرد، على أكتافهم بنادق جيم ثلاثة صينية تطلق النار لأتفه الأسباب، وليست لديهم حرمة للروح الإنسانية؛ لا يفرقون مطلقا ما بين الإنسان والمخلوقات الأخرى؛ الكلاب الضالة مثلا.
وتعرفهم أيضا بلغتهم الغريبة «الضجر»، وهي عربي النيجر أو الصحراء الغربية، ليس لديهم نساء ولا أطفال بنات، ليس من بينهم مدني ولا متدين ولا مثقف، ليس من بينهم معلم أو متعلم، مدير أو حرفي، ليست لديهم قرية أو مدينة، أو حتى دولة، ليست لديهم منازل يحنون للعودة إليها في نهاية اليوم، يعملون من أجل شيء واحد، هو ذلك المخلوق ذو السوق الطويلة والظهر القوي المحدودب، صاحب البطن التي بإمكانها أن تختزن برميلا من الماء، يصورونه في راياتهم شعارا، يأكلون لحمه وشحمه، يشربون لبنه، يسكنون في وبره وعلى ظهره، المخلوق الذي يستطيع أن يحملهم بعيدا جدا حيث يقتلون ويقتلون من أجل أن يوفروا له المرعى، هو ربهم وسيدهم، عبدهم ومملوكهم في نفس الوقت، أو ما يسمى: الجمل.
لا يدري أحد كيف ألهم الحكوميون في اختيار هذا الشعب بالذات لخوض الحرب في دارفور من بين كل شعوب أفريقيا. كانت ستصبح مهمة عبد الرحمن سهلة إذا لم يكن خصمها تلك الفئة الغريبة، وهي تعرف قدر التحدي. بنيالا الآن حامية عسكرية ضخمة، بها ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي، ومئات الآليات الثقيلة، سلاح جو صيني فاعل وسريع الاستجابة، كل هذه القوة تعمل مع الجنجويد جنبا لجنب، لكن عبد الرحمن ترى أن هدفها ليس كبيرا، وهو - موضوعيا - شرعي بسيط وسهل: عشرة جنجويد من ستة عشر ألفا ليس بالشيء الكثير، وهو رقم لا يقدر بشيء إذا قيس بالذين يقتلون من الجنجويد في كل معركة، إنهم يخسرون المئات، وهي تريد أن تضيف لهؤلاء المئات عشرة فقط لا غير.
العمة خريفية بغريزتها الأنثوية، خبرتها الحياتية الطويلة، ومعرفتها في الإنسان، أحست أن شيئا ما يدور في بيتها ما بين بنتها عبد الرحمن وابن أخيها شيكيري، وربما صديقه الذي يأتي معه في بعض الأحيان، إبراهيم خضر. لاحظت بصورة جلية أن عبد الرحمن ليست في طبيعتها العادية، أخذت تتغيب كثيرا عن البيت، وأنها تغلق نفسها في الغرفة لساعات طوال. لاحظت أيضا أنها تقوم بتمارين قاسية كتلك التي يقوم بها العسكر، انتبهت على أن العلاقة بينها ووبين زوجها شيكيري متوترة لحد ما، بل تصيدت أذنها ذات مرة مشادة كلامية حادة بينهما. ولكنها لم تتخيل أن الأمر له علاقة بالحرب، ذلك البعبع الذي قررت أن يسقط من وعيها نهائيا وللأبد. إلى أن استيقظت ذات صباح ولم تجد عبد الرحمن في غرفتها، ظنت أن عبد الرحمن ذهبت في مشوار صباحي على عجل، كما هي طبيعتها مؤخرا، انتظرتها إلى أن حان وقت خروجها للسوق، ولم تعد، كانت غرفتها مرتبة وكل شيء موجود في مكانه، وعندما انتبهت لحركة شيء ما في الأعلى، رأت حلقة كبيرة من التمائم مدلاة من وسط القطية، النوع الذي يرتديه الجنجويد، بها دم متخثر. بأعصاب باردة، أخرجت كل ما تراه مهما من القطية، احتفظت به في مكان آمن، ثم أشعلت فيها النيران.
ربط الناس جميعا - بالطبع ما عدا الخال جمعة ساكن - بين حريق القطية وغياب - أو بالأحرى اختفاء - عبد الرحمن، ربط الناس بين قلق العمة خريفية، قلة كلامها مع الآخرين، حديثها لنفسها، بقائها في السوق لزمن أطول، شربها للقهوة المتكرر، وبين اختفاء ابنتها وصديقتها وحبيبتها عبد الرحمن. ربط الناس ما بين شكوى خريفية من آلام الظهر، وغيابها عن الأفراح والأتراح، صبرها على عباطة شليل المجنون، وبين اختفاء عبد الرحمن، بل استلطافها له وهي التي كان يفكر مليون مرة قبل أن يطرق الطريق التي تعمل فيها العمة خريفية، حيث إن العمة خريفية عندها خوف فطري من المجانين، وكما هو معروف أن نيالا بها هذه الأيام عدد هائل من المجانين؛ إنهم ورثة الحروب، من كل نوع وكل عمر. ولكنهم أبدا لم يخطر ببالهم أن يربطوا ما بين اختفاء عبد الرحمن واختفاء اثنين من الجنجويد بصورة نهائية وتامة، حيث لا أثر، لا دليل، لا خيط، ولا رائحة تدل على مصيرهم، على الرغم من الحملة الأمنية التي شنتها الحكومة بحثا عنهما، فقد استنفر كل الشرطيين بالمدنية، أهملت كل الحراسات المدنية، جند ألف رجل من الاستخبارات العسكرية والأمن العام، استخدم مئات المدنيين كمخبرين مؤقتين وجواسيس يسعون بين الناس يخبرون عن الجميع، لا فرق بين أصدقائهم، جيرانهم أو ذويهم، استعانوا بالفكيان وضاربي الرمل، وضاربي الودع وبعض السحرة من قبيلة الداجو المعتصمين في أحد كهوف جبل أم كردوس شرق نيالا. كان يعمل الجميع بجد وجهد متواصل من أجل الوصول لقتلة الجنجويدين، اللذين أقسم قائدهما برأس أبيه ثم بالله، إذا لم تسلمه الحكومة قاتلهما أو قتلتهما، فإنه سيقتل - عشوائيا - على الأقل مائتين من المواطنين، بسوق نيالا والشمس في قبة السماء، لا فرق بين طفل ورجل وامرأة، أو بنت عرب أم زرقة ولا أم خفير، وتحرك بمليشياته الغاضبة في اليوم السابع، بعد أن فقد الأمل في تحركات الحكومة التي وصفها بالبطيئة والمتواطئة، أحاط سوق نيالا، أغلق كل المداخل التي تقود للسوق، ومنع الخارجين منه، ولكنه سمح للداخلين إليه فقط بالولوج، عند الثانية عشرة ظهرا، استطاعت الحكومة أن تقبض على قتلة الجنجويدين، وهما رجلان من قبيلة المساليت: قبضنا عليهما بينما كانا يحاولان الهرب إلى خارج المدينة من السوق، في طريقهما إلى معسكر كلمة، حيث يمكنهما الاختفاء نهائيا وللأبد، هؤلاء القتلة الكافرون.
كانا في غاية الإعياء من أثر الضرب، لدرجة أنه عندما صعد على ظهريهما قائد الجنجويد، أبا جربيقا جلباق، بعربته اللاندكروزر ذات الدفع السداسي، حديثة الصنع، التي تزن خمسة أطنان بالإضافة لحمولتها من الدوشكا والحراس الأربعة الغاضبين، فإنهما لم يتألما كثيرا، ماتا بسهولة ويسر.
سكك الخطر
التقرير الذي كتبه شيكيري عن إبراهيم خضر إبراهيم، هو الذي عجل بأن يتم اختيار الاثنين لمصاحبة القوة الخاصة المنوط بها إيصال الوقود إلى كتيبة مرابطة على مشارف مدينة زالنجي، ولا يمكن الوصول إليها إلا من نيالا، بالرغم من أنها لا تبعد عن زالنجي أكثر من عشرين ميلا، وعشرة أميال عن مدينة كاس، ومن أجل التشويش للجواسيس والخائنين، على القوة أن يخرج أفرادها فرادى، ويتم تجميعهم على بعد ثمانية أميال جنوب نيالا، ثم تلحق بهم السيارات اللاندكروزر حاملات الدوشكا الخمس، تليها شاحنة الوقود، ثم المدرعتان الخفيفتان اللتان نستخدمهما للهجوم السريع المباغت ونقل الجنود أيضا.
لا يتوقع الناس عادة أن تصل مثل هذه القوة إلى هدفها بسهولة ودون مناوشة، وربما معركة صغيرة، ولكن التغطية التي سوف تقوم بها المروحيات على مدار الساعات الثماني التي يجب أن تأخذها القوة في الطريق، سوف تسهل مهمتها كثيرا، قد تقوم بواجب الإنذار المبكر وتمشيط الطريق. لكن للأسف بدأت المعركة الصغيرة مبكرا جدا، وهي في ذات المكان الذي بدأت تتجمع فيه القوات، وقبل أن تنتظم صفوفها وتأخذ التمام الأخير، في اللحظة التي وصلت فيها شاحنة الوقود، كان الطورابورا قد سيطروا على الموقف تماما، واستطاعوا أن يستولوا على حاملات الدوشكا، وأن يعطبوا المدرعتين الخفيفتين، ويأسروا تقريبا كل الجنود الأصحاء، وينسحبوا كما لو أن الأرض قد انشقت وبلعتهم، تاركين خلفهم خمسة من الجنود الجرحى، كثيرا من القتلى، مدرعتين معطوبتين، شاحنة الوقود كما هي، حيث إن السائق الذي استطاع أن ينسحب في الوقت المناسب قام بتأمينها بصورة لا يمكن قيادتها مطلقا ما لم يبطل التأمين، ولسبب أو لآخر فضل الطورابورا تركها دون أن تحرق.
كان الأسرى يرقدون في باطن صناديق العربات كالخراف فوق بعضهم البعض، والعربات تسابق الريح، تقفز في الحفر والخيران دون أية مراعاة للسلامة، وكأنما بها جوالات من التبن، وسط غابة من الأغبرة، حيث لا يمكن رؤية ما أمامها وما خلفها، غير سحابات من الرمل. بعد أربع ساعات من توقع الموت المحقق، دخلت العربات السلسلة الجبلية الوعرة، حيث معسكراتنا الآمنة التي لا يقترب منها الطيران الصيني مطلقا، إلا في مغامرات مهلكة؛ لأن مضادات الطيران الأمريكية الدقيقة سوف تسقطه في الحال.
وضع الأسرى في صف واحد، راقدين على الأرض، كانوا عشرين أسيرا، سجلت بياناتهم الأساسية وجمعت ما في حوزتهم من وثائق ثبوتية، تم كل ذلك عبر ركلات، شتائم وبصاق في الوجوه. أخيرا تم قسمتهم إلى ثلاث مجموعات: اثنان من مجندي الخدمة الوطنية الإلزامية، عشرة من الجنود النظاميين، ثمانية من المجاهدين وحرس الحدود وهو الاسم الرسمي للجنجويد. في الحال، تم إعدام الجنجويد والمجاهدين بصورة بشعة، حيث ذبحوا ذبحا، طالبين منهم في سخرية أن يبلغوا تحياتهم للحور العين بالجنة، وهذه سخرية مبالغ فيها؛ لأن الجنجويد لا يعرف شيئا عن الجنة أو النار، يحارب من أجل هدف غامض لا يعرفون كيف يعبرون عنه؛ لأن السياسيين الذين يدفعون بهم للتهلكة لا يفصحون عنه في الغالب، إما لقناعتهم الشخصية بأن الجنجويد لا يفهمون، أو لخوفهم منهم إذا فهموا، وهدف آخر، وهو الغنائم، وتشمل الغنائم فيما تشمل كل شيء يمكن حمله، بالإضافة إلى النساء والطفلات، أو مجرد أن يفرغ حيواناته المنوية في رحم سيدة أو طفلة ما عنوة. وقد يفكر الجنجويد كبير السن في مرعى آمن ودائم لإبله وإبل أحفاده من بعده وأحفاد أحفاده، فيما تبقى من زمان قبل نهاية الكون. الجنود قيدوا ووضعوا في سجن عبارة عن غرفة كبيرة من الحجر، مع جنود أسرى سبقوهم. أما مجندا الخدمة الوطنية، وهما إبراهيم خضر إبراهيم وشيكيري توتو كوه؛ فخيرا، إما أن يبقيا بالسجن مع الجنود النظاميين أو يعملا في صفوف الطورابورا، ولأنهما ظنا - لسوء أو لحسن تقدير منهما - أن هذين الخيارين ليسا سوى خيار واحد والآخر هو الموت، اختارا العمل في صفوف الطورابورا.
كان إبراهيم مرهقا، بل مريضا، ارتفعت درجة حرارته بصورة مرعبة، فأحضروا له طبيبا أسيرا، يعمل في صفوف الطورابورا، رجلا مرحا وذكيا، أعطاه بعض الأدوية وأخذ يدير معه حوارا مضحكا، حيث إن إبراهيم كان في حالة أشبه بالغيبوبة، لكن حديثه اللاواعي هذا رفع من مكانته بين الطورابورا، وأخذوا يثقون فيه بصورة مطلقة؛ لأنه في غيبوبته تلك، قال بصورة واضحة إنه يكره الصينيين الذين جلبوا الدمار لدارفور ويؤيد الطورابورا.
في بادئ الأمر كانوا يستخدمونهما في طهو العدس وصنع اللقمة للأسرى من الجنود النظاميين، الذين ما كانوا يبقون على حياتهم إلا لأنهم يمثلون دروعا بشرية، ويقوون جانبهم في المفاوضات، ثم بعد ذلك للاعتبارات الإنسانية، وقد تحدث أحد المقاتلين عن اتفاقيات جنيف والقانون الإنساني الدولي. كان إبراهيم قد وضح لقادة المقاتلين أنه لا يحمل السلاح، ويستطيع أن يموت في سبيل هذا المبدأ، ولو أنهم احترموا ذلك إلا أنهم كانوا يستخدمونه في حمل الأسلحة والذخائر؛ أي كحمار. أما شيكيري كعادته كان سكوتا، يسمع جيدا ويفعل ما برأسه، وكان لا يتردد في الذهاب إلى المعارك، والمشاركة في نصب الكمائن، بل أصبح ماهرا جدا في ذلك. قال لإبراهيم مرة إنه ما عاد يخشى سكك الموت، بعد أن خسر عبد الرحمن لا شيء يهم، وكان يفكر بجدية في عبد الرحمن وهو قلق جدا عليها؛ لأنه لا يعلم أين اختفت، وكيف ستنتهي مغامراتها في قتل الجنجويد، يعلم أنها قد قتلت اثنين، صاحب البندقية، أو ما أسمته بالجنجويد السكران، وصاحب التمائم.
لا يدري أحد كيف تستدرج الجنجويد إلى حيث يلاقي حتفه، وكيف كانت تفعل ذلك وحدها. السؤال الأغرب: هل كانت تأكل أكبادهم حقا؟ أين هي الآن؟ وماذا لو قبض عليها؟ بلا شك سوف يقتلونها بالطريقة التي تعرف برقصة الطورابوراي، وهي أن يضعوا القرنيت منزوع التيلة داخل فستانها، بعد تقييد رجليها، ويهربون من قربها، فحتما ستؤدي الرقصة المرعبة لبعض الثواني قبل أن ينطلق جسدها في الفراغات مزقا. وتخيل ذلك يحدث أمام عينيه، فهو ما زال يحبها، وقرر بصورة قاطعة ونهائية أنه - إذا حدث في يوم والتقى بها - سوف لا تكون بينهما أية صلة، إذا اكتشف أنها كانت تأكل أكباد الجنجويد، نيئة كانت أم مشوية، لا يحب أن تكون زوجته آكلة للحوم البشر، ببساطة الفكرة كانت تخيفه.
تتكون مجموعة المحاربين الطورابورا من قبائل كثيرة، تجمع بينهم أنهم مستهدفون من قبل الحكومة المركزية بصورة خاصة، يطلقون عليهم الزرقة، وهو لفظ خجول بديل للفظة السود. يقود المعسكر رجل شرس من قبيلة المساليت، يلقبونه بشارون، شاب له جسد صلد ورياضي، بشوارب ووجه حاد التقاطيع، أهم هواياته الضحك بصوت عال وابتكار الخدع العسكرية، لم يدخل معركة مع أعدائه وهم مستعدون لها مطلقا، بل كان دائما ما يفاجئهم في الزمان والمكان الذي لا يتوقعونه فيه، ويقول إن تلك هي عبقرية الحرب، ورسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
يقول: «الحرب خدعة».
ويقول شارون إنه تعلم من هزائم الخليفة عبد الله التعايشي كيف ينتصر؛ فالخليفة كان يعتبر الحرب رجولة وشجاعة، وهي عكس ذلك، فلكي تنتصر عليك أن تخاف من قوة عدوك، مهما كان واهنا، مرتبكا وعلى باطل، مهما كنت أنت قويا، مرتبا وعلى حق. كان شخصا مثقفا، تخرج في كلية الاقتصاد جامعة المنصورة بجمهورية مصر العربية في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم. تزوج نساء كثيرات، أنجب أطفالا أكثر، وهو يدعو دائما أن يتزوج الرجل من دارفور كل النساء اللائي يقبلن به زوجا، وذلك لتعويض المفقودين في الحروب. كان رقيقا شرسا في ذات الوقت، لا يصبر على الجنجويد دقيقة واحدة. لقد حرق الجنجويد قريته وقتلوا أباه، والآن يسكنون فيها، وهم يعتقلون عددا من السكان الأصليين، يستخدمونهم كرق في العمل بذات مزارعهم، جنائنهم وأراضيهم، يغتصبون نساءهم.
بعد معركة قصيرة غير متكافئة وقعت بين أهل ضلاية، والجنجويد وجيش الحكومة مدعومين بالطيران الصيني العنيف، قبل ما تبقى من سكان ضلاية بالهزيمة، على أن تبقي الحكومة على أرواحهم. جردوا أولا من كل الأسلحة، حتى تلك البيضاء، وكانوا يطلبون منا أن نشترك في الدوريات الليلية لحماية القرية حاملين عصا من الحطب والسياط، بينما يحمل الجنجويد الأسلحة النارية. وكانوا يضعون كل عشرة من الرجال الدرافوريين، يسمونهم جهرا وفي أوجههم أمبايات، وهي بعربي دولة النيجر موطنهم تعني العبيد؛ يوضعون وسط خمسين من الجنجويد، حتى لا يتمكنوا من الهرب أو المقاومة، وكل الرجال الدارفوريين أو الأمبايات على حد قول الجنجويد المتبقين بالقرية لا يتجاوز عددهم السبعين، هم ينقصون بصورة مستمرة. لقد كانوا مائة وخمسين رجلا، جلهم مات في مقاومة فاشلة، أو قتل أثناء هروب لم يكتب له النجاح، أو مات واحد لواحد؛ أي خنق أحد الجنجويد إلى الموت، ولم يطلقه إلا وهو مقتول عليه.
يظل الدارفوري الليل كله في الدوريات مع فرقة من الجنجويد تتغير باستمرار، لتحل محل دورية أخرى من الجنجويد كانت في بيوت الدارفوريين حيث النساء والطفلات، تقوم باغتصابهن، يحدث هذا كل ليلة. وكل من يحتج منا يتم قتله. الآن بالقرية جيل كامل من الأطفال، آباؤهم من الجنجويد وأمهاتهم من الدارفوريين.
الغريب في الأمر أن مسئولا كبيرا في صحبة بعثة من الأمم المتحدة زاروا تلك القرية، واعتبرت أنموذجا للتعايش الإرادي السلمي ما بين الجنجويد والدارفوريين، وهي برهان لتكذيب كل الأقاويل والافتراءات الغربية التي تتحدث عن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وما يسمى بجرائم الحرب واستحالة التعايش بين الشعبين. يحكي شارون ذلك لكل من يجالسه في أول دقيقة، ويعلن أن أول أهداف ثورته هي تحرير مواطني قريته ضلاية، ثم يضيف لك في يأس: لا يمكن أن تحرر ضلاية ما لم تحرر دارفور كلها؛ لأنه يحيط بها أكبر ثلاثة معسكرات للجنجويد والمجاهدين في العالم.
للرجل علاقة جيدة مع كل جنوده ومع الأسرى أيضا، يظل مرحا، وتسمع ضحكته في كل أرجاء المعسكر إذا لم تكن هنالك محاولة هروب لأحد الأسرى، فاشلة كانت أم ناجحة، حينها يتحول هذا الرجل إلى وحش كاسر لا يرحم، ومن هنا أطلق عليه لقب شارون، ذلك البحار الذي يأخذ الأرواح إلى جزيرة الموتى؛ لأن شارون حينها سيأخذ أرواحا كثيرة في قاربه إلى جزيرة الموتى.
كان الوقت أواخر ديسمبر، لا تزال الأعشاب تحتفظ بشيء من الخضرة، وأشجار السيال والنبق وبعض اللالوبات العملاقة ما زالت مخضرة وبهية. التقط منظار الحرس هيئة شخص على ظهر فرس يهيم بين الأشجار التي تقع جنوب الوادي الكبير، ويحدد المنظار المسافة بثلاثة كيلومترات لا أكثر، ولا يختلف جنديان في تفسير هذه الظاهرة؛ فهو جندي استخبارات في طليعة قوة سوف تظهر عاجلا أم آجلا من مكان ما قريب، ووصف في الوقت ذاته بالبليد؛ لأنه لا يمكن أن يستخدم فرسا إلى هذه المسافة القريبة، ويعرف الجميع موقع المعسكر، والغريب في الأمر كان الهدف يقترب أكثر وأكثر من دفاعات المعسكر المتقدمة، ويقترب أكثر من حقل الألغام البشرية ويتخطاه، بعد أن عبر ألغام المدرعات والآلات الثقيلة عبرها كالشبح، هنا انتبه المقاتلون بأن الهدف ليس عسكريا، وأنه يرفع الآن بيرقا أبيض؛ فأسرعوا بإرشاده إلى المدخل الآمن.
كانت فتاة هزيلة، ولكنها لا تبدو منهارة، بل بالعكس، كانت متماسكة، وتتحدث بثبات، عرفت عن نفسها، وطلبت أن تقابل هارون، وهو الاسم الحقيقي لشارون. أكلت قدرا كبيرا من العصيدة بالويكة التي قدمت لها، تعرف عليها شارون بمجرد أن رآها، كانت تعرفه من زمان مبكر، منذ أن كانت تعمل مساعدة لصانعات الشاي بموقف الجنينة بنيالا، تعرف إحدى زوجاته وأطفاله، كانوا يسكنون حي الجير، قبل أن يختفوا تماما عن المدينة، قالت له إنها جاءت من أجل زوجها شيكيري توتو كوه الأسير لديه؛ مما جعل كل من يستمع إليها يكاد أن يموت من الدهشة، وكانت فرصة لشارون أن يطلق ضحكته المجلجلة تلك، كان شيكيري في تلك الأثناء يعمل مع صديقه إبراهيم ومفرزة من المقاتلين على حفر خندق كبير خلف الجبل لغرض لم يفصح عنه شارون، عندما أتاه المنادي، خفق قلبه بشدة، وبدون أية مقدمات سأل المرسال ما إذا كانت زوجته عبد الرحمن أو عمته خريفية بانتظاره.
أحس أنها كانت جميلة بأكثر مما يجب أن تكون عليه امرأة في مثل هذا المكان، وشعرت بأنه كان منهكا وبائسا، وقد فقد الكثير من وزنه، وهو ما يجب أن يكون عليه رجل في هذا المكان. احتضنا بعضهما البعض بشدة، فرحت المقاتلات عندما عرفن أنها جاءت لتبقى وتحارب في صفوفهن. كانت هنالك تسعون امرأة أخريات، كلهن متزوجات من الجنود ما عدا مريم، التي يطلق عليها شارون اسم مريم المجدلية؛ فهي تؤجل زواجها دائما لحين تحرير دارفور أو ظهور السيد المسيح، أيهما أقرب، ويشاع عنها بين المقاتلين ما يشاع.
ما يسمى بالمدينة، التي سمع عنها شيكيري وصديقه كثيرا في المعسكر، ليست سوى بضعة مساكن من الحجر مسقوفة بالطين والأعشاب البرية تحاط بصورة تامة بمرتفعات صخرية، تحيط بنبع ساخن صغير، تبدو من الجو مثل خاتم من الحجر والعشب البري. هذا النبع هو المصدر الوحيد لماء الشرب غير الصالح للاستهلاك الآدمي إلا بمعالجات تجعله صالحا بنسبة خمسين بالمائة. وهنالك أيضا زريبة للمواشي والأبقار والجمال التي في الغالب تمت مصادرتها من الجنجويد، ترعى خريفا وصيفا على العشب النابت على حواف مجرى العين، في واد ضيق يتلوى بين المرتفعات مثل ثعبان من الماء. توجد أيضا كثير من أشجار العرديب والتبلدي العملاقة، التي تغرق كل شيء في ظلها. هذا المكان الصغير الجميل الاستراتيجي فشلت الحكومة في السيطرة عليه تماما، نسبة للدفاعات الصاروخية ومضادات الطيران التي به، حقول الألغام واللواء الذي لا يقهر، وهو المرتفع الصخري الذي يحيط به كحصن أسطوري.
تستخدم المدينة لسكن الأسر فقط، ولا يوجد بها أطفال في عمر المدرسة؛ لأنه يتم تسريبهم لإحدى المدن الكبرى في هذا العمر للدراسة، بها نساء جميلات محاربات وزوجات في نفس الوقت، يقمن بواجب الزوجية بمتعة ويحاربن بشرف وبسالة، وهن دائما ما يبقين للدفاع عن المدينة حينما يكون الرجال بعيدين ينصبون الكمائن والفخاخ للجنجويد. جهزت غرفة لعبد الرحمن وزوجها شيكيري توتو كوه، لم تكن لدى الزوجين رغبة في فعل شيء، تحدثا قليلا، احتضنا بعضهما وناما.
حلم شيكيري بينما كانت أنفاس عبد الرحمن تعلو وتهبط في هدوء قرب وجهه، حلم بعبد الرحمن تذبح جنجويدا سمينا شحما، وتخرج كبده وتطعمها لحيوان صغير فمه فم إنسان وبقية جسده وأعضائه تشبه القطط، كان الحيوان يأكل الكبد بشراهة، ويريد المزيد، فتذبح عبد الرحمن آخر، وهكذا إلى أن أتت على صف طويل من الجنجويد، ثم أشار الحيوان بلسانه إلى شيكيري، وكشر عن أنيابه، ثم بال، ويبدو أنه عندما يفعل ذلك لا بد أن يكرم بما أشار إليه بلسانه، ولا خيار آخر. فجاء مقاتلون بشيكيري، وضعوا السكين في عنقه، وطلب منه أن يقول كلمة أخيرة، عندها استيقظ فزعا، نهض من قرب عبد الرحمن التي استيقظت هي الأخرى، فسألها ما إذا أكلت كبد الجنجويد. تثاءبت، مسحت وجهها بكفها، أخبرته بأنها ندمانة لعدم فعله. عندما حاولت وجدت أن كبد الجنجويد تفوح منه رائحة كالبراز الآدمي، فكرهته واستفرغت. أكدت له أيضا أنه لا يوجد داع لكل ذلك، يكفي قتل هذا الشيء.
حدث ذلك في الصباح الباكر، كعادة عبد الرحمن تستيقظ متأخرة قليلا عن العمة خريفية ومتأخرة كثيرا جدا عن زوجها شيكيري توتو كوه الذي يذهب للطابور والتمام العسكري عند الخامسة والنصف صباحا. أول شيء تفعله هو أن تذهب للمرحاض، تقضي حاجتها، ثم تملأ جردل الماء وتدخل الحمام، تستحم وهي تغني بصوتها الجميل، تحب أغنيات عمر إحساس، تقضي في الحمام عادة نصف الساعة، فهي تهتم بنظافة جسدها الشخصية يوميا وبصورة دقيقة، بدءا بحك أخمص قدميها، تنتف إبطيها ، انتهاء بقص أظافرها، بالنسبة لها الحمام الجيد مفتاح ليوم جميل؛ بالتالي عندما تحرم منه لأي سبب من الأسباب، يكون ذلك مدعاة لتوترها وتشتتها فيما يتبقى من اليوم، والأهم في الحمام في هذا المكان بالذات صهيل الخيل الذي يأتيها من الحديقة، يذكرها بأيامها الغابرات في خربتي، ويثير فيها شجنا جميلا.
