وتجاه هذه الحديقة حمامات بحرية يؤمها خلق كثير، فلا أسهب في وصفها هنا؛ لأني ذكرت أمثالها مرارا في فصول هذا الكتاب، ومن مشاهد الضواحي كنيسة نوتردام الأفريقية، بنيت على قمة جبل في شمال المدينة، ذهبت إليها بالعربة مسيرة نصف ساعة تقريبا، فمررت بحي سان أوجين أمام البحر، حيث أقيمت المنازل البهية، وكانوا يومئذ يبنون كثيرا منها؛ ليجعلوا هذا الشارع على مثال شارع الكورنيش بمرسيليا، ولما بلغنا أسفل الجبل تسلقناه إلى الجهة العليا، فإذا بمدينة الجزائر ظاهرة أمامنا بجميع الأجزاء ومنظرها من هنا جميل، ولما دخلت الكنيسة رأيت جدرانها مغطاة بأسماء أصحاب النذور، وهم يدفعون رسما على كتابة الأسماء، وقد ملئت بها الجدران، فكتبوا بقية الأسماء في أرض الكنيسة، وقد علقوا في تلك الجدران أدوات مصنوعة على شكل القلب أو العين أو اليد إشارة إلى الأمراض التي اعترت تلك الأعضاء، ونذروا النذور لشفائها. والكنيسة جميلة بنيت سنة 1872، وفي هيكلها صورة العذراء من الجبس الأسود؛ إشارة إلى سواد الإفريقيين، وعلى رأسها تاج مذهب فوقه صليب ويداها مبسوطتان إلى الأمام؛ لنجدة المستغيثين فهم يسمونها المنجدة. وفي الهيكل أيضا سيوف الأمير عبد القادر والجنرال بوجو أغمدت في القبض دليل السلام. والشموع أبدا موقدة هنا من المصلين وأكثرهم نساء فرنسويات، وخارج الكنيسة قبور الأساقفة أكثرها من الرخام.
وعدت إلى ميدان الحكومة فدخلت جامعا بالقرب منه، بناه الأتراك للمذهب الحنفي سنة 1070 هجرية/1660، وله قبة كبرى تحيط بها أربع قبات صغيرة على شكل جوامع الآستانة. والجامع كبير دهن بالجير الأبيض من داخله وخارجه، ما خلا المنبر فإنه من الرخام الأبيض، وقد رأيت لطفا من خدمة هذا الجامع وقابلت فيه السيد محمد بو غندورة مفتي الجزائر، فذكر لي المرحوم الشيخ محمد عبده وأثنى عليه، وأراني المصحف القديم المكتوب بخط اليد، وهو وقف هذا الجامع من حسن باشا، كتب سطر منه بالحبر الأسود وسطر بماء الذهب، ولولا أن الواقف اشترط ألا يخرج هذا المصحف من الجامع لأرسله سيادة المفتي إلى باريس ليرسم وتطبع نسخ كثيرة مثله. ولهم هنا طريقة الكنائس في جميع الصدقات من الزائرين والمصلين؛ لأنهم وضعوا صندوقا صغيرا على مقربة من الباب يضع فيه الناس ما شاءوا من النقود.
وعلى مقربة من الجامع الذي تقدم ذكره جامع آخر اسمه الجامع الكبير للمذهب المالكي، هو أقدم جوامع الجزائر، وقد بني قسم منه على 14 قنطرة قائمة على عمد من الرخام. ثم تركت الجوامع وتوجهت إلى حي المغاربة، وهو قديم الشكل لم يتغير بمرور السنين، يشبه بعض أحياء مصر الوطنية التي لم يطرأ عليها تغيير، وبعض شوارعه ضيقة حتى إن ترجمان الفندق كان يسير أمامي وأنا من ورائه، وأكثر بيوته من دور واحد لها من نوع المشربية والطرق، مبلطة بالحصى المتناثرة يعسر المسير عليها، وبعضها بنيت فوق أقبية فظلامها دامس وهواؤها غير طلق؛ ولهذا خرج أصحاب اليسار من المغاربة إلى الأحياء الأخرى، وبقيت الألوف الكثيرة على هذه الحالة، وعلى مقربة من هذا الحي أثر القلعة القديمة، واسمها عندهم القصبة، لم يبق الفرنسويون منها غير الغرفة التي حدثت فيها حادثة حسين باشا مع قنصل فرنسا، وقد تقدم ذكرها في مقدمة هذا الفصل.
