وفي ذات يوم قامت قريش وقعدت وانطلقت ألسنتها بالسخرية، ووصل الشك إلى قلوب بعض الذين آمنوا؛ ذلك أن النبي أصبح فأنبأ بأنه أسري به من ليلته إلى المسجد الأقصى، وتلا هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .
وواضح أن قريشا لم تكن لتصدق أن يسرى بالنبي من ليلته إلى المسجد الأقصى ويعود منه قبل أن يسفر الصبح. وهم الذين ينفقون في رحلتهم إلى الشام ما ينفقون من الأيام الطوال ويلقون في رحلتهم ما يلقون من المشقة والجهد؛ فكيف بهم حين ينبئهم النبي بأنه ذهب إلى المسجد الأقصى في القدس وعاد إلى مكة في ساعة من ليل. ولكنه يصف لهم الشام والقدس والمسجد فلا ينكرون من وصفه شيئا؛ هنالك اضطربت قلوبهم وفكروا في أن يعجزوه فأرسلوا إلى اليهود ينبئونهم نبأه ويلتمسون عندهم من المسائل ما يلقونها عليه يمتحنون بها صدقه.
قال رواة السيرة: فأمرهم اليهود أن يسألوه عن أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف ما خطبهم؟ وألقيت عليه المسألة. ولكن الوحي أبطأ عليه شيئا حتى ظنت قريش أنها قد أعجزته، ثم أقبل عليهم ذات يوم فتلا عليهم قصة أهل الكهف كما عرفوها من اليهود.
فلا غرابة بعد هذا كله في أن يضيقوا به، وفي أن تضيق مكة بالنبي نفسه، وفي أن يثبته الله ويعزيه عن جحود قومه وعصيانهم بعدما جاءهم الحق واضحا جليا، فالله يقول له في سورة الكهف:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .
وعلى رغم هذا كله فقد أقام فيهم حتى عرض عليهم أصول الدين وبين لهم ما ليس منه بد ليأمنوا سوء العاقبة في الدنيا والآخرة: بين لهم أن إلههم واحد لا شريك له، وأن الإشراك به ظلم وجحود يضطر صاحبه إلى الخلود في العذاب المقيم. وبين لهم أن الله قد أرسله رسولا كما أرسل الرسل من قبله إلى قومهم، وأن الإيمان لا يستقيم لصاحبه حتى يشهد من أعماق قلبه بوحدة الله وصدق رسوله، وحتى يكون الإيمان بالله ورسوله ملء قلوبهم وعلى ذكر منهم في كل ما يأتون وما يدعون. وبين لهم أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والرفق باليتامى والمساكين والبر بالوالدين وطاعتهما إلا في الكفر بالله أو معصيته. وبين لهم أن الله ينهاهم عن آثام فليس لهم بد من أن يجتنبوها، ينهاهم عن القتل ظلما، وينهاهم عن وأد البنات وقتل الولد خشية الإملاق، وينهاهم عن الزنى، وعن الخيلاء والمرح، وعن الغرور والكبرياء، وعن الكذب وقول الزور، وعن شهود اللغو والمشاركة فيه.
بين لهم هذا كله وأكثر من هذا كله وبشرهم بالمثوبة الحسنى عند الله إن آمنوا وأصلحوا وأطاعوا، وأنذرهم العقاب الشديد في الدنيا والآخرة إن كفروا وعصوا.
صدع بما أمره الله أن يصدع به وأدى مهمته كأحسن ما يكون أداء المهمات، لم يقصر ولم يفتر ولم ييأس حتى أذن الله له في الهجرة، فهاجر بعد أن أعفى نفسه من كل تبعة، وأدى حق الله وحق قومه عليه، وبر بهم فلم يلق منهم إلا جحودا وعقوقا، ولم يؤمن له منهم إلا القليل كما رأيت.
14
Bilinmeyen sayfa