بينما كانت تدلك ظهرها بالليف والحبل، إذا بها تسمع خشخشة في العشب الذي يمثل الجدار الخلفي للحمام المقابل لجنينة المانجو، ظنته في بادئ الأمر الورل، وهو من الزواحف الكبيرة التي تتواجد بكثرة في وادي برلي، وخاصة قرب البركة الدائمة التي توجد في جنينة المانجو، ولكنها عندما فكرت في أنه ثعبان ارتعدت قليلا وانكمشت على جسدها، وأخذت تبحلق في الناحية التي أتى منها الصوت بتركيز أكثر، وهي في تمام الاستعداد للهرب في الوقت المناسب، كانت الخيل تصهل، لا شيء آخر، تصهل في رعب كما لو أنها شاهدت جنيا رجيما، ويأتي إلى مسمعها أيضا صوت العم جبريل يهدئها ويتساءل عن سبب ثورتها، لكن فجأة انفتحت كوه كبيرة في الجدار العشبي للحمام، وأطل من الجهة الأخرى وجه رجل، كان أصفر البشرة، مشعرا، له شعر كث وكأنه الشيطان، له ذقن صغيرة غير حليقة وشاربان كبيران، لأول وهلة عرفت أنه جنجويد، وبسرعة البرق فج الجدار بصورة تامة، وكان أمامها وجها لوجه، كان قد تملكها الرعب بالصورة التي منعتها من التصرف السريع، كل ما فعلته هو أنها انكمشت على نفسها محاولة ستر عورتها ونهديها، بالانطواء التام على فخذيها، كانت تفوح منه رائحة العرق، مختلطة بصنان زنخ من إبطيه، رائحته أشبه بالجيفة منها لرائحة الإنسان، كان يرتدي بنطلونا عسكريا عليه جلباب مدني مشرب بالأوساخ، على كتفه بندقية جيم ثلاثة.
كان يحاول أن يتحدث معها برفق، لكنها تجنبت تماما النظر أو الاستماع إليه، حينها هددها بالقتل، واستل سكينته من ضراعه، مررها أمام وجهها المنكفئ، حتى كاد أن يلامس نصلها أنفها، شمت رائحة الدم، عندها فكرت بجدية وبطريقة مختلفة تماما، طلبت منه أن يدخلا حجرتها، وأنه لا أحد بالمنزل، أكد لها إذا تفاجأ أن بالمنزل أي إنسان فإنه لا يتردد في قتله وقتلها، ووضع بندقيته في موضع إطلاق النار، أنا أفهم تماما أنه يستطيع أن يفعل ذلك بدم بارد؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يعاقبه على شيء، ولو قتل سكان المدينة جميعا؛ لذا تمالكت نفسي، حملت بقية ملابسي بيدي بعد أن سمح لي بارتداء الجلباب فقط، عندما دخلنا قطيتي، أغلق الباب، وطلب مني أن أرقد في السرير بعيدا عنه حتى يدبر حاله وألا ألتفت إليه مطلقا، عندما سمعت صوت حك حنجرته، كان يقف أمامها، يرتدي لباسا داخليا طويلا به بقع كبيرة من الأوساخ، كان عاري الصدر وبيده اليمنى سكينة كبيرة.
قال لها فيما يعني إذا أرادت أن يتم الأمر بخير، فعليها أن تستسلم ولا تحاول المقاومة، وإذا لم ترده كذلك فإنه سوف يستخدم سكينته، وعرفت أنه يظنها عذراء؛ لذا نبهته بأنها متزوجة، هنا وضع سكينه جانبا، أرخى لباسه المتسخ الكبير، وأخفى عنها شيئه، لكنها استطاعت أن تراه، كان شيئا قصيرا هزيلا، في لون الطوب محاطا بشعر كث، إنه أقرب لعضو طفل كبير منه لعضو رجل بالغ، ضحكت بينها وبين نفسها، وقامت بفتح رجليها على مصراعيهما، أغمضت عينيها، وغابت في خيالاتها.
أول مرة تغتصب فيها كان الأمر مؤلما ومختلفا تماما؛ لأنها كانت في ذلك الحين عذراء ومختونة بصورة قاسية، ما يسميه الناس في تلك الأنحاء ختانا فرعونيا، ولأن الرجل لا يمكنه أن يخترق تلك المعضلة بعضوه في يوم واحد أو لحظات كما يرجو المغتصب، فإنه استخدم سكينته، ثم لم ينتبه هو أو الذين توالوا عليها من بعده في نفس اليوم، نفس اللحظات، إلى أنها كانت مغمى عليها بصورة تامة، أقرب لجثة. كانت تفكر بجدية وبعمق، وهو يصدر أصواتا تنم عن استمتاعه بالفعل، ورائحة تنم على قذارة في الجسد؛ النفس والروح، كان هزيلا وغير فاعل بالمرة، يحاول جهده أن يبث فيه الحياة عبثا، وقد ضايقتها أكثر أنفاسه النتنة، ورائحة جسده، بدا لها ضعيفا قذرا وأكثر بؤسا؛ لأنها تريد أن ينتهي كل شيء بأسرع ما يمكن، أظهرت له ما يعني أنها استجابت، لمسته برفق متوحش، وبحركتين تافهتين من فخذيها جعلته يصل ذروته، دفعته في الوقت المناسب بعيدا عنها، حتى لا يلوثها بقاذوراته، رقد قربها كالطفل لدقائق، عبث بنهديها، ثم علا شخيره، كان شخيره مثل عواء الذئب الجائع.
حررت جسدها من مخالب كفتيه، وانسحبت للخارج، مسحت فخذيها بالملاءة، البقية كانت في سرواله المتسخ، لم يستغرق منها الأمر طويلا؛ لأنه منذ الضربة الأولى توقف عن التنفس تماما، واسترخى جسده، ظلت أصابع قدميه ترتجف لثوان أو ربما لبعض دقائق، ثم لم يعد هنالك ما يخيف أو يتطلب إجراء ما، كأنه ما جاء إلا ليموت، لم تخف. «كنت باردة الأعصاب كأنما لو كنت أقتل كل يوم جنجويدا، أحسست بلذة عظيمة، إنني الآن أنتقم لكل أسرتي وأقاربي، أحسست بأني الآن إنسانة، رأيت أمي، أبي، إخواني، وأخواتي يبتسمون لي، يقولون لي بلغتنا: أحسنت
Say Say .»
سألها شيكيري توتو كوه، أين خبأت الجثة؟ قالت له: كنا كل يوم أنا وأنت وأمي وصديقك إبراهيم خضر أيضا نغوط عليها، صببت خلفها جوالا من الجير المتبقي من العيد الماضي؛ من ثم توقف المرحاض عن إصدار الروائح الأكثر نتانة من الغائط. ذكرها بأنها في حكاية سابقة تحدثت عن نتانة كبده، قالت له: إن ذلك جنجويد آخر بقصة مختلفة.
منذ أن أسر زوجها شيكيري توتو كوه، قررت عبد الرحمن أن تغادر مدينة نيالا وتنضم للمتمردين، لا يهم من هم ولا يهم من قائدهم ولا ما هي أهدافهم الأساسية، يكفي أنهم يحاربون الحكومة والمليشيات التابعة لها، وأنهم متفقون على تحرير دارفور من قائمة القتلة الطويلة، وحماية من تبقى من أهلها من صلف من تحب أن تسميهم الملاعين، ولكن دائما ما تخونها الخبرة في طرائق الخروج والانضمام، هي لا تعرف أيا من الخيوط التي تربطها بالمقاتلين، الذين يقال إن لهم أعينا كثيرة في المدينة، وإنهم يجندون الشباب سرا ويأخذونهم إلى ميادين القتال، تريد أن تتعرف عليهم وتطلب منهم أن يأخذوها معهم، «أستطيع أن أحارب مثل الرجال، بل إنني أكثر شجاعة منهم.» إنها تقاتلت مع الجنجويد شخصا لشخص، بالتحام جسدي مباشر على رمال وادي برلي العظيم، تعرف كيف تقاتل كامرأة بأدوات المرأة، وتعرف كيف تحارب بأدوات الرجال أيضا، حيث إنها أمسكت بقبضة يدها اليمنى بمذاكيره بكل ما تمتلك من قوة وجذبتها نحوها، ولم تطلقه إلا عندما أغمي عليه تماما، ثم خنقته إلى أن أطلق روحه، هل هنالك رجل فعل ما فعلته؟ وهي الآن تمتلك بندقيتين جيم ثري فاعلتين، تمتلك أربعة قنابل يدوية، لا تعرف كيف تستخدمها، ولكنها تحتفظ بها بحرص شديد، وعتاد جنديين كاملين من الذخيرة الحية، ونقودا كثيرة استولت عليها من جيوب الجنجويدين، فقط تبحث الآن عن ميدان المعركة، تريد أن تنضم لرفاق مقاتلين.
كان الخال جمعة ساكن كعادته، يقضي المساء على كرسي أمام باب الحديقة الجنوبي الذي يطل على الوادي مباشرة، بعد أن تتم مراجعة أحوال الخيل مع مساعده الوفي العم جبريل سائس خيله وراعي الحديقة الكبيرة، العم جبريل يظل بالداخل يحتسي مريسته ويستمع للراديو، وأحيانا تتسلل إليه علوية، وهي أرملة يحبها جدا ويقضيان وقتا طيبا في الأنس والإيناس. جلست عبد الرحمن قربه على الرمال، على الرغم من إلحاحه عليها بأن يحضر لها جبريل كرسيا من الداخل، أو تذهب هي وتتناول واحدا، قالت له إنها تريده في أمر مهم. كان الخال جمعة ساكن في الخامسة والخمسين من عمره، رجلا قوي البنية، أشيب، كل شعرة في رأسه ووجهه بيضاء، على الرغم من عزلته إلا أنه مرح جدا عندما يجد من يؤانسه ويطمئن إليه. صب لها كوبا من الشاي من إبريق قربه، طلبت منه أن يعطيها الأمان، وهذا يعني في ثقافة دارفور أن ما يدور بينهما الآن يبقى سرا، وأنهما إذا لم يتفقا على مسألة ما، فإن ذلك لا يضر بعلاقتهما في المستقبل، فأعطاها الأمان. قالت له باللغة المحلية، هي لغة قبيلتها: أحتاج لفرس.
فجأة انتبه بكل حواسه، وضع كوب الشاي جانبا، صمت.
ماذا تفعلين بفرس؟
قالت له وقد التقت عيناهما في لحظة كخطف البرق: أريد أن أذهب إلى ميدان الحرب.
صمت، لزمن لا يدريانه، سألها: أين ميدان الحرب؟
قالت: لا أدري، أريد أن أقاتل الجنجويد والحكومة، أريد أن أنضم للثوار بالجبال.
سألها بلطف: هل تدرين أين هم؟
قالت: لا، لا أعرف عنهم شيئا، سمعت باسم شارون، وكنت أعرف أسرته في الجير، لكني لا أعرف أين هو الآن.
طلب منها أن تتريث، وأن الحرب ليست بالشيء السهل؛ فقد تتعرض للموت أو على أقل تقدير الاغتصاب، ولكنها عندما قصت له حكاية الجنجويدين، والأسلحة التي تمتلكها، برقت عيناه إثارة، وقادها نحو مظلة الحصين، وطلب من جبريل أن يهيئ فرسين سماهما بالاسم بكامل عتادهما، عندما استفسرت لماذا فرسين؟ قال لها: لقد قلت لي إنك لا تعرفين موقع الثوار، أليس كذلك؟ أنا أعرف دارفور كما أعرف أصابع يدي، قضيت عمري كله متجولا في بواديها، سآخذك إليهم وأعود.
قالت له إنها سوف تدفع ثمن الفرس، إلا أنه أكد لها أنه لا يمانع أن يعطيها ثروته كلها، إنها تفعل ما لا يستطيع هو فعله، فقط طلب منها شيئا واحدا؛ أن تتذكر أبناءه الذين ذبحهم الجنجويد، أن تنتقم لهم أيضا.
أتت عبد الرحمن إليه وبذهنها فكرة واحدة فقط، أن تأخذ فرسا منه، مهما كلف ذلك، وكانت بينها وبين نفسها تعلم أنه لا علاقة له بالنساء منذ أن توفيت زوجه قبل أكثر من عشرة أعوام، لم تثر حوله أية قوالات أو نميمة أو شبهة ظنون بأنه يتعاطى النساء، ولكنها أيضا تضع احتمال أن تغويه بجسدها إذا دعا الداعي، ذلك الجسد المنتهك الذي ناله الجنجويد مجانا وعنوة، وناله أبناء جلدتها في معسكر كلمة وأب شوك بغير حب أو رحمة، وناله آخرون كثر بكامل إرادتها ومن أجل بعض النقود القليلة، ما العيب في أن تهبه من أجل قضية ملحة؟ قضية تؤمن بها وتعمل لأجلها، ولا ترى في ذلك خيانة لزوجها شيكيري توتو كوه، ولا لأي مخلوق آخر؛ فهي تعطي لشيكيري قلبها كله وجسدها كله بالحب، له وحده، أما نصيب وطنها وشعبها من جسدها فهي لا تهمله إطلاقا، تذكيه عند الضرورة بدون تردد. الخطة الأخرى التي كانت سوف تطبقها في حال عدم اقتناع الخال ساكن بالمنطق، وعدم استجابته لغواية جسدها الجميل الشهي، بالإضافة لما لديها من مال قليل أخذته من الجنجويد، هي سرقة الفرس، حتى إذا أدى الأمر لقتل العم جبريل والخال جمعة ساكن الطيب، الذي يسمح لهما دائما بأخذ المانجو التي تتدلى أفرعها في بيت الخالة خريفية، الذي يتحدث لغتها القبلية، الذي يحبها جدا ويسمح لها بالتجوال بأفراسه الغالية الثمن، التي يكسب من ورائها الملايين في سباق الخيل في المواسم، التي تكسبه مكانة اجتماعية سامية.
كان الليل دامسا، يقول الخال ساكن: إنه الوقت الأنسب للترحال، فالطريق واضح لديه، ويستطيع أيضا استخدام النجوم، والكواكب، والريح، وملمس التربة ورائحة الأمكنة والأصوات في الاستدلال على الطريق ومعرفة المواقع، كان الفرسان أسودين وهما يرتديان أيضا ملابس داكنة الألوان، حتى تصعب رؤيتهما من قبل الآخرين. كانا لا يتحدثان إلا لماما، بالهمس، يعرفان أن الليل يحمل الأصوات بعيدا جدا، مع طلوع الفجر كانا على مشارف قرية خاوية من السكان، وبيوتها محروقة بكاملها، تتناثر العظام والجثث البشرية المتيبسة في أنحاء المكان بين عشيبات الخريف التي بدأت في الذبول، القرية معروفة لكليهما، ولأن القش البوص الذي نما في الفصل المطير ما زال منتصبا على الأرض - هما في سبتمبر - قطعا بعضه وصنعا منه مظلة صغيرة، أعدا في ظلها بعض الطعام، وقررا أن يبقيا في ذات المكان إلى قبيل نزول الظلام؛ لأن الترحال نهارا قد يقودهما إلى صدام مع جهة ما، وقد تكشفهما مناظير الحكومة أو غيرها من المليشيات الموالية وطائرات التجسس.
صنعا فرشين من العشب، كانت عبد الرحمن مرهقة، لم تركب الخيل لمسافة طويلة منذ سنوات كثيرة ماضية، كانت تحس بآلام مبرحة في باطن فخذيها وسمانة رجليها، شربت قليلا من العصير المصنوع من الدخن، ونامت.
حياة المدينة لم تفقده مهاراته في الصيد والعيش على الطبيعة مباشرة، فبمجرد أن نامت عبد الرحمن، وتأكد تماما من خلو المكان من الثعابين والعقارب السامة، عبث في أشيائه، وأخرج شراك الفئران وطعمها من البصل الأحمر ذي الرائحة القوية، كان يعرف مسارات مرور الفئران الكبيرة عبر أقصاب البوص، حيث إنها تترك أثرا على الأرض واضحا، يبدو وكأنه أنبوب طويل شفاف يخترق العشب، هو سوف لا يضع الشراك في طريقها مباشرة، وإلا أثار شكوكها وأسرعت بالفرار، ولكنه نصبها بعيدا عكس اتجاه الريح، بحيث تصلها الرائحة الشهية للبصل، ويتركها هي التي تبحث عن مصيدتها، طائعة مختارة.
يحبها مشوية على لهب خفيف، استيقظت على رائحة الشواء اللذيذة، وكان منظر الفئران الكبيرة وهي متدلية من عمود مصنوع من أخشاب العرد، مطلة على لهب فاتر يلعق بألسنته الصيد السمين، كانت كما لو أنها في حلم، امتلأت رئتاها بعبق الشواء ودخان الحريق يجعلها تكح بشدة، وهي تحملق في الخال جمعة ساكن وهو يجلس القرفصاء يعد فأرا ناضجا للأكل، جلست قربه، كانت تبدو عليها السعادة البالغة، تحدثت معه قليلا عن وجبة فئران شهية أطعمتها في قريتها وهي طفلة، كانا يأكلان بمتعة خاصة، قال لها بلغتها المحلية: الحرب عدو.
أضاف وهو يرقب اللهيب المتصاعد: الحرب عدو.
كانت تنظر إليه كما لو أنها تنتظره أن يقول شيئا آخر، شيئا مهما، حمل عصا صغيرة من خشب العرد، حرك بها بعض الجمرات الصغيرات، فتطاير كثير من الشرر، صمت لزمن طويل، الحرب تعني عنده الكثير، إنها أخذت كل أسرته، كل الذين يحبهم، التهمتهم بدون أية رحمة.
العم ساكن من قبيلة الفور، وهي القبيلة التي تسكن جبل مرة والأودية التي حوله منذ آلاف السنين، قبيلة مسلمة مسالمة لا تميل للحرب والاقتتال، إلا أن الأراضي الخصيبة التي تشغلها جعلت منها هدفا لأطماع الطامعين منذ أقدم العصور.
عبد الرحمن كانت تفكر بجدية في الطريق التي تشكر بها هذا الرجل. نعم إنه يرى فيها المنفذ العملي للانتقام من أجل أبنائه الذين لم تترك لهم الفرصة للدفاع عن أنفسهم، قتلوا ببرود، سيحكي لها قصة موتهم للمرة العشرين؛ كانوا يستقلون عربة نقل تجاري من كاس إلى زالنجي، وجدوا نقطة تفتيش في الطريق، بها جنجويد وجنود نظاميون، سألوا الناس عن قبائلهم، ومن كذب في اسم قبيلته اكتفوا بأن يحرزوا اسمها، كان يهمهم أن يعرفوا هل الشخص زرقة أم عرب؛ لأن اللون وحده لا يكفي؛ فكثير من منسوبي القبائل العربية أكثر سوادا من منسوبي القبائل الدارفورية الأخرى. كانوا أيضا يعتمدون اللسان، طريقة النطق والتعبير، وفوق ذلك كله يعتمد الأمر على مزاج الجنجويد المسئول عن نقطة التفتيش، وهو دائما في رتبة وسلطة أعلى من القائد العسكري النظامي، بل يستطيع تصفيته دون أن تعاقبه أية جهة كانت؛ ففي ذلك اليوم كان مزاج الجنجويد عكرا؛ فقد جرح أحد أفراد قوته جرحا بليغا قد يودي بحياته، في عراك مع أحد الرجال الدرافوريين، ومما أثار غضبه أكثر أن الرجل استطاع أن يهرب ولم يصبه الطلق الناري الكثيف الذي أمطر به؛ لذا قام بإعدام كل الرجال والأطفال الذكور الذين باللوري السفري، جميعهم، عربا كانوا أم زرقة، ومن بينهم أبناؤه الأبرياء؛ رجلان بالغان وطفل في العاشرة من العمر.
تحس في أعماقها أنها أخذت تنتمي للرجل، قد بدا لها حقيقيا وحزينا جدا، وترغب في مواساته، وعبد الرحمن لا تدري كيف تفعل ذلك. إنها تخشى ألا يقبل الطريقة التي تفكر في أن تعبر بها عن تعاطفها معه، إنه ذات الجسد الذي تصيد به الأشرار والقتلة، وهو يفيد جدا في تقديمه هدية للطيبين والصالحين والذين تحبهم، وفي سبيل قضيتها؛ فلم يخلقه الله لها عبثا، إنه سلاحها وثروتها. لا يستطيع أن يقرأ ما يدور بخاطرها في تلك اللحظة، وإلا لأراحها من الحيرة بإجابة ما سلبية كانت أم إيجابية.
حسنا، يمكنها أن تعطيه النقود التي أخذتها من الجنجويدين، إنه مبلغ كبير من المال، لا تدري ماذا تفعل به في ميدان المعركة، قال لها إنه لا يحتاج لنقود، لديه من المال ما لا يدري ماذا يفعل به ولا كيف يصرفه، المال لا يمثل لديه أية قيمة، قالت له إنها لا تدري ماذا تفعل به أيضا. وأخيرا اتفقا على أن يقوم بإعطائه للعمة خريفية، بأسلوب لا يجعلها تشك في أن مصدره هو ابنتها المختفية عبد الرحمن.
حسنا، إنها لم تكافئه أيضا. الطريق إلى المعسكر قد اتضح تماما، وعليها عندما تتخطى الخور الصغير أن تتخذ يسارها، وتتجه نحو المرتفعات التي سوف لا تبعد حينها كثيرا. إنهم في وسط تلك المرتفعات فيما يسمونه المدينة، وعليها أيضا أن تتخذ تمام الحيطة والحذر؛ لأنهم سوف يرونها بمناظيرهم من على بعد كاف، وإذا التزمت السير كما شرحته لها، فإنها ستتجنب حقل الألغام البشرية. أما ألغام الآلات الثقيلة فبإمكانها أن تعبره دون مخافات تذكر؛ لأنها لا تنفجر إلا تحت ضغط حمل ثقيل مثل دبابة أو شاحنة جنود، عربة لاندكروزر، أو غيرها من المقاتلات ذات الوزن الذي يفوق ثلاثة أطنان، وطالما كانت تحمل طرحتها البيضاء في بيرق ترفعه عاليا، فإنهم سوف لا يطلقون عليها النار. حدثها بسر كتمه طويلا، وهو أنه أحد الذين يعملون على إرسال المقاتلين الدارفوريين من مدينة نيالا إلى ميدان المعركة، وفي كل الجبهات، وهو المسئول الأول في هذا الشأن، وحدثها أن بنيالا الآن أكثر من عشرين خلية مقاومة ثورية، تحت إدارته، وبها عشرات النساء والرجال، مدنيين وعسكريين، طلابا وموظفين. وذكر لها اسم أحد الثوار وهو يعمل بمكتب الوالي شخصيا، بل من أقرب المقربين إلى الوالي.
قال لها: أعمل أنا من عشر سنوات في هذا التكليف، وكنت مقاتلا في أكثر من جبهة، أكد لها بلغتها المحلية وهو يشيعها بابتسامة عريضة بينما يتوغل بها الفرس في عمق المكان. كانت مندهشة، ممتنة، وترغبه بل تتشهاه بشدة، فلو عادت بها الأيام لأصبحت من أقرب أصدقائه أو عشيقته، لا فرق، كم هي حزينة: أن أتعرف عليك في الزمن الضائع.
الحرية وقرينها
جدود إبراهيم خضر إبراهيم منحدرون من العبد الذي سمي بخيت، هو والد الخادم التي سميت بخيتة وعرفت فيما بعد في مجتمع العبيد والأسياد معا ببخيتة «سجم الرماد». لم يهتم أحد بمعرفة اسميهما الحقيقيين، يكفي أن يكون لكل منهما سعر محدد، بيع الجد بسعر أعلى من أقرانه 55 ريالا مجيديا، نسبة لوجود علامات الجدري في وجهه؛ لأن ذلك يعني أنه سوف لا يصاب به مرة أخرى. طالما كلف الجدري التجار خسائر فادحة في العام الماضي، ووهبت هي مجانا لذات التاجر؛ لأنها كانت صغيرة في السن وتحتاج لرعاية قريب حتى لا تموت، كما أنه لا يمكن أن يشتريها أي من التجار؛ فهي خسارة مؤكدة، ولولا رأفة طارئة في قلب النخاس، لتخلص منها برميها للذئاب التي كثيرا ما تتبع قافلة صيد الرقيق، طمعا في وجبات طازجة من موتى أو جرحى من الرقيق فقد الأمل في أن يشفوا.
كان الأب بخيت، وسندعوه بخيت؛ لأن اسمه الحقيقي ظل مجهولا إلى تاريخ وفاته؛ كان يحمل ابنته حديثة الولادة البكر، إلى الرب الخاص بقبيلته في جبل مجاور لمباركتها، وفي الطريق صاده الصائدون، بهذه البساطة، ولكن بخيت كان يلوم نفسه على ذلك؛ لأنه وقع في ثلاثة أخطاء كبيرة؛ أولا أنه لم يذهب في جماعة مدججة بالحراب والنبال، كما هو الحال دائما في مثل تلك الأيام التي يكثر فيها صائدو البشر النخاسون، وهي نهاية هطول الأمطار إلى بداية هطولها مرة أخرى. الشيء الآخر هو أن بخيت نسي أن يحمل معه تميمته الخاصة بحمايته من الطلق الناري والسلاح الأبيض، إلا لما أخافه النخاسون ببنادقهم وحرابهم. الخطأ الثالث وهو الأفدح، أن بخيت ما كان يرغب في الذهاب إلى الرب الخاص بقبيلته؛ لأنه في الآونة الأخيرة انتمى لجماعة تعبد إلها آخر غير الذي تعارف الناس عليه في القرية، يحرم هذا الدين الرب الخاص والخمر والتمائم ويلزم الناس بالصلاة والصيام.
ولكن تحت إصرار وإلحاح أمه وأبيه وزوجته، أخذ ابنته ومضى للرب مكرها؛ لذا فعل الرب به ما فعل. لقد جعله فريسة لأفراد يتخذون نفس دينه الجديد ويعبدون ذات الإله ويصلون تماما كما تعلم أن يصلي، ويكفرون بالرب الخاص بقبيلته.
أخذ الأب والبنت إلى سوق الديم، ولأنه كان قويا وبصحة جيدة وتجاوز مرض الجدري، تم عرضه في السوق مباشرة، ولو أنه كان حانقا ومتورم الوجه؛ لأنه دافع عن حريته بشراسة، ولكن كما يقولون: الكثرة غلبت الشجاعة. في السوق، قال للنخاس باللغة الوسيطة الشائعة في تلك الأنحاء: أنا مسلم مثلك.
أجابه النخاس ضاحكا: لكنك عب، والعب مكانه السوق.
ولم يزد، كانت لديه معرفة كاملة بما سيصير إليه أمره، سيباع من سوق إلى سوق، وإذا كان محظوظا، ينتهي به المطاف في أم درمان، هنالك العبيد أحسن حالا، أما إذا لاحقته لعنة ربه الجبلي، فإنه سوف يقع في يد فلاح أو تاجر جوال، أو سلطان يستخدمه جنديا يخوض به الحروب وقد يخصيه، وهي فعلة مؤلمة كثيرا تحدث عنها الناس، وكلما قبض رجل بواسطة النخاسة، تقوم أمه أو زوجته وأطفاله بأداء صلاة خاصة للرب طالبين منه، في حال أنه لا يستطيع أن يعيده إليهم، فليحمه من أن يخصى؛ لأن ذلك مؤلم جدا ويقطع النسل.
وفي اليوم الثالث بينما كان يطعم بنته التي تصرخ بشدة عندما تجوع فيضطر الحراس إلى توفير اللبن لها، إذ بثمانية من الشبان يلقى بهم في الزريبة، إنهم جماعته أنفسهم، الذين كان يتعبد معهم؛ أي خليته الإيمانية، فلقد تطير بهم سكان القرية بعد أن اختفى بخيت، وحاولوا قتلهم، فهربوا بدينهم إلى مغارة قصية عند جبل بعيد، فصادفهم النخاسة في صحبة البازنجر، ولأنهم غير مسلحين، وكانوا يكفرون بالتمائم الواقية من الطلق الناري، وهاربين، تمت السيطرة عليهم بكل سهولة، ربطوا في صف طويل. أتى بهم النخاس المحظوظ إلى الديم، فلقد كانوا فتية في صحة جيدة، أعمارهم جميعا تجارية، ويعرفون اللغة العربية الوسيطة، كل ذلك يجعل سعرهم مرتفعا وبيعهم سهلا. كانوا وهم يدفعون للأمام ويضربون بالسياط للمضي قدما، يصيحون بصوت واحد منغم وبحرقة: الله أكبر، الله أكبر ...
تم عرضهم أولا لممثل الحكومة؛ فهو المسئول الرئيسي عن الرق، الذي من حقه أن يشتري منه ما يشاء بالسعر الذي يضعه؛ لأن كل الرقيق يعتبرون في الأصل ملكا للحكومة؛ فهي تعطي تصاريح للصيد فقط وليس للملكية، فالملكية تحتاج إجراءات أخرى، وهذا المسئول بالذات يعرف عنه أنه يشتري الرقيق من أجل متعته الشخصية، وذلك عندما لا تكون الدولة في حاجة إلى جهايدية محاربين. يختار الرجل فتيات جميلات صغيرات، صبيان مردة. أما النساء فخلقن لذلك.
