نصح وعناد
قصر راسخ القواعد، شامخ الذرا، رسا أصله فوق شرف عال من الأرض، وارتفعت قبابه في الجو كأنها تطلب شيئا في السماء، وقد موهت بالنضار، وسطع عليها الأصيل، فأرسلت شعاعا كان أجمل من الأصيل، وأبهى من خالص النضار، وامتدت حول القصر البساتين الفيح تجري بها الجداول بطيئة متعثرة، كأنها تخشى أن تلتقي بنهر بردى، فيلتقمها زخاره الخضم، ويدور بها كالمذعور فيقتحم كل دار، وينفذ من كل حائط، ورفت بها الأزهار رائعة الألوان، مسكية الشذا، وقد عبث بها النسيم فراحت تختبئ في أكمامها كأنها الغيد الحسان خافت خائنة الأعين، وفضول العاشقين، وماست أشجار الحور كأنما شجاها تغريد الطير فوقها، فأخذت تسارق الأنغام، وتساير رنين الإيقاع.
ذلك مشهد يجب أن يرى حتى يعرف، ويجب أن تراه عين فنان لتدرك بعض ما به من جمال وروعة. أما القلم، وأما اللسان، فأعجز من أن يصلا فيه إلى صورة، أو شبه صورة، تقر بها العيون، أو تطمئن لها النفوس، يقولون: إن اللغة أداة البيان، ويقولون: إن اللغة بريد العقول، فهل هي أداة البيان حقا؟ وهل هي بريد صادق يحمل ما في نفسك إلى نفس غيرك؟ إن من ضروب الأحاسيس ما يدق عن متناول اللسان، ويستعصي على سنان القلم، وإن من الصور الغريبة الألوان الغريبة التركيب ما يعجز الوصف، ويخرس البيان، ولن يملك المرء إذا رآها إلا أن يصيح: هذا باهر! هذا جميل! هذا فاتن! وكأنه يريد أن يقول شيئا آخر فلا يستطيع. وستبقى الإنسانية هكذا عجماء حتى توفق إلى وضع كلمات جديدة تترجم عن كل ما تراه العين، ويجيش به الوجدان. ويكفي أن أقول: إن هذا المنظر كان بربوة الوادي بالجانب الغربي من دمشق، وإن هذه الربوة تزدان بأبدع ما طرزته يد القدرة على هذه الأرض من حلل، وإنها إلى جنة الخلد أشبه بالمطلع إلى القصيدة، أو بالمقدمة إلى الكتاب، وهي التي حينما رآها عمر بن الخطاب عند قدومه إلى الشام قرأ قوله تعالى
كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين .
هذه هي ربوة دمشق، وهذا هو قصر الوليد بن يزيد، وكان يسمى قصر «حبابة»، بناه يزيد بن عبد الملك الخليفة الأموي لجاريته «حبابة»، وأنفق فيه كثيرا من كنوز الدولة، وقام على بنائه وزخرفته كبار مهندسي الروم، فجاء صورة للفن الرائع، ومظهرا لفخامة الملك، وصولة السلطان.
وفي أحد أيام شوال من سنة ثلاث وعشرين ومائة جلس ببعض أبهاء هذا القصر يزيد بن الوليد، ويزيد بن عنبسة، ومحمد بن شهاب الزهري، ويزيد السلمي، وقد طال بهم الإطراق، ودلت أسارير وجوههم على ما تنطوي عليه أنفسهم من أمر عظيم، وهم دفين، وبعد لأي رفع الزهري رأسه، وكان من كبار المحدثين، وأعلام التابعين، عظيم المنزلة في الدولة لعلمه وورعه، وقال: لست أدري لم بعثنا الخليفة هشام إلى هذا الرجل، وهو يعلم أن انتقال جبل «قايسون» من مكانه أهون وأيسر في إدراك العقول من هدايته، وزحزحته عما هو فيه من عبث؟ لقد حدثته مرارا، وسقت إليه كثيرا من أقوال الرسول الكريم، ووعظته فأطلت الوعظ، فما كان يزيده كل هذا إلا تماديا، حتى كأنني كنت أغريه بلومي، وأثير فيه شيطان الغرور بمواعظي،
ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ، صدق الله العظيم.
