وفي صحن الجامع من الخارج مدفن السلطان سليم الثاني، وسبعة عشر من أولاده، وكذلك قبر السلطان مراد الثالث هذا وأولاده التسعة عشر.
ويقرب من هذا الجامع في الأهمية والشهرة جامع الأحمدية، بناه السلطان أحمد سنة 1610، واهتم لأمره حتى إنه كان يحضر مرة في الأسبوع؛ ليشاهد العمل بنفسه وينشط العمال؛ ولهذا الجامع ست مآذن وباب كبير دخلنا منه إلى رواق عظيم يعلوه أربعون قبة صغيرة قامت على عمد من الرخام، وفي وسطه بركة جميلة من الرخام البديع، وانتهينا من هذا الرواق إلى صحن الجامع طوله 72 مترا وعرضه 64، وفوقه قبة فخيمة قائمة على أربع عضائد ضخمة متينة، وقد نقشت عليها الآيات القرآنية، وأما المنبر فمن المرمر وقد صنع على شكل منبر الجامع النبوي في مكة، وفي قمته تاج من فوقه هلال والتاج والهلال مذهبان، وقد اشتهر هذا المنبر في التاريخ؛ لأن الأمر القاضي بإلغاء وجاق الإنكشارية في أيام السلطان محمود تلي عليه، وكان ذلك بدء انقلاب عظيم في نظامات الدولة العلية العسكرية. وفي هذا الجامع شيء كثير من الشمعدانات الكبيرة تشبه العمد منصوبة في اليمين وفي اليسار، وفوقها قناديل ضخمة ذات مناظر بديعة وله عدة شبابيك مغشاة بالزجاج الملون لا يقل عدد قطعها عن المائة، وهي زاهية الألوان عليها أسماء الصحابة، وفي سقف القبة ثريات ومصابيح وعدد كبير من بيض النعام علق بسلاسل من النحاس المذهب، وإذا أنيرت مصابيح هذا الجامع في شهر رمضان كان لنورها رونق وبهجة خاصة لا يتخلف عنها أحد من أهل الآستانة، وقد دفن السلطان الذي بنى هذا الجامع في صحنه الخارجي.
ومثل هذا يقال في جامع السليمانية بناه السلطان سليمان القانوني وجعل له أربع مآذن، وظل العمال ستة عشر عاما في بنائه، فما انتهوا منه إلا سنة 1566 وقد أخذت أدوات كثيرة له من بعض الكنائس. ولهذا الجامع قبة جميلة قطرها 26 مترا، وهي قائمة على أربع عضائد ضخمة من الرخام السماقي طولها 20 مترا، ومحيط الواحدة منها أربعة أمتار، وجدران هذا الجامع من داخلها مدهونة كلها بلون أبيض ضارب إلى الزرقة وقد حلي بعروق ورسوم من الذهب في كل جانب، فكان لمنظره بهجة تشرح الصدور، وفي جميع نوافذه وكواه زجاج ملون أتوا به من بلاد إيران، وعليه كتابات دينية، وفي صدره منبر عظيم القدر والقيمة ومصلى خاص بجلالة السلطان عليه نقوش بديعة، وفي كل جانب منه آيات بينات تشهد بالاعتناء ووفرة المال الذي أنفق عليه، وهو لا يقل عن عشرة ملايين فرنك، هذا غير الذي ينفق عليه كل سنة من أوقافه الكثيرة، وقد دفن باني هذا الجامع في ساحته من الخارج، والضريح يحيط به رواق قائم على 29 عمودا دخلناه من دهليز قائم على أربعة عمد، وفوقه قبة خضراء بديعة لها أربعة عمد من الرخام الأبيض وأربعة من الرخام السماقي. وفي القبة نقوش من الزجاج الملون تلمع وتسطع، وقد تدلت منها ثريات غاية في حسن الصناعة والبهاء، وتحت تلك القبة ضريح السلطان وأضرحة بعض خلفائه وكلها مغطاة بالشالات الكشميرية والخدم من حولها يعتنون بأمرها في كل حين.
جامع السلطان أحمد.
ولما انتهيت من رؤية هذه الجوامع المشهورة عدت إلى غلطه، ومشيت صعدا إلى أعلاها؛ لأن الآستانة أكثرها صعود ونزول - كما قدمنا - يعسر على العربات أن تسير فيها بغير قلقلة وقرقعة، فدخلت حديقة البلدية، وهي أشهر حدائق الآستانة ومقر المتنزهين من أهل غلطه وبك أوغلي (بيرا)، وفيها موسيقى عسكرية تصدح كل مساء وبعض المطاعم والحانات وموقعها جميل معروف. وبعد أن خرجت من هذه الحديقة سرت إلى شارع بيرا ، وهو قريب منها يعد أكبر شوارع الآستانة وأعظمها وأكثرها إتقانا ترى فيه من الأبنية الحديثة والمخازن الكبرى ملئت بالأبضعة النفيسة ما بين شرقية وغربية ما لا تراه في ناحية أخرى من نواحي الآستانة. وشارع بك أوغلي هذا ملتقى الهيئة الاجتماعية في الآستانة، وأكثر ما يكون وجود النزلاء الإفرنج في حاناته ومخازنه وجوانبه حتى إن بعضهم ليعده من الشوارع التي تستحق الذكر بين الشوارع الأوروبية.