أما الرجال فإن أمام الرقيق الذي صادف شهوة رجل الحكومة أن يختار بين اثنين؛ إما أن يتم خصيه ومن ثم يصبح في حكم النساء، وبعد ذلك يرضخ للفعلة مكرها، أو يرضى طائعا أن يفعل به كما يفعل بالنساء. ويعرف عن الحكومي أيضا، أنه يفضل الحالة الأخيرة، حيث إن غاية متعته هي أن يقبض على ذكر المفعول به ويعضه في ظهره عندما يصل ذروة نشوته، فالخصي يحرم الحكومي المسكين تمام متعته المرجوة، كما أن المهدي قد أحل الرق ولكنه - رضوان الله عليه - حرم الخصي، فلا يمارسه الرجل إلا مضطرا ومخاطرا. اختار الحكومي لمتعته الشخصية المتجددة أحد المؤمنين، أحدثهم سنا، وبيع البقية بالجملة لوكيل مهرب مغربي شهير اسمه محمد البخيت، الذي برع في تهريب الرقيق إلى مصر، بعد أن حرم تصديره إليها الخليفة عبد الله التعايشي، خوفا من أن يجندهم الأتراك جيوشا لإعادة فتح السودان مرة أخرى، ينوي الوسيط توريدهم إلى أسواق استانبول مباشرة، ولربما أصبحوا فيما بعد بعض الجند العثمانيين الذين قتلوا في إحدى المعارك التي دحرت فيها السلطنة العثمانية المتهالكة في ذلك الوقت.
عبر مجرى النيل الأزرق الفتي، انتهى بهما المطاف إلى أم درمان، ثم عبر النيل العظيم إلى سوق النخاسة بشندي، اشتراهما إقطاعي، ودارت بهما دوائر الأيام والعبودية، إلى أن بلغت بخيتة الرابعة عشرة من عمرها، وأصبحت في طور ما يمكن أن يؤتى من النساء. اشتراها نخاس متجول، فودعت والدها وداعا مؤلما؛ لأنهما كانا يعلمان أنه نهائي وأبدي، أعادها النخاس إلى أم درمان حيث أخذ يستثمرها في سوق الدعارة مع أخريات، يستأجرها للناكحين الأغنياء بالساعة والليلة والأسبوع. أنجبت من آباء كثر بنتا سميت السرة، ثم من آباء آخرين ولدا سمي مستور، ثم من رجل واحد ثري اشتراها لمتعته الخاصة توأما سميا التوم والتومة، والتومة هي الجدة المباشرة لإبراهيم، اشتراها بدوي بكسلا ب 160 ريالا مجيديا، وهو أعلى سعر لرقيق بسوق أم درمان؛ لأن الخادم الشابة أو كما يسمونها «الفرخة الفاتية»، تعتبر استثمارا مربحا لسيدها، خاصة الجيل الثاني من الرقيق الذي كان نتاج علاقات بين الرقيق الأنثى والذكور العرب، حيث إنهم أخذوا من الآباء ألوانهم البنية والصفراء، والأجساد الأفريقية ذات البنية الجسمانية المتينة والقوام السامق، بل أحيانا يصعب أن يحدد ما إذا كان الشخص من الرقيق أو السادة وفقا للونه.
كان البدوي قاسي القلب، يجعلها تعمل اليوم كله في طحن الغلال بحجر الصوان، ويبيع الطحين للتجار، تطعم ضيوفه الكثر الذين لا يشبعون، ونساءه وأطفاله الآخرين، وبالليل يستأجرها لطلاب المتعة والهوى من الأثرياء.
في صباح باكر، سمعت سيدها المجروح - نتيجة لطلق ناري أصيب به لاشتراكه في معركة كرري - يتحدث مع بعض أصحابه الذين فقدوا أموالهم وثرواتهم بعد عودة الإنجليز لحكم السودان، وسقوط دولة المهدية، يتجمعون كل ليلة يتحسرون ويتباكون على أيام زمان، يتحدثون بحرقة عن طلب الإنجليز غير المعقول وغير الشرعي، بل والمستفز والغريب، الذي يطلب منهم إطلاق الرقيق الذين بين أيديهم أحرارا فورا. ومنذ إعلان هذا القرار، ويجرم ويحاكم بالسجن والغرامة كل من يمتلك أو يتاجر أو يحتفظ بأي شخص ذكرا كان أم أنثى، طفلا أو بالغا، كعبد، أو سرية، أو أي شكل آخر من أشكال الاسترقاق.
كادت أن تطير من الفرح، وتأكدت لها تماما صحة الإشاعات التي انطلقت قبل الحرب قائلة إن الإنجليز سوف يطلقون الناس أحرارا، وسوف يرجعون الناس إلى قبائلهم وأهليهم أينما كانوا.
انتظرت يوما، ويوما آخر، ولم يخبرها سيدها بأنها حرة، إلى أن طلب منها فجأة ذات عصر، أن تترك ما بين يديها، وتختفي بأسرع ما يمكن في أعشاب القاش، وألا تعود، إلا في المساء، عندما سألته لم، قال لها: الإنجليز يريدون أخذها وبيعها إلى الأتراك، والذين سوف يقومون بقتلها وإطعامها لكلابهم. كانت تعلم أنه كاذب، وكانت تعرف أن المفتش الإنجليزي يقوم بمداهمة البيوت التي تحتفظ بالرق ولم تنفذ القرارات الحكومية، وجدت بين أشجار نهر القاش الكثيفة يختبئ المئات من الرقيق، وكثير منهم كان يظن أن الإنجليز ينوون بهم شرا، بل بعضهم كان يطلق مقولة قالها لهم السيد: عبد بسيده خير من حر مجهجه.
وكانوا يخافون من أن يجهجههم الإنجليز، فماذا سوف يفعلون بحريتهم، من أين يأكلون، ويشربون، بل أين ينامون بالليل وهم لا يمتلكون أرضا ولا بيتا ولا وظيفة، ولا عملا؟ سيكونون صيدا سهلا للذئاب والثعابين والجوع والمرض. ولقد حلف كثير من الأسياد لمملوكيهم أنهم سوف لا يقبلون بهم إذا تحرروا الآن، ثم خرج الإنجليز كما خرج من قبلهم الأتراك الذين هم أقوى من الإنجليز، وذكروهم بكيف أعاد المهدي - رضي الله عنه وأرضاه - العبيد الذين حررتهم التركية إلى أسيادهم مرة أخرى، بعد أن هزم بسيفه الترك الكفار، وكيف أن بعض الأسياد من الغضب قام بقتل كل عبيده العائدين بحرقهم أحياء بالنار. وأكدوا لهم أن سيدنا المهدي عائد عائد، وهو لم يمت إنما يذهب ليقضي وطرا في مكة ويعود مرة أخرى بجيش من الملائكة.
قلة قليلة من الرقيق كانت تعي معنى الحرية، والتومة واحدة منهم، كانت تقول لهم إنها تفضل الجحيم من هؤلاء السادة الأشرار، بالنسبة لها الإنجليز أفضل من المهدية، والخواجة كتشنز خير من المهدي وخليفته. التومة هي أول من اتخذت قرارا بتسليم نفسها للإنجليز، وخرجت من عشيبات العدار الغزير. أحست بنسمة رقيقة من الهواء تمسح وجهها، شهقت هواء تحس به لأول مرة في حياتها نقيا، كانت تسير نحو عمق المدينة خفيفة كالريشة، ثم فجأة أحست بنفسها تجري، تجري بكل ما أوتيت من قوة وسرعة، كان الناس يشاهدونها في الشارع تمر مثل الطلقة، مرت بسادة كثر، لم تترك لهم الطريق، بل شقتهم شقا. مرت بعبيد يعملون، لم تهتم بشأنهم، مرت بإنجليز يتمشون وأسرهم لم تعرهم اهتماما، مرت بهنود يجرون عربة عليها إنجليزي عجوز، مرت بأناس شتى، بدو، تجار، بقايا جهادية منكسرين، عبرتهم إلى المديرية، وقفت أمام أول رجل أبيض تقابله، قالت له من بين أنفاسها المتلاحقة: أنا حرة.
في ذلك اليوم أخرج الإنجليز من بين قصب العدار الذي ينمو في مجرى نهر القاش الموسمي والأحراش التي تحيط به، ما لا يقل عن ألف رجل وامرأة ومئات الأطفال، وقالوا لهم: أنتم أحرار، بكى كثير منهم من الفرح، وبكى الآخرون من الخوف على مستقبل حريتهم المجهجهة. وأصبح الخوف جديا وماثلا، خاصة بعد مذكرة السادة على الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي في 6 مارس 1925 إلى مدير المخابرات الإنجليزي التي طلبوا فيها من الحكومة الإنجليزية، إعادة النظر في الحرية الموهوبة للرق في السودان، بل استثناء الرقيق السوداني بالذات من الحرية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية، وتركهم عبيدا إلى أبد الآبدين؛ لأن ذلك أجدى لهم وأنفع. وقد روج النخاسون والمالكون للرق دعاية مفادها أن الحكومة البريطانية قد استجابت لهؤلاء القادة الدينيين، وقريبا جدا سوف يعاد إليهم عبيدهم؛ مما جعل أسرا كثيرة وأفرادا من المعتوقين يهربون إلى إثيوبيا.
رجل اسمه فرج الله ود ملينة، كان مملوكا للحكومة كجندي جهادية، ويبدو أنه كان يفكر في مستقبله كثيرا؛ لذا، منذ خمسة عشر عاما، كان يستقطع أو بالأحرى يسرق من المال الذي يجبيه من التجار والمزارعين كزكاة أو عشور، ورشاوى للأمراء، ويدفنه في مغارة بجبل توتيل؛ فهو الآن يمتلك ثروة من الذهب والريالات الفضية، بالقدر الذي يضعه في مصاف أثرياء المدينة، اشترى بعد التحرير الأبقار والماعز، وبيتا كبيرا، به غرف متسعة مبنية بالطين اللبن ومعروشة بسوق الدوم والنخيل، تماما كما يفعل أسياده في الماضي. وإذا كان الرق مباحا، لسعى فرخان أو ثلاثة لخدمته، ولاتخذ لنفسه من السرايا كثيرات. فلقد كان رقيقا مميزا جدا؛ فهو مملوك للدولة، ولديه رتبة عسكرية، وسلطة مطلقة في البطش، فبسقوط الدولة المهدية التي كان مملوكا لها فقد تحرر، فلولا أن حرمت السلطة الجديدة الرق، لما فكر أن يكون شيئا آخر غير تاجر رقيق.
أعجب هذا الجهايدي المعاشي بالتومة وجمالها، وكان يرغب فيها بالماضي ولم يكن باستطاعته منافسة السادة. تقدم الآن إليها، بسنة الله ورسوله؛ أي يتزوجها كما يتزوج الذين كانوا أسيادهم، وراقت لها الفكرة، زميلاتها في العبودية قمن بتجهيزها، فلقد كانت توكل إليهن هذه المهام في الماضي، فصارت مثل الأميرة حسنا ورقة وإشراقا، وتطيبت بأحسن العطر، وهو الشيء الذي كان محرما عليهن في زمن الرق والعبودية، ألبست الذهب والفضة والثوب الزراق والفوطة الهندية، ولأول مرة ترتدي حذاء جديدا وقرقابا من الحرير، وكانت حديث المدينة، حيث يعلق الناس في حسد قائلين: لقوها الخدم والعبيد.
لم يكن الناس معترفين بالحرية التي أعطاها الإنجليز لهؤلاء العبيد، وكانوا يعتبرونها عارضة، وغير شرعية؛ لأن في رأيهم أن الإسلام نفسه لم يحرم الرق والاتجار به واتخاذ السرايا، سارت على نهجه المهدية المباركة، وقبلها السلطنة الزرقاء، التي امتلك فيها حتى أولياء الله الصالحين مئات العبيد، فكيف يحرم الإنجليز الكفار ما أحله الله على عباده؟ بل ماذا سوف يفعل الرقيق الأحرار بحريتهم، لنرى إذن.
بمرور الزمن تطور مفهوم العبودية بأن يظل العبد عبدا ما عاش، حرره الإنجليز أم أعتقه سيده. بل يرث الأبناء تلك الصفة، وذهب لأبعد من ذلك، فبعض السادة القدامى ضربوا ما كان رقا لهم بالعصي، محاولين إعادتهم إلى بيت الطاعة، وهنالك من السراري من فضلن البقاء في رفقة أزواجهن بشرعية ما ملكت الأيمان، وذلك طوعا، ولكن الأسوأ هو أن السادة قد أصابتهم حالة سعر نتيجة لجنون الفقد والحرمان، فأصبحوا يطلقون على كل شخص شابه في لونه أو هيئته ما كانوا يمتلكونه من رق، العبد؛ وهذا ما جعل رجلا من الجنوب، كان يعمل في المديرية كاتبا، أن يقتل رجلين بسلاح شخصي؛ لأن أحدهما ناداه بالفرخ، واستطاع أن يهرب ويختفي في الغابة المجاورة، وظل يطلق النار على كل من يقترب من غابته. ولأن الإنجليز كان يعجبهم هذا التصرف، فإنهم لم يرسلوا جنودا للقبض عليه لمحاكمته بجريمة القتل التي ارتكبها، كانوا يريدون أن يلقنوا الناس درسا، ويجعلوهم يفهمون أن ذلك العصر الذي يقسم الناس لعبيد وأسياد، قد ولى، وعلى الناس أن تفهم متطلبات العصر الجديد وأن تتعايش معه.
أنجبت التومة، في أكتوبر 1933 بنتا جميلة في بشرة جدها البدوي السيد وقوام أبيها، وبها ملامح ملكة نوبية عظيمة، سماها أبوها فرج الله على أمه التاية، في مارس 1956 تزوجت التاية من رجل اسمه خضر إبراهيم خضر، يطعن الناس في نسبه، يظنون أنه من السودانيين على الرغم من بشرته الصفراء. في أكتوبر 1963، أنجبت له ولدا أسماه إبراهيم على أبيه، وبعد عشر سنوات أخرى أنجبت له بنتا سماها أمل، وأمل هي البنت التي عندما تم صيد إبراهيم خضر عند مدخل مدينة الخرطوم في نقطة التفتيش بسوبا لأداء الخدمة الإلزامية، كانت في صحبته بالباص، وكان على إبراهيم توصيلها للجامعة وتيسير أمر إقامتها.
أخذ إبراهيم خضر يعي حقيقة وضعه الاجتماعي متأخرا جدا؛ لأن والديه كانا يصران على قطع أية صلة بينه وبين أقاربه وجدوده وجداته، الذين ما زالوا محتفظين بكثير من سمات قبائلهم التي أتوا منها من شتى أنحاء السودان، مجلوبين من قوافل الرقيق، وهي أسر شهيرة ومعروفة في كل أنحاء مدينة كسلا، بل إن والده كان يصر على أن يطلق كلمة عبد على كل شخص له بشرة سوداء داكنة، أو ملامح موغلة في أفريقيتها، ويحكي قصصا أسطورية عن أصوله البدوية وما كانوا يمتلكونه من رقيق، عن قوافل جده التي تجوب الأحراش في صيد الرجال والأطفال والنساء. لم يبق كثيرا إبراهيم خضر بهذا الوعي الزائف، لقد نضج وبصورة جيدة، لم يخجل من أصوله التي عيره بها الكثيرون، وقصتها له الجدة التومة ذاتها، وقالت له: إن أباه موهوم؛ فقد أخذ يبحث بصورة جادة عن أصول جداته المسبيات والمباعات في أسواق الرق مسترشدا بخارطة طريق جدته التومة، وظل لفترة طويلة خاصة أيام دراسته الجامعية بكلية الآداب جامعة الخرطوم، ينقب في دار الوثائق القومية والمجلات الدورية الرصينة مثل مجلة
Sudan Notes and Records ، وهو لا يحمل نفسه أو أبويه أو جدوده أية مسئولية في ذلك، كان النظام المتخلف في ذلك الوقت البعيد يقوم على سيطرة القوي، وكانت أسر جدوده من الضعفاء، وهذا أوقعهم في يد من لا يرحم وبطش دولة دخلها الأساسي من أثمان مواطنيها في أسواق النخاسة العالمية والمحلية، عصر فيه الدولة هي تاجر الرقيق الأعظم؛ لذا كان إبراهيم خضر يكره السلطنة الزرقاء ويعتبرها أساس إشكالات الهوية في السودان، ويقول صراحة بأنه ليست هنالك أية سمات حضارية تخصها، وهي ليست سوى تحالف تجار رقيق، وعندما انفضت تجارتهم وعفا عليها الزمن، وحاصرتها الحضارة الأوروبية، أزيلوا من وجه التاريخ إلى مزابل النسيان.
يعرف أنه يقسو كثيرا في حكمه عليها، ولكنه لا يمتلك خيارا آخر، أن يحبها مثلا أو أن يكون محايدا، فما التاريخ عنده سوى ملحوظات دونها البشر، ومن حقنا كبشر أن ندون التاريخ الذي يخصنا، ومن حقنا ألا نصدق المدونين، فليست هنالك حقيقة مطلقة فيما يسجل، ولكن ليست هنالك حقيقة أكثر مما نراه بأعيننا ونحسه ونتعذب من أجله يوميا: هذا الإرث البائس من علاقات الرق؟
لم تكن أخته أمل بذات الوعي، بل ظلت في غيبوبة اختيارية عميقة، وتشربت الدرس الذي لقنته لها الأسرة، بل إنها تظن ظنونا مدهشة، أقصد تصدق بصورة قاطعة، أن أسرة جدودها كانت تمتلك رقيقا، وما تلك الجدات السوداوات شديدات السواد المشئومات إلا بقايا إرث ومجد تليد، ونتيجة للتسامح الذي عرف به المجتمع السوداني منذ عصور سحيقة، أصبحن جزءا أصيلا من الأسرة. أمل تنتمي الآن للجد البدوي، وبها من ملامحه الكثير، إذا أغضضنا الطرف عن أنفها الأفريقي الجميل، وقوام ملكات كوش. جدها البدوي من قبائل هاجرت حديثا من الجزيرة العربية لشرق السودان، بذلك أراحت نفسها من جدل الهوية المؤذي.
لم تمر أمل بظروف شديدة التعقيد بعد أن تم فصلها عنوة من أخيها، اتصلت بوالدها وجاء بنفسه وقام بتسجيلها في الجامعة، وهيأ لها سكنا داخليا مع أخريات، وقد تجنبت بقدر الإمكان الإقامة مع طالبات من مدينة كسلا، أو معارفها، كانت تريد أن تفتح صفحة جديدة في حياتها، وفتحت هذه الصفحة، أو في الحقيقة الصفحة انفتحت لها، عندما شاهدها مخرج تليفزيوني عن طريق الصدفة يوم حفل تخرجها، حيث كان قد دعي لتصميم حفل التخرج، وطلب منها أن تقوم بدور بطولة قصير في اسكتش رمضاني، ثم رآها مدير قناة فضائية شهير، حداثي متدين ومحب للجمال، عرف من أول نظرة أنها «تنفع مذيعة»، مع قليل من تقويم الأنف وصنفرة البشرة، وتثقيف اللسان، والبقية مقدور عليها. قال لنفسه بتشه وخبرة: مدهشة، وبصق سفة صعوط كبيرة على الأرض.
لم تكن فرحة والدها بذلك كبيرة، عندما تصبح ابنته مذيعة معروفة سيحرك ذلك ألسنة الناس، والدنيا مملوءة بالحاسدين والحاقدين، الذين لا هم لهم سوى التقليل من شأن الآخرين بشتى السبل، شهرة ابنته قد تفتح في وجه أسرته بوابة من الجحيم يعمل دائما على أن تظل مقفلة جيدا. في الحقيقة هو حزين منذ أن أخذ ابنه إلى مجاهل الحروب، ولم يسمع عنه شيئا سوى خطاب واحد طويل أتت به إليه منظمة الصليب الأحمر الدولية في مرة من المرات، وهو لم يعرف أن ابنه كان أسيرا إلا يوم أن استلم الخطاب، وبعد ذلك لا يعرف شيئا، هل تستطيع ابنته الشهيرة أن تعيد ابنه المخطوف المجهول؟
سأل نفسه هذا السؤال بعد عشرة أعوام وشهرين من اختفاء إبراهيم خضر إبراهيم، وعامين كاملين منذ أن اعتلت ابنته الجميلة أمل فضاءات الشهرة الرهيبة، وأصبحت مقدمة البرامج الأولى في القناة، وخاصة بعد عودتها من فرنسا، حيث هيأت لها القناة الفضائية عملية تجميل باهظة الثمن، والحق يقال كان لوالدها أن ينظر إليها مرات عديدة ليعرف أنها ابنته أمل، لا يدري كيف صنعوا لها أنفا غريبا مخروطيا أشبه بأنف امرأة فرنسية وعينين شديدتي الزرقة مثل ماء البحر، كل ما تبقى من وجهها القديم شفتاها المكتنزتان لا غير.
لم ينس الأبوان ولم تنس الأخت أخاها إبراهيم، كان يرن في وعيهم كدقات الساعة، منذ اللحظة التي فقد فيها، وقد قامت الأسرة بمحاولات كثيرة ومريرة في استعادته، ولكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا، فهم أسرة بسيطة ليس من بين أقاربهم سياسيون وذوو مال نافذون، أو عسكريون يشار إليهم بالبنان، طرقوا أبواب مكاتب الخدمة الوطنية مستفسرين، وكانوا دائما ما يقولون لهم إنه حي وسيعود عندما يكمل فترة خدمته، وبعد عامين؛ أي عندما اكتملت الفترة القانونية، قالوا لهم ينتظر بديله، وظلوا يكررون لهم جملة ينتظر بديله بإيقاعات متعددة إلى اليوم وغدا.
الكلمة
الكلمة يا أصحابي لا تأتي إليكم، إنما أنتم الذين تنتبهون لها، أنتم الذين تختارونها من بين الكلمات الكثيرة، ولمن يرى فهي مضيئة، تشع مثل الجوهرة أو قل إنها مثل الشمس في السماء، أما لمن لا يرى فإنها كنقطة ماء عذبة في المحيط، وأنا هنا من أجل الكلمة لا غير، أنا أبشركم بها وأهبها لكم جائزة، وأزوجكم إياها وأخطبها للعاشقين والعاشقات. سأغنيها كماء النهر وأرقصها كالموج، وأصلي لها في الرمل الحارق النبيل، الكلمة هي حياتكم وموتكم، وهي سبيل المحبة والكراهية.
قال: المؤمنون بي لا يرونني، يعرفني أكثر الكافرون بي.
وقال لنا: لا تصنعوا مني صنما وتعبدوه؛ لأنني لا أصنع منكم أربابا وآلهة.
وقال لنا: أنتم أعرف مني في كل شيء، وأعلم مني عن كل شيء، وأقرب مني من كل شيء، وأنتم في الحب مثل اللهب في وجه الشمس، وأنا يا أحبائي الشمس: فلا تؤمنوا بي ولا تكفروا بي، وضعوني في ذاكرة أيامكم.
وقال لي: يا إبراهيم، لا تسع عينيك كما تسع قلبك، بل افتحهما للكون هكذا؛ ومد ذراعيه في اتجاهين متعاكسين، ورأيناهما يحتويان الدنيا كلها وقلبي وعيني وقلبه وعينيه.
قال لتلاميذه: العالم أضيق قليلا من أحلامكم وأكثر اتساعا من أحلامكم، إنه مثل شعلة النار التي تكمن في الشجرة، ومثل الشجرة التي تكمن في الصخرة، ومثل الصخرة التي في القلب: ثقيلة وملساء، ولها بريق جذاب، تحروا الحقيقة فإنها مخادعة.
عندما خرجوا من المغارة، خرجوا مثل الأغنام التي احتجب المرعى عنها سنوات طوالا، وبقي في ذاكرتها شهيا أخضر وبعيدا جدا ونادرا. كانوا يتشوقون إلى الراكوبة والقرية وغدير الماء العذب، خلعوا ملابسهم ورموا بأجسادهم في الماء، رجالا ونساء وأطفالا، في ذات المكان، ذات الشط، ذات الماء، وذات العري. كانوا يسبحون ويلعبون مثل الدلافين المسحورة، مثل سمكات دب فيها روح شيطان نزق: كالأطفال.
وعندما خطا خطوته الأولى في الماء، فعل الماء كما يفعل دائما عندما يتوغل فيه ابن الإنسان، أصبح أكثر هدوءا من لوحة على الحائط، أكثر صفاء من قلب أنثى تعشق، وأكثر جمالا من مرآتك الشخصية. كان مصقولا، دافئا، وله شميم الياسمين. ولأنهم اعتادوا على ذلك واصلوا يلعبون ويضحكون ويشربون الماء ويتغنون. كانوا من بلاد شتى، وسحنات شتى، وقبائل شتى، وألوان شتى، ورؤى فاتحة على نوافذ شتى: كانوا يلعبون.
قال لها: لا تجعلي قلبك مملوءا بالحب، لا تجعليه مملوءا بالجمال، لا تضعي ذلك الشيء الذي يسمى الرحمة والطمأنينة فيه؛ لأنهما يتمددان كالهواء الحار ويملآنه، لا تشغليه بهذا وذاك، حرري قلبك من كل شيء ولا شيء، حتى يصبح خاويا كالفراغ، حينها فقط تستطيعين أن توطني الكلمة فيه، فالكلمة لا تكون مع شيء ولا يكون شيء معها، ولكنها إذا استوطنت القلب ملأته بالأشياء.
شيزوفرينيا المستلب
أصبح شيكيري ملما بكل هذا الإرث المؤلم، وملكه بذلك نفسه تماما، وما كان يظن شيكيري أن إبراهيم يحمل كل هذا الماضي الحزين. أما من جانب إبراهيم فحكايات أصله وفصله جزء من أسطورة ذاته؛ فهو لا يخجل منها، بل يستطيع أن يقول إنها تمنحه قوة وثقة بنفسه، ودائما ما ينظر بإجلال لهؤلاء النفر من جدوده، الذين ذاقوا مرارة الحرمان، وبعضهم منذ ميلاده إلى مماته لم يعش يوما واحدا كإنسان حر، لم يستمتع بجمال هذا العالم المدهش، لم يحقق حلما ولو كان صغيرا خاصا به، حرموا حتى من الحق في الأسرة، حيث أطفالهم ملك لسادتهم، يبيعونهم كيفما ووقتما وأينما شاءوا. كان يعتبرهم أبطالا وشهداء فعليين، ومن حقهم عليه أن يفخر بهم، ومن حق كل من ساهم في مأساتهم أن يخجل من نفسه، وهذا أضعف الإيمان.
بدأ له شيكيري السكوت، الآن يضج بالتخبط، ويوقن أن زوجته عبد الرحمن بتهورها سوف ترميه في مهاو لا فكاك من شراك قيعانها، والآن قد تورطا في الحرب بصورة نهائية ومفجعة، فلقد أصبح أحد قادة الفصائل، وصار من أشرس المحاربين وصانعي الخدع الحربية، وهو الأسلوب الذي يتبعه شارون في خططه الحربية. أما عبد الرحمن فقد أخذت تحوز على مركز قوة تدريجيا، فمنذ اليوم الذي شوهدت فيه تمزق ملابسها وسط المدينة، وترتدي البذلة العسكرية، قد أصبحت شخصا آخر، شخصا يسعى للسلطة والسيطرة بكل ما أوتي من جهد وحيل ومكر، وكان واضحا أنها تسعى لأخذ موقع متقدم في قيادة الحركة، وتعرف أن كل نقطة قوة تحصل عليها، هي خصم من سلطة شارون، ويعرف شارون ذلك ، وهل يقبل أم أنه ينتظر إلى حين أن تقع عبد الرحمن في كمين يعده بمزاجه، كأسلوبه في إدارة المعركة؟
على كل هو ليس قلقا على ما تناله عبد الرحمن من قوة، فعبد الرحمن محاربة شرسة وذكية وصبورة، وفوق ذلك إنها لا تريد أن تموت في المعركة أو تؤسر، وهما فضيلتان يجب أن تتوافر في الجندي الذي يسعى للنصر. أما ما يهم إبراهيم خضر فهو صديقه شيكيري، الذي لا ناقة له ولا جمل في هذا الصراع الخفي العنيف، في هذه الحرب التي زجا فيها زجا. أخبر إبراهيم شيكيري بمخاوفه عليه، وألمح له أن عبد الرحمن سوف ترمي به في جب لا نجاة منه، وأنه قد يفقد حياته، ولكن شيكيري الذي يحب عبد الرحمن، وبدأ يحب لعبة الحرب، كان رأيه أنه لا وسط فيما يجري الآن في المنطقة؛ فإما أن يحارب في صفوف الحكومة والجنجويد، أو في صفوف الطورابورا: اختار الأخير، على الأقل لأن عبد الرحمن هناك.
مرت أشهر الخريف بهدوء، وجرت مفاوضات عن طريق وسطاء عرب بين الحكومة وبعض الحركات، ومنها الحركة التي يتزعمها شارون، عبد الرحمن حضرت المفاوضات أيضا، ما كانت عبد الرحمن تتوقع نتيجة إيجابية لمثل هذه المفاوضات، ولكنها على كل حال عبارة عن هدنات يعيد فيها الأطراف جميعا ترتيب أوضاعهم وتأمين الإمدادات العسكرية والطبية لمقاتليهم، ويحاول كل طرف من خلالها أن يحطم معنويات الآخر.
شارون يرى أن الحرب بالنسبة للحكومة والجنجويد قد أدت غرضها بنسبة 90٪، وهو المتمثل في تهجير قبائل الدارفوريين إلى ثلاث جهات: المعسكرات في تخوم المدن الكبرى، مثل نيالا، الفاشر والجنينة، وقد تبنى لهم قرى نموذجية بتمويل عربي إسلامي يجبرون على الإقامة بها، وإما إلى دولة تشاد كلاجئين، أو للآخرة كموتى. وما تبقى من ال 10٪ إما أنهم يعيشون كرق في القرى التي يسيطر عليها الجنجويد، أو ينتظرون دورهم من الموت والتهجير لتحل محلهم المجموعات البشرية القادمة من النيجر وجمهورية تشاد تحت مسميات قبلية كثيرة ولقب مرعب واحد هو الجنجويد: جن على ظهر جواد وفي يده جيم ثلاثة، أو مقاتلون في أحراش دارفور.
