ميتة غير سويه!
بقيا على تلك الحال سبعة أيام، وجاء اليوم الثامن فكان شديد الحر، لواح الهجير، متقد أديم الأرض، مات فيه النسيم العليل، وبعثت نيران الجحيم، وصبت الشمس فيه شواظا على جبل قاسيون، فأبى أن يحمله وأشفق منه، فرمى به إلى المدينة شررا وحمما، واغبر الجو فاختفت الأنفاس، وضاقت الصدور، ولم تطق سلمى ذلك الحر اللافح، فأمرت جواريها أن يضعن لها ثلجا في الماء، فلما ذاب فيه قامت لتبترد، فتسلبت من ثيابها، وأخذت تصب الماء على جسمها، وحين شعرت بلذة الماء وبرده والت الصب، ثم والته، كأنها كانت تطفئ لهيبا، ثم لبست غلالة رقيقة من الحرير، وخرجت إلى أحد مشارف القصر فوقفت به طويلا، وما كاد يولي النهار حتى شعرت ببرد شديد يسري في أوصالها، ثم أخذتها غشية فسقطت على الأرض لا تحس ولا تبين، فأسرع إليه الوليد فحملها إلى سريرها، وأقبلت أمه مذعورة واجفة، وطفق الجواري يدلكن جسمها، وينضحن وجهها بماء الورد لتفيق، واضطرب الوليد وأخذه البكاء، واستولى عليه الهلع، وجعل يصيح: أين الطبيب؟ أين الطبيب؟ اذهبوا إلى فرات بن شحناثا اليهودي، أحضروه على جناح الريح، على جناح البرق، على جناح الشيطان! حبيبتي! حبيبتي تموت وأنتم هنا أمامي يا أولاد الإماء!
ولم يمض إلا قليل حتى جاء الطبيب، وكانت البرودة التي في جسم سلمى انقلبت حرارة متأججة، وأخذ تنفسها يتلاحق، وصدرها يرتفع وينخفض كأنه كير حداد، ثم اعترتها نوبة هذاء وخلاط، فجعلت تثب من سريرها وتصيح: دعوني أذهب إلى زوجي، أنا أعرف أنه بعمان، لقد حال هشام بيني وبينه، حبيبي! أنت لا تصلح بائع ثياب، إن وجهك يشي بك، إن به نبلا موروثا، إنه وجه ملك، أثواب وألوان للعذارى الحسان! دعني يا أبي من ابن عنبسة، عم مساء يا أبي، هاتوا حلي العروس! مشطوا العروس! ما هذه البئر؟ إنها بعيدة الغور مظلمة، لقد زلقت رجلي، أدركوني! أنقذوني! ثم سقطت على السرير مجهودة لاهثة، تطلب نفس النسيم فلا تكاد تجده، وغاصت في غشية لا قرار لها، وارتفع بكاء الوليد، وبكاء من حوله من الجواري والخدم، وأخذ يلطم وجهه كما تفعل النساء إذا حزبهن الحزن، ولا يجدن له متنفسا، ومس الطبيب المريضة، وسأل عما يكون سببا في المرض، ثم اتجه إلى الخليفة مكفهر الوجه حزينا وقال: إن هذا المرض في الرئتين يا أمير المؤمنين، وقد سببه صب الماء البارد، ثم التعرض للجو في غلالة رقيقة، وهو مرض قوي الحملة، شديد الوطأة، ولكن الله يشفي ما هو أشد منه وأعضل، ودواؤه الدفء، والأشربة الساخنة، ويجب ألا تخاطب المريضة وهي تهذي، وإلا اختلط عقلها، وإذا احتملت مولاتي هذا المرض خمسة عشر يوما نجت وزالت أسباب الخوف، وإني يا أمير المؤمنين مستبشر خيرا، راج في وجه الله الكريم، وسأعد لمولاتي دواء، وسأتردد في كل يوم مرات، مسح الله السوء عن مولاتي، ولا أحزن قلب أمير المؤمنين!
وانصرف الطبيب، ومر يوم وثان وثالث والمرض يستشري، والآمال تتضاءل، حتى إذا كان اليوم السابع هدأت المريضة، وسكن صدرها من الخفقان، فاستبشر الوليد وأرسل صيحة فرح دوت في جوانب الحجرة، وكادت تهز الكلة التي ضربت فوق سريرها، ثم أخذ يداعبها ويدللها ويقول: لقد شفيت يا حبيبتي، وزال عنك الضر، سأذهب بك عندما يتم شفاؤك إلى لبنان، إن هواءه يبرئ السقيم، وماءه من تسنيم، وتفاحه كفمك مسكي النفحات، سكري اللثمات، أتحبين تفاح لبنان يا سلمى؟ حدثيني، أتفضلينه على مشمش دمشق؟ قولي يا حبيبتي أيهما تفضلين؟ مالك ساكنة؟ أواجدة أنت علي؟ لا لا، إن الوليد لا يغضب ريحانة حياته، بالله أجيبي يا سلمى!
ولكنها لم ترد عليه، ولم تجاذبه الحديث، فرفع الكلة ونظر، فإذا جثة هامدة! وإذا الجمال الباهر الذي كان جمالا في جسم وروح أصبح جمالا في تمثال؛ فصرخ وشق ثيابه، وأخذ يدور في الحجرة كالمجنون، ويضرب الجدران برأسه ويصرخ: ماتت سلمى! ماتت سلمى! ذهبت حياتي! طويت آمالي! غابت شمسي! جفت زهرتي! صوحت روضتي! أدركوني يا عبيد القصر، خذوني وادفنوني معها، لا شأن لي بالحياة بعدها، إن الحياة ليست نفسا يتردد، ولكنها أمل ورجاء وحب، وكان أبو رقية يجلس في ناحية من الحجرة مشدوه العينين ساهما، يرتل القرآن ترتيلا، وقدم رجال الدولة وعم البكاء، وارتفع العويل، وطوي بساط السرور، وفرش بساط للأحزان.
وفي اليوم التالي دفنت سلمى بعد إباء من الوليد وممانعة، وبعد أن شيعها بأبيات تقطع نياط القلوب، وتستنزف ماء الشؤون:
ألما تعلما سلمى أقامت
مضمنة من الصحراء لحدا؟
لعمري يا وليد ولقد أجنوا
بها حسبا ومكرمة ومجدا
Bilinmeyen sayfa