وجعلت أردد له ما حضرني من معاني الشعر والنثر؛ فكان يعطيني المقابل العربي بما يقارب الإعجاز، وكان يلاحقنا - إذا تكلمنا - بتصحيح نطق الكلمات، وكان يقول: لا يجوز أن تطبع كلماتنا بدون تشكيل.
وأذكر أنه مرض يوما بالكلى فذهبت مصطحبا الأستاذ عبد الرحمن شعبان المترجم لنعوده، فوجدناه راقدا ملفوفا ببطانية لا يبدو منها إلا رأسه، فجلسنا قرب فراشه وسألته: كيف حال «الكلى» يا أستاذ.
ونطقتها مكسورة الكاف كالمألوف فما كان منه إلا أن صحح النطق قائلا بصوت لا يكاد يسمع من الضعف: الكلى.
رافعا الكاف، وعدنا والمترجم يقول لي: إذا مات هذا الرجل فسوف يصحح النطق للملاك الذي سيحاسبه!
وتركز اهتمامه في تراث العربية فلم نعرف له هواية أخرى، فهو لا يتذوق أي فن آخر حتى الغناء، ولا يكاد يعرف شيئا ذا بال من الثقافة الحديثة بوجه عام، ولا يهتم بالسياسة، ولا يفرق بين حزب وآخر، ولا يحترم إلا الوزير القائم بالوزارة، ولا يؤمن بقيمة من القيم ولا دين من الأديان، ولم يحب بإخلاص إلا نفسه وأسرته واللغة العربية. وكان مكتبه بالوزارة ملتقى لكثيرين من الشعراء والكتاب والصحفيين والزجالين من مختلف الأجيال، ولعل كثيرين منهم كانوا يستعينون به في مراجعة نصوصهم من الناحية اللغوية والنحوية نظير مبالغ بسيطة. وكان دائما يحسن الترحيب بهم فيغدق عليهم أعذب ألحان المديح حتى إذا ذهبوا انهال عليهم بالحجارة! - أرأيتم ذلك الرجل؟ .. إنه لا يتملق وهو في المدينة! - مسكين ذلك الزجال، طلق زوجته لوقوعه في غرام ابن لها من زوج آخر! - أما هذا فلعله الشاعر المعاصر الوحيد الذي فاق في لواطه الشاعر الراحل الكبير فلان! - هذا الكاتب ذو قلب كبير حقا .. لقد أحب جميع الأحزاب، ولا يحلو له حب حزب إلا وهو في الحكم!
وزاره مرة إنجليزي عجوز، لبث في مصر بعد إحالته على المعاش، وكان يتقن العربية إتقانه للإنجليزية، ولما ذهب الرجل قال: إني معجب بالأخلاق الإنجليزية، فثمة فرق هائل بين لوطي إنجليزي ولوطي مصري؛ اللوطي الإنجليزي يحمل لواطه معه إلى أقصى الأرض، فلا يمنعه ذلك من خدمة الإمبراطورية حتى الموت، أما اللوطي المصري فلا يعرف لنفسه مبدأ أو عقيدة!
وكما لم يرحم أحدا فلم يرحمه أحد، كان يزعم أن والده كان مهندسا، فقالوا إنه كان ترابيا، وإن أمه كانت غسالة، ورموه كذلك بالشذوذ الجنسي.
لم يرحم أحدا إلا الوزير الذي عطف عليه أو الذي - على حد تعبيره - اكتشفه، فكان يقول عنه: كان رجلا أديبا وشهما ومنصفا رغم أنه كان وزيرا!
ولكنه كان يكبح جماح عدوانه إزاء أصحاب النفوذ، من هم في الوزارة ومن هم خارجها، فلا يتدخل في مناقشة حزبية، أو يتعرض بكلمة لرجل من رجال السراي ولو كان طاهيا، وفي أثناء الحرب تظاهر بأنه من أنصار الحلفاء، فلما كانت موقعة دنكرك وظن كثيرون أن الحرب موشكة على النهاية بانتصار الألمان سمعته يترنم بقول بشار:
بعثنا لهم موت الفجاءة إننا
Bilinmeyen sayfa