استيقظ المعسكر ذات صباح على شجار ما بين مريم المجدلية وعبد الرحمن كانتا تشتمان بعضهما البعض بألفاظ نابية وجارحة، استطاع الناس من بين هذه الشتائم والاتهامات أن يسبروا غور المشكلة، أو ظنوا أنه كذلك. توصلوا إلى أن عبد الرحمن تتهم مريم بالسعي إلى غواية زوجها شيكيري توت كوة، بل تدعي أنها وجدتهما مرارا وتكرارا معا، وتتهم مريم أيضا عبد الرحمن بأنها داعرة كبيرة، وأنها تمارس الجنس مع الجنود لتقنعهم بالوقوف إلى جانبها ضد شارون، صاحت مريم بصوت عال وواضح، إن عبد الرحمن كانت تستدرج الجنجويد عن طريق شرفها.
كانت هذه الإساءات مؤلمة لشيكيري، صحت أم كذبت. ولو أن عبد الرحمن قالت له ذات يوم، عندما ناقشها في شأن صيد الجنجويد، وحاصرها في ركن ضيق، وكان عليها أن تعترف بسر ما، قالت له إنها تحارب بكل ما لديها من أسلحة، وألمحت إليه أن جسدها واحد من تلك الأسلحة، وأنه أكثرها ضراوة. أما مسألة الشرف، فلم يترك لها الجنجويد شرفا تحافظ عليه؛ لذا من جانبه يشك في كل شكل من أشكال التقارب بينها وبين شارون، ولم تمر شتائم مريم لها مرور الكرام، دون أن تحرك أنياب المخافات فيه، ودون أن تدعه يحدث ذاته بأن عبد الرحمن في سبيلها للسلطة قد تفعل. أما شتائمها لمريم واتهامها لها بأنها تسعى لغواية زوجها، فكانت صحيحة، بل إن شيكيري ومريم فعلا كل ما يمكن أن يفعله شخصان ناضجان يؤمنان بأن الجسد يستطيع أن يفكر بعمق ولذة أكثر مما يفعل العقل. ولم تكن لدى عبد الرحمن المعرفة الأكيدة بما وصلا إليه من تواصل حميم، ولكن حدثها قلبها، فصدقته وافتعلت الشجار، كانت تريد أن تحتفظ بشيكيري، لا تدري ما إذا كانت تحبه حقا أم أنها تريد رجلا قربها لا أكثر.
حسم شارون المعركة بإعلانه الاستعداد الفوري. لقد شوهدت طائرة تحلق في أجواء ليست ببعيدة عن موقع المعسكر، أنتنوف صغيرة الحجم، تحلق عاليا، واختلف القادة ما بين أن يطلقوا عليها المضادات الصاروخية، أم أنها طائرة مدنية. لتوخي الحذر دخل المقاتلون المخابئ، وانتظر مطلقو الصواريخ الأوامر العليا، الطائرة تذكرها بأيامها الأولى بمعسكر كلمة، الذي يقع جنوب مطار نيالا، ولا تفصله عن المطار مسافة شاسعة، وعندما تشعل محركات الطائرات ويسمعها الأطفال في المسكر مساء أو في الصباح الباكر، فإنهم يتبولون في ملابسهم، تهرب الحمير رافعة آذانها للأعلى، وأذنابها منتصبة في خط مكتمل الاستقامة، متوازيا مع جسدها الذي ينطلق على سطح الأرض بسرعة مائة كيلومتر في الساعة، تصيح الدجاجات والديوك كما لو أن ثعلبا شرسا دخل قنها. أما عبد الرحمن، فعلى الرغم من كبر سنها مقارنة بغيرها ممن خبروا تجربة حرب الطائرات، ما زالت تحس بالرعب يتملكها عندما تسمع صوت الطائرة، أو تراها؛ لذا كانت من أنصار أن يطلق الصاروخ على الطائرة إذا حلقت مرة أخرى قريبا من المعسكر، أو حتى بعيدا عنه، طالما كانت في مقدرة الصاروخ أن يسقطها؛ لأنها حتما ستذهب إلى قرية ما، وهناك أطفال ما سوف تقتلهم، وبيوت كثيرة ستقوم بحرقها وإحالتها ومن فيها إلى رماد.
مرت الطائرة بسلام، ولكن لم تمر أزمة الطائرة بسلام؛ لأن أحد الجنود أطلق صاروخا مضادا للطائرات تجاه الأنتنوف، لكن لسوء الحظ أو لحسنه لم يصبها، قال إنه لم يستطع أن يتمالك أعصابه، وإنه عندما يرى الطائرة يغمره نفس الشعور عندما يرى الجنجويد أو العقرب، عليه أن يفعل شيئا لقتلها. وأيدته بشدة عبد الرحمن، ووبخه بشدة شارون، وفي اجتماع صغير ضم القادة لتقييم الوضع، اختلفوا في استراتيجية حرب الصيف، التي بدأت بوادرها في الظهور، كطائرة الاستطلاع سالفة الذكر، وكان شارون يصر على ذات النهج؛ أي إنه لا يهاجم أيا كان، إنما يترك العدو يأتي إلى حيث ينتظره، ليموت بين يديه في كمين محكم، وهذه الخطة تعتمد على التغذية من داخل المدينة وأحيانا من المتعاونين من الجيش النظامي والمندسين داخل صفوف المجاهدين، وهي مكلفة بشريا وماديا، ولا تكلل دائما بالنجاح، فعندما تفشل فنتائجها وخيمة، و«يا ما كانت» هنالك أوقات مؤلمة وحرجة عاشها المقاتلون يوم أن صار الكمين الذي نصبوه للجنجويد، كمينا لهم في ذاتهم، وهنالك ذكريات وقصص مؤلمة تحكى في هذا الشأن.
عدد لا يستهان به من القادة الميدانيين اقتنعوا بفكرة عبد الرحمن، وهي مقاتلة الجنجويد في القرى التي استولوا عليها وحرقهم فيها، بطريقة الهجوم السريع المباغت، بأكبر عدد من المقاتلين والرشاشات المحمولة على عربات اللاندكروزر السريعة والانسحاب الفوري. ولكن الاجتماع انتهى بالعمل بفكرة شارون، الذي له تجارب في الميدان تدعم حجته، ولا يتخيل مثل عبد الرحمن النصر والهزيمة تخيلا؛ لأن عبد الرحمن لم تخسر معركة إلى الآن، لم تذق طعم الهزيمة وتواجه الموت، وذلك علم عسير.
ويؤكد شارون أن لذة النصر أن يأتي العدو ويموت حيث تريد، ويعرف العارفون أن شارون يقرأ كثيرا مذكرات جيفارا، ويمتلك الكتاب الذي ألفه فيدل كاسترو عنه، ويعتبر جيفارا هو مسيح المناضلين ومذكراته إنجيلهم، ولكنه كما يقول دائما عن نفسه إنه يؤمن ببعض الكتاب، ويتمنى لو أن لقبه كان جيفارا بدلا من شارون، ولو أن اسم جيفارا سيذكره بصديقه الشهيد أبكر جيفارا، أول من استشعر خطر الجنجويد، وأول من حمل السلاح للدفاع عن أهله بدارفور. كان يعيب على جيفارا شيئا واحدا، ويشترك فيه كثير من مقاتلي دارفور، وهو أن صديقه الشهيد كان يفهم نصف واقع الحرب، ويجهل النصف الآخر. ويشرح شارون ذلك بأنه لا يفهم كيف يحارب الرجل ضد الثوار في الجنوب، ويقتل أطفالهم ونساءهم وشيوخهم، ويحرق قراهم دون رحمة، بل يعتبر ذلك مرضاة لله - سبحانه وتعالى - وجهادا في سبيله، ثم ينقلب بين ليلة وضحاها، ليصبح ثوريا عندما تهم ذات السلطة التي كانت تستخدمه، بذات المبادئ وذات الشعارات والأخلاق، بإدارة الحرب في مسقط رأسه، مستخدمة بالطبع آخرين أو إخوته، أو هو في ذاته بأسلوب ميتافيزيقي قد لا يتأتى عليه فهمه تحت ظل عطر البارود وقعقعة الرصاص.
كان شارون يسمي ذلك شزوفرينيا المستلب، الذي ليس بإمكانه أن يفهم أكثر من بعض الحقيقة، ولا يعي سوى بعض الواقع؛ بالتالي لا يقوم سوى بشيء من الواجب، وقد يكون ضرر هذا الشيء أكثر من نفعه ؛ فالثوري يحتاج للقلب النقي أكثر من اليد القوية، أو الاثنين معا بذات المقدار.
أصيب المعسكر بحالة من الارتباك عندما انتشر خبر الهجوم الذي تعد له القوات الحكومية والجنجويد، بل الذي بدأ بالفعل، عندما هاجمت طائرة مقاتلة تطير على مستوى منخفض جدا، تكاد أن تلامس هامات الجبال مثل طائر وحشي يراوغ فريسة تجري على الأرض، كان ضجيجها مزعجا ومرعبا، أسقطت قنبلتين برميليتين على السهل الجنوبي، وكان المقصود السهل الأوسط حيث منبع البحيرة والمدينة، ولكن المسافة بين الأوسط والغربي لا تتعدى الثانيتين بسرعة الطائرة المقاتلة النفاثة الصينية المرعبة، وكعادة الطيارين يخطئون الأهداف نتيجة للخوف وفقدان الدافع الأخلاقي أو الثوري وليس لعدم دقة الآلة. وقبل أن تعيد الكرة، وهو الشيء الذي لا يخاطر الكابتن بالقيام به في مثل هذا المكان، كان الجميع على أهبة، وقام شارون بإطلاق سراح الأسرى؛ لأنهم قد يقتلون في سجنهم بدون أن يتمكنوا من انتهاز فرصة إنسانية لإنقاذ أنفسهم، كما أنه لا يستطيع أن يثق فيهم بالصورة الكافية التي تجعله يضمهم إلى وحداته القتالية؛ لأن كل ما يفكر فيه الأسير هو الهرب، ومن يظن غير ذلك يعتبر مغفلا حسن النية، وهي صفة لا يمكن أن يوصف بها شارون. هي المرة الأولى في حياته يقوم فيها بإطلاق سراح أسير، لكن هي المرة الأولى أيضا التي تجرؤ فيها الحكومة على مهاجمة معسكره: أنتم أحرار، فقط لا أريدكم قريبا من جيشي، اذهبوا أينما شئتم، بالتأكيد لا أريد أن أراكم أسرى مرة أخرى.
ولكنهم يظنون أن وراء العملية خطة، فشارون في عرفهم لا يفعل شيئا بدون حسابات دقيقة، كانوا في ذهولهم التام لا يدرون ما هو التصرف اللائق، وعندما تركهم لشأن آخر أهم، هربوا معا شمالا، حدث ذلك بعد مشورة قصيرة فيما بينهم؛ لأنه إذا كان هنالك هجوم أرضي لا بد أنه سيأتي من جهة الغرب؛ لأن المنطقة الجنوبية والشرقية ملغمتان، والشمالية بها درع جبلي لا يمكن تسلقه بسهولة، وهم لا يريدون أن يلتقوا بالقوات المهاجمة؛ لأنها سوف تقضي عليهم في الحال، قد تعتبرهم بعض قوات العدو، عندما تخطوا الدرع الجبلي وانطلقوا بين الأشجار، كانوا عشرين رجلا، ولكنهم الآن واحد وعشرون، لقد انضم إليهم إبراهيم خضر، الذي كان ينتظر تلك الفرصة بل ويحلم بها، هرب قبلهم بزمن قصير، ولأنه يجهل طبيعة المنطقة، ظل مختبئا، إلى أن يوطن نفسه على فكرة، وفوجئ بالأسرى فتبعهم.
العنكبوت
قرية خربتي الجبل، قد لا يعرفها الكثيرون، حتى الذين ولدوا ونشئوا وماتوا بإقليم دارفور، قرية صغيرة تقع في مضب صخري جنوب جبل مرة، سكانها القليلون يعملون في زراعة المانجو والبصل، وقليل جدا من الذرة للاستهلاك اليومي، وتعتبر المانجو هي عصب الحياة لديهم، وينتجون عينة منها تعرف بمانجو الجبل، وهي نادرة، كبيرة الحجم، غالية الثمن وحلوة الطعم، لها بذرة صغيرة جدا، ليس بها ألياف، لا تتلف بسهولة، يشتريها منهم تجار يأتون من أقاصي دارفور؛ ليصدروها للخرطوم، في شهور مارس وأبريل ومايو، يبيعون البصل في السوق المحلية. يعتمدون في شرابهم وسقيا حيواناتهم، على ماء اليمامات من الخور الوحيد الذي يهبط من الجبل عابرا جنائن المانجو التي يمتلكونها، تتمتع خربتي بأرض زراعية خصبة تنمو عليها الأعشاب الموسمية بكثرة، ولو أن سكان خربتي لا يميلون لتربية الماشية بكميات كبيرة، إلا أن بيئتهم وأرضهم رعويتان، وعمدة خربتي رجل طيب وإنسان مسالم ومسلم؛ لذا يؤمن بأن الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلأ.
في صيف 1988 قبل هطول الأمطار بخمسة وأربعين يوما، جاء إلى قرية خربتي شيوخ من الأعراب، وليس غريبا أن يرى الناس مثلهم من حين لآخر يتجولون حول أراضيهم، ويرسمون معهم وآخرين مسارات لمرور الماشية. وجدوا الشيخ وحوله جماعة من الرجال يشوون لحم مرفعين شحيم، صاده أحدهم. كانوا يستمتعون بالشواء، وكل في أعماقه ما يأكل اللحم لأجله؛ فهو مفيد لذوى العمش والعمى الليلي، هو طاقة جيدة للباردين في الفراش والذين يتأخرون في القذف كثيرا، وشفاء مجرب للعقم أيضا، وهو يعالج بصورة نهائية المرضى الذين يعانون من ألم المفاصل، بالإضافة إلى أن لحم المرفعين يفسد عمل السحر، وزيت المرفعين إذا وضع الرجل قدرا قليلا منه في سرته، فسيصبح بذيل قصير، ولحسن الحظ لم يوجد الرجل المغامر الذي سوف يتحقق من الفرضية الأخيرة، كانوا يتجادلون في كل ذلك، بينما شيوخ البدو يقتربون من الجمع، لم يهتم الناس كثيرا بهم، إلى أن هتف هاتفهم: السلام عليكم.
في تلك اللحظة رد الجميع ولحم المرفعين بين أسنانهم: عليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، تفضلوا قدام.
يعرف بدو بني حسن فضيلتين أخريين للحم المرفعين، ولكنهم كانوا في ضيق من أمرهم؛ لذا اكتفوا بالكلام عن فضيلة واحدة مهمة، وهي أنه يجعل الراعي مطمئنا أن مرفعينا على الأقل لا يمكنه أن يأكل أغنامه بعد الآن.
تدبروا أمر إكرام الضيوف سريعا، الطعام في هذا الصيف وفير، والناس ما زالوا متواجدين في القرية ولا يذهبون بعيدا، ربما يعمل الشباب في اصطياد أبشوك، ولم تبدأ الاستعدادات الجدية للزراعة إلى الآن؛ أي إنها لم تأخذ جل وقتهم بعد، لكن الجميع في مثل ساعة العصرية تلك، يوجدون في الغالب فيما يسمونه بالديوان، وهو حجرة كبيرة في حوش كبير ببيت الشيخ آدم كويا، يؤدون فيه الصلاة، يقيمون المآتم والأفراح، يتبادلون الآراء، ويحددون سعر المانجو. ولولا وليمة لحم المرفعين لوجدوهم يلعبون الضالة تحت شجرة المانجو الكبيرة، التي يطلقون عليها شجرة الرأي.
لم يذبحوا لهم؛ فالماشية كانت بعيدة، ولكن تجمعت سريعا بعض صواني وقداح الطعام من الحلة، أتى بها الصبية الشباب أو الأطفال، بالإضافة إلى شواء لحم وشحم المرفعين اللذيذين، كان غداء مقبولا وكريما على أية حال.
تحدث أكبر الأعراب سنا، كان حكيما ومرحا في ذات الوقت، تحدث عن أخلاق أهل خربتي، وعن مواقف لهم مشهودة في الملمات والمصاب، وقصد العفو عن قاتل أحد أبنائهم من بني حسن في شجار حول المرعى، وقصد الذرة التي أعانوهم بها في سنة الجفاف، التي هم أنفسهم كانوا في أشد الحاجة إليها، وقال إنهم يطمعون في أكثر من الجيرة المؤقتة والعلاقات العابرة، ثم أفصح بأنهم ونسبة لشح المراعي وفترات الجفاف المتتالية، وخاصة جفاف 83-84-85 الرهيب، الذي فقدوا فيه 90٪ من حيواناتهم، بدأت حياتهم تختلف قليلا، ويؤدون ممارسة الزراعة بصورة محدودة على الأقل بالطريقة التي تؤمن غذائهم وتوفر أقصابها بعض علف الماشية في الصيف، ويتعلم أبناؤهم مهارة أخرى تعينهم على الحياة؛ أي إنهم يريدون استقطاع جزء من الأراضي الزراعية الخصبة الخاصة بخربتي، لزراعة الذرة، ولم يطلبوا مساحة كبيرة، بل ما طلبوه كان أقل من ألف فدان لا أكثر، وهي تقع في المناطق الأقل خصوبة، وقاموا بتحديدها بالشجرة والخور والمفازة.
بالطبع أعطاهم الشيخ ميعادا يعودون فيه للقرية لمعرفة الرد بعد أخذ المشورة ومراجعة الشرتاي، والشيوخ الآخرين، وسوف لا يحصل إلا ما فيه الخير للجميع.
الشيخ آدم كويا، شيخ خربتي، التي إذا سمع بها أحد المثقفين، سيحك فروة رأسه الأصلع، وإذا كانت برأسه بعض الشعيرات فإنه سيبرمها بأنامل مرتعشة، يستغرق قليلا في التفكير، ثم يفتكر: إن اسمها غربتي، ولكن لأن أهل تلك المنطقة ليس بلغتهم الحرف غين، وينطقونه خاء، فأصبحت خربتي، والحقيقة غير ذلك تماما، فهي في الأصل كانت كلمتين: خور وبتي؛ أي خور بتي، وبتي ليست هي ابنتي كما بدارجة كثير من أهل السودان، ولكنه اسم فقيه، أول من أقام بهذا المكان، وهو جد الشيخ آدم كويا فكي بتي هارون، والد عبد الرحمن وإخوانها؛ هارون، إسحاق، موسى، وأختها الكبرى مريم، كان إنسانا كريما، متدينا، بالإضافة إلى أنه كان إمام الجماعة في الصلاة بالزاوية التي هي أيضا نفس الديوان، كان يقوم بمهمة المأذون والفكي والقاضي. في الحقيقة يعرفه كل سكان تلك الأنحاء، وله مكانة خاصة عند الشرتاي بمدينة كاس، نقل طلب العرب إلى الشرتاي، سأله الشرتاي عن وجهة نظر الشيوخ بالمنطقة، فأخبره بأن الغالبية منهم يشكون في نوايا العرب، ويعتبرون ذلك حيلة للسيطرة على أراضيهم واعتبارها حاكورة تخصهم وسيرثها أبناؤهم من بعدهم، وقد تكون بذلك بذرة لصراع مستقبلي، والبعض يرى أن ذلك سوف لا يحدث، وأن العرب تضرروا كثيرا من الجفاف، وأن ضررهم يؤثر سلبا على كل المنطقة، والناس تشيل بعض، نحن نحتاج لهم كما يحتاجون لنا هم أيضا، وإذا رفضنا طلبهم قد يؤدي ذلك لحرب؛ لأن حيواناتهم عندما تجوع فلا مفر أمام العرب سوى أن يعتدوا على أراضينا الزراعية، وحينها يحصل الموت.
كان الشرتاي يستمع ويفهم ويعي كل وجهات النظر هذه، ويعرف تماما أن كلا الرأيين صائب، فطلب من الفكي خربتي، أن ينتظره حتى يستشير ملك دار مساليت بالجنينة، وملك الداجو بجبل أم كردوس، وملك الزغاوة بشنقلي طوباي، وأنه سيفيده بالنتيجة قبل الخريف بوقت كاف، فأرسل الشرتاي رسله إلى: سلاطين كاره ودنقو وفنقرو وبنه وبايه وفوقي وشالا، وملوك البرقد والتنجر وكبقة والميمة والمسبعات في الشرق من جبل مرة، المراريت والعورة وسميار والقمر وتامة والجبلاويين وأب درق وجوجة وأسمور في الغرب والشمال الغربي، وزغاوة كبا والميدوب في الشمال والشمال الشرقي، والبيقو ورنقا في الجنوب والجنوب الغربي.
والقبائل العربية الرعوية الذين كانوا قد أقاموا من قبل وأصبحوا جزءا لا يتجزأ من الأرض، وأصبحوا أصحاب مصلحة، كان عليه أن يستشيرهم أيضا، مثل الهبانية والرزيقات والمسيرية والفلاتة والتعايشة وبني هلبة والمعالية في جنوب دارفور، والماهرية وبنو حسين في غرب دارفور.
أرسل الرسل الشباب على ظهور الخيل، بعث رسائل عن طريق الشاحنات واللواري السفرية التي تعبر القرية، ماضية شمالا أو جنوبا، ابتعث رجالا على سنام الجمال لملوك الزغاوة الذين يسكنون شمالا تخوم الصحراء، على ظهور الحمير أرسل إلى الملوك الذين يقيمون على بعد أقل من يومين سيرا على الأقدام.
جاءت النتائج تباعا وفي أوقات متفرقة على حسب بعد وقرب القبائل عن الشرتاي، وتقريبا كلها إيجابية ما عدا رأي لقبيلة عربية واحدة، وكان رأيهم واضحا وجليا في القبيلة التي تطلب الجوار وهي قبيلة بني حسن، يقولون إنها قبيلة عدوانية مشاكسة تميل لسفك الدماء، ولكن الشرتاي لم يأخذ برأيهم نسبة لعلمه أن القبيلتين دخلتا في حروب كثيرة بينهما، وخسرتا خيرة شبابهما في تلك المعارك العبثية التي لا فائدة من ورائها ترجى وليست لها أسباب منطقية، وأرسل إلى شيوخ بني حسن وشيوخ خربتي أن يعدوا للاحتفال بالجيرة بخربتي، وأرسل لهم المصحف الكبير لأداء القسم عليه.
بعد أسبوعين جاء شيوخ بني حسن وذبحوا كثيرا من الإبل، وبعد أن أدوا القسم على حسن الجوار والتعاضد في السراء والضراء وعدم العدوان المتبادل، وأقسموا أيضا على أنه إذا حصل خلاف بينهما، أن يحكم بينهما الشرتاي إذا لم يستطيعوا أن يفصلوا فيه بأنفسهم: والخائن الله يخونه.
ولكي يثبت شيخ بني حسن حسن النية، كانت في صحبته ابنته الصغرى وعشر أخريات من بنيات العمد والشيوخ، وطلب تزويجهم في الحال لأعيان خربتي، وبالمقابل قام أهالي خربتي بتعيين اثنتي عشرة فتاة من بناتهم وتزويجهن لأعيان بني حسن، تم ذلك في احتفالية ضخمة استمرت أسبوعا كاملا، رقص فيها الجميع على إيقاعات طبول بني حسن ونقارة الفور معا، وأخيرا: دعوا الله في صدق أن يبارك لهم هذه الجيرة وينصرهم على الأعداء، فلقد أصبحوا الآن من دم ولحم.
وقد تم سرد هذه السيرة بهذه التفاصيل لكي نفهم كيف كان الأمر في غاية الصعوبة للمسئول الحكومي الذي جاء بعد عشرين عاما لتلك القبيلة العربية، قبيلة بني حسن يحمل أسلحة وذخائر وخبراء تدريب، كما فعل مع عشرات القبائل العربية، طالبا منهم استلامها للدفاع عن أنفسهم ضد النهب المسلح الذي تقوم به قبائل الزرقة؛ فإنهم سألوه أولا: من هم الزرقة؟
شرح لهم من هم الزرقة، ولكن الأمر التبس عليهم؛ لأن كل المواصفات التي بالزرقة متوافرة في كل فرد من أفرادهم؛ لذا قام باتباع أسلوب آخر في إقناعهم، بأن قبائل الفور والزغاوة والمساليت والداجو يعدون خططا سرية للقضاء على العرب بدارفور، وذلك لتقسيم المنطقة إلى ثلاث دويلات، وهي مملكة زغاوة الكبرى، وتضم كل فروع قبيلة الزغاوة، وستجد الدعم من دولة تشاد وهي تستولي على شمال دارفور، ودارفور تضم الفور والتنجور والكنجارة والداجو، وهي مدعومة من إسرائيل وستستحوذ على وسط وجنوب دارفور، ودار مساليت، وهم منذ 1919 يعدون أنفسهم للانفصال في دولة تشمل كل غرب دارفور، وتدعمهم ليبيا؛ بالتالي أين سوف يقيم العرب؟
قالوا له إنهم لم يسمعوا بتلك الدويلات، ولم يطلب منهم أي كان أن يغادروا الأرض أو يحاربهم، وأن النهب المسلح يقوم به أفراد من كل قبائل دارفور ولا تتصف به قبيلة دون الأخرى، وأنهم لا يرغبون في السلاح، ولا يرغبون في التدريب في الدفاع الشعبي، طلب منهم المفاوض الحكومي، طالما رفضوا حمل السلاح، فإن موقعهم هذا تعتبره الحكومة المركزية موقعا استراتيجيا؛ أي موقع مواجهة، عليهم إما أن يغادروا جنوبا أو أن يستضيفوا بعض القبائل العربية الوافدة حديثا من دول مجاورة، وهم من بني عمومتهم رعاة إبل، لا يمانعون في حمل السلاح، بل وهدم المشروع الانفصالي الذي يقوده الزرقة، أو أن يستهدوا بالله ويستلموا السلاح، ويأتوا بشبابهم للتدريب العسكري، ويحتفظوا بخبيرين عسكريين معهم في القرية.
كانوا يعلمون تمام العلم إذا استلموا السلاح سيصبحون مقاتلين مثلهم مثل كثير من القبائل التي انطلت عليها الخدعة، حيث طلب منهم مهاجمة جيرانهم الذين تعايشوا معهم منذ مئات السنين، وعندما رفض الشيوخ وكبار السن ذلك، قامت الحكومة باستبدال القيادات المجتمعية والشعبية المتوارثة بقيادات شبابية أسمتهم الأمراء، أخذتهم لدورات تدريبية نفسية واجتماعية وعسكرية قاسية بالخرطوم، وأعادتهم لقبائلهم وقد تغيرت عقلياتهم وأصبحوا لا يفكرون سوى بالحرب، ولا يخشون سوى من خطر الزرقة عليهم. شيوخ بني حسن لا يريدون أن يصبحوا مثل هذه القبائل؛ لأنها خسرت أكثر مما كسبت، خسرت الجيرة والشباب وأصبحت عرضة لهجمات الثوار من القبائل المستهدفة من قبل الحكومة، بل إن هذه القبائل دخلت في صراع مع تجمعات عربية مسلحة أخرى في التنازع حول الأراضي والثروات والمسالب والغنائم التي استولوا عليها من الجيران، قال الشيخ لرسول الحكومة: لا هذا ولا ذاك.
عاد وفد الحكومة بأسلحته وخبرائه، ولكن بعد أسبوعين جاء الأبالة الذين عرفوا فيما بعد بالجنجويد، يحملون زادا ثقيلا من الأسلحة، وفي رفقتهم عربات لاندكروزر مقاتلة وكثير من الخبراء العسكريين، وأقاموا في ضيافة إجبارية لدى شيخ عرب بني حسن، كما أنه كان في رفقتهم أمير القبيلة المعين الشاب المجاهد المقاتل في سبيل الله الذي لم يروه من قبل لا يعرفون اسما له أو قبيلة.
في الأسبوع الثاني، كانت قرية خربتي الجبل، كأن لم تكن، ليست سوى بقايا رماد وجثث متفحمة، وحدائق مانجو محروقة. الأحياء من النساء والطفلات المغتصبات، أخذتهم القوات الحكومية وبعض منظمات الإغاثة، إلى معسكر كلمة بنيالا، وكانت من بينهم طفلة في الخامسة عشرة من عمرها، وجدت حية تحت جثث أفراد أسرتها، أخبرت عمال الإغاثة بأن اسمها عبد الرحمن. أما الرجال والأطفال الذكور فقد تركوا بالقرية في مقابر جماعية ضخمة وقبيحة.
