وذهبت بعد هذا إلى مدينة شافهوسن؛ لأرى شلال الرين فيها، وهو أكبر شلالات أوروبا، وقد كان السفر ما بين هاتين الجهتين حلوا شهيا توفرت فيه المناظر المطربة للنفس حتى إذا وصلنا شافهوسن أخذنا غرفة في فندق بني إلى جانب الشلال، ونافذة الغرفة تطل على مياهه المرغية المزبدة ولها تأثير في النفس يفوق التعريف، فإنها كانت تنحط من عل هاوية في الفضاء ولها دوي يصم الآذان كأنما يد القدر تصبها صبا فوق صخور قويت على صدماتها القرون الطوال، وهي إذا ما ماست الصخور لطمتها وصدمتها من كل جانب فترغي وتعج وتموج مضطربة، ثم تدور من حول الصخور وتسرع المسير مرعدة مرغية فيسمع دويها الهائل من بعد باعد، وإذا تأملتها عن كثب كما فعلت تاهت أفكارك وحرت فيما ترى من قوة ذلك المشهد العظيم وتأثيره الشديد. ولقد نزلت غرفة من الزجاج بنيت فوق المياه المتلاطمة المتصادمة، ووقفت في حجرة منحوتة بالجبل، ترى منها منظر الماء من وراء الزجاج الملون غريبا حتى إنك لتظن السيل أحمر أو أخضر أو أزرق حسب لون الزجاج، ونزلنا غرفة أخرى يكاد الواقف في إحدى نوافذها يماس الماء المنحدر، وسرت بعد ذلك في طرق متعرجة بين الصخر والشجر والماء تصطدم أمواجه من دوننا حتى أتينا موقفا كانت الزوارق مستعدة فيه لنقلنا فدخلناها وارتدينا أردية من الجلد فوق ملابسنا حتى تقيها من الماء المتناثر عند الاصطدام بالصخور، فسارت هذه الزوارق في الماء المضطرب تتثنى وتتفتل مجاراة للتيار الشديد حتى وصلت صخرا عظيما شاهق الارتفاع، وارتقينا قمته فإذا هو في وسط غريب المجال تصدمه جيوش الماء وتقلقله، وقد خافت الحكومة عليه من السقوط فقوته ببناء متين، فإذا وقفت في ذلك الموضع البديع ترى الماء من دونك في هياج عظيم والسيل ينحدر منه في عرض 130 مترا ومن علو 40 مترا، فيكون لوقعه اصطدام هائل بتلك الصخور. ولسيره في الوادي بعد ذلك السقوط منظر كثير الغرابة يقصده السائحون من بعيد الجوانب. ولما أرخى الليل سدوله خرجت على جسر بني فوق الشلال فانتهينا إلى حانة منظمة بنيت فوق ذلك السيل الطامي، ورأيت هنالك مناظر يعجز عن وصفها القلم واللسان؛ لأن أصحاب الحانة جعلوا يحولون أشعة النور الكهربائي على ذلك الشلال ويلونونها بالألوان المختلفة، فتارة ترى الماء قناطر خضراء تزري بالسندس وهي تعلو وتهبط وتتناثر فيتكون من اصطدامها وهبوطها وجريها واضطرابها مناظر تخيل لك أنك في أرض مسحورة أو أن الجن جاءوا بمعجزاتهم وهم يعرضونها عليك، وطورا ينقلب لون الماء فيصير أحمر بلون الياقوت أو أصفر أو أزرق أو مختلف الألوان، فكأنما الآلهة تضافرت على إيجاد جبال من الماء الجاري بهذه الألوان البديعة تراها كل لحظة على شكل من الأشكال، ولا سيما إذ ينحدر السيل من ذلك العلو الشاهق، وما أظن أن الذين وصفوا النعيم والفردوس من فلاسفة الأولين فطنوا إلى ما يقرب من هذا العز الفاخر والحسن الباهر، وزاد المشهد جمالا أنهم وضعوا بعض المفرقعات النارية في وسط الصخور تصدمها المياه ثم أوصلوا إليها شرارة كهربائية فالتهبت وتطايرت في الفضاء، هذه تنقض شهابا لامعا وتلك تحلق في السماء نيزكا ساطعا، وهذه تتناثر قطعها الملتهبة تناثر الدر والمرجان، وهذه تشق كبد السماء وقلبها يتوقد نارا حتى إذا بلغت من العلو مكانا فقعت وأضاءت على أشكال تروق للناظرين.
