ولا بد أن يسأل القارئ عن السبب الذي حمل حكومة الولايات المتحدة، بعد أن تم مائة عام على استقلالها، على جعل هذه المدينة مقر الاحتفال بذلك العيد العظيم، ومركز المعرض العام الذي بني لهذه الغاية، فنخبره أن هذه المدينة كان لها اليد الطولي في حرب الاستقلال المشهورة؛ لأن الجمعية التي قررت محاربة إنكلترا في ذلك الحين عقدت في فلادلفيا، وهنالك وقع نواب الأميركان على قرار الاستقلال رسميا في 4 يوليو من سنة 1776، وهو اليوم الذي يعتبره الأميركان في كل زمان ومكان يوم عزهم وبدء حياتهم، ويجعلونه عيدهم الوطني الأكبر، ولما انتخب القائد جورج واشنطن رئيسا أول للجمهورية الأميركية بعد استقلالها كان مركزه ومركز الجمعية العمومية في هذه المدينة أيضا، وظل الحال على مثل هذا حتى بنيت مدينة واشنطن، وهي العاصمة الحالية، ونقلت الإدارة إليها في سنة 1797، ولم يزل المنزل الحقير الذي أمضي فيه قرار الاستقلال في فلادلفيا على حاله، والأميركان يحتفظون به ويعدونه أجل آثارهم، وفيه أدوات استعملت في ذلك القرار، منها الكراسي التي جلس النواب وواشنطن عليها، والمنضدة التي وقع فوقها، ومقاعد وبعض الرياش كانت يومئذ في ذلك البيت، وأقلام وجرس رن في ساعة مشهورة علامة الإجماع على المناداة بالاستقلال، وعلم كتب عليه بالإنكليزية عبارة معناها «احذر أن تطأني»، وصور الرئيس والأعضاء الاثني عشر، ورسوم الثلاث عشرة ولاية التي نالت الاستقلال، وغير هذا كثير مما تعده الأمة الأميركية كبيرا غالي الثمن.
وأما مشاهد هذه المدينة العظيمة فكثيرة تستحق الوصف، صحيح أنه ليس فيها ولا في غيرها من مدائن الولايات المتحدة ما يقرب من كنائس أوروبا المشهورة، مثل كنائس رومة وكولون وميلان وستراسبورغ التي مضى عليها مئات من السنين في زيادة وتحسين، ولكن الأميركان كما قلنا أهل حماس وغيرة، وهم يحاولون سبق أوروبا في كل باب ومطلب، وقد أوجدوا من غرائب المشاهد ما ذكرنا بعضه، ومنه قصر المجلس البلدي في هذه المدينة كله من الرخام الأبيض الجميل، وقد أشغل بناؤه 12800 متر، وفيه 750 غرفة معدة لأعمال المجلس البلدي والمجالس المحلية والاستئناف، ويبلغ ارتفاعه 510 أقدام، وفوقها تمثال المستر بن مؤسس المدينة. ويلي هذا بناء فخيم للماسون أنفق عليه ثلاثمائة ألف جنيه، ويقول الخبيرون إنه لو بناه غير هذه الفئة؛ لأنفق عليها فوق هذا المال الكثير. ومن هذه المشاهد مركز البوسطة، وهو بناء عظيم من الرخام الأبيض أيضا بلغت نفقاته مليون جنيه، ومنها مدرسة كبرى تعرف باسم مؤسسها جيرار ولها شهرة واسعة يقصدها طلاب العلم من شاسع الأقطار، وكان المسيو جيرار هذا رجلا فرنسيا رحل إلى الولايات المتحدة وهو فقير؛ فأثرى وجمع مالا طائلا ثم عاد إلى بلاده وهو يضمر الخير لأقاربه الفقراء، وقد عزم على إعطائهم بعض ماله، ولكنه تنكر وجاءهم بلباس الفقراء فنفروا منه وتبرءوا من قرابته، ونصحوا له أن يعود إلى حيث أتى، فلما رأى الرجل هذا من أقاربه أظهر حقيقة أمره وعدل عن إمدادهم بالمال، وشعروا بذلك فجعلوا يعتذرون ويتقربون، ولكنه لم يقبل لهم عذرا وأعلنهم أنه عائد إلى حيث أتى، فعاد إلى فلادلفيا وتوفي فيها سنة 1750 وترك ثروته وقفا لمدرسة بنيت وسميت باسمه، وفيها الآن نحو ألفي تلميذ، ولا تقل الأموال والعقارات الموقوفة لها عن ثلاثة ملايين جنيه.
