نسيت كل هذا واستجابت لفتنة المال وحب السلطان والاستئثار بخيرات الدنيا فضرب بعضها رقاب بعض يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم حروراء، وفي تلك الأيام التي كان معاوية يرسل فيها كتائبه لتغير على الآمنين في المدن والقرى والبوادي أيضا على نحو ما كانت العرب تفعل في جاهليتها. وقد صدق علي - رحمه الله - في البيتين اللذين أنشدهما ذات يوم على منبر الكوفة ورويناهما آنفا وفي الثاني منهما بنوع خاص:
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم
بذات ودقين لا يعفو لها أثر
فقد قتل رحمه الله، ومنذ قتله أظل المسلمين شر لم تنقشع سحبه إلى الآن، فقد انقسمت الأمة إلى فريقين عظيمين: فريق يرى أن عليا هو الإمام الشرعي للأمة وأن الإمامة يجب أن تكون في ولده، وفريق آخر يذهب إلى ما ذهبت إليه جماعة المسلمين بعد وفاة النبي حين اختاروا أبا بكر للخلافة، وحين بايعوا بعده عمر لا يرون أن الخلافة تورث في أهل البيت، وإنما يليها من كان كفئا لولايتها من صالحي المؤمنين. واشتد العداء بين هذين الفريقين وجعل بعضهما يكفر بعضا، ونجم بينهما فريق ثالث، وهو فريق الخوارج الذين ذهبت ريحهم الآن، والذين كانوا يكفرون الشيعة والجماعة معا ويستبيحون دماءهم وأموالهم.
صدق علي في بيته ذاك، وصدق عثمان - رحمه الله من قبله - حين قال لمحاصريه: «إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا.» وقد قتلوه فلم يصلوا جميعا أبدا، انقسموا شيعا وأحزابا، وكان كل فريق منهم لا يستحل الصلاة مع الفريق الآخر. وكانت الدنيا وزهرتها مصدر هذا الخلاف، ومصدر ما جرى من دماء، ومصدر ما بقي من آثاره إلى اليوم.
فلولا أن بني أمية طمعوا في الدنيا وغلبوا ذلك الشيخ على أمره لما كانت الفتنة بقتل عثمان. ولولا أن معاوية قد كان رجلا من بني أمية، طمع كما طمعوا وألف حكم الشام فكره أن يتركه، ثم طمع في أن يضم إليه سائر أقطار المسلمين، لما كانت الحرب بينه وبين علي، ولولا أن طلحة والزبير طمعا في الخلافة، أو في أن يشاركا عليا فيها، ولولا أن عائشة كانت تكره عليا منذ قصة الإفك، لما كانت الفتنة يوم الجمل.
وقد اجتمعت لمعاوية أقطار البلاد الإسلامية كلها بعد أن صالحه الحسن بن علي رحمه الله، فسمى نفسه أمير المؤمنين، ولكنه لم يسر سيرة من عرفنا من أمراء المؤمنين، وإنما جعل الخلافة ملكا وأورثها ابنه من بعده، واستباح أشياء حرمها الله في القرآن، فاستلحق زيادا ورغب به عن أبيه، والله ينهى أشد النهي في القرآن عن هذا الاستلحاق وأمثاله في قوله من سورة الأحزاب :
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما .
وكان زياد يعرف أباه عبيدا الرومي حين قبل هذا الاستلحاق، وفرح به، وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Bilinmeyen sayfa