الفرسان. (32)
الداماديون أو هم أصهار السلطان. (33)
طوبجية الفيلق الثالث.
وقد رجع السلطان بهذا الموكب الباهر، والناس محتشدة ألوفا مؤلفة في كل موضع مر به، وقضى ساعتين بعد خروجه من قصر طولمه بغجه حتى بلغ طوب قبو حيث تحفظ الآثار النبوية، وهنالك نزل من العربة وتبعه الأمراء والوكلاء والعلماء، فزار تلك الآثار متبركا بها، ثم رجع من هنالك إلى قصره في الطريق التي جاء منها، وبذلك انتهى الاحتفال بتتويج سلطان آل عثمان.
الآستانة
برحت أدوسا وهي آخر المدن الروسية، قاصدا الآستانة في البحر الأسود، وركبت باخرة روسية ظلت ثلاثة أيام في هذا البحر حتى وصلت أول البوسفور، فوقفت قليلا وجعلت أتأمل تلك الحصون المنيعة التي أقامتها الدولة العلية إلى جانبي البوغاز، وصوبت مدافعها إلى حيث تجري البواخر، ولما سارت الباخرة في البوسفور ظهرت بدائعه من الجانبين، سواء المناظر الطبيعية أو القصور الشماء والرياض الفاخرة التي رصعت بها جوانب الأرض، مما سنصف بعضه حتى وصلنا جسر غلطه، وهو الذي نزلنا من الباخرة إليه. وبعد التفتيش ذهبنا إلى فندق رويال في حي بك أوغلي حيث أقمت مدة وجودي في الآستانة.
وقد كان موقع الآستانة ذا شهرة من قدم، وعرف باسم بزانتيوم ورد ذكرها في القرن السادس قبل التاريخ المسيحي حين محاربة الفرس والروم، وتوالت عليها الدول، فيوما كانت تقع في حوزة الروم ويوما يملكها الفرس حتى إذا دالت دولة الإيرانيين الأولى صارت من المدن الرومية، وظلت على ذلك إلى أن فتحها قياصرة الرومان مع بقية الولايات الرومية، ولكنها لم تشتهر بشيء كبير حتى قام الإمبراطور قسطنطين الأول سنة 306 مسيحية وأعجب بموقعها، فشاد بها العمائر وجعلها مقر سلطنته وسماها «رومة الجديدة»، إلا أن الخلف أطلقوا عليها اسم الإمبراطور الذي أسس دور عظمتها، فهي تعرف باسم القسطنطينية إلى هذا اليوم.
وفي سنة 395 قسمت سلطنة الرومان هذه جزأين، أحدهما غربي عاصمته رومة، والثاني شرقي عاصمته الآستانة، فصارت هذه المدينة الجميلة مركز سلطنة كبيرة تعرف باسم المملكة الشرقية لم يشتهر عنها شيء يوجب الفخر؛ لأن الضعف كان من صفات ملوكها والفساد عم بين أهلها إلى أن قام إمبراطور اسمه جوستنيانوس في سنة 527 فأصلح بعض أمورها، وطهر حكومتها من الفساد السابق ورفع منزلة جيشها وإدارتها، ونشط العلم وأكرم العلماء، وأحيا بعض الصناعات، فدخلت المملكة الشرقية على عهده في دور جديد من الحياة، ولم تزل آثار ذلك العصر البهي يرى السائح شيئا منها في أكثر المعارض الحديثة. وحدث بعد هذا بقليل أن الإسلام انتشر في الشرق، فجاء جنود العرب عاصمة الدولة الشرقية هذه وهاجموها مرارا، ولكنهم لم يقووا على فتحها مع أنهم أخضعوا عدة أقطار كانت تابعة لها، وظلت هذه المدينة محافظة على استقلالها مع الضعف الظاهر فيها حتى حصلت الحروب الصليبية المشهورة، فمر جنود من الفرنجة بها وملكوها وأتلفوا شيئا كثيرا من عمائرها ونفائس الصناعة القديمة فيها، ثم عادوا عنها واسترجع الروم استقلالها فظلت على ذلك حتى قيام الدولة العثمانية. وكان أول من هاجمها من سلاطين آل عثمان السلطان مراد الثاني أتاها من أدرنه في سنة 1422 فلم يفلح وخلفه ابنه السلطان محمد الثاني، وهو الملقب بالفاتح، فوجه همه من يوم ارتقاء العرش إلى افتتاح هذه المدينة، وحاصرها في اليوم السادس من شهر مايو سنة 1453، ففتحها في التاسع والعشرين منه بعد قتال شديد وحرب عنيفة قتل فيها الإمبراطور قسطنطين باليولوغوس، وهو آخر ملوك الدولة الشرقية وصارت الآستانة من ذلك العهد مقر السلطنة العثمانية.
خارطة الآستانة.
ولا حاجة إلى القول إن الآستانة دخلت في دور جديد من العظمة والأهمية بعد هذا الفتح؛ لأن سلاطين آل عثمان أرهبوا أوروبا وأرجفوها، وكانت عاصمة بلادهم تعتز بعزهم فلما اشتهر أمر قوتهم الهائلة صارت هي أعظم مدائن الأرض وأشهرها، وعدد سكانها الآن مع ضواحيها مليون ونصف مليون نفس، وعني السلاطين ببناء الآثار فيها فسارت في خطة الارتقاء، وهي زينة البرين ودرة البحرين والصلة الحسنى ما بين القارتين؛ فإنها وجدت في أجمل المراكز وأمنعها، إذا تأملتها من وجه سياسي رأيت أنها في مركز العمران هي الحد الفاصل ما بين أوروبا وآسيا، حتى إن نصفها بني في أوروبا والنصف الآخر في آسيا، والذي يملك مركزها يعد مالك أحسن المراكز الحربية في الوجود، وهذا الذي قلناه رأي أكبر أهل السياسة والنظر من عهد بعيد. وأما من حيث الأهمية الجغرافية فقليل بين مدائن الأرض ما يحيط به كل هذا العدد الغريب من الممالك والولايات. وأما في جمال المنظر فأجمع أهل العلم على وضع الآستانة في الموضع الأول.
Bilinmeyen sayfa