البليدا:
هي مدينة جميلة طالما قرأت عنها وسمعت، ومع أنها واقعة في الطريق بين تلمسان والعاصمة فإني لم أعرج عليها من قبل، ولكنني رجعت إليها من مدينة الجزائر، وهي متنزه سكان العاصمة يذهبون إليها مسيرة ساعة تقريبا بسكة الحديد، ويعودون في آخر النهار، وقد سار بي القطار بين صفين من شجر الكينا في طول الطريق، وهذا الشجر كثير في الأراضي المنخفضة والمستنقعات؛ لأنه يحسن الهواء ويمنع انتشار الحميات. ولما بلغت هذه البلدة حسبت أني في أوروبا وليس في مدينة أفريقية؛ لأن الطرق نظيفة وعريضة يرشونها بالماء مرتين كل يوم، وفيها صفوف من شجر البرتقال، ولها ميدان اسمه ميدان السلاح غرست به أشجار البرتقال، والموسيقى تصدح فيه مرتين كل أسبوع، فيأتيها الناس أفواجا ولا سيما الضباط العسكريون، وهم لا تخلو منهم نقطة مهمة في هذه البلاد، عدد سكانها الآن حوالي 30 ألف نفس، وهي مبنية على رابية، ولها سور حولها مثل كل مدن الجزائر الداخلية، ولهذا السور أربعة أبواب. والمدينة تشرف على وادي متيحة بسبب ارتفاعها، فالواقف فيها يرى عدة مناظر جميلة في ذلك الوادي الطويل لا يبلغ النظر آخره، ويرويه نهر اسمه واد الكبير غير الينابيع التي تتدفق مياهها فيه، حتى إنهم أنشئوا حدائق للبرتقال كبيرة واسعة تشبه الحرجات العظيمة ، فلا تقل أشجارها عن مائة ألف، يصدرون منها نحو 5 ملايين برتقالة كل سنة إلى فرنسا وغيرها، وقد كان المهاجرون المسلمون من الأندلس هم الذين أدخلوا زراعة البرتقال إلى الجزائر، وكذلك زراعة الدخان، وهم يصدرون منه نحو مليون أقة كل سنة، وورقه يشبه ورق الدخان المصري أو الكوباني. ويحدق بهذا الوادي جبال بني صالح تعلو 1000 متر إلى 1200، وقد التقيت في فندق هذه المدينة ببعض من سياح الإنكليز معهم الخيام والسروج للنساء والرجال والتراجمة، ورأيتهم ينوون الذهاب إلى وادي شيلفا الوعر؛ ليتفرجوا فيه على القرود بحالتها الطبيعية، ويجوز للسائحين أن يقبضوا على صغار القردة إذا أمكن، ولكنهم لا يجوز لهم أن يقتلوا منها، وذلك حسب قرار المجلس البلدي، فذهبت مع هؤلاء السياح إلى الوادي المذكور، وكنا نمر تارة بين الصخور وطورا بين الأشجار البرية الغضة حتى بلغنا مكان القرود، فجعل الترجمان يرمي لها قطع الخبر والسكر، فظهر بعضها ما بين كبير وصغير تختطف الذي يلقى إليها ثم تختفي بين الأشجار فرارا وخوفا. وبعد أن سرنا نحو ساعتين عدنا للاستراحة في كوخ بني فوق عين اسمها عين السعادين، ومنها تقدم رفاقي إلى جبل بني عامر؛ ليقيموا فيه أسابيع وسط تلك المناظر الطبيعية، أما أنا فرجعت إلى البليدا ومنها إلى العاصمة.
علمت بعد وصولي في المساء أن الموسيو ماكس رجي رئيس المجلس البلدي المشهور بعدائه لليهود، سيلقي خطابا في التياترو الكبير؛ ليعلن للناس نتائج سفره الأخير إلى باريس. ولهذا الزعيم أنصار من النصارى والمسلمين يكرهون اليهود مثله، ويزعمون أن ثروة البلاد أصبحت في أيديهم بالطرق المالية التي ألفوها، فذهبت إلى هذا التياترو ووجدت الناس حوله مئات وألوفا، غير الذين تحصلوا على التذاكر ودخلوا قاعة الخطابة، فلما انتهى الرجل من خطابه داخلا جعل الواقفون خارج الباب يصيحون لتعش فرنسا وليسقط اليهود. والظاهر أن كره البعض لليهود بالغ هنا، حتى إني رأيت حانوتا في شارع باب عزون كتب على لوحه من الخارج أنه لا يخص اليهود ولا يعاملهم، وهو للمجوهرات وأدوات الذهب والفضة. ويقال على الجملة إن اليهود في قطر الجزائر يمتازون عن بني ملتهم في أوروبا، فهم أشداء، ولهم جمال عظيم، وقد عرفوا بالصلف والخيلاء، فلا يخالطون النصارى والمسلمين إلا قليلا، ويوم السبت في هذه المدينة مثل الأحد في غيرها، تقفل فيه الحوانيت والمحلات التجارية، وتظهر عليها هيئة البطالة. وقد زرت حي اليهود في اليوم التالي، وكان يوم عيد، فوجدت بعضا منهم يصلون في العيد، ورأيت أنه يختلف عن بقية معابد اليهود؛ لأنه رسم على جدرانه موسى الكليم وبيده لوح الشريعة، كتب عليه وصايا الله العشر الواردة في التوراة.
