فقال: «يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير ثم أخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟»
قال : «بلى .»
قال: «ثم قدمت الكوفة واليا على العراق، فجددت لأمير المؤمنين البيعة، فأخذت بيعتك له ثانية؟»
قال: «بلى.»
قال: فتنكث ببيعتين لأمير المؤمنين وتفي بواحدة للحائك بن الحاتك؟
3
وهنا اهتاج الحجاج وامتلأت نفسه غيظا وحنقا فصاح قائلا: اضربوا عنقه.
حوار قصصي
وقد ذكروا حوارا ظريفا لا نشك في أن للخيال جانبا كبيرا فيه فقالوا: لما قدم سعيد على الحجاج قال له: ما اسمك؟ قال سعيد. قال: ابن من؟ قال: ابن جبير. قال: بل أنت شقي ابن كسير. قال سعيد: أمي أعلم باسمي واسم أبي. قال الحجاج: شقيت وشقيت أمك. قال سعيد: الغيب يعلمه غيرك. قال الحجاج: لأوردنك حياض الموت. قال سعيد: أصابت إذا أمي اسمي. فقال الحجاج: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى. قال سعيد: ولو أني أعلم أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها. قال الحجاج: فما قولك في محمد؟ قال سعيد: نبي الرحمة ورسول رب العالمين إلى الناس كافة بالموعظة الحسنة. فقال الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟ قال سعيد: لست عليهم بوكيل كل امرئ بما كسب رهين. قال الحجاج: اشتمهم أم امدحهم.
قال سعيد: لا أقول ما لا أعلم إنما استحفظت أمر نفسي. قال الحجاج: أيهم أعجب إليك؟ قال: حالاتهم يفضل بعضهم على بعض. قال الحجاج: صف لي قولك في علي؛ أفي الجنة هو أم في النار؟ قال سعيد: لو دخلت الجنة فرأيت أهلها علمت، ولو رأيت من في النار علمت، فما سؤالك عن غيب قد حفظ بالحجاب؟! قال الحجاج: فأي رجل أنا في يوم القيامة؟ فقال سعيد: أنا أهون على الله من أن يطلعني على الغيب. قال الحجاج: أبيت أن تصدقني. قال سعيد: بل لم أرد أن أكذبك. فقال الحجاج: فدع عنك هذا كله، أخبرني ما لك لم تضحك قط؟ قال: لم أر شيئا يضحكني، وكيف يضحك مخلوق من الطين والطين تأكله النار ومنقلبه إلى الجزاء، واليوم يصبح ويمسي في الابتلاء. قال الحجاج: فأنا أضحك. فقال سعيد: كذلك خلقنا الله أطوارا. قال الحجاج: هل رأيت شيئا من اللهو؟ قال: لا أعلمه . فدعا الحجاج بالعود والناي قال: فلما ضرب بالعود ونفخ في الناي بكى سعيد، قال الحجاج: ما يبكيك؟ قال: يا حجاج ذكرتني أمرا عظيما، والله لا شبعت ولا رويت ولا اكتسيت ولا زلت حزينا لما رأيت. قال الحجاج: ما كنت رأيت هذا اللهو؟! فقال سعيد: بل هذا والله الخرق، أما هذه النفخة فذكرتني يوم النفخ في الصور، وأما هذا المصران فمن نفس ستحشر معك إلى الحساب، وأما هذا العود فنبت بحق وقطع لغير حق، فقال الحجاج: أنا قاتلك. قال سعيد: قد فزع من تسبب موتي. قال الحجاج: أنا أحب إلى الله منك. قال سعيد: لا يقدم أحد على ربه حتى يعرف منزلته منه، والله بالغيب أعلم. قال الحجاج: كيف لا أقدم على ربي في مقامي هذا، وأنا مع إمام الجماعة وأنت مع إمام الفرقة والفتنة؟ قال سعيد: ما أنا بخارج عن الجماعة ولا أنا براض عن الفتنة، ولكن قضاء الرب نافذ لا مرد له. فقال الحجاج: كيف ترى ما نجمع لأمير المؤمنين؟ قال سعيد: لم أر شيئا. فدعا الحجاج بالذهب والفضة والكسوة والجوهر فوضع بين يديه قال سعيد: هذا حسن إن قمت بشرطه. قال الحجاج: وما شرطه؟ قال: أن تشتري له بما تجمع الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، وإلا فإن كل مرضعة تذهل عما أرضعت، ويضع كل ذي حمل حمله، ولا ينفعه إلا ما طاب منه. قال الحجاج: جمعنا طيبا. قال: برأيك جمعته وأنت أعلم بطيبه. قال الحجاج: أتحب أن لك منه شيئا؟ قال: لا أحب ما لا يحب الله. قال الحجاج: ويلك! قال سعيد: الويل لمن زحزح عن الجنة فأدخل النار. قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه. قال: إني أشهدك يا حجاج أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، أستحفظكهن يا حجاج حتى ألقاك. فلما أدبر ضحك قال الحجاج: ما يضحكك يا سعيد؟! قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك. قال الحجاج: إنما أقتل من شق عصا الجماعة ومال إلى الفرقة التي ينهى الله عنها. اضربوا عنقه. قال سعيد: حتى أصلي ركعتين. فاستقبل القبلة وهو يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. قال الحجاج: اصرفوه عن القبلة إلى قبلة النصارى الذين تفرقوا واختلفوا بغيا بينهم فإنه من حزبهم. فصرف عن القبلة فقال سعيد: فأينما تولوا فثم وجه الله الكافي بالسرائر. قال الحجاج: لم نوكل بالسرائر وإنما وكلنا بالظواهر. قال سعيد: اللهم لا تترك له ظلمي واطلبه بدمي واجعلني آخر قتيل يقتل من أمة محمد.
Bilinmeyen sayfa