الاستدلال بهذه الآية موقوف على أن يكون ضمير لا يمسه راجعا إلى القرائن وهو مسلم لجواز رجوعه إلى كتاب مكنون كما جوزه بعض المفسرين بل هو أقرب لقربه ويكون المعنى أنه لا يطلع على الكتاب المكنون أي المستور المصون أما عن الناس أو عن التغيير والتبديل أو الغلط والباطل أو التضييع والمراد به اللوح المحفوظ كما قال المفسرون إلا الملائكة المطهرون من الكدورات الجسمانية أو أدناس المعاصي وقد يضعف هذا الاحتمال بوجوه أحدها إن قوله تعالى لا يمسه حينئذ يكون تأكيد لقوله تعالى مكنون والحمل على التأسيس أولى وبما ذكرنا من الاحتمالات في معنى المكنون يظهر لك الجواب عنه وثانيها أن اطلاع الملائكة على اللوح المحفوظ غير ثابت بل في بعض الأخبار وكلام بعض الأخيار ما يدل على خلافه وفيه أن عدم ثبوت اطلاعهم على اللوح المحفوظ لا يكفي في هذا المقام بل لا بد من ثبوت العدم وإلا لكان منعا على المنع وما وقع في بعض الأخبار على تقدير وقوعه يمكن أن يكون المراد منه عدم اطلاعهم بدون الاذن منه سبحانه وثالثها أن سياق الكلام لاظهار شرف القران وفضيلته لا اللوح وما فيه وفيه أن ثبوته في اللوح الذي لا يمسه إلا المطهرون شرف وفضيلة أيضا إلا ترى إلى قوله عز وجل في كتاب مكنون فإن كان كونه في كتاب مكنون شرفا وفضيلة لكان هذا أيضا شرفا وفضلا بالطريق الأولى وإن لم يكن ذلك شرفا فقد بطل مبني لاعتراض من أن سياق الكلام لاظهار شرف القرآن وفضله كما لا يخفى ورابعها أن قوله (عليه السلام) بعد هذه الآية متصلا بها تنزيل من رب العالمين صفة للقرآن بمعنى المفعول أو من قبيل الوصف بالمصدر من باب المبالغة إذ لما لم ينزل نجوما من بين الكتب السماوية سواه فكأنه هو التنزيل لا الكتاب لأنه المنزل دونه وقوله سبحانه كريم وفي كتاب مكنون أيضا صفة له فينبغي أن يكون لا يمسه أيضا صفة له وإلا لم يحسن التوسيط وفيه أنه إذا كان لا يمسه صفة لمكنون يكون من جملة متعاقبات الصفة الثانية ومتمماتها فكان مجموع هذا الكلام صفة واحدة فلم يكن توسيطا غير مستحسن مخلا بحسن الكلام وبلاغته إلا ترى إلى توسيط مكنون مع أنه صفة الكتاب ودفع هذا الاعتراض بمنع كون تنزيل من رب العالمين صفة لجواز كونه جملة برأسها معطوفا على جملة أنه لقرآن بحذف المبتدأ أو يكون خبرا لأنه وكذا القول في لا يمسه وفي كتاب ليس بشئ إذ على هذا التقدير أيضا يكون في كتاب وتنزيل من جملة أحكام القرآن وأحواله فلا يكون توسيط حال غيره مناسبا كما لا يخفى وخامسها أنه يلزم حينئذ ارتكاب المجاز في المس وهو ظاهر وكذا في المطهرون لأن الطهارة حقيقة شرعية في الوضوء وهو خلاف الأصل وفيه إنا لا نسلم أن الحمل على الحقيقة مطلقا أولى من الحمل على المجاز إلا ترى أن علماء البلاغة أطبقوا على أن المجاز أبلغ من الحقيقة وأيضا ثبوت الحقايق الشرعية مسلم ومع تسليمه لا نسلم أن حقيقة الطهارة الوضوء بل يجوز أن يكون انتفاء الحدث أو الخبث ولا شك في تحقق هذا المعنى في الملائكة أيضا وأيضا