وبرحت هذا الموضع للسياحة في نهر الرين فركبت باخرة من بواخره قامت تمر على تلك الضفاف البهية، وهي تقف مرة في الشمال ومرة في اليمين، وتجتاز ما لا يعد من الحزون الشماء والمروج الخضراء والهضاب الحسناء والعمائر متواصلة البناء. وكان في جملة ما رأيناه محطة ستوكبرن اتسع نطاق النهر عندها حتى صار بحيرة بهية الضفاف وقام من فوقها جبل بني على قمته قصر كان لهورتانس والدة نابوليون الثالث، وهو الآن ملك أرملته الإمبراطورة أوجيني، ورأينا أيضا بلدة كوتلين وفيها قلعة سجن فيها يوحنا هوس المصلح الشهير وجيروم تلميذه؛ لأنهما خالفا العقيدة الكاثوليكية - وسنعود إلى ذكرهما - وظلت الباخرة دائبة في السير متنقلة بين أبهى المناظر وأشهاها مدة ثمان ساعات انتهينا في آخرها من السباحة في سويسرا، ودخلنا بلاد الألمان فزرنا عدة مدائن، منها: «كونستانس» وهي قاعدة إمارة بادن من إمارات ألمانيا، بنيت على ضفة بحيرة عظيمة تعرف باسمها وتعد البحيرة ملكا شائعا؛ لأنها الحد الفاصل بين أملاك سويسرا والنمسا وألمانيا، وهي كبيرة مساحتها 210 أميال مربعة وكل جوانبها آيات في الإتقان والجمال الطبيعي وبلدان تتصل بأطراف النمسا وألمانيا؛ ولهذا ترى بواخر الدول الثلاث تجول في جوانبها وقل أن يمر عام ولا يجيء الملوك والأمراء العظام من الدول الألمانية وسواها إلى هذه البحيرة البديعة، وقد يشتد هبوب الريح في بعض الأحيان فتنقلب هذه البحيرة الصافية إلى بحر عجاج تعلو في جوانبه الأمواج، وفي فصل الشتاء يتجلد من هذه البحيرة قسم كبير فيصير مضمارا على القباقيب.
وقد قصدت البناء الذي عقد فيه مجلس كونستانس لمحاكمة يوحنا هوس السابق ذكره لاتباعه طريقة الإصلاح البروتستانتية ومخالفة الكنيسة اللاتينية سنة 1415ه، وهو مجلس له شهرة في تاريخ أوروبا؛ لأن أفواج الناس تقاطرت لحضوره من كل حدب بعيد، وكان رئيس ذلك المجلس البابا يوحنا الثالث عشر ومن أعضائه الإمبراطور سجسموند و26 أميرا من أمراء الدولة الألمانية و140 كونتا و20 كردينالا من كبراء الكنيسة الكاثوليكية، و90 أسقفا وآخرين من خدمة الدين، فكانت جملة الحاضرين أربعة آلاف رجل، هؤلاء حاكموا الرجل ولم ترق لهم أساليب دفاعه وحكموا بإعدامه؛ لأنه خالف تعاليم الكنيسة البابوية فأحرق الرجل حيا جزاء تصريحه بما يعتقد، وكان الإمبراطور سجسموند يوده وقد ضمن له الحياة ولكنه لم يقو على مخالفة البابا وذلك الجمهور فأسف لما أصابه، وقد قام أنصار هذا المصلح بعدئذ وبنوا له قبرا في ضواحي كونستانس سرنا إليه في طريق جميل يظلله شجر الحور والصفصاف وإلى الجانبين منازل تحيط بها البساتين والحدائق البديعة وقد تدلت الأثمار اللذيذة من الأغصان، وراق ذلك المنظر للعيان حتى إذا انتهينا إلى القبر في الخلاء رأينا حجرا واحدا كبيرا أحيط بسياج من الحديد، وفوق القبر أكاليل من الزهر وضعها بعض أنصار هوس من طائفته، وقد كتب على الحجر من أحد جانبيه «يوحنا هوس سنة 1415»، وعلى الجانب الآخر «جيروم سنة 1416»، وعدت بعد أن شهدت هذا المشهد المؤثر إلى كونستانس مفكرا في فعال الإنسان وأمور هذا الزمان.