كيف كفرت العمة خريفية؟
في 2004، شتاء ذلك العام، في صبيحة يوم الجمعة، في سوق النسوان، بنيالا، كانت خريفية تبيع البطاطا والبصل على فراش من خيش الكتان المبتل بالماء، وهو ثلاجتها الطبيعية لحفظ الخضار من أشعة الشمس الشتوية الحارقة، جاءتها امرأة طويلة تسألها ما إذا كانت قد رأت طفلين يمران بالقرب منها، وأخذت تصف لها الطفلين؛ ولدان، يلبسان ملابس العيد، بحركة من يديها كانت تصف لها طول كل واحد منهما، لونه، عينيه، نوع شعره، نعليه، قالت لها: إنهما يحبان اللعب كثيرا، ولا يسمعان كلامها ونصائحها، لولا ذلك ما استطاع الجنجويد القبض عليهما وأخذهما منها.
شفتيهم؟
كانت خريفية تعرف قصة المرأة والطفلين، تعرفها جيدا، وبروايات شتى ورواة مختلفين، حتى على مستوى ما يمكن أن يطلق عليه حقائق، مثلا عدد الأطفال واسم القرية والمكان والزمان، ولكنها لأول مرة تسمعها عنها شخصيا، وبصورة أدق - وذلك لكي نضفي على هذا العمل السردي نوعا من الجدية المهنية - أول مرة تسمع قليلا من الحكاية عن صاحبتها شخصيا، تلك المرأة الطويلة الحزينة التي تلتهم الطعام بسرعة وهي تنظر بعيدا في الفراغ، تدفع لها خريفية بالرغيف إلى كفتيها، ظنا منها أنها لا ترى شيئا، حتى إنها لا تنظر إلى صحف الطعام، تدخل أصابعها فيه بدون تمييز أو تركيز، كأنما كانت تطعم الهواء، كانت تأكل بغير شهية، دون أية متعة، بل كانت تأكل بصورة مقرفة وبائسة، يتساقط الفتات من بين شفتيها وأسنانها، فجأة توقفت صائحة: الحمد لله، شبعت.
قدرت خريفية الطعام المتناثر على الأرض بما يساوي ثلثي ما قدمت إليها، نهضت المرأة الطويلة النحيفة، تمشت قليلا. عند حائط الاستاد الرياضي القديم، انحنت، ضغطت على بطنها، فتحت فمها واسعا، وسمعت خريفية صوت تدفق الثلث الأخير من الطعام.
في أواخر فصل الصيف المطير، من نفس العام، عند بيت الشيخ جبريل، في راكوبته الكبيرة، اجتمع ما يمكن تقديره بكل الرجال المقيمين بقرية حجيرات الوادي، ولأن الأمر في غاية الجدية والخطورة تم إبعاد الأطفال، ولكنهم دعوا عددا كبيرا من النساء كبيرات السن؛ لأنهم يعرفون أن رأي النساء في حالة الشدة قد يكون أصوب من رأي الرجال؛ لأنهن قد ينظرن للأشياء بزاوية لا يعيرها الرجل اهتماما، وقد تكون هي الحجر الذي رفضه البناءون، ولدى الرواة المحليين عشرات القصص التي تبين مقدرة المرأة وسدادة رأيها عند الشدة. بدءوا اجتماعهم بقراءة سورة يس حتى تطمئن القلوب ويستقر الفكر، ودعوا أن يلهمهم الله بالرأي الأصوب. في الحقيقة كانوا جميعا يعرفون الغرض من الاجتماع، ولكنهم هنا يريدون توحيد الرأي والمشورة، ابتدر الشيخ الحديث باللغة المحلية، وشرح الغرض من الاجتماع، ودار نقاش كثير حول صحة النبأ، ولسوء الحظ كان خبرا مؤكدا، قرر الناس إما الاحتماء بالجبل أو الإسراع في هجرة جماعية سريعة إلى مدينة نيالا، والانضام إلى النازحين في معسكر كلمة، وعلى الشباب ومن شاء من الكبار الالتحاق بقوات الثوار ومنذ اللحظة، وتقريبا أجمع الناس على هذا. لكن رجلا واحدا قال إنه سيبقى في القرية، فهو لا يستطيع أن يستغني عن أبقاره؛ لأنه يعرف مصيرها، حيث تستولي عليها قوات الحكومة والجنجويد في الطريق إلى نيالا، وإنه لا يترك أرض أجداده للعرب الغرباء الآتين من النيجر وتشاد ونيجيريا، أو الصحراء الموريتانية. عاتبه الشيخ: لا تكن مثل ابن نوح، وخير لك أن تتبع رأي الجماعة، إنهم سوف لا يرحمونك ولا يرحمون أسرتك. وأنت عارف وشايف.
قال: أفضل له أن يصبح مثل ابن نوح من أن يصبح مثل مخلوق تافه في سفينة نوح، تأكد لنا أن هذا الفنان المخبول يرمي بنفسه في التهلكة، وأن تلك النشابات التي تعتمد عليها والحربتين لن تفيدك نفعا مع السلاح الآلي لدى الجنجويد والجيش الحكومي، بالإضافة لكثرتهم الساحقة وشهيتهم المفتوحة للقتل والتنكيل، طلبوا منه أن يترك ابنيه يهاجران إلى المعسكر ويبقى وحده مع ربابته وسلاحه البائس، ولكني أنا رفضت الفكرة: نموت ونحيا مع أبو عيالي.
كان مغنيا بارعا، وصيادا ماهرا، وعازفا بالربابة، وصانعا للربابات، وسيما وشجاعا، ودع رحيل الحلة كلها بأغنيات ألفها في حينها، غناها على الرابية التي تطل على بيتنا في الطرف الجنوبي من الحلة، حيث الطريق الترابية الوعرة المعروفة بدرب الحمير، إلى مدينة نيالا. بقيت معنا والدتي أيضا، وهي عجوز حكيمة تسعينية، قال في أغنيات وداعه للحلة الراحلة بلغته المحلية ما يعني:
اذهبوا
هذا ما تريده الحكومة
اذهبوا، اذهبوا
وسيحل مكانكم الجنجويد
وهذا ما تريده الحكومة
اذهبوا، اذهبوا
أنا سوف أبقى في أرضي للأبد، وهذا ما تخاف منه الحكومة
لكن جدودي يحلمون به كل ليلة وصباح
اذهبوا، اذهبوا، اذهبوا.
قالت: كان يعرف مصيره تماما، غنت لي الأغنية مرارا، رقصت بألم وجمال وحزن غريب. سقط عنها ثوبها الممزق، بقيت بفستانها القديم، بأكمامه القصيرة، عليه بقع العرق والأوساخ، كان أسود اللون، شديد السواد، والله العظيم قد اشتريته أبيض. كان الأطفال قد تجمعوا حولها، يصفقون، قد حفظ أكثرهم الأغنية، أخذ البعض يرددها وراءها، كان جسده كله يرقص من الغضب، عرفوا أنه سيبقى، ولكن وليمة شهية للجنجويد وحرس الحدود وهم جنجويد رسميون. سبقتهم إلى المكان الغبرة الكثيفة التي أثارتها أرجلهم المتعجلة المحشورة في بوت أسود قاس، ثم ضجيج طائرة هليكوبتر ماركة أباتشي بغيضة عبرت فوق رءوس بنايات القش الفارغة، فطارت الأعشاب إثر عاصفة هوائها العنيف، أسقطت قذيفتين عشوائيتين واختفت، كلما اقتربوا، كلما سمعنا هدير سياراتهم تحت أقدامنا، كلما استعد جبريل لهم، مسح حرابه بسم الثعبان، ثقف نصلها، تأكد من نشاباته، عدها مرارا وتكرارا، كان يغني بصوت خفيض أغنية حرب حفظها عن جده، يتحسس تمائمه التي ورثها من أبيه، وهي ضد الطلق الناري والحديد، الطفلان مرعوبان، اختفيا أخيرا في المخبأ وهما يرتجفان. الساعات الأولى دخل الجنجويد بالمئات، كانوا منشغلين بالغنائم، فيما تركه الناس من أبقار وأغنام وبعض الأغراض الثقيلة التي لم يستطيعوا حملها في عجلتهم تلك، حرقوا البيوت الفقيرة المصنوعة من الأعشاب، هدموا المسجد الوحيد بالقرية، أشعلوا النار في مدرسة القرية المبنية من العشب والمواد المحلية الأخرى، تسابقوا في احتكار الأرض، بل إن بعضهم هدد بعضهم باستخدام السلاح لحماية ما وضع عليه يده.
كان بيتنا في أطراف القرية، تحت رابية ترابية صغيرة، كان مخبأ الولدين تحت كومة قصب الخريف المكوم تحت شجرة سدر صغيرة، قمنا بمسح آثارهما تماما. أمي قالت إنها لن تختبئ، ستبقى تحت الراكوبة مدعية أن لا أحد يستهدف امرأة عجوزا في سنها، وأفضل الموت من حياة المذلة. زوجي جبرين حمل نشابه واختفى خلف الرابية، أنا اختبأت في الجهة الأخرى من ملجأ الأطفال، تحت بعض القصب الجاف بجانب شجرة السدر، حيث أستطيع أن أراقب كل ما يدور من هنالك، لم تكن قرية حجيرات الوادي كبيرة. كل البيوت التي بها لا تتعدى المائتي بيت، ليس بها وحدة صحية أو مدرسة أو أي مبنى حكومي أو بناية بالمواد الثابتة، غير جامع القرية المبني من الطوب الأحمر بنته محسنة يقال إنها من دولة عربية غنية لم يحفظ الناس اسمها أو اسم دولتها، ليس بالقرية كهرباء، لكن موقع القرية يعتبر مهما نسبة للبئرين الكبيرين اللذين بها ووقوعها في طريق يربط ما بين نيالا وكاس، وهي مدينة صغيرة يؤمها الثوار الدارفوريون وبعيدة من قبضة الجنجويد، والأهم خصوبة أوديتها التي تمثل منابع رئيسية لوادي برلي العظيم؛ أي مراعي خصبة لنوق العرب عندما تبرد الواطا ويكون الدارفوريون أصحاب الأرض قد استوطنوا قرى صغيرة نموذجية من الطوب الأحمر، معروشة بالزنك، بها آبار ارتوازية، جوامع جميلة مزخرفة، وحدة صحية صغيرة، وربما مدرسة ابتدائية. قرى ساعدت في بنائها دول عربية شقيقة كريمة وجامعة الدول العربية على تخوم المدن الكبيرة، وسينشغل الدارفوريون في المهن الهامشية بالمدن ويتلاشون كقوميات وكتل بشرية، ويتركون الفلوات الخصبة للجنجويد الرعاة يسرحون ويمرحون، كانوا فرحين ويطلقون الرصاص في الهواء، إلى أن انتهى بهم المطاف إلى بيتنا. اندهش أول من ولج إلى الراكوبة عندما رأى المرأة العجوز - أمي - لدرجة أنه قفز من الرعب، حيث إنهم لم يروا شخصا حيا في القرية كلها طوال يومهم، تحدث إليها بعربي وطنه النيجر، سبت أباه وأهله واليوم الذي رأى فيه الشمس بلغتها، قام بسحبها إلى خارج الراكوبة جرا على الأرض.
كانت تشتمه وتصفه بالقرد الأبلانج نسبة لبشرته الحمراء مرة ومرة بالكلب، انضم إليه آخران، حالما انشغلا بالبحث عن الغنائم في الداخل وتركاه يحاول أن يستخلص معلومة عن مخابئ الذهب والنقود أو صوامع الغلال الخاصة بالأسرة أو القرية. يدور بينهما حوار طرشان، حيث يصبح حاجز اللغة لعنة الحوار، كان يركلها بقسوة في بطنها، وعندما فشل صفعها في وجهها؛ فعضته في يده ولم تطلقه إلا وجزء من يده في فمها. صرخ في رعب، قرر بسرعة، وفي لحظة أطلق الرصاص عليها في الرأس. في تلك اللحظة - دون شعور مني - صرخت من خلف أكمة القصب، خرج الجنجويدان من الداخل، التف حولي بسرعة عدد كبير منهم، أبدوا ملحوظات حول جسدي، وطلبوا مني أن أخلع ملابسي إذا أردت أن أترك حية، وإلا أصبح مصيري مصير أمي المضرجة بدمائها التي ارتاحت منهم قبل قليل، قلت لهم: لا، عايزة أموت. - توا أم نسقوك التراب. - ادبحوني.
كانوا سكارى ومساطيل وتفوح من أفواههم رائحة العرق والمريسة، وأكدوا لها أنهم يريدونها في نفسها وجميعهم إذا رضيت ذلك، وإذا رفضت فإنهم سيربطون رجليها على ساق الشجرة ويفعلون بها، وشرعوا في ربطها على ساق شجرة النبق، حينما أزاحوا القصب رأوا الطفلين اللذين صرخا في رعب وهما يلتفان حول أمهما، هتف أحد الجنجويد مكبرا وهو يخرج سكينا كبيرا ويمضي نحو الطفلين اللذين أخفيا وجهيهما في جسد أمهما بين أثوابها الممزقة، قبض الأصغر ابن السابعة، سمته أمه أحمد، وحاول ذبحه، قالت له الأم: ما تخاف الله يا راجل؟
رد عليها وهو منشغل بتخليص الطفل من يدي أمه اللتين تقبضان عليه بشدة: الله؟ منو الله؟ اللي قتلناه في وادي هور قبل أسبوعين.
وضحك في وحشية، ثم أضاف بأنه إذا لم يقتل هذين الطفلين فإنهما سيكبران ويصبحان متمردين مثل أبيهما.
قالت إنها أحست بأن الأرض تميد تحت رجليها، وكانت تظن أن الله سوف يخسف بالجنجويد الأرض أو يحرقه حيا لنطقه بهذا الكفر البين، ولكن الجنجويد في لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تماما، رمى بالرأس بعيدا وهو يصرخ مكبرا في هستيريا، بل جنون وقح، وأراد أن يمسك بالآخر الذي انطلق جاريا كما الريح، أطلقوا خلفه الرصاص ولكنه اختفى، جرى البعض خلفه، لكنهم لم يلحقوا به، وعادوا يعالجونها، فجأة صرخ جنجويد وسقط على الأرض وفي نحره سهم، وارتبك الآخرون، سقط جنجويدان آخران بنفس الطريقة، هرب الآخرون في كل اتجاه يبحثون عن مصدر السهم، وكانوا يصابون واحدا واحدا، فجن جنونهم، وأصبحوا يطلقون الرصاص في كل الاتجاهات عشوائيا، إلى أن أشار أحدهم لجهة مصدر السهام، فانطلقوا في جماعة تجاه تل الرمال، ولكن بقي بعض الجنجويد يسعفون الجرحى ويخلصونهم من السهام، بينما أخذ أحدهم يجردها من ملابسها بقطعها بالسكين، ثم بمساعدة آخرين ربط رجلها اليمنى على شجرة النبق والأخرى على وتد دق بالأرض، وأخذ يغتصبها وهي تصرخ وتقاوم، تعض وترفس، تقرص بأظافر أناملها الحادة، وتبصق في وجوههم، ثم أخذ مكانه آخر وآخر، عندما عاد الآخرون كانوا في قمة الإحباط، وأراد واحد منهم أن يطلق النار عليها، إلى أن أوقفه أحدهم ممسكا سلاحه، قائلا: إن الموت بالنسبة لها راحة، خليها تمشي تعيش في معسكر كلمة بين ميتة وحية، لا زوج لا أطفال لا أم لا أب لا بيت لا قرية لا شرف. أخرج جنجويد من جرابه رأس زوجها، وقال إنه سوف يعلقه في باب بيته، إلى أن يأخذ بثأره، لقد قتل اثنين من إخوته الأشقاء بسهامه المسمومة. أكل قطعة لحم نيئة أخرجها من ذات الجراب، إنها كبد الإمباية، سوف أقتل: ألف ألف ألف ألف ألف إمباية.
وأجهش بالبكاء. كان رجلا نحيفا طويلا ذا جسم ناشف تكاد عظامه ترى، مثله مثل كل الجنجويد، تفوح منه رائحة وبر الإبل مختلطا بعرق البلح والمريسة، بالإضافة لإفراز بكتريا الفم، حيث إنه ليس من طبيعته أن يستاك أو ينظف فمه؛ لأن ذلك من سمة النساء وليس من الرجولة بشيء، كان شعره يتكوم في رأسه مهملا كعشب الخريف، عيناه حمراوان صغيرتان غائرتان في محجريهما كجمرتين موقدتين، بصورة عامة كان أقرب للذئب منه إلى الإنسان، على الرغم من أنه يعتبر ممن وفدوا حديثا، إلا أنه رقي في مراتب الحظوة من قبل القادة الميدانيين بدارفور، بل إنه من القلة القليلة من الجنجويد التي استطاعت أن تجلس وتتبادل الحوار وتستمتع بالشواء اللذيذ مع منسق قوات الجنجويد من الحكومة، وهو سياسي شهير وشخصية مربكة ومرتبكة وشديدة الذكاء والعنف، وما ذلك إلا لصفات يتميز بها هذا الجنجويد.
وهو يصنف من الذين يؤمنون بالقضية ويجندون من أجلها أقرب الأقربين ويطيعون الأوامر، ولا يتردد إطلاقا في قتل أي شيء كائنا ما كان، بشرا أو حيوانا، ولا ترف له عين أو يرتجف له قلب أو يرق ضمير، وعلى الرغم من ذلك فهو سريع البكاء إذا مات أحد أقاربه أو معارفه أو إذا مرض ولو مرضا طفيفا هينا. كان يخاف من الموت خوفا غريبا، والناس يحسون هذا التناقض البين في شخصيته، ولا يجدون تفسيرا، وبالنسبة لقادته فلا بأس فيه طالما كان يقوم بكل ما يرجى منه على أتم وجه، وأطلقوا علية لقبا ما زال لا يدرك أبعاده أو معانيه، ولكنهم قالوا له إنه اسم أحد صحابة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فقبل به: أبو دجانة، واسمه الأصلي الذي أطلقه عليه والده هو جربيقا.
بكى جربيقا كثيرا، وحمل بندقيته ومضى، اختفى في الصحراء، سنلتقي بأبى دجانة أو جربيقا جلباق هذا في أزقة أخرى من الحكاية، وسنحاوره كثيرا في مدينة نيالا عند وادي برلي تحت شجيرات الجوافة الحنينة، في مكان لا يبعد كثيرا عن منزل العمة خريفية، هذا إذا نجى من كمين ماكر ينصبه له المقاتل شارون ورفيقاه عبد الرحمن وشيكيري توتو كوه، بينما كان جربيقا يقود جحافل الجنجويد نحو جبل أم كردوس للقضاء على مسيح دارفور، أو كما يسميه جربيقا بلهجته الخاصة: رسول كضب كضب.
تركوها مربوطة، بصقوا على وجهها وهم يغادرون بيتها، بعد أن أخذوا كل ما يمكن حمله، حتى قطع الملابس الداخلية والأحذية، وآنية الطعام والعناقريب القديمة المصنوعة من جلد البقر، ونزعوا سن أمها الذهبية وخاتمها الفضي الصغير، وعقد الخرز الذي لا يساوي سوى بعض الجنيهات، مصلاية السعف وإبريق الطين، كانت جثة طفلها الذبيح مسجاة ليس ببعيد عنها، رأسه المتورمة ترقد أبعد قليلا، تريد أن تلمس رأسه، كأنما سوف تواسيه بذلك أو تقلل ألمه، لم تحس بأنه ميت، بل يرقد برأس مفصولة متورمة عن الجسد، تجمد الدم عليه في مكان العنق، تحس أنه يحتاج إليها، يحتاجها بشدة. أمها مسجية في موتها السعيد يمينها، تتسع ابتسامتها كلما تورمت جثتها، حر الشمس يعجل بتعفن الجثث، يشوي جسدها العاري، لا تستطيع أن تهش الذباب عن وجهها وعينيها إلا بصعوبة بالغة، كانت صورة طفلها محمد وهو يهرب لا تفارق عينيها، لا أدري هل قضوا عليه أم أنه استطاع أن ينجو، ولكن كيف ينجو؟
وضعت عشرات التصورات لنجاته، ولكنها كلها انتهت إلى نهاية مأساوية؛ فالصحراء تحيط بالمكان، أشجار الوادي الكثيفة لا تخلو من وحش كاسر، ليس طفلها بأسرع من أفراس الجنجويد أو لاندكروزرات جيش الحكومة. رأته يطير عاليا في السماء يحلق بجناحيه مثل غراب أسطوري كبير، فتبعثره طائرة هليكوبتر عملاقة وتنثر لحمه ودمه مختلطا برياشه الجميلة السوداء وضجيج مروحياتها، فتسقط عليها الرياش السوداء الناعمة الرقيقة، مغطية عريها وتحجبها من أعين الذئاب الجوعانة.
قضت يوما طويلا تحت نير العذاب، إلى أن أتى الليل بأشباحه وموتاه الذين يمشون في كل الأمكنة وكوابيسه المرعبة، لأول مرة بعد عشرين عاما تسمع عواء الذئاب. لقد قتل زوجها عددا كبيرا من الجنجويد، تخيل إليها أنه فوق المائة، أو أنه قتلهم جميعا كما قال لها في الحلم عند غفوتها الكابوسية القصيرة، لا تدري متى نامت، أو أنها لم تنم، أم أنها ماتت قليلا أو لم تمت.
في الصباح الباكر جاء الخواجات والأفارقة، كأنهم هبطوا من السماء، أو نبتوا من حيث لا مكان، مريبون مثل اللصوص، يعملون بصمت ونظام، يصورون بسرعة، يشخبطون في كراساتهم، يتصلون بأجهزتهم، يرطنون بصورة مستمرة. عندما رأوها، تجمعوا بسرعة حولها مثل قطيع من الذئاب أو الملائكة، كان الحزن والأسف باديا على وجوههم جميعا وأيضا الخوف، الخوف من شيء ما، شيء غامض، أكثر غموضا من الموت، التقطوا لها صورا عديدة، تم تصويرها بدقة هي وما يحيط بها من جثث بكاميرات فيديو، رطنوا مرارا وتكرارا، لكنهم لم يقتربوا منها إطلاقا كأنما كانوا يخافون من لغم شيطاني جبان سينفجر إذا لمسها أحدهم، كانوا يعملون بسرعة وريبة مثل لصوص غرباء وجدوا كنزا يحرسه شيطان نائم أو غول سيأتي حالا، سألوها أسئلة ترجمها لها رجل بلغتها. كانت في شبه إغماء، لم ترد لأي سؤال، كانت تراهم مثل الأشباح حمرا وصفرا وسودا وخضرا، تريدهم أن يطلقوا سراحها بأسرع ما يمكن، أن يقدموا لها حبة أسبرين؛ لأنها تحس بصداع مؤلم، يكاد رأسها أن ينفجر، كانت تحس بإعياء شديد، ماذا ينتظرون؟ أريد ماء، هل تعرفون أين ولدي محمد؟
وفجأة اختفوا، تركوها كما هي أو كما لو كانوا أطيافا أو خيالات من صنع أوهامها، سمعت صوت طائرة مروحية يختفي تدريجيا عن المكان. أيقنت أن مصيرها الموت، وما كانت تخافه بل تتمناه كل لحظة، تحوم حولها أطياف أمها وزوجها وطفليها، لكنهم لا يستطيعون أن يهشوا لها الذباب عن عينيها وفمها، وليسوا بقادرين أن يسقوها كوبا من الماء، ولكنهم كانوا يتحدثون بصوت عال بل يصرخون ويضربون الهواء، ثم مضوا، اختفوا تدريجيا، ما عدا طفلها محمد، بقي في مكان ما قربها، إنها لا تراه الآن، ولكنها تحس به، تشم أنفاسه، بل تسمع دقات قلبه كأنها طرقات صفيح.
بعد ما يقارب الساعة من الهذيان والآلام، جاء جند الحكومة، ملئوا المكان ضجيجا وجلبة، أطلقوا سراحها بسرعة وكأنهم يخشون شيئا ما، سقوها ماء مملحا، لم يجدوا شيئا يسترون به عريها، كانوا منزعجين كعراة في ميدان عام، انتبهوا لأنفسهم فجأة، سألوها ما إذا رأت أغرابا، خواجات مثلا أو أفارقة، أو أجانب بشكل عام قالت: جنجويد.
نعم، نحن نعرف الجنجويد، ولكن بعد أن ذهب الجنجويد، هنا آثار تدل على أن أشخاصا آخرين غير الجنجويد كانوا بالمكان ، ربما كانوا يحملون آلات تصوير أو ما شابه، يرتدون أزياء عسكرية وفي صحبتهم بعض المدنيين من المواطنين العملاء، يرطنون رطانات غريبة ويترجم لهم العملاء السودانيون، لم تسمع شيئا مما يقولون، ألم تسمعي ضجيج مروحية؟ تريد أن تعرف أين هرب ولدها محمد، هل استطاع أن ينجو أم أنهم لحقوا به؟ بحثوا في كل البيوت السليمة، لم يجدوا ثوبا أو لباسا أو حتى ملاءة يسترون به عريها، اقترح أحدهم أن يتم قتلها ودفنها مع الجثتين؛ بالتالي يكونون قد تخلصوا من المأزق نهائيا، إلا أن جنودا دارفوريين رفضوا الفكرة وتخلص أحدهم من ملابسه العسكرية وألبسها إياها، على أنهم سوف يستبدلونها بملابس نسائية فور دخولهم مدينة نيالا.
دفن ولدها وجدته في قبر واحد، حفر عند أعلى التل الرملي من حيث قاد زوجها مقاومتنا، وقتل جنجويدنا التسعة بسهامه المسمومة، في قبر جماعي كبير دفنا الشهداء التسعة بعد أن تحرينا شخصياتهم وسجلنا المعلومات الأساسية عنهم، كما التقط الفريق الإعلامي صورا لهم، قمنا كالعادة بتنظيف ميدان المعركة من كل الآثار التي قد تسبب إشكالا أو تثير شهية العملاء، ممن يسمون أنفسهم بالمراقبين الدوليين، ونحن نسميهم كلاب الأمم المتحدة، إنهم يشمون الشبهات شما، ويطلقون الاتهامات جزافا وبالجملة، يريدون حربا دون موتى أو مشردين، بذلك يخالفون طبيعة الأشياء، حرقنا المنزل وما تبقى من بيوت لم تحرق حتى لا يعود إليها ساكنوها مرة أخرى ليثيروا الفتن.
بقيت بالمستشفى العسكري زهاء الأسبوعين فيما يشبه حجزا سياسيا إلى أن أفاقت من موتها، كل من تحرى معها كان يسألها عن شيء واحد وتجيبهم هي بذات الإجابة بلغتها، يترجمه لهم جنود من عشيرتها: كنت ميتة لم أع ما كان يدور حولي.
فتأكد لنا أن لا خطر من وراء امرأة بذاكرة مشوشة، فأطلقنا سراحها في معسكر كلمة وهو عالم كفيل بأن يجعلها تنسى حتى اسمها، بعد أن وفرنا لها ملابس جديدة نظيفة نقدناها مالا يكفيها لأسابيع كثيرة، وشرحنا لها بصورة دقيقة وواضحة ومفهومة بلغتها الأم، فضيلة ألا تثرثر مع أحد الأغراب إذا تذكرت شيئا ذا بال، بل يمكنها الاتصال بنا متى شاءت إذا أرادت المساعدة.
قالت العمة خريفية لنفسها: ما في عدالة، ما في «رجالة»، ما في إنسانية، ما في ما في ما في ...؟
كانت المرأة النحيفة الطويلة تتحدث إلى نفسها، أو إلى ملأ من الناس غير محدد أو مرئي، وهي تبتعد عن العمة خريفية، أدارت كما هي عادتها حوارا آخر وقصة أخرى مع سيدة أخرى أو رجل آخر. كان الأطفال يجرون خلفها ويحكون معها وأحيانا قبلها تفاصيل قصتها، يحاكون صوت الرصاص وهتاف الجنجويد وصرخاتهم من ويلات وقع السهام في أجسادهم، بل صرخات أطفالها وطريقة جري محمد واختفائه عن أعين الجنجويد، ويمثلون كيف رمى الجنجويد رأس ابنها بعيدا وهو يهتف الله أكبر، ويرقص في خيلاء الرقصة التي يسمونها «صقرية الرئيس» على موسيقى غير مسموعة أو موقعة بأفواههم وألسنتهم الغضة الصغيرة. كانت أحيانا تبعدهم عن طريقها برميهم بالحجارة أو الصراخ في أوجههم أو تهديدهم بالضرب، ولكنها في أحيان كثيرة عندما تكون معتدلة المزاج فإنها تتركهم يفعلون ما يشاءون، بل قد تستخدمهم مثل كورس عشوائي أو موسيقى تصويرية لحكاياتها، بل قد تعطيهم من الحلوى التي تحتفظ بها في جيبها من أجل أطفالها الذين سوف تجدهم في مكان ما في يوم ما جوعى أو متشردين.
قد لا يدري أحد - ولا هي - أنها سوف لا تلتقي بطفلها الهارب من المجزرة، إلا عندما تنضم لما يطلق عليه مسيح دارفور والمؤمنون به «الموكب». في ذلك الحين سوف لا يكون في حاجة لحلوتها، ولكن لصدرها الحنون، قد لا يكونان في حاجة لبعضهما البعض؛ فابن الإنسان قد قال: الموكب استعاضة عن كل الذي ذهب وكنز لما سيأتي.