ارتكاب المجاز في حمل الخبر على الانشاء كما ارتكبتم في الاستدلال ليس بأولى من ارتكاب هذا المجازين إلا أن يقال أنه مجاز واحد وهذا مجازان ثم على تقدير تسليم رجوع الضمير إلى القرآن نقول أن دلالتها على المطلب أيضا غير تمام إذ يجوز أن يكون اتصافه بأنه لا يمسه إلا المطهرون باعتبار أصله الذي في اللوح كما أن اتصافه في كتاب مكنون أيضا كذلك وأيضا يجوز أن يكون المراد والله أعلم أنه لا يعلم حقايقه ودقايق وأسراره إلا المطهرون من الذنوب وهم أصحاب العصمة (عليه السلام) وعن جنيد المطهرون أسرارهم عما سوى الله تعالى وفي بعض التفاسير عن محمد بن الفضل المراد لا يقرء القرآن إلا موحد وعن حسين بن الفضل لا يعلم تفسيره وتأويله إلا المطهرون من الكفر والنفاق وأما حديث لزوم مجازية المس والطهارة حينئذ فقد عرفت جوابه على أنه على تقدير تسليم حمل المس على حقيقته وثبوت الحقايق الشرعية وحمل الطهارة على حقيقتها لا نسلم أن الطهارة حقيقة شرعا في رفع الحدث الأصغر أو جميع الاحداث إذ يجوز أن يكون حقيقة في رفع كل حدث وكذا في رفع الخبث أيضا فحينئذ يجوز أن يكون المراد بالمطهرون المطهرين من الحدث الأكبر والنجاسة ثم لو سلم أن المراد الطهارة من الحدث الأصغر أو جميع الاحداث فلا نسلم أن النهي ها هنا للتحريم وما يقال أن ظاهر النهي التحريم (فعلى تقدير تسليمه إنما يسلم في أن يكون تصريح مبتغيه النهي فقط لا فيما يكون نفيا مستعملا بمعنى النهي أيضا والقول بأن التحريم) أقرب المجازات إلى النفي ممنوع هذا ثم أنه قد يمسك في إفادة الآية الكريمة لمطلوبهم ورفع الاحتمالات السابقة بما رواه الشيخ (ره) في التهذيب في أواسط باب حكم الجنابة وفي الاستبصار في باب أن الجنب لا يمس المصحف عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال المصحف لا تمسه على غير طهر ولا جنبا ولا تمس خطه ولا تعلقه أن الله يقول لا يمسه إلا المطهرون وفي بعض نسخ التهذيب خيطه وهذا بالحقيقة استدلالان أحدهما من حيث دلالة الرواية في نفسها على المطلب والاخر من حيث دلالتها على أن المراد من الآية الكريمة هذا المعنى فيتم الاستدلال بها وفي هذا التمسك أيضا نظر من وجوه أحدها أن الرواية غير نقية السند جدا لان فيها جعفر بن محمد بن حكيم وهو غير موثق ولا ممدوح وجعفر محمد بن أبي الصباح وهو مجهول وعلي بن الحسن بن فضال وهو فطحي وإبراهيم بن عبد الحميد ونقل الشيخ أنه واقفي وثانيها أنه يمكن أن يكون لا يمسه في الرواية نفيا لا نهيا وقد عرفت حال النفي الذي بمعنى النهي وعدم ظهوره في التحريم فيجوز أن يكون للكراهة وثالثها أنه على تقدير أن يكون نهيا لا نسلم أن الأمر والنهي في أحاديث أئمتنا (عليهم السلام) للوجوب والحرمة وإن سلم أن صيغة الأمر والنهي لهما لشيوع استعمالهم (عليهم السلام) هاتين الصيغتين للندب والكراهة كما يظهر من تتبع آثارهم (عليهم السلام) فيكون مجازا شايعا بالغا حد الحقيقة أو منقولا وعلى التقديرين لا يجب
Sayfa 12