صلى الله عليه وسلم
قوله: «من حمل علينا السلاح فليس منا.» وقد روينا لك غير مرة قوله
صلى الله عليه وسلم : «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.» وليس لشيء من هذا كله مصدر إلا افتتان الناس بزهرة الحياة الدنيا، وانحرافهم عما أراد الله للمسلمين من أن يقيموا أمرهم كله على العدل والمساواة والإنصاف. واختلافهم في فهم القرآن تأثرا بالأهواء، واستجابة لما كان يملأ نفوسهم من الطموح.
7
على أن هذا كله لم يلبث أن صار إلى شر عظيم حين غلبت العناصر الأجنبية على شئون الحكم، فأقامت هذه الشئون على المنافع، غير حافلة بما يأمر به الله من العدل والإنصاف والمساواة، والشعور المتصل بهذه الرقابة الرهيبة التي فرضها الله على الناس، فراقب أعمالهم الظاهرة ونياتهم الباطنة، وأنبأ بأنه سيسأل الناس عما تعمل جوارحهم وما تضمر قلوبهم. أعرضوا عن هذا كله وأقاموا أمور الحكم على المنافع العاجلة، وعلى المنافع العاجلة لأنفسهم ولأعوانهم وذوي خاصتهم، ولم يحفلوا بالعامة، ولم يفكروا في أن للأمة حقوقا يجب أن تؤدى إليها، وعليها واجبات يجب أن تحمل على أدائها. بل نظروا إلى الأمة على أنها وسيلة لإرضاء المطامع، وأداة لتحقيق المآرب، والأصل الديني في كل حكم صالح أن تكون الأمة غاية وتكون الحكومة وسيلة، وتكون الغاية الكبرى التي تشترك فيها الحكومة والأمة هي إرضاء الله بتحقيق العدل ومحو الجور حيثما وجد، وشعور الحاكمين والمحكومين جميعا بأنهم لم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى، لم يستخلفوا في الأرض ليفسدوا فيها ويسفكوا الدماء، ويطغى بعضهم على بعض ويستغل بعضهم نشاط بعض. وإنما خلقوا ليصلحوا ويحسنوا ويعملوا على أن يلقوا ربهم كما يجب أن يلقوه أتقياء أنقياء مبرئين من الذنوب والآثام، التي تعرضهم لها الفتنة، وإيثار المنافع العاجلة الفانية على المنافع الآجلة الباقية.
ثم لم يكتف الحكام الأجانب بهذا كله، ولكنهم جهلوا اللغة العربية فلم يقدروها حق قدرها، ولم يلتفتوا إلى أنها لغة القرآن والسنة والثقافة، وأن إهمالها إهمال لهذا كله، وأن عاقبة هذا الإهمال إنما هي الجهل؛ جهل الدين أولا، وجهل الثقافة والعلم ثانيا، والانتهاء آخر الأمر إلى أن تقوم أمور الناس على الجهل الذي يناقض العلم، وعلى الجهل الآخر الذي يناقض الحلم والأناة وكبح الشهوة وقهر النفس، وأخذها في أمرها كله بالحق والعدل والمساواة بين الناس، وأداء الواجبات مهما تثقل.
وإلى الجهل بهذين المعنيين صارت أمور المسلمين آخر الأمر، جهل الحكام شئون الدين وشئون الثقافة والعلم فلم يحفلوا بنشر الدين والثقافة والعلم، فانتهى أمر الأمة نفسها إلى الجهل العام. وعن هذا الجهل العام نشأ الشر الذي يحاول المسلمون في هذا العصر الحديث أن يخلصوا منه، فلا يبلغون من ذلك بعض ما يريدون إلا بأشق المشقة وأعظم الجهد. وإذا أهملت الحكومة شئون الدين فلم تشجع العلماء على أن ينشروه بين أصحابه، وبين الذين لم تصل إليهم دعوته بعد، ولم تشجع الناس على أن يتعلموا دينهم؛ هان أمر العلماء بالدين على الحكومة أولا، وعلى الأمة ثانيا، وعلى أنفسهم آخر الأمر. فأهملوا ما كان يجب عليهم أن يعنوا به من الدرس والبحث وتعمق الأصول، واستخراج فروع الأحكام التي تلائم حياة الناس على مر الأيام وتطور الظروف.