البيت فارغ، ومنذ أن غادرها آخر أزواجها ظلت وحيدة، لكنها فكرت كثيرا في أمر تلك البنت المتشردة مجهولة الأهل والعشيرة، رفات الحروب أو النازحة كما يطلقون عليها، كان لولا اسمها الغريب وتصرفاتها الأكثر غرابة أحيانا لأتت بها إلى بيتها وتركتها تقيم معها تؤنس وحدتها، تساعدها في خدمة البيت، لكن مثل هؤلاء البنات المطلوقات قد يكن لصات أو داعرات أو يسلكن سلوكا يسيء إلى سمعتها الطيبة وسط الأهالي، لكن عبد الرحمن ستكون بنتا مختلفة، ستفيدك كثيرا وتصبح صديقتك وابنتك، إنك لم تسمعي عنها سوى كل خير وبركة، بل لقد طلبت منك هي بنفسها ذات مرة أن تأخذيها لبيتك لتقضي ليلتها، عندما تأخرت عن العودة إلى معسكر كلمة ذات يوم.
الناس مختلفون؛ فيهم الصالح وفيهم الطالح، لكن الرياح أيضا لا تأتي كما يشتهيان؛ ففي اليوم الذي قررت فيه خريفية أن تأخذ معها عبد الرحمن لبيتها لكي تقيم معها بصورة دائمة، ظهر في نيالا ما عرف بين الناس بالبرطابرطا، وهو مخلوق يظهر نهارا في شكل إنسان، إنسان عادي لا يمكن تمييزه، صفته الوحيدة الغريبة أنه يقضي النهار كله نائما، أما بالليل وخاصة في الليالي القمرية، فإنه يتحول إلى حيوان مفترس غريب، له ستة أرجل ومخالبه أشبه بمخالب الدب، له صوف غزير يغطي جسده كله، وصوته أشبه بصوت الكلب، أو أنه ينبح مثل الكلب، رأسه وفكاه أقرب للضبع، يأكل في الليلة الواحدة شخصا واحدا، يأكله كله عظما ولحما ويلعق التراب الذي يسقط عليه دمه، ولا يترك له أثرا مطلقا، ولا يمكن قتله بالطلق الناري أو الأسلحة التي يدخل المعدن في صناعتها؛ فقد جرب فيه كل ذلك، فقط يخشى العصا المصنوعة من أفرع وسوق الأشجار، إنها تخيفه ولا تقتله، فأصبح الناس في نيالا يخافون من بعضهم البعض وخاصة الغرباء منهم، حيث إنهم يتجنبونهم بصورة تامة ومطلقة، على الرغم من أن الغرباء أنفسهم يخافون من البرطابرطا إلا أنهم يضطرون لقضاء الليل في العراء؛ لأن لا أحد يقبل أن يستضيفهم. يظلون مستيقظين إلى الفجر حاملين عصيهم متأهبين لضرب البرطابرطا التي قد تخرج لهم في أية لحظة من حيث لا يعلمون؛ بالتالي يغلبهم النعاس نهارا فينامون أينما اتفق، مما يشكك الناس أكثر في أمرهم ظانين أنهم برطابرطا حقيقيون.
لم يكن من السهل بالنسبة لخريفية أن تستقبل في بيتها ما يحتمل أن يكون برطابرطا ليأكلها بالليل، لولا ذلك لما تأخرت في أن تأخذ عبد الرحمن معها لبيتها، كانت في أشد الحاجة لمن تحكي لها وتبادلها وجهات النظر في الناس والحياة، فرأسها ملآنة بالحكايات المكبوتة، وهي لا تريد أن تتطفل على الجارات، أو تحكي للناس - عامة الناس - ما تعتبره سرا في أحايين كثيرة.
فيما بعد حزمت العمة خريفية أمرها، لم تحاول أن تلحق بعبد الرحمن؛ فإنها تعرف أن عبد الرحمن اختارت الحرب، ومضت في طريقها، ولكنها اتجهت نحو جبل أم كردوس، كان عيسى ابن الإنسان يعلم الكلمة هنالك ويعد الناس للموكب.
نبي يبحث عمن يكفر به.
لكي تكتمل حجته، يحتاج النبي لمن يكفر برسالته، تماما كما يحتاج لمن يؤمن به، وفي مرحلة ما قد يحتاج لمن يؤذيه بشدة بل لمن يقتله أيضا، حتى الأنبياء الكذبة يتشوقون لمطرقة العصاة الرحيمة، قال وهو يحملق في عيون الجند المسعورين، في تلك الجمعة التي انتظروها طويلا: أما أنا فما لي حاجة عند أحد، فلا يفيدني إيمان المؤمن بقدر ما يضرني كفر الكافر بي؛ لأن من يكفر بي إنما يكفر بنفسه، فأنا جميع الخلق، وليس الخالق شيئا آخر، أقصد أنا أنتم واحدا واحدا.
تهامس البعض، بمعنى أنهم لا يفهمون شيئا: حدثنا بلغة نعرفها، أو دعنا نقتلك بهدوء ونعود إلى وحداتنا، فأنت لست أكثر من دارفوري متبجح.
أضاف وفي فمه ابتسامة كبيرة، وبدا للجند أكثر غموضا وتناقضا: مشكلتي الأساسية هي المؤمنون بي، إنني أتوق لمن يكفر بي، هل أنتم الكافرون أم رسل الكافرين؟
كان رجلا عاديا - مثله مثل أي شخص في المكان - يشبه عشرات الأشخاص، يرتدي عراقيا كان فيما سبق لونه أبيض، هو الآن يميل إلى لون التربة الطينية الرملية، له أكمام قصيرة، ويرى من الخلف متموجا من كثرة الجلوس واللبس المتكرر، تحت العراقي يرتدي سروالا طويلا إلى ما دون الركبة، حيث يتحول إلى تموجات من التترون ما قبل الرسغين، ليس برأسه عمامة أو طاقية، ليست له نظارات شمسية، ولا ساعة يد، أصلع الرأس تماما كما لو أنه فرغ منه الحلاق للتو، لونه أسود، عيناه كبيرتان بيضاوان تنظران في عمق وبقوة، يمشي حافيا، وليس بقدميه تشققات. الشجعان الذين استطاعوا أن يبحلقوا فيهما أحسوا بطعم ملح البحر، وأكد أحد الجنود أنه أحس بحالة أشبه بالغرق. فيما بعد قال إبراهيم خضر: لو أن هنالك نبوة أو ألوهية تخص الرجل لكانت عيناه أكبر برهانا عليها؛ بالتالي كان كل من يلتقي به يؤمن به بدرجة ما؛ لأن الذين لا يستطيعون إمعان النظر في عينيه هم ليسوا بالضرورة من يجهله أكثر، ولكن هنالك أسرار أخرى فيه تشغلهم عن عينيه، ليست من مهامنا البحث عن أسراره، ولا حتى تأكيد نبوته أو الكفر بها، مهمتنا الحقيقية هي الإجابة عن الأسئلة التالية: أهو من العرب أم من الدارفوريين؟
هل نبوة هذا الشخص تخدم مهمة السلطة في دارفور؟ إلى أي مدى؟
هل نبوته ضد الحكومة المركزية في الخرطوم؟
هل ستخدم المتمردين والأهالي الناقمين علينا؟
أم أنها مجرد ادعاء نبوة والسلام؟! أي نوع من الشعوذة والدروشة الصوفية الهلامية التي لا تصب في غير بحر الذات الوهمي الكبير، على حسب تعبير القائد المتفلسف الشاب.
عندما تم اختيار إبراهيم خضر إبراهيم لهذه المهمة الصعبة، كان في خلد الذين اختاروه أنه يؤمن بالفكر الجمهوري، وفي رأيهم أن هذا الفكر يقوم على الحجة والجدل أكثر مما يقوم على الوقائع التاريخية والموروث الديني، ومدعو النبوة هم حاجة أكثر مما هم سلفيون، فما ضرنا أن نرسله له، يمارس هواياته في المحاجة ويخلص إلى حقيقته إن كانت هنالك حقيقة خلف مدع درويش ربما مخبول أو مريض نفسي؟
عندما استطاع الأسرى التخلص من معسكر شارون، استطاعوا - ومعهم بالطبع إبراهيم خضر - أن يجتازوا منطقة الألغام الخطرة إلى ما يشبه واديا عملاقا لا يعرفون اسما له، طالما كان جميعهم من خارج دارفور ولم يدخلوها إلا محاربين مجبرين على القتال، أو جنودا ألزمتهم المعيشة امتهان وظيفة الموت والاقتتال. كانوا يهربون للأمام، بدون أية فكرة واضحة إلى أين تؤدي بهم الطرق، كل ما يحاولون الحفاظ عليه هو اتجاه الشرق، واضعين الشمس على ظهورهم، ليست لديهم بوصلة غير الشمس والظل والريح، تقودهم غريزة الحياة نحو نجاة لا يفقهون لها مسلكا. لم يتنبهوا إلى أنهم لا يحملون طعاما أو ماء إلا بعد أن أدركهم الرهق والعطش وهم على مشارف ما بدا لهم قرية قديمة، كالعادة كانت مهجورة بشكل تام، يعرفون أن هنالك مصادر مياه قريبة من القرية؛ فكثير من القرى تنشأ على مصدر مياه، أو أنها تصنعه لاحقا، ولكن خطورة المياه بالقرى المهجورة نتيجة الحرب، أنها قد تكون مسمومة أو غير صالحة للشرب وفقا لظروف بيئية.
كان الواحد وعشرون رجلا، جميعهم بصحة جيدة، ومتفائلين ويمضون للأمام في صمت تتخلله بعض الهمهمات، وهي عبارة عن ملحوظات سريعة عن الطريق والاتجاهات، أو نصائح تخص السلامة، العشرون رجلا هم في الحقيقية 18 رجلا وطفلان في السادسة والسابعة عشرة من عمريهما، انزلقا في وكر الجندية من الخدمة الوطنية الإلزامية، دخلوا القرية حذرين، ولأنهم لا يمتلكون أي نوع من الأسلحة ولا حتى الشخصية البيضاء، فكانوا يتخذون غاية الحذر والحيطة والانتباه. إبراهيم خضر إبراهيم، والطفلان ورجلان آخران اتجهوا ناحية الخور بحثا عن الماء، واتجه البقية نحو الغرب، حيث بدا للعيان منخفض به بعض الأشجار الخضراء قد يكون علامة على توافر المياه بالموقع، واتفقوا على أن من وجد الماء يعلن الآخرين عن طريق الصفير.
الوقت عصر، الريح الدافئة تمر عبر وجوههم صاعدة نحو الجنوب، لا يسمعون سوى نوس الأشجار التي تنتظر المطر راقصة للريح الخيرة، يحمل الهواء عبق حريق قديم ورماد يحكي مأساة بشر ماتوا وحرقوا في المكان، لم يمض زمن طويل حينما سمع الطفلان صفيرا، ونبها بقية الرفاق، كانت بئرا عميقة مظلمة، ولكن الماء الذي يعكس بعض الضوء، الذي يصدر صوتا حميما عندما تلامس سطحه الحجارة التي يرمونها فيه، تؤكد تواجده بوفرة، المشكلة الكبرى في كيفية الوصول إليه، وهم لا يمتلكون دلوا أو أوعية ولا حبالا، ولكنهم أيضا لا يعرفون أهو مسموم أم طيب؟
كان رأي ما يسمونه الرقيب على آدم أن يستعملوا بعض الآنية المحروقة المرمية في فناء الدور الخربة، قد يجدون ماعونا يمكن أن يحفظ شيئا من الماء، من ثم يمكن استخدام سلم البئر للهبوط إلى الأسفل، وقاموا برحلة بحث أخرى، كانوا يسيرون في جماعة واحدة؛ لذا شاهدوا معا وفي ذات اللحظة الرجل والمرأة وهما مشهران أسلحتهما، وقد اخترق نداء الرجل آذان الجميع: ثابت عندك.
كانا في منتصف عمريهما؛ المرأة تلبس ثوبا ملونا بلديا ورأسها عارية، تبدو في صحة جيدة، الرجل نحيف قصير، بوجهه ذقن كبيرة مهملة وشارب طويل، يرتدي جلبابا قصيرا، يضع على رأسه طاقية، يحمل سلاحا آليا تعرف عليه الجميع منذ الوهلة الأولى، المرأة تحمل بندقية كلاشنكوف، يقفان على بعد كاف من الرجال العشرين في وضعية الاستعداد لإطلاق النار، طلب من الجميع الجلوس على الأرض مع وضع اليدين على الرأس، وأنه سيطلق الرصاص على الجميع إذا حاول أي منهم عصيان أوامره.
طلب منهم أن يحدثه رجل واحد عن هويتهم وماذا يفعلون ومن أين هم قادمون وإلى أين ذاهبون، واختار الرجل بنفسه، وقام الرجل المختار، وهو جندي عجوز حكيم بالتحدث إليه، وأخبره بأنهم أسرى هاربون من معسكر شارون، قالت المرأة: يعني جنجويد وجيش؟
قال لها: إنهم ليسوا بجنجويد ولكنهم كانوا جنودا نظاميين، والبعض أفراد خدمة وطنية.
يبدو أن المرأة والرجل لم يفهما الفرق بين الجنجويد والجنود النظاميين ومجندي الخدمة والوطنية، أو أنهما لا يريدان أن يفهما؛ لأن الرجل صاح بغضب: «كلكم جنجويد مجرمون كتالين كتلا، اتجمعتوا من السودان كله جيتوا تقتلونا، فيكم زول من دارفور؟»
أجابه بريق ناشف: لا.
أضافت المرأة: الليلة يومكم تم هنا، عيال أم طيظ، يا ملك الموت جاك الموت.
عندما خرجت الطلقة الأولى، لم يدر أي منهم أيهم أصابت، وهم يهربون في كل اتجاه، وصوت الطلق الناري يقعقع خلفهم، سوف لا يعرف أي منهم من هم الذين أصيبوا أو قتلوا؛ لأنهم لم يلقوا بعضهم البعض بعد ذلك مدى الحياة.
إذن ظن إبراهيم خضر أنه الناجي الوحيد، لم يستطع أن ينظر وراءه، كان يجري بكل ما أوتي من قوة مندفعا بطاقة الخوف، عبر خيران كثيرة، غابة صغيرة، أرض شوكية ورمال لا حصر لها، إلى أن اختفى صوت الرصاص نهائيا، أو خيل له ذلك. كانت الشمس تغرب ببطء شديد، ترسل أشعتها الدامية نحو الكون، أشعة تذكره بمذابح كثيرة مرت به، هنا في دارفور وفي جنوب السودان ومذابح كثيرة نجا منها، لا يدري أيها سيكون من نصيبه، اتجه مرة أخرى نحو الشرق، هو الاتجاه الوحيد الذي سيقوده إلى معسكر ما للجيش السوداني، كما أنه أيضا قد يقوده لقرية مجهولة يسكنها شبح مسلح كما حدث قبل قليل.
على كل لقد توجه بكل قلبه وأحساسيه نحو نجاته، التي لا تحدث إلا إذا وجد الجيش السوداني، فلون بشرته الأصفر هو لون الجنجويد وشعره الكث الغزير المهمل، وذقنه الشائكة غير المنتظمة، كل ذلك يجعله شديد الشبه بالجنجويد، ولا ينتظر أحد ليرى ما بداخل قلبه من جمال وحب للإنسان، وليس لدى أحد في هذا الجحيم الوقت الكافي ليستمع إلى قصته، وكيف أنه رمي به في هذه الحرب رميا، وأنه لم يطلق النار على أحد، ولا يعرف كيف يستخدم البندقية، وهذه هي سنته العاشرة بالجيش، لا يعرف كيف يدافع عن نفسه بغير الجري، كان يمضي نحو الشرق بسرعة وهمة، وجد عودا يابسا اتخذه عصا قد تساعده على المشي وتدفع عنه شر ثعبان أو أي من الهوام قد يصادفه.
كانت الأرض تمتد أمامه إلى ما لا نهاية، شبه صحراء قاحلة، يرى في البعيد بعض الأشجار الخضراء في الأودية، تتناثر أعشاب الفصل المطير الماضي في كل مكان، لونها أصفر فاقع أو بني، الآن بقيت بالأفق آخر أشعة الشمس، وبدا ظل ثقل ثقيل يسيطر على الكون من حوله، يهبط تدريجيا، لزجا وناعما مثل الزيت، ظل ليس باستطاعته أن يحبه ولو أنه قد يكفيه شر الأعداء غير المتوقعين، إلا أنه أيضا يخفي بين إبطيه مخاوف أكثر فظاعة ومفاجأة.
لا يدري كيف استحضر في هذه اللحظات بالذات صورة الأستاذ محمود محمد طه، صورة ابتسامته العميقة الجميلة وهو يتوجه نحو المشنقة، هذا الخليط الثري بين قمة المأساة وقمة الفرح، المزج بين النار والزيت في ذات الإناء بينما يظل الزيت زيتا والنار نارا. أعطته الابتسامة شجاعة غير متوقعة، وبدأ الليل يظلم إظلاما تاما، وسوف لا يظهر القمر إلا بعد ساعتين على الأقل، إلى أن آنس ضوءا صغيرا بعيدا جدا، ثم أضواء متفرقة تقترب ببطء أو يقترب هو منها كما يمضي الحالم نحو هدف مجهول، قد تكون مدينة صغيرة، قد تكون قرية منسية من مذبحة ما، ولكنه استبعد أن يكون ذلك معسكرا للجيوش؛ لأن المعسكرات عادة ما تكون مظلمة، شديدة الإظلام، كلما اقترب من مصدر الضوء كلما ازدادت مخاوفه، قد يصادف إحدى ورديات الحراسة الحكومية، أو الأهلية المتعجلين الذين يقتلون ثم يتحرون من أصل الضحية إذا أثارت في بعضهم غرائز الاستطلاع.
إذن من الأفضل أن يقضي الليل دون أن يلج المكان، وفي الصباح يتدبر حاله، ولكن كيف يبيت في العراء ملتحفا السماء ومتوسدا الرمال؟ كانت تدور برأسه أفكار شتى، لم يتصل بأسرته منذ سنوات كثيرة ماضية، إنهم لا يدرون أين هو، ربما ظنوا أنه مات وشبع موتا، آخر رسالة بعثها لهم عن طريق الصليب الأحمر، رسالة طويلة جدا، لولا قلة الأوراق لكتب أكثر، كان بإمكانه أن يملأ ألف ألف صفحة، ولكن لأفراد الصليب الأحمر عملا آخر يقومون به غير رسالته، ولا يمكنهم انتظاره أياما ليكمل خطابه لأسرته.
كان يحس أنه يتحدث معهم فردا فردا، يشعر بأنفاسهم وتعبير وجوههم، ويسمع نصائحهم له، ويستطيع وهو ممسك بالقلم أن يمسح الدموع الساخنة عن وجه أمه الذي يراه في غاية الحزن: أنا هنا أقيم في معسكر آمن، لا توجد حرب في هذا المكان، وقريبا ستطبق اتفاقية السلام ويتم إعادة الأسرى، سأعود مباشرة لكسلا، الطعام كثير ومتوافر جدا، ونحن لا نعمل شيئا سوى النوم ولعب الكوتشينة. أمي، اطمئني ولا تقلقي بشأننا، أريد أن أعرف أخبار أختي أمل، فهي بدون شك تكون قد تخرجت في الجامعة منذ سنوات طويلة ماضية، أبي اكتب لي ...
كان يقترب تدريجيا من مصدر الضوء، حينما فكر في الألغام البشرية، ما إذا كانت المنطقة شبه عسكرية، على كل يحتاج لمسيرة ما يزيد عن الساعة لكي يدرك الضوء، ويقدر المسافة بعشر كيلومترات وليس أقل من ذلك، هذا العالم مليء بالشرور، عندما يحس بالقمل يتحرك في ظهره يعرف أنه أصبح حساسا أكثر مما يجب، وقد بلغ به القلق أشده، تعلم كثيرا من الحياة في ميدان القتال، تعلم كيف يتعايش مع الأوساخ وأن يبقى في ملابسه دون حمام لشهور كاملات، وأحيانا إلى أن تتمزق على جسده، وتعلم أيضا فنون النجاة من الموت.
أصبح ثعلبا ماكرا في اصطياد الحياة، ما زالت تعلق في ذاكرته اللحظة التي تم صيده فيها على مشارف مدينة الخرطوم، فيما يزيد عن عشرة أعوام، قضاها في ميادين القتال مدنيا، يحمل الذخيرة على ظهره، يعالج الجرحى بخبرات تعلمها في الميدان من لا أحد. كان يسير كالمنوم مغناطيسيا، إنه يتقدم بإصرار، تعرف على شيء مهم، وهو أن الضوء يصدر من كشافات كبيرة على أعمدة، مرصوصة بانتظام، عددها عشرون كشافا. حسنا، هذا ليس مطارا خلويا، ولكنه بدون شك معسكر لقوات الأمم الأفريقية
AMIS . إنهم الوحيدون الذين يمتلكون كل تلك الطاقة من الضوء ويشعلونها، وهم الأكثر مخافة من الظلام في دارفور.
لم يرحبوا به، لكنهم لم يطلقوا عليه النار، طلبوا منه أن يبتعد، قال لهم إنه أسير هارب من جيش المتمردين جماعة شارون، قالوا إنه لا يمتلك أدلة تقنعهم، وهم لا يعرفون ما هي الأدلة التي تقنعهم، عليه أن يبتعد، أن يذهب نحو القرية التي تبعد خمسة كيلومترات غربا وأن يسلم نفسه للشرطة، وأنهم سيعتنون به، لا مكان لدينا هنا للأسرى أو الهاربين من الجيش وغيرهم، نحن قوات مراقبة وكتابة تقارير.
ما اسم هذه القرية؟
البوليس سوف يحدثك عن كل شيء ويعطيك المعلومات الضرورية التي تحتاج إليها.
كان المترجم يستخدم نفسه كآلة للكلام لا غير، ولو أن بوجهه انطباعا لم يرتح له إبراهيم خضر كثيرا، يعرف أن السبب هي بشرته الصفراء وشعره الكث، لولا لغته لحسبه كل من رآه جنجويدا؛ فالجنجويد يستخدمون لغة وطنهم وهو عربي النيجر أو ما يسمى «بالضجر»، وغالبا ما تحتاج إلى مترجم يفسر معانيها بلهجة عربي السودان، ولكن إبراهيم خضر يتحدث عربي وسط السودان بلكنة الشرق. كانوا يقفون على مبعدة عنه، يشهرون سلاحهم في خوف ورعب واضحين.
عليك أن تبتعد، أن تذهب نحو القرية إنها قريبة جدا وبها نقطة شرطة تعمل 24 ساعة.
كان مرهقا وجائعا وعطشان، كان الشرطيون أكثر رحمة، حيث إنهم أعطوه ماء، وبقية عشاء كانوا قد أطعموا معظمه، تحروا معه، ولكنهم أدخلوه الحبس إلى أن يتأكدوا من صحة المعلومات في الصباح الباكر، يمكنك أن تنام، قدموا له برشا من السعف وبطانية عسكرية قديمة ونصيحة غالية: أوعك تحاول الهروب، كل من هرب من الحبس مات.
لم يحلم بشيء؛ لأنه حلم بالعالم كله، حلم بأنه قد نجى أخيرا وعاد إلى مدينة كسلا مسقط رأسه، لأمه وأبيه وأخته وجيرانه. كانت المدينة كلها هنالك ترحب بعودته، تستقبله منذ بوابتها عند الطريق العام، أطفالها ونساؤها، عمالها، موظفوها، البجا بشعورهم الكثة وصدرياتهم الجميلة السوداء والزرقاء والبيضاء، الجنود النظاميون يقفون صفا واحدا طويلا تتقدمهم موسيقى القرب، الأستاذ يقف تحت شجرة نيم عملاقة، في وجهه ابتسامة عريضة، يحمل كتابا بيده اليمنى، كان يلبس جلبابا أبيض ويلتحف ثوبا جميلا من التوتال، المدينة كلها على ظهر سفينة عملاقة، كأنها سفينة نوح، بها مخلوقات غريبة وكبيرة جدا، يحملها الموج بعيدا في السماء، تبحر خفيفة كمركب من ورق كان يصنعها وهو طفل بالروضة، ثم دقت الأجراس، دقت الأجراس الكبيرة، صليلها تردده الدنيا كلها. كان الشرطي يفتح باب الحبس وفي صحبته رجل من الاستخبارات العسكرية، عندما سمع اسمه، استيقظ، كان رجل الاستخبارات يضحك بصورة هستيرية وهو ينهض إبراهيم مستخدما كلتا يديه: قوم يا كلب.
كان هذا صديقه الحميم قدورة إسحاق، لقد عملا معا في الفاشر، وهربا من الأسر أيضا ذات مرة من جيش العدل والمساواة، وإن إبراهيم عالجه مرتين من جروح خطيرة بميدان القتال.
قال لقائد المنطقة العسكرية العميد الشاب، إنه يريد فقط أن يعود لأسرته، ها هي سنته العاشرة التي قضاها في ميدان القتال، وتعرض للموت أكثر من عشرين مرة، أسر مرتين، وكاد أن يقتله الشبحان بالأمس، وإنه يريد أن يرى أمه وأباه، يريد أن يتزوج وينجب أطفالا مثله مثل الآخرين، فأنا لست مقاتلا ولست عدوا لأحد، ولا أرغب في أي عمل بطولي، بل قال له صراحة، إنه لا قضية له يحارب من أجلها، إنه لا يريد أن يصبح شهيدا أو بطلا، وكأن لسان حاله يقول: توجني جبانا وأعدني لأسرتي.
أكد له القائد الطيب أنه متعاطف معه قلبا وقالبا، ولكن لا توجد وسيلة لنقله لمدينة نيالا ولا أية مدينة أخرى، وأنهم شبه محاصرين، وأن الطائرات ترمي لهم بالطعام من السماء ولا يمكنها أن تهبط، وطلب منه أن ينتظر قليلا ربما تفرج، أنا متأكد أنها ستفرح قريبا، هنالك اتفاقية سلام تلوح في الأفق، تقودها دبي، والصين وروسيا يضغطان على المتمردين ويدعمان الحكومة.
هذه الحكاية لا تحدث أية فرق بالنسبة له، يعرف أن اتفاقيات السلام ما هي إلا هدنات لحروبات أكثر شراسة، كان محبطا جدا، على الرغم من أنه يلبس الآن ملابس جديدة ونظيفة، وقد استحم أكثر من مرتين، ورمى بكل هدومه الأخرى بقملها وبراغيثها في المزبلة، أشعل عليها النار، وأخذ يرقبها، إلى أن أصبحت رمادا، كان يعرف أن القائد يتعاطف معه، ولكنه أيضا يعرف أن هنالك حروبات تلوح في الأفق، وهي المعارك التي تسبق اتفاقيات السلام، حيث يريد كل طرف أن يدخل الاتفاقية من موقع القوة، وأن يضغط الطرف الآخر نفسيا ومعنويا وماليا - رشاوى - وعسكريا في ميدان القتال، حتى يستطيع أن يفرض وجهة نظره ويحصل على أكبر مكاسب ممكنة: هذه هي الحرب، كما خبرها خلال عشر سنوات، وفكر فعليا في الهرب، ولكن إلى أين؟
ألحق بالمستشفى الميداني كممرض أو طبيب مساعد أو أية وظيفة رحيمة أخرى، طالما كان لا يرغب في حمل السلاح، لكن عندما أتت البرقية المستعجلة، دعاه القائد بعد اجتماع مقفول مع القادة الميدانيين، وحدثه بأن عليه أن يذهب في مهمة عاجلة. لقد ادعى أحدهم النبوة، وقال إنه السيد المسيح، أو المسيح الدجال، أو أي شيء من ذلك القبيل، ولا يعرف في حياته شخصا يمكن أن يرسل لمحاجة مدعي النبوة أكثر من شخص جمهوري، الذي هو: أنت.
المؤمنون بي والكافرون
النجارون وأشباه النجارين، لم يسمعوا بالسيد يوسف النجار الذي هو خطيب الأم مريم بنت عمران، أو كما يعرفونها بمريم العذراء، أم السيد عيسى ابن مريم، ولكنهم جميعا يعرفون الرجل الذي يدعي النبوة الآن معرفة حقة، ويتعجبون كثيرا للتشابه الذي يقع بينه وبين السيد عيسى ابن مريم على الأقل في التكوين الأسرى، وربما - في رأي بعضهم - هذا ما أغراه أن يقول إنه عيسى ابن مريم نفسه؛ فوالده هو زميلهم يوسف هارون النجار، وهو من أمهر النجارين بزالنجي، وأبرعهم في صناعة السحارات ودواليب النساء الحديثة هي ما تسمى بالحافلات، هرب يوسف منذ عام تقريبا لجهة غير معلومة، بما يتوافق تاريخيا بادعاء ابنه للنبوة، ويهمس البعض: إنه هرب معه بإيعاز من أمه التي أعلنت انحيازها لولدها منذ اللحظة الأولى، والصدفة الغريبة أن أم عيسى بن يوسف تدعى مريم، وهي من أسرة معروفة في المدينة، أبوها الشيخ عمران الرجل الثري صاحب المواشي، تنتهي أصوله إلى قبيلة عربية هاجرت منذ القرن الأول الهجري من المدينة المنورة بالجزيرة العربية، يقولون لأسباب سياسية. بقليل من التصرف وإعمال الفكر يمكن اقتراح اسم عربي قديم لهذه القبيلة مثل بني النضير مثلا، وهو يعمل أيضا بالتجارة الحدودية بين تشاد والسودان، يقيم معظم أيامه في قرية الطينة الحدودية. أما أخواها هارون وموسى فقد هاجرا لدار صباح، وهو ما يعني وسط السودان، وأحيانا مدينة الخرطوم، تاجران شهيران بسوق ليبيا في أم درمان.
