ولم يكن بين جماعة المسلمين وبين هذه الجموع الضخمة من المشركين تزاحف ولا لقاء، وإنما كان بعض الأفراد من المسلمين والمشركين تكون بينهم المبارزة من حين إلى حين، ولكن المسلمون كانوا مع ذلك في بلاء عظيم، يمتحنون في إيمانهم وثقتهم بما وعد الله ورسوله ويمتحنون في صبرهم على اليأس والمكروه؛ ذلك أن قريشا وحلفاءها كانوا جديرين أن يقيموا فيطيلوا المقام ويفرضوا على المسلمين حصارا شديدا متصلا، وكان بنو قريظة من اليهود جديرين أن يأخذوهم من ظهورهم فلا يعرفون من يقاتلون ولا من أي وجه يقاتلون، ولكن الله يتيح للنبي من عدوه من يأتيه ناصحا له.
يريد أن ينصره، فيأمره النبي أن يخذل بين قريش واليهود، ويفعل الرجل ذلك على أحسن وجه، فيقنع اليهود بأن قريشا خليقة أن تغدر بهم حين يجد الجد ويشتد البأس، ويشير عليهم بألا يشاركوا قريشا في أمرها حتى تعطيهم رهائن من أنفسها، ويقنع قريشا بسوء نية اليهود وأن حلفهم لا يخلو من دخل، ويستحكم الشك عند قريش فتطالب اليهود بالقتال ويطلب اليهود الرهائن فلا تشك قريش في أنهم قد غدروا. وبينما هم في ذلك يرسل الله ذات ليلة ريحا عاصفة أي العصف باردة أي البرد، تطفئ نيران الحلفاء وتكفأ قدورهم وتنزع خيامهم فيأخذهم الذعر، ويشتد فيهم الاختلاط والاضطراب حتى لا يعرف الرجل منهم صاحبه، فلا يكادون يستقبلون الصبح حتى يجلس أبو سفيان على راحلته وينادي في القوم بالرحيل، فيتفرق الأحزاب.
تعود قريش إلى مكتها، ويعود حلفاؤهم من العرب إلى بواديهم، ويصف الله ذلك في الآية الكريمة:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا .
وبعد هذه الخيبة التي منيت بها قريش وحلفاؤها لم تحاول قريش غزو المدينة مرة أخرى، ولكنها مضت تبث كيدها في جزيرة العرب تحرض على النبي وأصحابه المشركين من أهل نجد والحجاز. وكان النبي وأصحابه من أجل ذلك لا يستريحون وإنما تأتيهم الأنباء بين حين وحين بأن هذه القبيلة أو تلك - من قبائل العرب القريبة منهم والبعيدة عنهم - تتهيأ لبعض الشر، فيغزوها النبي بنفسه أو يرسل إليها من يغزوها. كانت قريش تبث الكيد وكان النبي وأصحابه يبثون الهيبة لهم والخوف منهم حتى إذا كان العام السادس للهجرة خرج النبي وفريق من أصحابه قاصدين إلى مكة لا يريدون قتالا ولا يفكرون في حرب، وإنما يريدون العمرة كما كان سائر العرب يقصدون إلى مكة حاجين ومعتمرين.
ولكنهم لا يبلغون الحديبية حتى تعلم قريش بمقدمهم فتأبى أن يدخلوا عليها مكة، ويسعى السفراء بين النبي وبينهم في ذلك؛ يؤكد النبي وأصحابه أنهم لا يريدون إلا العمرة، وتأبى قريش أن يدخلوها عليهم وتنذر بالقتال وتتهيأ له، ثم يكون الصلح الذي يعرف بصلح «الحديبية» والذي امتحن الله به قلوب المسلمين وزلزل به قلوب بعض خيارهم؛ ذلك أن النبي قبل من قريش ألا يدخل عليهم مكة عامهم ذاك، وقبلت قريش أن يدخلوها من قابل لا يحملون من السلاح إلا السيوف في أغمادها، وشق ذلك على المسلمين حتى أقبل «عمر» على النبي يسأله: ألسنا على حق؟ قال النبي: «بلى.» قال عمر: أليسوا على باطل؟ قال النبي: «بلى.» قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال النبي: «أنا عبد الله ورسوله ولن يضيعني.»
وأعاد «عمر» سؤاله هذا على أبي بكر، فأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي به، ولما عقد الصلح أمر النبي أصحابه أن يحلوا من إحرامهم فأبطئوا ولم يستجيبوا، واغتم النبي لذلك، ولكنه لم يلبث أن أحل من إحرامه حتى صنع أصحابه صنيعه.
وأنزل الله:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا * هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما .
ويقول الرواة: إن بعض المسلمين حين تليت عليهم هذه السورة سألوا النبي: أوفتح هذا؟ قال النبي: «نعم.»
Bilinmeyen sayfa