ولهذه المدينة حديقة من أكبر حدائق الأرض وأجملها، تبلغ مساحتها 2800 فدان، وهي تمتد مسيرة أربعة أميال على ضفة نهر سكولكل، ولها بذلك رونق وبهاء كثير، وكنت أتردد على هذه الحديقة وغيرها من مشاهد المدينة وأنا أستعد للمعرض الذي جئت من أجله، فلما رأيت أن الفندق الذي كنا فيه بعيد عن محل المعرض انتقلت إلى منزل أقرب منه إلى المحل المقصود، وجعلت أتردد على محل اللجنة المفوضة بالنظر في أمور العارضين وأبضعة الممالك والولايات، أحرر القوائم اللازمة حتى فرغت من الاستعداد وقرب يوم افتتاح المعرض، وحصل لي في ذلك المنزل نادرة غريبة وهي أن في كل منزل سلكا يتصل بإدارة الأولاد السعاة الذين سبق ذكرهم، إذا ضغط صاحب المنزل أو من فيه على زر كهربائي في طرف السلك دق جرس في إدارة السعاة فحضر أحدهم لقضاء المطلوب، وكان عندي كتاب في ذلك اليوم أريد إرساله إلى أحد الأصدقاء فضغطت على الزر، ولما أبطأ الساعي في الحضور ضغطت مرة ثانية وثالثة، فما مضى على ذلك زمان حتى رأيت العربات المعدة لإطفاء الحريق ومعها المضخات والطلمبات يسوقها الرجال المتمرنون بملابسهم المعروفة وخوذهم النحاسية جاءوا إلي يستعلمون عن محل الحريق، فقلت إنه لم يحصل ذلك على ما أعلم، قالوا إنك طلبت أدوات إطفاء النار بالضغط على الزر ثلاثا وأوضحوا لي حينئذ أن الضغط على الزر مرة معناه طلب الساعي، ومرتين طلب البوليس لضبط واقعة، وثلاث مرات طلب الرجال والأدوات لإطفاء النار، وكان ذلك أول عهدي بهذا النظام.
ويذكر القارئ أن المغفور له توفيق باشا - رئيس لجنة المعرض الذي نحن في شأنه - كان قد كلفنا إرسال تقرير إليه كل 15 يوما، فأنا قمت بهذا الأمر وأرسلت أول التقارير بعد أن رأيت المعرض قبل افتتاحه، وأرسلت معه رسوما وجرائد وجعلت ذلك دأبي كل 15 يوما، وقد أسعدني الحظ بورود كتب بخط يده الكريمة إلي ردا على تلك التقارير، وهي إلى الآن عندي حفظتها كنزا ثمينا، ووردت الصناديق التي وضعت فيها المعروضات المصرية قبل غيرها فسر لذلك مدير المعرض، وسهل لنا الطرق لترتيبها في مواضعها، وكان نواب الأمم يتواردون واحدا بعد واحد، والناس يدعونهم على الولائم الحافلة، حضرت منها في أول الأمر وليمة حضرها من النواب غيري النائبون عن مملكتي الصين واليابان؛ لأنهم جاءوا فلادلفيا عن طريق البحر الباسفيكي، فلما كان الصباح التالي لهذه الوليمة وفد علي مكاتبو الجرائد الكبرى يطلبون الاستعلام عما سيكون في معرضنا المصري من التحف والآثار، فأعطيتهم ملخص الكشف العمومي ونشروه في جرائدهم، ومن ذلك الحين كثرت علي الدعوات والزيارات من أعظم العائلات حتى إن أيام الأسبوع لم تعد تكفيني لإجابة كل الدعوات، لا سيما وقد اشتهر الأميركان بالكرم وحب الغريب إذا كان من بلاد بعيدة مثل مصر لها شهرة بآثارها القديمة، وتميل نفوسهم إلى سماع أخبارها ووصف مناظرها. والآن أتقدم إلى وصف المعرض العظيم الذي ذهبنا إلى فلادلفيا من أجله، وأجعل الاختصار خطتي في وصفه؛ لأن التطويل لا يمكن في هذا المقام.
المعرض
علمت مما مر بك أنه لما مر مائة عام على استقلال الولايات المتحدة أنفق أهلها على الاحتفال بذلك احتفالا باهرا، ودعوا ممالك الأرض ودولها إلى إرسال من ينوب عنها في حضور معرض أقيم لهذا الغرض، وفي عرض ما تريد من الآثار أو الأشياء الدالة على منزلتها، وقرروا أن يظل المعرض ستة أشهر من أول مايو إلى آخر أكتوبر من سنة 1876. ولما كنت من المندوبين المصريين لحضور الاحتفال والمعرض توجهت لمقابلة مدير هذا المعرض بعد وصولي إلى مدينة فلادلفيا بقليل وأطلعته على أوراق تعييني وتداولت معه طويلا فيما يلزم للقسم المصري، وفي اليوم التالي جاءني هذا المدير مع كاتب يده العام ورد لي الزيارة، وأخذني معه إلى الحديقة الكبرى التي بني فيها المعرض ومر ذكرها، فذهبت ورأيت أرض المعرض، وهي داخل دائرة يحيط بها سور ومساحتها 236 فدانا، منها الأرض المخصصة لعرض البهائم، ومليونا قدم مربع لأصحاب الأبضعة المطلوب عرضها على الزائرين والمتفرجين، وكان في ذلك المعرض أبنية فخيمة خصصت كل منها لغرض معلوم، منها الأبنية الآتية: (1)
القسم العمومي في بناء فخيم، مساحة أرضه 21 فدانا، وطوله نحو 1880 قدما، وعرضه 464 قدما، وعلوه 70 قدما، وفيه قسم لكل حكومة خارجية دعيت للاشتراك في هذا المعرض، وفي جملتها القسم المصري. (2)
قسم الآلات الصناعية و«الماكينات»، مساحة أرضه 14 فدانا، وطوله 1402 قدم، وعرضه 360 قدما، وارتفاعه 70 قدما، وهو محاذ للقسم العمومي كأنهما بناء واحد طوله 3824 قدما. (3)
قسم الزراعة مساحته عشرة أفدنة، طول بنائه 820 قدما، وعرضه 125. (4)
قسم النبات في فدان واحد من الأرض، طول بنائه 283 قدما، وعرضه 193، وعلوه 72. (5)
Bilinmeyen sayfa