فرحب بالفكرة، ونفذاها، بالرغم من إلحادهما الكامل، فدرت عليهما ربحا يعتبر أول ربح ذي وزن ربحه في حياته. وانطلق بعد ذلك يكتب سير الأنبياء، فتحسنت أحواله وواجه بثقة ارتفاع الأسعار الذي أعقب الحرب، حتى قال لي يوما: ليت الله أرسل أضعاف أضعاف من أرسل من الأنبياء والرسل.
ومضى أبناؤه يتخرجون في الجامعة ويتوظفون، فقرر في عام 1950 القيام بأول إجازة صيفية في حياته. أجل، لم يكن يطلب إجازة أبدا، ولبث يعمل عاما بعد عام بصفة متواصلة حتى سألته: لم لا تقوم في إجازة لتنعم بقدر من الراحة؟
فضحك وقال: يا لك من طيب القلب، أنت لا تدري شيئا عمن يطمعون في وظيفتي، إنهم يلقونني بالأحضان على حين يوارون خناجرهم وراء ظهورهم، فإذا غبت شهرا سعوا سعيهم ودسوا دسائسهم ليستولوا على الوظيفة، إننا نعيش في غابة من الوحوش ولكنهم أحط من الوحوش وأقذر.
ولم أفهم منطقه وعجبت له. على أي حال وثق عام 1950 بنفسه واطمأن إلى دخله من كتبه، فقرر أن يبر نفسه بإجازة، بل سافر بحرمه وكريمته إلى الإسكندرية. كان يرى الإسكندرية لأول مرة في حياته، ولكنه وجد نفسه كالتائه الشريد إذ لم يتعود أبدا معاملة الفراغ. كان يومه مستغرقا دائما بالعمل في الوزارة، في البيت، في صالونات الأدب، ولكنه لم يعرف مقهى أو سينما أو مسرحا فضلا عن الإسكندرية، لذلك ضاق بالمصيف، وفزعت حرمه من الزحام، فقررا العودة بعد أسبوع واحد، وبالرغم من توسلات ابنتهما الحارة، ولما قامت ثورة يوليو لم تكد تؤثر فيه شيئا، فلا حزن على العالم المولي ولا سر للعالم الصاعد، وضاعف نشاطه في التأليف الديني حتى حاز ثروة كبيرة بكل معنى الكلمة، وأحيل إلى المعاش عام 1959 فتفرغ لعمله أكثر، وشيد عمارة في عابدين أقام لنفسه فوق سطحها فيلا، ولكنه ما زال حتى اليوم متمردا ساخرا، وكلما زرته أتحفني بالجديد من سخرياته وشكاياته. قال: تصور أنني لم أنتخب حتى الآن في المجمع اللغوي! .. كأن أعضاءه الخواجات أفقه في اللغة مني! والمجلس الأعلى للآداب لا يوجد عباس فوزي ضمن أعضائه! .. هل حتم ألا يدخله على العوام؟!
ولما لاحظ همي وغمي في الأيام التي أعقبت هزيمة يونيو قال باسما: شاب شعرك ولم تتعلم الحكمة بعد!
ثم تساءل بسخرية: هل ثمة فارق حقا بين أن يحكمك الإنجليز أو اليهود أو المصريون؟!
عدلي المؤذن
عندما التحقت بالجامعة كان موظفا بها، وكنت ألتقي به كثيرا في مكتبة الجامعة، كما كان يحضر معنا محاضرات مسيو كوريه في الفلسفة تحصيلا لبعض فوائد رآها ضرورية في تحضير رسالة الماجستير. وكنا ندعوه «الكاتب المصري» للشبه العجيب الذي بينه وبين وجه التمثال المعروف بالكاتب، غير أنه كان طويلا عريض الكتفين ذا وجه أسمر غامق تتحرك فيه حركة متحدية براقة عينا صقر يشعان ذكاء ودهاء، التقينا مرة في حديقة الأورمان ونحن سائران إلى الكلية فتصافحنا، وأخذنا في الحديث، قال: سأقدم رسالة الماجستير في أكتوبر القادم، ولكني أفكر منذ الآن في الخطوة التالية.
فسألته: الدكتوراه؟ - كلا، هل لك فكرة عما يمكن أن يروج من الكتب الفلسفية؟ - لا أعتقد أن الكتب الفلسفية توضع للرواج. - ولكن إذا أصدرنا سلسلة من الكتب عن ضحايا الفكر الحر في الفلسفة والتصوف ألا نسهم بذلك في الدفاع عن الحرية المغتالة في هذا العهد؟
فقلت بحماس: فكرة بديعة. - وناجحة، أليس كذلك؟ - بكل توكيد.
Bilinmeyen sayfa