وقمت من مدينة كونستانس إلى جهة الشمال فمررت بالغابات السوداء، وهي لها شهرة في أوروبا، وكان القطار مدة سيره يجتاز بنا الجبال مرة في نفق تحت الأرض ومرة يدور ملتفا حول الجبل، وأذكر أني حسبت 25 نفقا دخلها القطار وخرج منها في مدة ساعتين، وهذا قليل مثله في خطوط الحديد الأخرى، والسائح في هذا القطار يرى عشرات من قمم الجبال القريبة لكل منها منظر يختلف عن منظر القمة الأخرى، وما مر في تلك الغابات السوداء أحد إلا وهو معجب بفرط بهائها وغرابة أشكالها، وقد ظللنا سبع ساعات في هذا النعيم حتى بلغنا مدينة: «ستراسبورغ» وهي عاصمة ولاية الألزاس كانت تابعة لألمانيا ثم اغتصبها الفرنسيس وضموها إلى مملكتهم في حرب الثلاثين سنة التي سبقت الإشارة إليها، وكان ذلك سنة 1680، وظلت من أملاك فرنسا حتى حربها الأخيرة مع بروسيا سنة 1870، حيث ضمت إلى ألمانيا وصارت جزءا منها، وكان الألمانيون كل مدة استيلاء الفرنسيس عليها يعدون النفس باسترجاعها حتى إن أحدهم أنبأ في كتاب له بينا كان الفرنسويون يبنون الحصون فيها والقلاع بمجيء يوم تدك المدافع الألمانية تلك الحصون وتعيد المدينة إلى أصلها الألماني فكان الذي قاله. ولما وصلنا المدينة ونزلنا من القطار إلى محطتها الواسعة رأينا في صدر القاعة الكبرى من هذه المحطة صورة القيصر ولهلم الأول جد القيصر الحالي ومن ورائه ولي العهد وأركان الحرب وكبراء الدولة، فذكرنا ذلك بحرب سنة 1870، وهي لا بد لزائر ستراسبورغ من تذكرها أينما سار؛ لأن المدينة ملآنة بالنصب والأبنية والأشكال أقيمت لذكر استرجاعها من فرنسا وانتصار ألمانيا في تلك الحرب العظيمة، حتى إنك لترى صور قواد الجيش الألماني وتماثيلهم منتشرة في أرجاء المدينة غير ما فيها من الثكنات الواسعة والقلاع الحصينة الجديدة، تقيم فيها ألوف الجند المدربة وهي من أكبر مراكز الجيش الألماني، وإني بعد وصولي رأيت عند المحطة ميدانا واسعا كثير الإتقان صفت فيه الأغراس ووضعت المقاعد، فترى الناس ينتابونه شأنهم في كل مكان مثل هذا للتنزه والتفرج بعضهم على بعض.
ولما كانت المدينة من المواضع العسكرية كما مر فإني أخذني الدليل قبل كل شيء إلى حصونها ومحل المعارك التي حدثت فيها مدة الحرب الأخيرة، وقد اشتهر حصار الألمانيين لهذه المدينة؛ فإنهم حصروها مدة 46 يوما قبل أن يفتحوها وطردوا الفرنسويين منها وأطلقوا عليها 193 ألف قنبلة دمرت حصونها وأوقعت الفناء في حاميتها حتى سلم القائد الفرنسي، وانتهت ويلات الحصار بدخول الجيش الألماني ظافرا وكان في جملة الذي غنمه الفاتحون 1200 مدفع و12000 بندقية و1800 حصان وأسروا 18000 رجل من جنود الفرنسيس، وقد هدمت الحصون القديمة وأنشئ مكانها طرق ومتنزهات وقصور، وبنيت حصون حديثة فاتسع ببعدها نطاق المدينة.
