لا يطاوعني صوتي للإنشاد، ولكن يكفي أن يسمعني الجمهور، وإني لأعتذر عن عدم تمكني من مرافقة حضرة الآنسة في المغنى.
أرغان :
أليست الأبيات جميلة؟
كليانت :
هي مغناة صغيرة مرتجلة، ولن تسمعوا الآن إلا أنشودة من النثر الموقع أو من الشعر المنثور كالذي توجبه العاطفة والحاجة على شخصين يتكلمان بداهة.
أرغان :
حسنا جدا، فلنسمع.
كليانت :
إليكم موضوع الفصل: كان أحد الرعاة شاخصا إلى جمال مشهد بدأ يتراءى لعينيه، وإذا به يسمع ضجيجا بالقرب منه سلخه عن جمال مشهده، فالتفت فأبصر رجلا شرسا يسيء إلى راعية بكلمات وقحة، فما كان منه إلا أن راح يدافع عن جنس يجب على كل رجل أن يدافع عنه، وبعد أن عاقب الشرس على وقاحته دنا من الراعية، فوقع نظره على فتاة تذرف من مقلتين لم ير أجمل منهما في العالم دموعا لم يشاهد في حياته أجمل منها، فقال في نفسه: «وا حسرتاه! هل ثمة من يقوى على إهانة فتاة بهذه الوداعة؟! وأي شرس بل أي بربري لا يتفطر قلبه لدموع كهذه؟!» ثم عهد على نفسه أن يوقف مجرى تلك الدموع الجميلة، وعهدت الراعية على نفسها أن تشكره على خدمته الخفيفة، ولكن بطريقة جذابة عذبة ساحرة لم يقو الراعي معها على امتلاك نفسه، فقال في ضميره: «هل ثمة أحد جدير بهذا الشكر؟! وأي امرئ لا يخاطر بحياته ولا يرمي نفسه في المهالك في سبيل الحصول على كلمات عذبة خارجة من فم يعرف الجميل كهذا الفم؟!» وما عتم أن انفصل عن راعيته المعبودة، على أن النظرة الأولى كانت قد غرست في قلبه حبا لا تجيء السنوات بأحر منه. وسرعان ما أخذ يشعر بآلام الفراق في مختلف أنواعها، وراح يسعى جهده لرؤيتها مرة أخرى، إلا أن الراعية كانت منيعة عنه، فصحت عزيمته أخيرا على طلب يدها للزواج؛ إذ أحس بأنه لن يستطيع الحياة بدونها، وكتب إليها بطاقة بثها فيها كل شواعره، وفي ذلك الوقت بلغه أن والد هذه الفتاة الجميلة قد وعد بها فتى آخر وأن كل شيء يعد لحفلة الزواج.
تصوروا أي قنوط استولى على قلب هذا الراعي الحزين فلم يطق صبرا على احتمال الضربة الأليمة، ولم يقو على الفكرة القاسية التي تريه شخص من يحب بين ذراعي غيره، بيد أن حبه اليائس فتح في وجهه سبيلا استطاع به أن يدخل بيت راعيته ليختبر شواعرها نحوه وموقفها منه، فصادف هناك جميع الاستعدادات التي كان يخشاها، ولقي مزاحمه وهو غير أهل لها. لقد لقي هذا المزاحم المضحك منتصرا بالقرب من الراعية الوديعة فثار الغضب في صدره وراح يرشق معبودته بنظرات موجعة، إلا أن وجود والدها واحترامه نفسه منعاه عن أن يخاطبها بسوى العيون، وأخيرا استطاع أن يعاند القدر، وطفق يخاطب الراعية بهذا الكلام (ينشد) :
Bilinmeyen sayfa