لما عبر الجنرال سكويبف نهر شيبكا في يناير سنة 1877 وجد معسكرا يحتوي على مائة ألف من نساء الأتراك نازلا بقرب هرمنلي، فلم يكن من جنوده سوى أنهم فتكوا بهن، وطردوهن أمامهم على ثلوج نهر ميرتزا إلى جبال رودب حتى مات أكثرهن من البرد والجوع.
وإنا نستشهد على هذه المعاملات البربرية واعتداء الروسيين والبلغاريين على الأبرياء من المسلمين بما جاء في جريدة الدالي نيوز، وقد كانت إذ ذاك منتصرة للروسيا، ففي عدد 8 فبراير سنة 1878 جاء فيها بالحرف الواحد:
أدريا نوبل في 27 يناير سنة 1878 لمكاتبنا في الحرب
إن المسافة التي بين «فيلوبوبوليس» و«هرمنلي» تبلغ سبعين ميلا قد كانت بالأمس مرتعا لآلاف من العائلات، واليوم أصبحت قاعا صفصفا خاوية على عروشها، ليس بها سوى جيف الموتى وعظام القتلى وبقايا المذبوحين، فتحولت نضارتها السابقة إلى منظر مخيف وأطلال دوارس؛ وذلك نتيجة ما حصل من الفظائع المنكرة التي تقشعر من هولها الأبدان، ولا يمكن لأي إنسان أن يتصور مهما اجتهد أن يحاول تلك الأهوال التي وقعت في تلك البقعة، والحالة التي وصلت إليها.
وكتب هذا الكاتب نفسه:
بينما نحن نسير من «فيلوبوبوليس» كنا نرى جثث الفلاحين مغطاة بالثلوج، ولا شك أن بعضها قد لبث على هذه الحالة الشنيعة المحزنة أسبوعين أو ثلاثة، ولم تزل آثار الدماء على ملابس بعضهم، وهكذا كنا نسير بين رمم القتلى وآثار الخيام والأرض حولنا مغطاة بالجثث وبقايا المعسكرات كما تغطى بالبسط والفرش، وكنا نخترق صفوفا من جثث القتلى ورمم الحيوانات مسافة لا تقل عن خمسة وثلاثين ميلا؛ فرأينا نساء ملقاة في الثلوج وأولادا وأطفالا مرماة في البرك، ورجالا ممزقة أجسادهم مما أصابهم من الجراحات القتالة، ورأينا الثلج محمرا من أثر الدماء المنهطلة، وأظن أن أغلب النساء متن من البرد القارص؛ لأن نضارة الحياة كانت بادية على وجوههن، فكأنهن نيام للراحة من عناء هذا العالم ومعاملة أهله البربرية باسم المدنية.
أما الرجال فكنت تراهم واحدا بجانب الآخر تظهر عليهم علائم العظمة، حتى مع الموت، وذقونهم ملوثة بدمائهم، وأيديهم موضوعة على صدورهم كأنما هم يحافظون على قلوبهم الشريفة من أن تدوسها أعداؤهم بأقدام الخيل.
أما الأطفال والأولاد، فهم كالنساء مات أغلبهم من شدة البرد القارص والثلوج المتراكمة؛ فكنت ترى أوجههم لطيفة بعضها باد وبعضها مغطى بالثلج، وكانت تلوح عليهم نضارة الطفولية، وتظهر عليهم الطهارة والبراءة التامة، كأنما هم نائمون نوما طبيعيا، أو كأنما جعلت من الثلوج الناصعة البياض سرائرهم وأيديهم الناعمة البيضاء بارزة من المياه الذائبة.
ولا أشك أن أمهاتهم لما رأينهم أمواتا على صدورهن من شدة البرد، وأن لا أمل في عودتهم للحياة رمينهم في الثلوج ليخففن حملهن، وفارقن حشاشات أكبادهن بالرغم عنهن، والدموع تسيل من عيونهن حتى إذا أدركت الخدود تحولت بردا من شدة الزمهرير.
وإني لم أشعر بيأس زائد وبلاء عظيم في حياتي إلا عندما رأيت بعيني الفظائع والمصائب التي حلت على بني الإنسان؛ فلقد رأيت امرأة تسير بجانب طفلة تناهز العاشرة من عمرها، وهما تجدان في المسير فرارا من معاملة الروسيين وقساوتهم البربرية، ولكن الابنة لم تقو على المشي؛ لأن أقدامها العارية تعبت غاية التعب من المسير على الثلج، فسقطت ميتة بين أيدي أمها الحنونة، ولقد داهم الأم الليل بظلامه الحالك وبرده الفاتك؛ فسقطت طريحة بجانب ابنتها.
Bilinmeyen sayfa