وكانت ستراسبورغ يوم زيارتي لها حافلة بآلاف الوافدين عليها من كل صوب؛ لأنه أقيم فيها معرض عام في ذلك العام داخل حديقة واسعة الأطراف متنوعة المحاسن ووضعت فيه أشكال المصنوعات الحديثة متناسقة مقسمة فروعا، فالآلات الميكانيكية للنقل والزراعة والصناعة على أنواعها في قسم، والمنسوجات في قسم والمفروشات في قسم، وكلها أدلة على تقدم البلاد في هذه الصناعات، ووصفها لا يختلف عن وصف غيرها من المعارض فلا أضيع الوقت عليه ، ولكنني أذكر بنوع خاص أني رأيت بناء جامع في ذلك المعرض أحكم الوضع، وبناء آخر يشبه كنيسة القبر المقدس في القدس الشريف بكل ما فيها من التحف والمصابيح الثمينة والملابس المقصبة التي يستعملها خدمة الدين، وغير هذا مما يوهم الواقف هنالك أنه في القدس وليس في ألمانيا. وكانت الأعشاب في بعض أجزاء هذه الحديقة مزروعة على نسق يقرأ منه اسم ولهلم وبسمارك ومولتكي الذين أسسوا الدولة الألمانية الحالية. وأذكر أني حال خروجي من هذا المعرض دخلت موضعا فيه مراء عديدة لا تقل عن خمسمائة صفت قطعا صغيرة بعضها إلى جانب بعض، فإذا وقف المرء أمامها رأى شكله خمسمائة مرة في كل ناحية، وذكرني هذا بمحل مثله في برلين إذا دخله الزائر ورأى صورته في كل جهة عسر عليه أن يعرف من أين يخرج إذا لم يساعده صاحب المحل على ذلك.
وفي ستراسبورغ حدائق وميادين وشوارع كثيرة وافرة الإتقان، أذكر منها ميدان جوتنبرج مخترج الطباعة، فيه تمثال من الرخام الأبيض يشرح معنى الحروف البارزة لجماعة من السائلين، وتمثال كليبر القائد الفرنسوي الذي جاء مصر مع نابوليون وكان وكيله في رئاسة الجيش ثم قتل في الأزبكية على ما هو مشهور، والرجل من أبناء ستراسبورغ ولد فيها سنة 1753 وقتل سنة 1800 كما ترى على أحد جوانب التمثال المقام له في هذا الميدان، وهو من النحاس الأصفر، وكتبوا على الوجه الثاني واقعة المطرية سنة 1800، وهي كان النصر فيها لهذا القائد على جيش الأتراك والمماليك، وعلى الوجه الثالث عبارة قالها كليبر لجنوده عند افتتاح الحرب معناها: «أيها الجنود إن الجواب الوحيد على هذه الإهانة هو الانتصار فدونكم والقتال.» وعلى الوجه الرابع عبارة معناها: «هنا بقايا ابن وطننا.» ومع أن المدينة صارت ألمانية، وكليبر كان من قواد الجند الفرنسوي فلم يتغير من هذا الأثر شيء دليل إكرام الأهالي والحكومة لذكر الأبطال. وفي المدينة ميدان آخر سمي باسم الدوك برولي الوزير الفرنسوي الشهير، فيه أحسن المباني والقصور وفي آخره الملهى الكبير، ويمكن الوصول منه إلى قصر الإمبراطور بناه الأهالي بعد الفتح الألماني على نفقتهم وقدموه هدية لقيصر ألمانيا، زرته ورأيت فيه وفي حديقته من البدائع ما يستحق الذكر ولا سيما الغرفة التي يستقبل الإمبراطور فيها وفود الناس مدة وجوده في ستراسبورغ والقسم المخصص للإمبراطورة. ويقرب من هذا القصر مدرسة جامعة لها شهرة في أوروبا حتى إنها تعد من مباني العلم الأولى في أوروبا كلها، وقد أنفقوا على بنائها 12 مليون مارك وكتبوا على صدرها من الخارج «خدمة للعلم والوطن.»
الجنرال كليبر.
ولا بد أن يكون القراء قد سمعوا بكنيسة ستراسبورغ، وهي من أشهر كنائس الأرض وأغربها، عرفت بساعة فلكية فيها تدق أشكالا وتعرف منها أسماء الأيام والأشهر وتاريخ الشهر والسنة وحالة المطر والهواء ومواقع بعض النجوم، ومن أدوات هذه الساعة تماثيل اثني عشر رسولا تنحني أمام المسيح حين تدق الساعة الثانية عشرة، وديك يصيح بعد ذلك ثلاثا، وغير هذا مما يحتاج إلى شرح طويل.
وأهل ستراسبورغ عرفوا بالجد والنشاط، وأكثرهم ألمان ولكن بعضهم فرنسويون فيكثر الخصام بين الفريقين، ولا يخشى الحزب الفرنسوي من إظهار الميل لفرنسا مع قوة الحكومة وبطشها، وكلهم يتكلمون اللغتين ولهم شهرة بالخطابة ودرس الفنون السياسية تحكي شهرة كنيستهم والثكنات العسكرية الكثيرة في مدينتهم.
Bilinmeyen sayfa