النجارون وأشباه النجارين حضروا المناظرة الاستثنائية التي جرت بين إبراهيم خضر إبراهيم وما سمى نفسه المسيح ابن الإنسان. حسنا قبل أن ندلف للحوار علينا أن نمر على بعض الحقائق حول إبراهيم خضر نفسه: أولا إبراهيم خضر ليس له قناعات مسبقة بأن هذا الرجل كاذب أو صادق، نبي أم غير نبي، ويظن أن ذلك لا يهمه كثيرا، بل ليس من شأنه الخوض في حريات الآخرين؛ فمن حق أي إنسان أن يعتقد في نفسه ما يعتقد، طالما لا يضر اعتقاده الآخرين في شيء، فهو لم يقاتل أحدا، لم يعتد على ممتلكات أحد، لم يجبر أحدا على الإيمان به، بل العكس إنه يبحث عمن يكفر به، ويقول:
طوبى للكافرين بي، إنهم سينجون من الحقيقة، وأنا أنجو من حبهم لي.
نستطيع أن نقول إن إبراهيم خضر إبراهيم، عندما يجادل الرجل فإنه ينطلق من نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، كجندي مدني، والشيء الآخر يريد أن يتعرف على أفكار الرجل، والأخير هدف إنساني شخصي يخصه هو وحده؛ إذ إن إبراهيم خضر إبراهيم لا يجرم أحدا ولا يبارك دعوة أحد، ونريد أن يكون ذلك واضحا للناس: فالحرية لنا ولسوانا.
يوم الجمعة التي انتظرها الجميع طويلا، العسكريون والنجارون وأشباه النجارين، السياسيون المنتظرون خلف سماعات التليفون، الأخبار الجميلة من القائد الميداني الذي سيبشرهم بقتل وصلب النبي الكاذب أو مدعي النبوة، أو ما يظن أنه عيسى ابن مريم، ينتظرون أن يضحكوا في استمتاع خاص وهم يتناولون كأسات مترعة من الويسكي الأيرلندي اللذيذ، الذي يستورد من أجلهم بكامل السرية، حيث إنهم مسلمون رساليون سلفيون على منهج الإمام ابن تيمية في العلن، وداعرون فاسقون فاسدون كاذبون وسحرة، على منهج راسبوتين الروسي في السر.
خرجوا في جماعة واحدة، وكما هو متوقع اتجهوا نحو الراكوبة الكبيرة وسط القرية، جميعهم معروفون لدى أهل دارفور، وليسوا جميعا من قبيلة واحدة، كان من بينهم الدارفوري من الزغاوة والمساليت والفور وغيرهم، والعربي الذي ينتمي لقبائل مثل الفلاتة والتعايشة والهبانية وكوكا بني حسن وغيرهم. في الحقيقة لا أحد يستطيع أن يفرق بينهم نتيجة للقبيلة أو اللون أو الشكل، لقد كانوا يتشابهون أو صاروا يشبهون بعضهم البعض فيما بعد، لدرجة أن الكثيرين لا يستطيعون أن يميزوا أيهم الرجل وأيهم أصحابه. فقط يستطيع الناس أن يشيروا إلى السيدة مريم الحبيبة، وهي في ثوبها السوداني التقليدي وضفائرها الجميلة المرسلة التي ينحسر عنها الثوب من جهة الرأس، كانت جميلة ورقيقة ونظيفة.
النجارون وشبه النجارين، فرغوا من صناعة الصلبان المتينة القاسية التي تقبع عند الوادي الصغير متشهية الدماء، يحرسها بعض الجنود ال 66، البعض الآخر يقوم بتمارين نهائية وبروفات لأداء مهمة القتل في حالة أن قاوم الرجل وأتباعه الصلب، أو أن قوة مجهولة تريد أن تتدخل في الآونة الأخيرة للحيلولة دون تنفيذ الأمر، فالمنطقة لا تخلو من متمردين ومنفلتين وقاطعي طرق، وإن الأمم المتحدة بجيوشها الكسولة ليست ببعيدة عن الموقع، عليهم ألا يترددوا في إطلاق النار، وألا تأخذهم في الحق لومة لائم. كانت الراكوبة متسعة، بحيث إنها آوتهم وعشرات الآخرين، وتبقت منها مساحة كبيرة أخرى تسع مائة شخص آخر، فلنقل إنها تؤوي كل من يدخل تحتها، لا ندري ما إذا كانت تمتط في المكان والزمان مثل الكون، أو أنها تسعهم وكفى، يجلسون على الأرض وسط الراكوبة، والبقية يجلسون أو يقفون حولهم، يحملقون في وجوههم لا يدرون هل يصدقونهم أو يكفرون بهم، وكان الكفر بهم أسهل بكثير من تصديق أن هنالك نبيا وحوارييه، يقبعون في قعر جبل ما في مجاهل دارفور، كما أن الناس يتساءلون عن الضرورة لنبي جديد، ألا يكفي الأنبياء الكثر الذين أرسلهم الله في القرون الماضية؟! ما هو الجديد الذي سيأتي به نبي في القرن الحادي والعشرين؟
سأله إبراهيم خضر إبراهيم: لقد قلت فيما قبل إنك السيد عيسى المسيح نفسه، بلحمه ودمه، ولست مجرد داع بدعوته، ولا أحد مريديه أو متقمص له، إذن هل تدعي أيضا أنك ابن الله؟
ابتسم الرجل ابتسامة مريحة، شرب قليلا من النشأة المسماة في دارفور بأم جنقر، تصنع عادة من الدخان، قال له: أنت الآن تراني أشرب أم جنقر، هل يحتاج ابن الله لطعام وشراب؟ هل يجوع ويذهب للمرحاض؟ هل يشرب الماء من النبع مثله مثل الخراف؟ أنا ابن الإنسان، وأنت تقول إن أباك هو رب البيت، فأبوية الله هل مثل ربوبية أبيك؟ مسألة جمال لا غير، وأضاف وهو يمسح قليلا من العرق من جبينه: عموما فكلنا أبناء الله، هذه الشجرة ابنته، وتلك الريح، هذه البنت بنته، ذرة الرمل، هذه العشبة، ذلك الطائر، أنتم، هذه الجيوش، النجارون وشبه النجارين ، المؤمنون بي والكافرون، جيمعنا أبناء الله وهو ربنا.
سأله إبراهيم خضر إبراهيم: هل أحييت الموتى، وأقمت من ريشة طائرا؟
كان الحوار يدور بعربي دارفورية، يعرفه الناس هنا، ويجيدونه. أجاب الرجل بهدوء بالغ: كل ما أفعله هو أنني أحاول ألا أخلق شيئا، إنني أشكل الأشياء، من ذرة الرمل صخرة، ومن الصوفة خروفا، وكل ما أفعله أنني أقول له صر فيصير، أي واحد منكم بإمكانه فعل ذلك ... لا أعرف كيف يحدث، ولو أنني أستطيع أن أعلمكم؛ أي أن أتبصر وإياكم الطريق، جميعكم تستطيعون، بإمكانكم أن تجعلوه يحدث إذا كنتم ترغبون في ذلك، فالرب هو الذي خلق ويخلق، أنا لم آت بمخلوق من العدم، لم أخلق الريشة، لم أصنع جثة الموتى، لقد كانوا هناك في القبر الجماعي منذ أن قتلهم الجنجويد ودفنهم جنود من الجيش السوداني، ببساطة، إنني أعرف الكلمة المناسبة، وأستطيع أن أقولها وأسمعها للناس والأشياء حية كانت أم ميتة، والكلمة تفعل كل شيء. ويبدو أن الرجل قال كلمة: وقف نجار عجوز، كان جالسا ليس ببعيد عن الرجل، هتف قائلا: أنا آمنت بك.
ابتسم الرجل، وقف نجاران آخران، قالا إنهما آمنا به، ابتسم الرجل، قال جندي شاب إنه آمن به، ابتسم الرجل، قال جنجويد قد أتى مع الجيش إنه آمن به. قال الرجل، ولم تفارقه الابتسامة الودودة بعد: أقول لك كما قلت لتجار الهيكل من قبل: أهون لجمل أن يدخل من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.
هتف القائد الميداني مخاطبا بقية النجارين بأن يصنعوا صلبانا أخرى بعدد الذين آمنوا الآن والتحقوا بالرجل، وكلما آمن شخص آخر، طلب القائد من النجارين أن يصنعوا صليبا خشبيا ثقيلا آخر، وهكذا إلى أن آمن به تقريبا جميع من استمع إليه. أما من تبقى من نجارين فقد صنعوا صلبانا أنيقة لأنفسهم، وجاءوا يحملونها في ظهورهم وهم يعلنون إيمانهم بالرجل. وعندما اتصل القائد العام من الخرطوم بالقائد الميداني، رد له القائد الميداني قائلا: أحتاج صليبا من أجلي، صليبا كبيرا ثقيلا.
ملك الموت
إبراهيم خضر إبراهيم ، لم يكفر بالرجل، ولكنه لم يستطع أن يؤمن به، ولو أنه أصبح من تابعيه، من أجل المعرفة، لقد كان الرجل فصلا دراسيا نادرا ومهما، عليه أن يسجل فيه حضورا دائما أصيلا. النجارون وأشباه النجارين حالما انضووا تحت إمرة الرجل، وانشغلوا في مباركة كلامه والإيمان ببركاته الكثيرة، التي يتكرم بها إليهم كل لحظ آخر لا بد من فهمه لكي نفهم ردود فعل الحكومة المركزية، أو له هو ماذا تعني لها الحرب الآن في دارفور، وهذا مهم جدا؛ لأن السلطة المركزية تعتبر أن الحرب قد آتت أكلها ونضجت ثمارها وتم قطف هذه الثمار طازجة، باعتبار أن أهم هذه الأهداف استراتيجية، وهي ترحيل مجموعة من القبائل من أوطانها، وأن تحل محلها مجموعات أخرى تم استيرادها من الدول المجاورة، وذلك حدث بنسبة 90٪، والشيء الأهم هو أن لا يعرف أحد - لم يحدث ذلك - ومن الأهداف الثانوية التي تحققت للسلطة المركزية هي أن تبدو الحرب في دارفور كما لو أنها حرب بين مجموعتين وهميتين، وهما ما يسمى بالعرب والزرقة، وهاتان المجموعتان لا وجود لهما في الواقع، ولا توجد أية حرب بينهما، وكانت ستتبنى فكرة مسيح دارفور إذا كان قد أعلن أنه سيحارب العرب في دارفور أو الزرقة، أو لو أنه ضدهما الاثنين معا، أو أصبح له رأي واضح في مسألة الهوية مثل مدعي النبوة العيسوية الكثيرين الذين ظهروا في نيالا منذ عام 1921، بغرض مقاومة الاستعمار الإنجليزي.
ولكن أن يدعي النبوة شخص أبوه ممن تسميهم الدولة الزرقة، وأمه ممن تدعوهم بالعرب، ويتبعه الاثنان، ويكره الجنجويد، ويجعل العسكر والنجارين وأشباه النجارين يؤمنون به، وبكلمة واحدة يجعل واديا بأكمله يخلو من الإبل والأبالة، يعني أن هذا الرجل سيقوم بإتلاف صومعة ثمارها الطازجة، سيبذر في أحشائها ديدانا تأتي عليها في ثوان. أرسلت الحكومة جيشا عرمرما، اختارته كله من الجنجويد، ووكلت قيادته لشخص غريب عنيف وفي اسمه «أبو دجانة»: إذا هزمتم قتلتم وعادت الأرض لأصحابها، وسوف يعود من ينجو إلى بلده؟
هؤلاء الجنجويد الذين قال فيهم كلمته الشهيرة بأنهم لا يدخلون ملكوت الله، وأهون لإبلهم أن تدخل من ثقب إبرة خياطة من أن يلجوا هم الملكوت، يعرف الرجل خطورة الموقف، ويعرف أكثر كيف تكون ردود أفعال السلطة الزمانية؛ لذا كان يقول لأتباعه، وهم كل من استمع إليه يتحدث، بمن فيهم إبراهيم خضر: أنا أضمن لكم الحياة إلى الأبد، ولكني لا أجنبكم الموت الآن.
وقال في موقع آخر: أهبكم جميعا فرصة الاستمتاع بالألم، وسأهب نفسي أيضا.
لذا، إذا كانوا قد فهموا ما يرمي إليه، فإنهم يتوقعون أحداثا جساما، ينتظرونها بشجاعة ولذة. كانت كلماته تسمع بكل مسام الجسم وليس بالأذن وحدها، ويسمعها البشر والحيوان، وتسمعها الجمادات، وكل من وما يسمعها ليس لديه خيار إلا أن يطيعها ويؤمن بما تحويه من معان؛ لأن كل ما يقوله هو ذات الحقيقة، وهي لم توجد حرة ومطلقة على الطبيعة كما وجدت الآن؛ لذا كان دائما ما يكرر قائلا: وا شوقاه لمن يكفر بي.
الرجل، أو السيد المسيح، أو النبي عيسى، أو مسيح دارفور، أو النبي الكاذب كما يسميه السياسيون ورجال الدين، كان رجلا بسيطا، من أسرة صغيرة، وهو أكبر الأبناء فيها، أمه مريم بنت عمر، وأبوه يوسف أحد النجارين المشاهير بزالنجي، وهو لا يستطيع أن يؤكد متى أحس بنبوته، أو أنه مختلف، ما لم ينبهه أخوه ابن خالته يحيى، الذي لاحظ أن أخاه عيسى يستطيع القيام بأفعال وأمور لا يستطيعونها، بل يقول أشياء لا يفهمونها وهم الذين في عمره، وهنا سنعرج على ما يسميه يحيى حادثة وادي برلي: وادي برلي بنيالا عبارة عن نهر موسمي صغير، ينبع من المرتفعات التي تقع جنوب نيالا وشرقها، وهو الرافد الحقيقي والأساسي للمياه الجوفية بالمدينة، ويمثل الوادي أيضا المتعة الإنسانية والسياحية لسكان نيالا جميعا، حيث تقام فيه احتفالية السباحة العفوية السنوية، رجالا ونساء، يسبحون وهم في كامل ملابسهم وزينتهم، حيث إن العري عيب شنيع، بل يعد من الفضائح الكبيرة، التي لا يمكنها أن تمحى من ذاكرة المكان، ما عدا للأطفال الذكور؛ فإن الأمر عادي ومتسامح.
كنت وأخي عيسى كما الجميع نحاول أن نستمتع بماء النهر، حيث إن الماء بهذه الكثرة نادر واستثنائي وموسمي، ولا يدوم طويلا مجرد ساعات قلائل من اليوم، قبل أن تشربه الرمال، تقريبا كنا في الثانية والرابعة عشرة من عمرينا. أنا أكبر منه بعامين، ولو أن أمي أصغر من أمه بعامين، إلا أنها تزوجت قبل أمه؛ فأمي مريم كويا وأمه مريم، وكويا تعني الصغيرة بلغة الفور الذين نشأت أسرتنا وسطهم، على الرغم من أن أمينا ليستا من قبيلة الفور، بل من قبيلة ذات أصول عربية تسمى كوكا بني حسن، وأبي من الفور وأبوه يوسف النجار من قبيلة المساليت.
بينما كنا نسبح باستمتاع ونلتقط بعض الأشياء التي يأتي بها الوادي من قرى اجتاحتها السيول، أو غابات قضت عليها وانتزعت شجيراتها من جذورها، إذا بالماء العكر المحمل بالطمي ومخلوقات الغابات وأشجارها، يصفى ويصبح نقيا جدا وهادئا جدا، ولامعا مثل الفضة كلما اقترب من عيسى أو حوله، وقد لاحظت أنه شكل هالة غريبة تفوق دائرتها المترين، كان هو مندهشا مثلي، بل خائفا جدا، وكلما انتقل إلى مكان آخر انتقلت الهالة الغريبة معه، وصفا الماء وهدأ وأصبح نقيا مثل الفضة، وفجأة وجدنا نفسينا نجري نحو المنزل، ولم يكن بعيدا عن الوادي، فهو خلف حديقة المانجو وليس بعيدا عن بيت الخالة خريفية، وهي امرأة مشهورة في تلك الأنحاء، وجدنا أمه مريم، ونحن بأنفاس تهبط وتعلو وأيد مرتجفة وشفاه ولسانين جافين خائفين مرتجفين، حكينا لها القصة، قالت بجدية بالغة وقد برقت عيناها: لا تقولا ذلك لأي إنسان كان، انسيا الأمر.
ثم همست لي بأذني وقد انفردت بي: لا تترك أخاك وحده، كن دائما معه.
عاش عيسى بعد ذلك طفولة مستقرة، وذلك ظاهريا، لكنه كان يسمع أصواتا ويرى أشياء، ويلمس ويحس بما لو قصه لأي إنسان غير أمه لاتهم بالجنون. عيسى كان يجد كل ما يحتاج إليه، يفكر في النقود فيجدها في كفه، يحلم بالطعام الجميل فتوفره له أمه الفقيرة، يلعب مع الأطفال فيفوز عليهم في كل المنافسات، يسقط الفصل الدراسي المنهار على الطلاب، فيكون عيسى هو الناجي الوحيد، ولم يمسسه حتى الغبار، وإذا غاب عن الدرس، نظر إلى وسائل التعليم المعلقة على الحائط، فعرف كل ما قيل وما لم يقل. الحق يقال، لقد كانت هنالك رعاية تخصه هو بالذات، رعاية من قوة كبرى؛ أي إن عينا سرية حنينة وطازجة تسهر عليه.
قالت ذات مرة عنه خالته مريم كويا أم يحيى: عيسى ولد عارفا، ما كان في حاجة إلى مدرسة.
أمه مريم كانت تخاف عليه خوفا شديدا، من كل الناس والأشياء، حتى من والده، وكانت تطلب منه ألا يخبره بكل شيء يحدث له، ما عدا هي ويحيى، كانت تخاف من خوف أبيه عليه إذا عرف بما يحدث لطفله من أشياء غريبة ومدهشة، ويغمرها إحساس غريب بأن هذا الطفل يخصها وحدها، ولا حق لأحد أن يتدخل فيما يخصه، حتى والده يوسف نفسه، الذي يحبه حبا جما. وكانت تصر على اصطحابه معها أينما تذهب، لأماكن الأفراح والأتراح، وتذهب معه للاحتطاب والعمل في المزارع القريبة بالأجر، لدرجة أن الأطفال أصدقاءه كانوا ينادونه: عيسى ود مريم.
لم يكن يحيى ابن خالته مندهشا للتحولات التي حدثت لعيسى بعد حادثة الوادي، بل كان يرقبها بروية ويسجلها في ذاكرته بدقة، فقد ينسى عيسى كثيرا مما يجري له من أحداث غريبة وذلك لكثرتها، كان يحيى ينقلها لخالته مريم أم عيسى، ثم أخذا يشركان مريم كويا أمه هو ثم مريومة بنت إسحاق جارة مريم أم عيسى وصديقتها المقربة جدا. لكن أهل المدينة لم يكونوا بعيدين عما يقوم به عيسى ويجري له؛ لقد لاحظوا أشياء كثيرة غريبة، إلا أنهم كانوا يلتزمون الصمت، وما ذلك إلا لأنهم كانوا يظنونه طفلا مجنونا أو في طريقه للجنون. لقد خبروا كثيرا من المجانين في حياتهم، وبعضهم أقرباؤهم والبعض جاء من أنحاء دارفور الكثيرة، وأفرزت الحرب المئات منهم يعيثون جنونا في شوارع نيالا، يتحدثون عن أشياء غريبة، ويظن البعض نفسه نبيا أو ربا، وهذا ليس بالغريب ولا الجديد، وقصة المجنون الذي دخل للوالي، بطريقة غريبة، حيث إنه تخطى الحراس الكثيرين بسهولة ويسر ووقف أمام الوالي وقال له:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا نبي الله الخضر
وأنت المسيخ الدجال
ويا ملك الموت جاك الموت.
وهم بخنق الوالي، الذي قيل فيما بعد إن سيادته قد أسال بعض المواد غير الطيبة من سبيليه الاثنين معا، قبل أن يضغط على زر الإنذار ويجيء الحراس مهرولين، قبضوا على المجنون المدعي النبوة الخضرية، الذي هدد الوالي بالقتل، وأوسعوه ضربا إلى أن انتقل إلى رحمة ربه غير مأسوف عليه. الكثيرون من الأهالي لا يتوقعون مصيرا أقل من ذلك لعيسى ود مريم، ذلك الطفل الغريب.
وكانت الأمور ستمضي بصورة هادئة، لولا أن الوالي بعد تلك الحادثة الغريبة، ابتكر سياسة جديدة في التعامل مع المجانين الذين امتلأت بهم المدينة، حيث أمر بجمعهم وترحيلهم إلى قسم خاص بسجن شالا، ولكن المخيف في الأمر أن بعض ذوي المجانين عندما ذهبوا إلى سجن شالا لزيارتهم لم يجدوهم، ولم يجدوهم في أي سجن آخر، وعرفوا أن أقاربهم المجانين قد تم ترحيلهم من الحياة الدنيا إلى الآخرة؛ مما خلق ما يشبه الرعب في المدينة، وجعل السيدة مريم تهرب بابنها الصغير عيسى لجبل أم كردوس شرقي نيالا وتختفي هنالك؛ خوفا من أن تغتاله عصابة الوالي ويرسلوه للدار الآخرة مبكرا، كما أرسلوا الذين من قبله، ثم لحق بهما في ذات الظهيرة أبوه يوسف النجار، ثم لحق بهم يحيى بمؤن من الطعام والشراب، وظل الصلة الدائمة بعد ذلك طوال إقامتهم بالجبل التي قدرت بالثمانين يوما؛ لأنهم لم يعودوا إلا بعد أن أخبرهم ذات صباح يحيى أن مجنونا استطاع أن يدخل مكتب الوالي على الرغم من الحراسة المشددة، وأنه قال للوالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا نبي الله الخضر
وأنت المسيخ الدجال
ويا ملك الموت جاك الموت.
وقبل أن يتمكن الوالي من إسالة بعض المواد ذات الرائحة الكريهة من سبيليه، أو الضغط على زر الإنذار، تمكن المجنون أن يطبق كفيه الكبيرتين الخشنتين على عنق السيد الوالي، واستطاع سيادته بعد مقاومة عنيفة ونضال شرس من أجل حياته القيمة الثرية ، أن يستسلم للموت، وأن يترك روحه تنطلق لبارئها في سلام مجنون. كما أن القاتل قد استطاع الفرار، ولا يدري أحد شيئا عن مكانه، أو الذين يدرون عنه شيئا لاذوا بالصمت، والصمت كما يقولون هنا في دارفور: رضاء.
في طريق ابن الإنسان
شارون وعبد الرحمن وشيكيري توتو كوه أصبحوا لدى السلطات بما يعرف بمثلث الرعب، أو الثلاثي الذي لا يقهر، وذاعت شهرتهم عندما قاموا بتحرير قرية ضلاية مسقط رأس شارون نفسه، من قوات الحكومة والجنجويد الذين كانوا يحتفظون بالسكان كرقيق ويستبيحونهم، وأظن أن الرواية سردت ذلك فيما قبل.
وهم أيضا الذين اعترضوا الطريق - فيما بعد؛ أي بعد شهرين من خروج مريم المجدلية من المعسكر وانضمامها لمسيح دارفور، وشهر كامل منذ أن طردوا الجنجويد والحكومة من ضلاية - أمام المتحرك العسكري الضخم المعروف بمسك الختام، تحت قيادة القائد الجنجويدي الأمي العنيف جدا الملقب بأبي دجانة، وكان أولى بهم أن يدعوه هولاكو. ولقد قلنا فيما قبل إنه لا يعرف ماذا يعني أبو دجانة هذا اللقب الغريب، فاسمه الحقيقي بسيط جدا وواضح وهو يحبه، جربيقا جلباق. كان أبو دجانة أو جربيقا جلباق يقود جيشه العرمرم نحو جبل أم كردوس شرق نيالا، ولأنه يريد أن ينسب إليه النصر كله، فإنه وضع الجيش النظامي في المؤخرة، أما قوات «أم باخة» النهمة للغنائم فقد اعتذر قائدها لأسباب معروفة، وهي أن هذا النبي الكاذب ليس لديه ما ينهب أو يتخذ غنيمة أو يسبى، وأنهم لا يستفيدون شيئا من المؤمنين أو الكافرين به، ولا توجد سوق نخاسة ليبيعوهم فيها؛ بالتالي سوف لا يشاركون في هذه المعركة بالذات: قد نساهم معكم في معركة أخرى، هم لا يخجلون في إعلان أنهم قوات غنائم لا أكثر.
يعلم شارون أن هذه المعركة سوف لا تكون نزهة قصيرة كما هو شأن المعارك الأخرى التي خاضها وأصدقاؤه، ولكنه أيضا لم يخف فرحته بها؛ لأن 80٪ من الجنجويد سوف يشتركون في تلك المعركة، وإنهم يعتبرونها نزهة؛ بالتالي قد لا يكونون في تمام الاستعداد لمعركة طاحنة ضد محاربين ماكرين مثله؛ فهم متحمسون للقضاء على النبي وأعوانه بذبحهم على صلبانهم، وليس بإطلاق النار عليهم، فلقد عرفوا أنهم لا يستخدمون السلاح ولا يقتلون ولا يدافعون عن أنفسهم بأية طريقة كانت، إنهم قد يطلقون كلمات لا تفيد في شيء، مجرد غوغاء من الدراويش والمجانين الذين يظنون أنفسهم أربابا أو أنبياء أو أية قوة أخرى: اقضوا عليهم وستصير البلاد كلها لكم.
ولم يعرف قائد الجنجويد الجلباق، أن حكومته قد أرسلت قوة للقضاء على هذا الرجل، ولكنها ألقت أسلحتها جانبا وآمنت به على بكرة أبيها؛ فهو لا يقرأ جرائد، ولم يسمع بالمواقع الإلكترونية، ولم يستمع إلى الراديو لأن لغة الراديو لا يفهم منها شيئا، ليس له أصدقاء من غير جماعته الذين هم مثله في كل شيء، ولا يتطوع المواطنون الذين يكرهونه على إخباره بشيء، وإن السلطات التي تستخدمه تتعامل معه كروبوت لا أكثر، والروبوت لا يحتاج لثقافة إنسانية، قليلا من المعلومات وكثيرا من السلاح الفتاك، وبعض الآلات البشرية ذات الأهداف المتعددة التي تلقى في ركن ما من المصالح الكبيرة تكفي، وهي تعلم أن روبوتها له ميول جنسية وأنه شبق، وأنه يحب الأرض الخصبة المعشوشبة، كوادي بلبل مثلا، تحتاجها إبله المقدسة، وقد وعده الخرطوميون بالأرض ومن عليها من نساء وماء وعشب وحيوان.
جربيقا العنيف كان سعيدا وهو يقود معركته الأخيرة؛ ومن ثم قد يتوج ملكا على هذه الأرض، وبإمكانه بعد ذلك أن يأتي بنسائه وأطفاله من موطنه الذي ضاق بهم وطردهم المجتمع الإنساني منه، لولا أن آواهم القادة السودانيون الطيبون، لأصبحوا أثرا بعد عين، أو على حسب تعبيره: أم سقونا التراب.
شارون ومساعداه نصبوا كمينا جيدا على تخوم جبل أم كردوس قضى على قوة جلباق قضاء مبرما، وراح ضحيته جلباق نفسه، كمين قال عنه شيكيري توتو كوه، وهو يضحك مقلدا شارون: سيحكون عنه كثيرا في الجحيم لإخوانهم.
قال الرجل للمؤمنين به: الكلمة كما تحيي تميت.
وقال لهم أيضا: نحن دعاة حياة ولسنا دعاة حرب واقتتال.
وقال لهم: القاتل مقتول.
وقال لهم: السلام يبدأ من القلب ، والشر أيضا يبدأ من القلب، وكذا الحب والكراهية. أما الموت فهو صناعة تنشئها لنفسك عندما تنشئها للآخرين، فلا تخفكم آلة الموت، فإنها معدة لصانعها، ولا تخشوا رسل الظلام، فإنهم يمضون إلى قبورهم ذاتها، والطريق إلى ابن الإنسان تمهده الحملان والذئاب معا.
وقال لهم: كل له دوره، وسيقوم به على أكمل وجه، حتى إن لم يشأ ذلك.
وقال لهم: الحرب الآن انتهت، وقبل إسدال الستار على الذين كانوا يمثلون ضحايا أن يستيقظوا من موتهم وعاهاتهم وآهاتهم ويحيوا الجمهور، والذين كانوا يقومون بدور المنتهكين والأشرار أن ينتزعوا أقنعتهم المرعبة، وينحنوا في إجلال، ويبتسموا. لقد انتهت المسرحية الآن، وعلى الجميع أن يعودوا ليمارسوا أدوارهم الخيرة في الحياة كما كانوا ...
