كانت إشاعة قوية، ولكن لم يكن من سبيل إلى التأكد منها، وقد تحرش به بعض الطلبة وعرضوا بدوره في المؤامرة، ولكن الدكتور إبراهيم عقل استدعاهم إلى مكتبه وهددهم - إذا عادوا - بإبلاغ أمرهم إلى الجهات المختصة. وعاشت الإشاعة معي زمنا طويلا، وخلقت في نفسي نفورا منه، وبخاصة وأنني استثقلت ظله من أول يوم، وكدت أومن بصدقها عقب تخرجنا عندما اختير محمود درويش عضوا في بعثة إلى فرنسا في فترة من الزمن توقفت البعثات فيها تماما. وانقطعت أخباره عني أعواما طوالا حتى صادفته في مكتب الأستاذ عدلي المؤذن بوزارتنا فتصافحنا وجلسنا نتبادل الحديث، بدا لي وقتها في صورة جديدة، مليئة بالحيوية والصحة والعافية، وطالعتني عيناه من خلال نظارة أنيقة أسبغت على وجهه هيئة العلماء. قال: أنا مدرس اليوم بالكلية.
فقال عدلي المؤذن: وهو شارع في إصدار سلسلة في فلسفة التصوف.
وقال محمود درويش: أدركتني الحرب في فرنسا قبل إتمام الرسالة فسافرت إلى سويسرا وهناك حصلت على الدكتوراه.
ولما غادرنا قال لي عدلي المؤذن ضاحكا: عاد خواجا كما ترى ليجد في انتظاره زوجة ريفية أمية.
وسألته عما قيل عنه يوما من اتصاله بإدارة الأمن العام، وخاصة وأن عدلي المؤذن كان موظفا في ذلك الوقت بإدارة الجامعة فقال عدلي باقتضاب: كلام فارغ.
ولما حكيت تلك الواقعة للأستاذ عباس فوزي ضحك طويلا وقال: يا لك من رجل طيب! ألا تعلم أن عدلي المؤذن نفسه كان متصلا وقتها بإدارة الأمن العام؟
والتقيت - بعد ذلك بأعوام - بالدكتور محمود في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بالمنيرة، وكانت قدمه قد رسخت في عالم التأليف، وصدر له أكثر من ثلاثة كتب عدت من المراجع الهامة في دراسة التصوف في العصر الحديث، وسمعت عنها الثناء تلو الثناء من أستاذنا ماهر عبد الكريم. ويومها سألته عن أحواله فقال: لي أربعة أبناء في كليات الهندسة والتجارة والحقوق والآداب وبنت متزوجة من ضابط طيار.
فسألته باهتمام: هل تمارس التصوف؟
فأجاب ضاحكا: كلا، ولكن لا مراء في أن الإنسان لا يتخصص إلا في مادة متغلغلة في نفسه.
وفكرت في زوجته التي اختارتها الظروف ربة لبيت من المثقفين وهي بدائية بكل معنى الكلمة، فوددت لو أتسلل إلى أعماق ذلك الجانب من حياته، ولكنه كان يبدو متألقا بالسعادة والنجاح. وقال لي: طبعا علمت بمأساة الدكتور إبراهيم عقل؟ - طبعا، كارثة ولا شك، ولكني لم أرك في جنازة ابنيه؟ - كنت خارج القاهرة، هل حافظت على اتصالك به مذ تركت الكلية؟ - كلا. - إنه أستاذ بلا تلاميذ ولا مريدين.
Bilinmeyen sayfa