ولما عدت إلى ميدان الحكومة كان البريد قد وصل ووزع، فرأيت الناس يقبلون على مواضع بيع الصحف الباريزية ويتخاطفونها متلهفين لقراءة الأخبار، ويندر بين الأهالي من له عمل أو تجارة ولا يعرف الفرنسوية، وبعضهم يتكلمها بطلاقة توجب الإعجاب. وأما لغتهم العربية فالبعد بينها وبين عربية مصر والشام باعد، يدل على ذلك أني تعرفت بتاجر هنا أعطاني كتاب توصية بي إلى صديق له في قسنطينة، فلما تلاه علي لم أفهم منه شيئا، وحاولت قراءته فما قدرت؛ لأن حروفهم من النوع الكوفي المعلق وهو غير مألوف في هذه الديار. وملابس المغاربة هنا متنوعة، فأهل الطبقة الأولى يرتدون الملابس الإفرنجية والطربوش المغربي المعروف بزره الطويل يبلغ الكتفين، وبعضهم يلبس السراويل والدامر أو القفطان والعمامة، وأصحاب اليسار منهم يلبسون البرنس الأزرق من الحرير، وأما بقيتهم فالبرنس الأبيض، وهم يتأثرون من كل شيء لا يوافق مشربهم وذوقهم. أما النساء فلباسهن مستغرب يرتدين سراويلات بعضها فوق بعض من القماش الأبيض، ومن فوقها ملاية أو حرام تلتف المرأة به لفا، فكأنما هي برميل لا قوام لها ولا هندام، وهن يضعن البراقع البيضاء على الوجوه، ويندر أن تخرج إحداهن إلى الطريق، وكانت مدة إقامتي في هذه العاصمة عشرة أيام، يكفي نصفها للذي يطالع الكتب عنها قبل وصوله، ثم يدور للفرجة كما فعلت، وبرحتها بعد هذه المدة إلى مدينة في داخلية البلاد، اسمها قسنطينة، تبعد 15 ساعة بسكة الحديد.
من عاصمة الجزائر إلى قسنطينة:
مر بنا القطار في مناظر متنوعة، فكان تارة يخترق السهول والبطاح، وطورا يمر بالهضبات والحزون، ومعظم الأراضي زرعت فيها كروم العنب والقمح والشعير والحمص والعدس، والجبال قائمة إلى جانبي هذه السهول الحسناء، وأهم ما فيها مزارع الزيتون، وهي حرجات بعيدة الأطراف قد تكون بلا مثيل في الأرض؛ لأن مساحتها لا تقل عن 150 هكتارا - والهكتار كما لا يخفى عشرة آلاف متر - وهي تمتد من الساحل متدرجة إلى قمم الجبال وفي الأودية المتوسطة بين تلك الجبال، وأصل هذه الأشجار برية طعمت فصارت ذات إيراد كبير. ووقف القطار عند الظهر في محطة سيدي إبراهيم حيث تناولنا الغداء، وأتوا لنا بثلج طبيعي ينقله العرب من أعالي الجبال، ولما قام القطار دار الحديث على الأبواب المشهورة التي سنمر منها، ولها ذكر عظيم في أوروبا، حتى إن ملك إنكلترا الحالي لما أتى عاصمة الجزائر في شهر أبريل سنة 1905 ذهب إلى قسنطينة في قطار مخصوص؛ ليمر من هذه الأبواب، وهي عبارة عن صخور حمراء علوها 1008 أمتار، يخترقها واد هو طريق يمر فيه قطار الحديد، وطوله 40 كيلومترا، وقد ورد في التاريخ أن الرومانيين عجزوا عن المرور في هذه الأبواب أيام حربهم مع قبائل الفندال، وأن جنود الأتراك عبروا منها بعد أن دفعوا مبلغا إلى شيخ القبيلة، ولكن جنود فرنسا عبرت منها سنة 1839 تحت قيادة الدوك دورليان بعد أن قتل المغاربة عددا كبيرا منها. وقد دخل قطارنا هذا الوادي، وأنا أنظر إليه كالناظر إلى السماء فوقه، ثم خرجنا إلى الجهة الأخرى، ووقف القطار في محطة سطيف، وهي بلدة فيها 16000 ألف نفس، منهم 3000 فرنسويون، وقد تعشينا في هذه المحطة؛ لأن القطار وقف فيها نصف ساعة، ثم قام في جهة كلها أكام وهضبات، في وسطها طريق لا يزيد عن سعة العربات، وفي هذه الروابي شجر السنديان والبلوط والخروب، ثم سار القطار في سهل منبسط يحكي سهول القطر المصري، وتحده الجبال من هنا ومن هنا، وكان ينتقل من محطة إلى محطة حتى بلغ مدينة قسنطينة.
قسنطينة
Bilinmeyen sayfa