وللإنجليز كلمة تتردد على صحفهم وكتبهم هي كلمة «السخط المقدس»، ولقد سخط قاسم أمين على حال المرأة في 1898 وكان سخطه مقدسا، ولم يطق رؤيتها في فتور، فألف كتابه في غلواء الأديب بعد أن حميت نفسه غضبا، ونسي وهو في هذا الغضب هذه الغلواء، لوم الناس له أو نفورهم منه فكان مجنونا، أجل، وكان جنونه مقدسا.
ومن هذا المعنى الذي قصد إليه حين دعا الأدباء إلى الجنون، إلى الغلواء، إلى الحماسة التي تنأى عن الفتور.
ونحن لا نتحسس ولا نجن إلا لأننا نتألم أكثر، ونحس أكثر، ونأمل أكثر من غيرنا، وهذا هو حال الأديب العبقري.
والصلة بين العبقري والمجنون تعود إلى هذه الغلواء، إلى هذه الحماسة، التي يحسهما كلاهما، وكلاهما لهذا السبب أيضا يحلم ويتخيل وإن تكن أحلام الأول مثمرة وأحلام الثاني عقيمة.
وعندنا في الجامعتين نحو ألفي طالبة سافرة قد ارتفعن من الأنوثة إلى الإنسانية بفضل قاسم أمين حين جن جنونه الأول ثم جنونه الثاني.
وعلى الأديب أن يسخط وأن يجن وأن يكتب في غلواء وألا يكون فاترا يقيئه القراء.
الفصل التاسع عشر
الكوارث التي تعلمنا
من أحسن ما أنعمت به علي الأقدار أنها كرثتني بطائفة من الكوارث في مراحل عمري كانت لي بمثابة الدروس العملية التي تعلمت منها وخرجت من عبرتها أكثر حكمة وأوضح بصيرة وأسعد إحساسا.
مرضت في طفولتي وبقيت بالفراش شهورا بل ربما سنوات، ولكن هذا المرض قد زال ولم يبق منه سوى هذه الذكرى المحببة إلى قلبي وهي أمي قد قعدت إلى جانبي تدعو وتصلي وتمسح رأسي ووجهي بيدها الطرية الناعمة، وما زلت إلى الآن - وأنا في الحلقة السابعة من عمري - أستعيد هذه الذكرى فتغمرني منها سعادة، وأحس كأني أملك كثيرا لا يملكه أحد غيري على هذه الأرض.
Bilinmeyen sayfa