فالقرآن يتلى في الإذاعات الأوربية والأمريكية، وهو يتلى على أنه إمتاع للمستمعين بحسن الأصوات، ولكن كثيرا من المستمعين يسمعونه لنفسه أولا وللأصوات التي تتلوه ثانيا وما يكون فيها من التطريب. وقد تذاع بعض روائع البيان في اللغات الحية، ولكنها لا تذاع في نظام واضطراد كما يذاع القرآن.
وجملة القول أن القرآن لحياة المسلمين يرضون به ربهم حين يأتون ما أمر به ويجتنبون ما نهى عنه، وحين يقيمون صلاتهم مجتمعين أو متفرقين يقرءونه أو يسمعونه متعبدين بقراءته أو سماعه، وحين يستنبطون منه العلم ويلتمسون فيه الروعة والجمال ويستمتعون بقراءته أو سماعه بالأصوات العذاب.
وليس في التراث الإنساني كله شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة العربية حين تلتوي باللهجات العامية المختلفة، والأجنبية حين تلتوي بلغاتها المتباينة؛ فالذين يحفظون القرآن في الصبا، ويكثرون قراءته ويجودونها أصح الناس نطقا بالعربية وأقلهم تخليطا فيها. ومن أجل ذلك كانت الأجيال السابقة إلى عهد قريب تأخذ الصبية حين يتعلمون الكتابة والقراءة بحفظ القرآن كله أو بعضه وتجويد قراءته؛ يرون في ذلك محافظة على الدين وتقويما لألسنة الصبية والشباب. وكان الذين يحفظون القرآن أو شيئا منه أجود نطقا بالعربية حين يتكلمون، وأجدر أن يفقهوا دقائق اللغة حين يتعلمونها. وقد أهمل حفظ القرآن وتمرين الصبية على قراءته وتجويده في المدارس الحديثة حينا؛ فالتوت ألسنة الشباب وفسد نطقهم وضاقوا بدروس اللغة في مدارسهم، ثم أعرضوا عنها بعد الخروج من المدارس، ثم مال كثير منهم إلى العامية فآثروها على الفصحى وحاولوا أن يجعلوها لغة الكتابة فلم تستقم لهم، ولأمر ما عاد القائمون على شئون التعليم فراجعوا مناهج المدارس وبرامجها وجعلوا لقراءة القرآن وحفظه مكانا مرموقا.
والقرآن بعد هذا كله هو الذي حفظ اللغة العربية أن تذوب في اللغات الأجنبية التي تغلبت على اللغة العربية بحكم السياسة في عصور كثيرة وظروف مختلفة؛ فقد تفرقت كلمة المسلمين في السياسة وانحلت الخلافة العربية القديمة وخضع العرب لاستعمار الأعاجم، حكمهم الفرس في دار الخلافة نفسها أولا، وحكمهم الترك بعد ذلك قرونا متصلة، وجاء العصر الحديث فخضع العرب لسلطان الأجنبي الأوروبي يقهرهم مرة بالاستعمار والحكم المباشر لهم، ويقهرهم مرة أخرى بالتفوق في الحضارة المادية والمعنوية جميعا، ويضطرهم إلى أن يتعلموا اللغات الأوروبية إرضاء لحكامهم من الأوروبيين، والتماسا لما في هذه اللغات من علم وأدب وفلسفة وفن. وكان هذا كله جديرا أن يمحق اللغة العربية محقا ويذهب شخصية الشعوب العربية، ولكن القرآن عصم هذه اللغة من الضياع وحال بين الخطوب الجسام وبين التأثير فيها. حرص العرب على القرآن لأنه يحفظ عليهم دينهم ولأنه قوام حياتهم، فقرأه عامتهم وخاصتهم وحفظوا منه القليل والكثير، ودرسه علماؤهم في المساجد والمدارس واختلف إليهم ألوف كثيرة من الطلاب على تباعد الأمكنة والأزمنة، واضطروا من أجل فهم القرآن ودرسه في تعمق أن يدرسوا اللغة التي أنزل بها.
وأكثر من ذلك أن بعض الأمم الإسلامية التي خضعت لسلطان العرب في وقت مضى طوت قلوبها على بغض العرب والعروبة وآذتهم حين استطاعت إيذاء شديدا، ولكنها على رغمها احتفظت بالقرآن لمكان الإسلام منها أو لمكانها من الإسلام فدرست القرآن ودرست لغته العربية.
وإذا كانت هناك الآن وحدة إسلامية عامة أو شيء يشبه هذه الوحدة فبفضل القرآن وجدت وبفضل القرآن ستبقى مهما تختلف الظروف وتدلهم الخطوب. وإذا كانت هناك وحدة يحاول العرب أن يعودوا إليها ويقيموا عليها أمرهم في الحياة الحديثة كما قامت عليها حياتهم القديمة، فالقرآن هو أساس هذه الوحدة الجديدة كما كان أساسا للوحدة القديمة.
وليقرأ العرب إن شاءوا قول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة آل عمران:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
فهذه الآية التي أنزلت وتلاها النبي
صلى الله عليه وسلم
Bilinmeyen sayfa