وقال لهم: الموكب الموكب.
وهو يعني المهرجان. لقد ذكره لاحقا بالاسم، وطلب منهم أن يستعدوا له، يفعل ذلك مرارا وتكرارا: سيسلمنا الطريق إلى الجمال، قال لنا.
مريم الحبيبة
مريم موسى، التي أطلق عليها القائد شارون لقب مريم المجدلية، وفيما بعد أسماها عيسى ود مريم: بمريم الحبيبة، حضرت الحرب الشعواء التي دارت بين قوات شارون وقوات الحكومة، حيث إن الحكومة نفذت هجوما على ما يسميه شارون وجنده المدينة، استخدمت فيه الطيران والمشاة، واعتصم شارون بحصنه المتين محميا بالسلسلة الجبلية وبعض الخنادق في المنطقة المفتوحة ولواء الألغام البشرية والثقيلة المشركة جيدا، كما أن الجميع قاموا بلبس الواقي الكيميائي؛ اتقاء مفاعيل الغاز المسبب للإسهالات والإغماء طويل الأجل، وهو سلاح شديد الأثر في المواقع المغلقة ذات التهوية الردئية، مثل الموقع الذي يتحصنون فيه المحاط بالجبال، ويبدو كوعاء صخري ضخم. بل استطاع صائدو الطيران أن يسقطوا مروحية أبابيل ومقاتلة ميج صغيرة، وهذا كان كافيا أن توقف الحكومة الهجوم الجوي، واكتفت بحرب برية لم يتحقق لها فيها الانتصار، وقد قام شارون بأسر عشرة من الجنود من مقدمة الهجوم الحكومي، قبل أن تنسحب القوات الحكومية متجهة نحو زالنجي، وشارون كعادته لا يطارد المنسحبين بجيشه، ولكنه يمطرهم بقذائف الدوشكا إلى أن يختفوا من الأنظار، وقد يصيبهم بخسائر كثيرة بذلك.
عرفت مريم الحبيبة من الأسرى أن رجلا يدعي أنه المسيح ابن مريم قد ظهر في نواحي جبل أم كردوس شرقي نيالا، وأن بعض الرجال قد تبعوه، من يومها أخذت مريم تعد العدة للالتحاق به، وقد أخبرت شارون بذلك، ولو أنه كان يظن أن مسألة هذا المسيح لا تعدو أن تكون تكرارا للنبي عيسى بنيالا في 1921، أو الدعوات العيسوية الكثيرة في وسط السودان وغرب أفريقيا، وقال لها: قد لا يكون أكثر من درويش مهدوي جاء متأخرا، أحد المحبطين الذين تفرقت بهم السبل، فأخذوا يطرقون أبواب الحلول الطوباوية والخرافات. أما عن نفسه فهو لا يؤمن بنبي بعد الرسول محمد
صلى الله عليه وسلم ، ولا يظن أن الناس في حاجة لنبي: إنهم يحتاجون لسلاح يقاومون به الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ويحفظون به ما تبقى من نسلهم من الانقراض، وضحك ضحكته الرهيبة.
قالت له بصدق: أنا منتظراه من زمن، وأحس بأنه هو، هو ذاته.
قال لها: الله يكون في عونك.
ولم يتحدث كلاهما عن رؤيتها الغريبة التي تعتبرها سرها الأعظم الذي أباحت به له وحده في يوم ما. تبرعت لها عبد الرحمن بفرسها، وأعد لها النساء بالمعسكر بعض الأطعمة الجافة التي يحملها المسافرون معهم، وخوفا من أن يلتقي بها الجنجويد في الطريق أو القوات الحكومية، وقد رسم لها شارون خارطة طريق جيدة، ودعمها باثنين من خيرة جنوده وأكثرهم كفاءة، وكان من بينهم شيكيري توتو كوه، وطلبت عبد الرحمن أن تذهب في صحبتها إلى تخوم نيالا، فهي لمن تنس الطريق التي سلكتها للمعسكر قبل شهور طوال بمساعدة العم جمعة ساكن، وقبل أيضا شارون اقتراح عبد الرحمن بأن القوة كلها تكون من النساء، وأن يبقى شيكيري بالمعسكر، بذا تحركت مريم في رفقتها عبد الرحمن وآسيا وناديا، وهن مقاتلات شجاعات خبرن حروبا كثيرة ونجون كثيرا، وقعت آسيا في الأسر مرتين وهربت في المرتين، وعادت إلى ميدان المعركة، وكان هروبها داويا جدا في المرة الأخيرة؛ لأنها استطاعت أن تأخذ معها أسيرا وهو الحرس المكلف بحراستها، كان بإمكانها أن تقتله، ولكنها أبقت على حياته لسبب واحد فقط هو أنه: الجندي الوحيد الذي لم يغتصبها ولم يتحرش بها، وهو من قبيلة عربية استخدمتها الحكومة في الحرب كثيرا، ولكنه ظل نقيا ونظيفا، وهي دائما ما تحب أن تتحدث عنه بهذه اللغة، آسيا غير متزوجة، ولها طفلة واحدة، بالمدرسة الابتدائية بالخرطوم بحري تقيم مع جدتها.
ناديا، لم تؤسر، ولم تأسر أحدا، ولكنها شاركت فيما لا يحصى عدده من معارك، وهي أقدم في ميدان المعركة من آسيا وعبد الرحمن، لا تفوقها في ذلك سوى مريم المجدلية، ولناديا زوج مقاتل وطفلان أعادتهما لأسرتها بنيالا، وهما ولد وبنت في الثامنة والعاشرة من عمريهما؛ البنت أكبر سنا، وتقول ناديا: إنها تحارب من أجل طفليها لا أكثر: أن يعيشا في بلد خالية من الجنجويد والعنصرية.
مريم كانت أكثر سعادة من أي وقت مضى، وتبتسم كلما تذكرت سرها الذي تقاسمته مع شارون؛ فهي عندما انضمت لشارون كانت تظن أنه النبي عيسى الذي حلمت به كثيرا جدا، النبي الذي يخلص دارفور من قبضة الحكومة ومرتزقتها الجنجويد، ويعيدها لمجدها وسلامها القديم ولحياة الأمن والمحبة التي كانت بين العرب وبقية الدارفوريين منذ قديم الزمان. لقد حلمت بمسيح دارفوري يفعل ذلك، بل إنها رأته في رؤيا صادقة آمنت بها. مريم من أسرة تنتمي لإحدى القبائل العربية القديمة، التي وفدت دارفور منذ سقوط دويلات الأندلس، وتحالفت وتصاهرت مع الفور والتنجور؛ مما وفر لها سبل الإقامة في أودية جبل مرة وتحولت للنشاط الزراعي بدلا عن الرعي، واستبدلت إبلها بأبقار وماعز وضأن.
سمعت كثيرا بشارون، عن انتصاراته على الجنجويد وقوات الحكومة، ويحكي الناس عنه بطريقة تظهره كأحد أساطير العالم الحديثة، ولكنها عندما أقامت معه واقتربت منه أكثر تبين لها أن شارون لا ينفع أن يكون غير قائد عسكري، أو رجل دين عادي، كان الدين يختلط في رأسه بالسياسة بالبندقية بالتحرر، ولو أنه لم يشترك في حروبات الدولة السودانية ضد سكان الجنوب في القرن الماضي، تلك الحروبات التي تصفها بالقذرة، وقد أزهقت أرواح مليونين من الرجال والنساء والأطفال، كما فعل كثير من قادة جيوش التحرر في دارفور، إلا أنه لم يكن بعيدا عن فكرة الجهاد الإسلامي ولو بصورة باهتة؛ فشارون على جانب حبه للضحك ونصب الكمائن للأعداء، كان يرى أن الإسلام هو الحل الوحيد لمشكلات دارفور، روح الإسلام بعيدة عن نماذج الدولة السودانية أو أي نموذج آخر، فهو يحلم بإسلام قد لا يتعارض مع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.
عندما وصلن تخوم مدينة نيالا، ودعنها. كان عليها أن تعبر مدينة نيالا إلى جبل أم كردوس، وألا تمر بالمدينة أو يراها أحد الجواسيس أو المتربصين بالثوار والمقاتلين، فبإمكان أي إنسان أن يتعرف على هويتها بمجرد أن يراها أو يشم رائحتها، نسبة لقلة الحمام والعمل الشاق في ميادين القتال، وإعطاء الأولوية كلها للدفاع أو الهجوم؛ فإن المقاتلين والمقاتلات لا يلتفتون إلى مسألة النظافة والغذاء، إلا بالقدر الذي يجعلهم يبقون على قيد الحياة؛ مما يجعل رائحة أجسادهم كشميم النسور.
على مريم أن تعبر ما يزيد على المائتي ميل غربا إلى جبل أم كردوس، وتحتاج هي ويحتاج فرسها للراحة والطعام والماء معا، وعليها أيضا ألا تعبر المدينة أو تقترب منها، وأن تتجنب المرور بالقرى الكبيرة أو أشباه المدن، وهي ربيبة هذه الأمكنة. كان الأمر ليس بالعسير عليها، والمياه التي تحملها في القربة الجلدية الكبيرة تكفيها وفرسها معا ليومين آخرين، ولكن عليها أن تقضي النهار قرب أقرب مكان تطمئن له، وقررت أن يكون ذلك المكان هو وادي الدومات؛ منخفض شاسع جنوب جبل أم كردوس، ولكنه يبعد عنه قرابة المائة وخمسين ميلا، تعرفه جيدا، وهو شبه غابة من الدوم، ويقال إنه كان المسكن الأساسي لملك الداجو الأسطوري كسفورو، الذي لولا مكيدة امرأة عجوز لقتل كل رجال قبيلته في سبيل إشباع رغباته الغريبة، وجدت بالسير نحو الموقع.
من المتوقع ألا تجد أحدا هنالك؛ لأن الناس في زمن الحرب أصبحوا لا يبتعدون كثيرا عن مساكنهم التي هي المدن أو شبه المدن، حفاظا على حياتهم، وتجنبا لملاقاة الجنجويد الذين لا يترددون إطلاقا في قتل من يلتقون به، مدنيا كان أم عسكريا. أما النساء فإنهم يغتصبونهن ربما إلى الموت أو الإغماء، هي تتوقع أن تلتقي بهم، ولكنها لن تكون لقمة سائغة، ستقاتل بكل شجاعة وبكل ما لديها من خبرات قتالية، وتعرف أنها ستنتصر عليهم، حتى إذا كانوا بالمئات؛ فهي تؤمن بذلك إيمانا قاطعا، لا أحد يستطيع أن يحول بينها وأن تلتقي بالسيد المسيح ابن الإنسان، إنها على موعد لا يؤجل ولا يفسد معه. كانت الدومات مخضرة كعادتها، ويعم المكان الصمت ما عدا أصوات الطيور وبعض السناجب، ونوس الغصون التي تداعبها الريح الخفيفة، واتخذت لها مكانا يحمي ظهرها جيدا، وتصبح فيه هي مواجهة للمخافات المحتملة، وعليها ألا تنام، أن ترتاح فقط لا أكثر، قامت بتكسير قشرة بعض ثمار الدوم للفرس الذي يلتهمها بشهية، وأكلت هي أيضا منها، ثم نامت، نامت نوما عميقا، لا تدري كم من الزمن ظلت نائمة، إلا أنها عندما استيقظت وجدت بالقرب منها نارا مشتعلة، والمكان مظلم إظلاما تاما لولا تلك النار لما استطاعت أن تتبين الفرس الذي ما زال يأكل بالقرب منها، ولكن هذه المرة في كومة من العشب الطري، تتسرب رائحته إلى أنفها، جاست وهي تفرك عينها، كما لو أنها كانت في حلم، عندما سمعت صوتا يقول لها، بلكنة حلوة: هل استيقظت يا مريم؟
كان هذا الصوت ليس غريبا بالنسبة لأذنيها، وعندما اقترب منها، عبر ضوء النار الشحيح استطاعت أن تتبين رجلا شابا له لحية كبيرة ووجه مبتسم مستدير، شهقت وهي تهتف: المسيح ابن مريم.
ابتسم وهو يقول لها بأدب كبير، بأنه من خلق لأجل المسيح، وقال لها كما قال يوحنا المعمدان ذات مرة: أنا لست سوى خادمه.
ثم أضاف وهو يقترب منها كثيرا إلى أن شمت عبق الزهور البرية: أنا يحيى يا مريم، هل نسيتني، يحيى ابن مريم كويا، جاركم في حي الوادي؟
أطعمها وجبة الجراد المفضلة لديه، وسقاها من العسل المخلوط بالماء وهما شرابه وطعامه منذ سنوات كثيرة؛ أي منذ أن هام بوجهه في فلوات الله الواسعة، يبحث عن معنى لوجوده بعد أن أجلس ابن الإنسان في كرسي العرش الذي مهده له هو بنفسه. كان يرى أن مهمته قد انتهت، وأن مهمة أخرى لا تقل صعوبة قد بدأت، وهي مهمة البحث عن معنى، معنى يجعله يعيش ألف سنة أخرى، وألفا بعدها، ليبشر بسيده أيضا، في حيوات دنيا وسماوية كثيرة تنتظر في إبط الأزمنة الحنون.
حدثها بأن الرجل في انتظارها، وأنه يتوقعها في كل لحظة وحين، وقال لها: كلنا من أجل أن نمهد سبله، وهو جاء لكي يصنع الموكب الذي يعد له الآن.
سألته: ما هو الموكب؟
يبدو أن الفرس كان مستمتعا بالعشب، قام فسقاه بعض الماء، لاحظت للمرة الثانية أن رائحة جسده لم تكن كرائحة جسدها، رائحته أشبه بشميم الزهور البرية، أما رائحة جسدها فكانت مثل رائحة نسر كاسر قضى العمر يعمل منقاره ومخالبه في الجيف المنتنة، كان خفيفا وهو يمضي ما بينها والفرس، ما بينها ومائدة الجراد ساري الليل، ما بينها وثمار الدوم التي يقدمها أيضا للفرس ولها، ما بينها والنار المستعرة، التي يوقدها بنواة الدوم الصلبة. حدثها بأنه يعرف الليل معرفة حميمة، ويعرف النهار، وأنه يعرف الصحراء والغابات والفلوات الشاسعة الممتدة من هذه النقطة إلى ما لا نهاية، وأنه يعرف الإنسان والحيوان والجماد والمكان والزمان، وقال لها كل ذلك لم يسعفه في أن يجد معنى.
قالت له: هل لأن المعنى من الله؟
لم يجبها. قضيا الليل يحكيان عن طفولتيهما في هذه الأنحاء، وعن الناس والحرب اللئيمة، وربما اتفقا أن السيد جاء من أجل أن يمحو سيرة الحرب. في الصباح الباكر وصف لها أقرب الطرق إلى جبل أم كردوس، ومضى.
عندما شاهدت الرجل، استطاعت أن تتعرف عليه منذ الوهلة الأولى. لقد بحثت عنه بعيدا جدا، وكان هو أقرب ما يكون، سوف لا يخذلها كما خذلها شارون، إنه هو عيناه تقولان ذلك، بساطته السلام الذي يشع من وجهه كله، الهدوء والبساطة في كل ما يقوم به، إنه لا يضحك مثل شارون بل يبتسم، وهو لا يقيم كمائن وينصب الألغام للأعداء، ولكنه ينصبها من المحبة للمؤمنين به، وعرفت فيما بعد أن ذلك للكافرين به أيضا، فهو صائد قلوب وأرواح، ليس صائدا للأجساد والمليشيات، الشيء الوحيد الذي يجمع الرجلين هو كراهيتهما للجنجويد، تلك الكراهية التي لها رائحة تشم، ولون يرى، وصرخات تسمع، وأنين وجحيم. ولقد قال عنهم شارون مرة إنه لا يدري إذا كان الجنجويد قد خلقهم الله الذي خلق الوردة والماء، أم أنهم قد تم تحضيرهم في المعمل مثلهم مثل الجراثيم والقنابل النووية، كأحد أسلحة الحرب.
لأن الجنجويد يفتقدون لأبسط القيم الإنسانية، دعنا من قيم التسامح والحب والجمال. وقد ربطت ذلك فيما بعد بمقولة الرجل الشهير: «أهون لجمل أن يمر من ثقب إبرة من أن يدخل جنجويد ملكوت الله.» وتيقنت أن الجنجويد من الأشياء المستحدثة؛ أي روبوتات وليسوا بشرا؛ لأن مقولة الرجل هذه لا تستقيم مع مسيحيته؛ فالتسامح وعدم الإدانة هما مما يدعو بهما الرجل؛ إذ إن الجنجويد هؤلاء أشياء من تحضير البشر، إنهم من صنع مخلوق أدنى، في يوم ما سيتأكد الناس من ذلك؛ فلا يمكن لروبوت أن يدخل الملكوت، إلا بقدر أن تدخله بندقية أو دبابة.
وعندما شاهدها عرفها، بل إنه يعلم بها منذ أن كان وأن كانت، فناداها بالحبيبة مريم، ونادته بسيدي ابن الإنسان، تعانقا عميقا وطويلا وجميلا، نعم أحبها كما يحب رجل امرأة، فكلاهما بشر، هو رجل وهي امرأة، كلاهما ابن وبنت الإنسان، ويعرف المريدون والمؤمنون به والكافرون به على السواء. إنهما قد عشقا بعضهما البعض منذ زمن ليس بالقريب، سوف لا يدرونه، ولا يسألون عنه أو يسألون.
قال عنها: هي المنتظرة.
وقال عنها: هي المنتظرة.
وقال عنها: هي الحبيبة.
وقال عنها: ابحثوا عن مرايمكم هن في انتظاركم كما أنتم في انتظارهن.
وقال لنا: لا تستقيم ولا تعوج الدنيا بغيرها.
قامت مريم بمهامها تجاه الرجل منذ الدقيقة الأولى للقائهما، وترك لها كل ما يخصها من شأنه، وتولى هو كل ما يخصها من شأنها. في ذلك الحين كان الذين من حوله رجلين فقط وهي ثالثتهما، على الرغم من ذلك كان الرجل قلقا جدا على المؤمنين به الذين سوف يتكاثرون مثل الجراد حوله، يعلم أن المكان مثل قلبه سيتسع لهم جيمعا، ولكنه كان يقول لهم: ويلي من محبتكم لي، ويا ويلكم من محبتي لكم.
وعرفوا فيما بعد، أن الحب والكراهية يجريان بذات الشريان، ويسقيان ذات الحقل، وعرفوا أن من يحب كمن يكره: يختلط عليه الأمران، ولا يعرف أيهما خيره وأيهما شره، وقد يقبل إصبع الشيطان ظانا أنها شفة محبوبه.
الموكب
لم يقل عيسى إنه نبي أو رسول، أو أن أحدا بعثه بمهمة ما، أو أنه قام بابتعاث نفسه كما فعل الكثيرون، كل ما قاله عن نفسه أنه المسيح عيسى ابن مريم، وكان يطلب منا أن نناديه بابن الإنسان، ولكن المشكلة الكبيرة في المؤمنين به، هم الذين يصرون على أن الرجل لا بد أن يكون قد أرسل من قبل قوة عظمى، كقوة الله مثلا، أو أنه مدعوم بالله، أو مرسل من قبله، أو أن روح الله قد حلت فيه في شطحة صوفية مريبة كتلك التي أودت بحياة الحلاج والسهروردي المقتول، الفكي السحيني وغيرهم. كل يعتقد فيه حسب درجة إيمانه به وثقافته ودهشته للكرامات المتتالية التي يستعرضها سيده، ولو أنه قال لنا: الكرامات لا تخلق نبيا ولا تدل عليه، إنها في أفضل حالاتها تشير إلى بشرية الإنسان.
وقال: من آمن بي من أجل كراماتي فإنه آمن بكراماتي، ومن آمن بكراماتي ما آمن بي مثقال طرفة عين.
وقال: الحقيقة لا تحتاج إلى براهين، وحدها الأكذوبة تتطلب سندا من خارجها.
وقال: الكذب أسوأ درجة من درجات الصدق، كما أن الضلالة تكمن في نخاع الحقيقة.
وأضاف قائلا: لم يتمظهر الشر في كليته في الكون إلا في الجنجويد، فإنهم شر خالص.
وقال: إن الجنجويد ليسوا قبيلة، وليسوا عنصرا، فيولد الشخص خيرا، ثم بعد ذلك له الخيار إما أن يصبح إنسانا أو جنجويدا.
وقال: من يكرهك جنبك شرور محبته.
وقال: من يكفر بي كمن آمن بي، ومن يجهلني يعرفني أكثر، وأنا ما بين الوردة وطائر الطنان، كثير من التحليق وبعض الرحيق.
وقال لنا: لا يعني أنكم إذا قتلتم الآن قد لا تعيشون للأبد.
وأضاف: إن الأبد لا وجود له إلا في مخيلته ذاتها، وقال لنا: أنا وأنتم مخيلته.
وقال لنا: إن قوتي في الكلمة، وقوتكم في الكلمة، وقوة الكلمة في أن تقال، وأن تسمع، وأن تخترق حواجز المادة والروح، وأن تحقق ذاتها في معنى ما تحمل وقول ما يشاء قائلها، والكلمة بدون مشيئة خير منها الصمت، وقد يسمع الصمت أحيانا.
عندما ذهبت الدجاجات الكثيرات، وهي المخلوقات الوحيدة التي استيقظت من موتها، في تلك الجمعة التي أحيا فيها الرجل أربعين رجلا وامرأة وطفلا، قال لنا: فلنذهب لننام.
كان الكهف صغيرا جدا في الماضي، ولكنه يتسع كل مرة ليسع كل من يدخله، كان المؤمنون به 15 رجلا وامرأة واحدة، الآن هم 66 جنديا نظاميا وقائدهم الميداني، إبراهيم خضر إبراهيم، 104 من النجارين وأشباه النجارين، وملايين الرجال والنساء في شتى أنحاء الكون قد لا يرونه وقد لا يلتقي بهم؛ لأن الإيمان به لا يتطلب شيئا، فقط أن تسمع به، لا أكثر؛ لأن أفكار الرجل هي من الطبيعة ذاتها، هي ما يكمن في ذات كل إنسان ومخلوق آخر من حقيقة، فالإيمان به كالكفر به كما قال، كلاهما درجة من المحبة؛ بالتالي قد يؤمن به حتى من يجهله جهلا كاملا.
شكا البعض من ظلمة المكان، فقال لهم: لا تتضجروا من الظلام، بل أضيئوا المكان.
وهنا كان الدرس الأول في الكلمة التي أصبحت نورا، الكلمة التي أطلقها أحدنا، أو أنها انطلقت من ذوات كثيرة متعددة، هو لم يكن من بينها. كان المؤمنون به يتعلمون كثيرا منه ولكن ببطء شديد. في تلك الليلة جاءت المرايم الثلاث: مريم أمه، مريم كويا خالته وهي أم يحيى، ومريم الأخرى؛ أي جارتهم التي يطلقون عليها لقب مريومة، وهو للتصغير والتدليل. جاءوا في صحبة الأب يوسف النجار وفي صحبتهم أيضا لفيف من سكان مدينة نيالا، من بينهم العمة خريفية والعم جمعة ساكن نفسه، وامرأة مجنونة تبحث عن أطفال لها قتلهم الجنجويد ستجدهم هنا، أطفال وطفلات رجال ونساء، يحيى ليس من بينهم، تقول أمه إنه هائم بوجهه في البراري منذ شهور كثيرة، يطلق لحيته، ويطعم الجراد والعسل، يعيش وهوام البراري جنبا لجنب.
علينا أن نذكر أيضا أن الأربعين إنسانا الذين أحياهم من موتهم، ما زالوا نائمين في بيوتهم، لقد مضوا نحو منازلهم مثل السكارى يترنحون، بينما ينمو اللحم على عظامهم التي التأمت واستقامت وانتصبت وتهيأت لأن تكون، تنبني الأعضاء التي بترها الجنجويد والأحشاء التي مزقتها بنادقهم، تعود للمغتصبات بكارتهن، للأطفال الطمأنينة ودفء الأسرة. قال إنهم سينامون بقدر الزمن الذي كانوا فيه أمواتا، ثم ينهضون ليعيشوا كما نعيش نحن الآن.
ثم تحدث عن الموكب قال: استعدوا للموكب.
وما كان أحد منا يعلم ما هو الموكب، ولكن الجميع كانوا على أهبة، إنهم يدركون.
قال لنا: ما المسافة بين الحياة والموت؟
قال لنا: ما المسافة بين الحي والميت؟
قال لنا: هل مات الميت؟
قال لنا: إن الكلمة هي أن تعي الواقع وتعيشه ولا تنفصل عنه، وتعمل من أجل الأحياء والأشياء، فما نحن إلا ما نفعل من أجل الاثنين، ثقوا في الإنسان الذي فيكم، ثقوا فيه جيدا، ضعوا كل ثقتكم فيه، هو محل لها، محلها الوحيد الأبدي والنهائي، ولا تؤمنوا بالمثل الذي يقول لكم: لا تضعوا البيض في سلة واحدة، أقول لكم: ضعوا بيضكم كله في سلة الإنسانية، وسوف تربحون الجمال.
وقال لنا: الموكب الموكب.
وقال لي: يا إبراهيم، لا تؤمن بي بعقلك ولا بقلبك ولا بظنك ولا بالليل والنهار، بل تقبلني بأمك كما أتقبلكم الآن جميعا بأمي مريم.
وقال لنا: أعدوا للموكب عدته.
ولا يعلم أي منا ما هي عدة الموكب، لكننا كنا ندركها ونعدها جيدا، وهو يرى ويعرف ويبتسم، عندما نعسوا ناموا، ناموا في المكان الضيق الذي وسع الجميع، راعى خصوصيات كل فرد منهم، الأطفال والطفلات وجدوا لبنا لعشائهم، النساء الجميلات المؤمنات وجدن كل ما يخصهن ويحتجن إليه في اللحظة والحين، الرجال وجدوا المكان مهيأ كما لو أنه كان يخصهم وحدهم، عيسى ود مريم كان هنالك، مختلطا بالآخرين ، يشبه الجميع، يعرف الجميع بأسماء أمهاتهم وآبائهم، مريم الحبيبة تتبعه أينما ذهب، تحرص على راحته، كان يناديها قائلا: حبيبتي مريم.
وهي ترد إليه ب: سيدي ابن الإنسان.
والأغرب في الأمر، في النوم، أنهم جميعا حلموا حلما واحدا، حلما شاسعا وكبيرا، كان الموكب العظيم ينطلق من المغارة ذاتها، تتقدمه المرايم والنساء الكثيرات اللائي قدمن من نيالا وكاس وزالنجي مؤمنات ومحبات، كان الصدق الذي في قلوب النساء يضيء طريق الموكب، ثم السيد عيسى ابن الإنسان ود مريم، كل شخص كان يحمل صليبه، صليبه الثقيل جدا، الذي يزداد ثقلا كلما التصق بجسد حامله واستنشق أنفاسه، قال لهم: احملوا صلبانكم واتبعوني، فمن لا يستطيع أن يحمل صليبه لا يستطيع الطيران، ولن يجد الكلمة، وكلما ثقل صليبك مررت خفيفا كالريشة في الهواء.
وهتف فينا بمرح جميل: الموكب الموكب.
هتف الجميع: المهرجان الموكب.
وكانوا يرغبون في الطيران، يرغبون فيه بشدة وحب ووعي، والصلبان ثقيلة كأنها قد قدت من الحديد الصلب، كانت ثقيلة وتثقل كل لحظة، كانوا يمضون بها وهي على ظهورهم، التي تدمى من الاحتكاك بها، وعظامهم الحزينة البائسة تطق من حمل الصلبان، وأرجلهم تتلوى تحت ثقلها، وبطونهم تضج، ورءوسهم تدور، وعيونهم تحمر، صدورهم تعرق، ولكن قلوبهم تخضر وتورق وتثمر مثل حدائق مباركة في جنة من الروح والياسمين.
وقال لهم: صليبك صليبك وأنت أولى به.
الموكب الذي انطلق من ذات الكهف كان يتوغل في الأمكنة، يعبر الأراضي الصحراوية وشبه الصحراوية، والغابات والوديان المخضرة. عندما يمر بالقرى المحروقة تنهض البيوت من رمادها، تتطهر آبارها من السم، تنمو الأشجار التي قطعت، الأواني المهشمة تقوم من حطامها وتصير كما كانت، الماشية والطيور والأرانب البرية، الذئاب، المدارس، الحدائق، الجوامع، الشوارع، الصحاب، كل شيء يعود كما كان، يحيى القتلى من قبورهم، ومن لم يقبر، نفض عن نفسه الغبار والعشب وقام، حمل صليبا وتبع الموكب، كانوا لا يدرون إلى أين يسير الموكب، ولكنهم كانوا يعرفون أنه يسير لوجهة ما؛ وجهة كلها خير، إذا لم تكن نحو الجمال، فالموكب يدري وجهته. على الرغم من ثقل الصلبان كانوا يحسون كما لو أنهم يطيرون، يحلقون عاليا في السماء التي مثل أحضان أم عظيمة لا نهائية تضمهم إليها وتبتسم.
عبد العزيز بركة ساكن
خشم القربة، الخرطوم
2008-2012
Bilinmeyen sayfa