وقد بعث فريدريك الكبير بأخيه البرنس هنري إلى سان بطرسبورغ لزيارة القيصر، فوصل عاصمة الروسيا يوم 12 أكتوبر سنة 1770، وقد تحادث كثيرا مدة وجوده في بطرسبورغ مع القيصرة ورجال السياسة الروسية في مشروع عقد تحالف ثلاثي بين الروسيا والبروسيا والنمسا، بقصد تقسيم بولونيا، فوجد لهذا المشروع قبولا عند الروسيين لم يكن عندهم من قبل.
وقد بذلت البروسيا في ذلك الحين جهدها في إقناع الدولة العلية بضرورة إيقاف الحرب والتوسط في الصلح حتى رضيت الدولة العلية، وطالبت بمذكرة تاريخها 12 أغسطس سنة 1770 من بروسيا والنمسا التوسط بينها وبين الروسيا في أمر عقد الصلح.
يرى القارئ مما تقدم سياسة كل من دول فرنسا والنمسا والبروسيا في المسألة الشرقية في القرن الثامن عشر. أما إنكلترا فقد جرت في هذا القرن الماضي على سياسة مزدوجة، فكانت تساعد الروسيا في الحرب كل المساعدة، وتظهر للدولة العلية بمظهر الصديقة؛ لتقف على أسرارها حيث تطلع الروسيا عليها، ولما قامت الحرب بين الدولتين العلية والروسية كانت إنكلترا مشتغلة بأمور الهند التي كانت استولت عليها منذ بضع سنين من قبل.
ولما كانت الروسيا مصافية لإنكلترا وغير ميالة وقتئذ للاستيلاء على الهند، وسلبها من أيدي الإنكليز، وكانت فرنسا هي العدوة اللدودة لإنكلترا والدولة الوحيدة التي كانت تخاف منها إنكلترا على الهند - وقد كانت الهند من قبل ملكا لفرنسا ومستعمرة من مستعمراتها - اتبع الإنكليز سياسة التقرب من الروسيا والتودد إليها ومعاداة فرنسا والدولة العلية.
وفضلا عن الأسباب السياسية الداعية لذلك، فهنالك أسباب تجارية دفعت الإنكليز لمحاباة الروسيا، فقد كانت إنكلترا تتاجر وحدها في الشمال، وكانت واردات الروسيا كلها من إنكلترا، وكان الكثيرون من البحارة الإنكليز موظفين في المراكب الروسية، وقد أراد «شوازيل» وزير فرنسا الأكبر أن يضرب المراكب الروسية بالعمارة الفرنساوية، وقدم بذلك مذكرة لمجلس نظار فرنسا ولكنها رفضت، وقبل رفضها أعلنت وزارة لندره أن كل عمل يعمل ضد الروسيا يعد إهانة لإنكلترا واعتداء عليها، وهو قول يبين مقدار ميل الإنكليز للدولة الروسية في ذلك الحين، أو بعبارة أصرح يبين مقدار المكاسب العظيمة التي كانت تكسبها إنكلترا من الروسيا.
ومن أكبر الأسباب التي جعلت إنكلترا ضعيفة الصوت في مسائل الشرق في ذلك الحين هو اضطراباتها الداخلية، وقيام الأمريكيين بالثورة ضدها مطالبين بالاستقلال الذي نالوه بدماء أبطالهم، أي بأعز الأثمان.
ومن غريب أمر السياسة الإنكليزية أنها مع محاباتها للروسيا كل المحاباة أرادت أن تظهر لتركيا بمظهر الصداقة كما قدمنا؛ فعرضت عليها في صيف عام 1770 أن تتداخل بينها وبين الروسيا لعقد الصلح، فأجابت الدولة العلية سفير إنكلترا بالآستانة «السير موري» بمذكرة حكيمة جاء فيها: «إنه لمن الأمور المدهشة الخارقة للعادة أن إنكلترا تعرض على الباب العالي توسطها في الحرب مع أن لها سفنا في الأسطول الروسي حاربت ضدنا؛ ولذلك نحن نعتقد أن طلبها التوسط في الحرب ليس إلا ستارا لأغراض أخرى ينويها العدو «أي الروسيا»، فلتعلن إنكلترا خطتها وسلوكها بدون مراوغة حتى يعلم الباب العالي مع أي المتحاربين هي أمعه أو ضده؟!» وقد أحدثت هذه المذكرة الحازمة تأثيرا شديدا لدى الإنكليز، وأفهمتهم أن الأتراك خبيرون بسياستهم وبما فيها من الغش والنفاق، فاضطروا لسحب ضباطهم وعساكرهم من الأساطيل والجيوش الروسية، ولكن ذلك جاء بعد أن قضت الحرب معظمها.
ولما طلبت الدولة العلية من بروسيا والنمسا التوسط في أمر الصلح، أبلغت إنكلترا الروسيا هذا الطلب لتأخذ حذرها، فكانت وظيفة إنكلترا في هذه المسألة أشبه بوظيفة جاسوس على الدولة العلية للروسيا. •••
ولما علمت الروسيا بواسطة الإنكليز بأمر طلب الصلح، أرادت أن تعرقل مساعي البروسيا والنمسا، فأمرت الجنرال رومانتسوف بتاريخ 26 سبتمبر سنة 1770 أن يكتب إلى الصدر الأعظم بأن الروسيا مستعدة للمناقشة مع الباب العالي مباشرة في أمر الصلح متى أطلق سراح «أوبرسكوف» سفير الروسيا في الآستانة، وبذلك منعت الروسيا البروسيا والنمسا من التداخل في أمر الصلح مدعية بأن تداخل هاتين الدولتين يدعو لتداخل فرنسا، وهو الأمر الذي ترفضه القيصرة رفضا باتا.
وفي هذه الأثناء استولى الجيش الروسي على مدينة بندر وأكرامان وبرايلا، ولما طال أمر المراسلات بشأن الصلح بين فريدريك وكاترينا كتبت قيصرة الروس إلى ملك بروسيا بتاريخ 20 سبتمبر من السنة نفسها توضح له الشروط التي تشترطها لعقد الصلح، وهي الاستيلاء على أزوف وكاباردا مع استقلال البغدان والأفلاق، أو بقاء هاتين المقاطعتين تحت حكم الروسيا مدة ربع قرن كغرامة حربية، واستقلال ترتار البسرابي والقرم وحرية الملاحة في البحر الأسود والتنازل عن جزيرة للروسيا في الأرخبيل، وعفو عام عن كل اليونانيين الذين ثاروا ضد الدولة العلية أثناء الحرب.
Bilinmeyen sayfa