ومن أجل هذا كله غاضت تلك الينابيع الغزيرة التي كانت تمد عقول الفقهاء بهذا الإنتاج الخصب الرائع، الذي لا نعرف أنه أتيح لأمة قديمة قبل الأمة الإسلامية، حتى الأمة الرومانية التي برعت في الفقه وتعمقته. وقد كان فقهاء المسلمين في أول أمرهم يجتهدون في فهم القرآن والسنة وسيرة الصالحين من أصحاب النبي، ويستنبطون الأحكام من هذا كله، لا يصدهم عن ذلك شيء، ولا يردهم عنه رضى السلطان عنهم أو سخطه عليهم، ولا التفاف الناس حولهم أو انصرافهم عنهم، فأنشئوا هذا العلم الخصب وذهبوا فيه المذاهب. وكان اختلاف مذاهبهم نافعا للناس في حياتهم العامة، وفي حياتهم الخاصة كان مذكيا لعقولهم وقلوبهم أولا، وكان بعد ذلك يوسع عليهم ألوان الحل لما كان يعرض لهم من المشكلات.
وكان الناس يجدون حين يطلبون العلم في العناية بالفقه وتعمقه، والتصرف في معضلاته، حتى إذا أهمل العلم والدين وجمد العقل وانقطع التفكير الخاص؛ صار الناس إلى هذا التقليد البغيض، يتحرج علماؤهم من الاجتهاد، ويطمئن عامتهم إلى هذا التقليد، وفرضت على الأمصار والأقاليم مذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل - رحمهم الله.
وفرغ الفقهاء لدرس مذهب من هذه المذاهب يجادلون عنها ويتكلفون التعمق لها، يقلد كل جماعة منهم إماما من هؤلاء الأئمة ويضعون مذهبه موضع التقديس، لا ينحرفون عنه ولا يغيرون فيه. ثم انتهى أمرهم إلى التعصب لأئمتهم والتنكر لغيرهم من المجتهدين، حتى أضاعوا علما كثيرا ذهب مع الزمن لشدة الانصراف عنه وقلة التفكير فيه، ثم تعصب أصحاب الأئمة الأربعة لأئمتهم فثارت بينهم الخصومات السخيفة التي لا تغني عنهم ولا عن عامة الناس شيئا. ثم صار العقل الفقهي إلى شيء من التحجر، وجعل الفقهاء يبدئون ويعيدون فيما قال قدماؤهم، لا يزيد متأخر على متقدم شيئا، ثم صار الفقه إلى كتب تقليدية مختصرة توضع لها الشروح وتضاف إليها الحواشي. وجعل شباب الطلاب يحفظون المختصرات عن ظهر قلب، ويختلفون إلى أساتذتهم ليسمعوا منهم شروحا وحواشي، يفهمون منها ما يستطيعون ويتركون منها ما لا يحسنون فهمه، وأتيح لبعض البلاد الإسلامية حكام يقلدون مذهبا من المذاهب، فيفرضونه على المحكومين، ويختارون القضاة من فقهاء هذا المذهب لا يتجاوزونه إلى غيره. وجمدت العامة مع الفقهاء فأصبح هذا الشعب يدين بمذهب أبي حنيفة، لا يستبيح أن تحل مشكلاته بحكم مذهب آخر. وشعب آخر يدين بمذهب مالك لا يعدوه إلى غيره، وأتيح لبعض الشعوب أن يكون من أبنائه الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، ولم يحفل الحكام بذلك ولم يهتموا له، وإنما اكتفوا بأن يختاروا لكل أصحاب مذهب قضاة من أهل مذهبهم.
Bilinmeyen sayfa