ولما كان اليوم التالي عدت إلى استامبول بطريق النفق وجسر غلطه اللذين ذكرناهما، وقصدت جامع السلطان بيازيد، وهو من الجوامع المشهورة، بناه السلطان بيازيد سنة 1498. له باب من الرخام الأحمر والأبيض قائم على عشرين عمودا، ولم أزل أذكر أسراب الحمام الغريبة في هذا الجامع تعد بالألوف، وينفق على طعامها من أوقاف الجامع، ولها خدمة ينقطعون لخدمتها، وهي إذا جاء الجامع غريب التفت من حوله غير وجلة ولا حافلة حتى إنك لتمسك بعضها بيدك، وهي لا تحاول الفرار بل تتناول ما ينثر لها من الحبوب فتسر بمرآها الناظرين، ويروى من أمر هذا الحمام أن السلطان بيازيد ابتاع زوجا من فقير كان واقفا على باب الجامع، وأمر أن يكون ذلك الزوج وقفا فما زال يتناسل ولا يمسه أحد بسوء حتى بلغ ذلك القدر.
ولما تم لي بذلك رؤية أشهر الجوامع سرت لمشاهدة أثر قديم هو مسلة مصرية تعرف باسم الإمبراطور ثيودوسيوس الذي مر ذكره، وكان هذا الإمبراطور قد نقلها إلى عاصمته من معبد الشمس (هليوبولس) في المطرية سنة 390 مسيحية، وقد نصبت على قاعدة من الرخام مربعة الشكل ونقش على أحد جوانبها ثيودوسيوس جالسا على عرشه مع زوجته وأولاده، وعلى الجانب الآخر رسمه يستقبل وفود الحكام ومعهم الهدايا، وفي الجانبين الباقيين رسوم له وهو يكلل الظافر في ألعاب أولمبياد وقد صنعت هذه المسلة من الرخام الأحمر، وهي الآن في وسط ساحة صغيرة يراها كل زائر لعاصمة الممالك العثمانية.
ومن الآثار القديمة في الآستانة - أو هي أقدم الآثار التاريخية - عمود الحية، بناه الروم الأقدمون في سنة 478 قبل التاريخ المسيحي تذكارا لانتصارهم على جموع الفرس في معركة بلانا، وأنفقوا عليه مما سلبوه من جيش أعدائهم، ونصبوه أمام هيكل دلفي حيث كانوا يعبدون آلهتهم الكثيرة، وقد سمي عمود الحية؛ لأنه عبارة عن ثلاث حيات من النحاس الأصفر المذهب، كسر اثنتين منها أحد بطاركة الآستانة على عهد الإمبراطور ثيودوسيوس؛ لأنه تشاءم منهما، ولما دخل فاتح الآستانة ورأى الحية الثالثة كسرها وظل الناس من بعده يكسرون قطعا من نحاس هذا العمود، وقد أهملوا أمره فقوي على كل الأيادي التي عبثت به، وهو باق إلى الآن أقدم آثار الآستانة، وعليه أسماء 31 مدينة من مدائن اليونان القديمة، وكتابات عن حرب الروم مع الفرس في أيام داريوس وزركسيس قبل التاريخ المسيحي بنحو خمسمائة سنة.
وتوجهت بعد ذلك إلى أثر جليل، هو تربة السلطان محمود الثاني الذي ألغى وجاق الإنكشارية، وقد بني الضريح من الرخام الأبيض تحت قبة فخيمة وغطي بشال من الكشمير نفيس ووضع عند الرأس طربوش غرست فيه ريشة آل عثمان المشهورة بجواهرها. وفي ذلك المدفن قبور للبعض من آل عثمان، منهم السلطان عبد العزيز عند رأسه طربوش عزيزي من النسق المعروف، وقد غطي الضريح بشال بديع الصنع أيضا، وفي هذه التربة مصاحف قديمة العهد في جملتها مصحف جيء به من بغداد قيل إنه كتب من ألف سنة، ومن حول المدافن فقهاء يوردون الأذكار ويجودون.
وظللت على المسير من هنالك إلى صهريج العماد، وهو من المشاهد القديمة في الآستانة، حفر في أوائل الدولة الشرقية، ويقال إن أول بادئ به قسطنطين الكبير باني هذه المدينة، وكان القصد منه جمع ماء الأمطار لحين الحاجة، فإن الآستانة خالية من الأنهار الجارية، وكان أهل المدينة كلما أصابهم بلاء أو هاجمهم عدو يطمرون تحفهم وأموالهم في نواحي هذا الصهريج، ونزلت ذلك الصهريج منحدرا إلى أسفله فرأيت أنه لم يبق منه غير القليل، وقد كان له ألف عمود، بقي منها نحو مائتين، على كل منها رسم الصليب، وهي على الجملة من الآثار القديمة، ولا يبعد أن يكون فيما تردم منها بقايا ثمينة .
Bilinmeyen sayfa