فرفع إليه يزيد بن الوليد بصره، وقد نم وجهه عن ضجر واشمئزاز، وقال: إن الأمر يا أبا بكر لو اقتصر على فتى سادر لهان وقلت نوازله، وخفت أوزاره، ولكنه أمر أسرة كريمة المنبت في الجاهلية والإسلام، وشأن دولة تحمل أعباء الخلافة، وتحمي صخرة الدين أن تنهار، بعد أن بذلت جهود وعقول في إرسائها، وحطمت سيوف في توطيد أركانها. والشيخ يرى ما تنهض به دولة بني أمية كل يوم من أعباء، وما تشهد من عزائم، فجيوشها لا تكاد تقفل من العراق وخراسان، حتى تسير إلى أرمينية وأرض الروم، فهي أبدا صائفة شاتية. وسيوفها لا تكاد تقر في أغمادها، حتى تستل من جديد، ولا تكاد تجف دماؤها من قهر خارجي، حتى ينبع لها خارجي من أقاصي الأرض، كأن الأرض أجدبت من كل نبات إلا من هؤلاء المناكيد. وإذا أسكتنا زئير أهل خراسان، أطلت علينا ثورة في المدينة، ومدت رأسها فتنة بالعراق، فإذا لم تكن أزمة الدولة في يد جريئة حازمة، ولم يصرف شئونها رجل داهية باقعة لم تستعبده الدنيا، ضاعت الدولة بددا، وكانت حرضا، وهذا الوليد بن يزيد الذي بعثنا اليوم هشام لنصحه ودعوته إلى الكف عن لهوه، لو كان فتى من فتيان بني أمية لا يرتبط بالخلافة، ولا يتصل بسياسة الحكم بسبب، لصرفنا عنه وجوهنا آسفين محزونين، ولقلنا: شاب أطغاه المال، والشباب، والحسب، فراح ينتهب لذات الحياة، وإن له لغاية هو مدركها، وأجلا هو موفيه، ولحظة ندم يهم أن يعتصم فيها بالتوبة، فلا تنفعه التوبة، ولكن يأبى القدر إلا أن يكون الوليد هذا ولي عهد الخلافة، وتأبى الأيام السود إلا أن تعده ليجلس حيث كان يجلس عبد الملك ابن مروان، وعمر بن عبد العزيز. يا ويل الخلافة، ويا ويل الإسلام إذا ألقيت مقاليد الحكم في يد هذا الرجل! وإننا إذا جئنا اليوم لنكفه عن شهواته، أو لنصلح من نفسه - إن كان ذلك الإصلاح مستطاعا - فإنما إلى صون الخلافة نقصد، وحماية الملك نريد.
فتحرك يزيد بن عنبسة في قلق المغيظ المحنق، وقد كان قبل ذلك يعتمد برأسه على قائم سيفه حزينا واجما، وقال: إن الله يريد لهذا الملك أمرا هو قاضيه، فإننا ما كدنا نبتهج بموت أبيه يزيد بن عبد الملك، وقيام خلافة هشام بعده، حتى دهمتنا المقادير فحتمت علينا أن يكون هذا الفتى ولي عهد هشام. لقد كان يزيد مسرفا على نفسه، قسم أيامه وأمواله بين سلامة القس المغنية، وحبابة اللعوب، وبنى لحبابة هذا القصر الشامخ الذي نجلس فيه اليوم، وأنفق عليه من الأموال ما كان يكفي لغزو الصين، وكل ما وراء البحر الأخضر من ممالك، ولكنا نحمد الله على أن عهده لم يطل، وأن هلاكه كان وشيكا، وكثيرا ما يكون الموت علاجا إذا أعضل الداء، وعز الدواء. كانت خلافته أربع سنين كادت تهوى فيها الدولة إلى الحضيض، لولا قوة فيها كامنة من عزمات صلاب وطدت أساسها من عهد قديم، وكأنه أراد أن يصل حباله بحبال ابنه فلم يمت حتى عهد بالخلافة بعده إلى هشام، ثم من بعد هشام إلى هذا الفتى، وإن أخشى ما نخشاه بعد أن أعاد هشام إلى الخلافة عظمتها، وغرس في القلوب الرهبة منها، وأقام عمودها، وحرص على جمع الأموال لسد مفاقرها أن يأتي بعده هذا الوليد فيمحو آثارها، ويبدد قوتها، ويمكن منها أعداءها القاعدين لها كل مرصد، والمتربصين لها الدوائر، والمتحرقين إلى فرصة يمزقونها فيها أشلاء، ويأتون على بنيانها من القواعد، وليس لدينا من الرجال اليوم ما كان لنا والدولة في عنفوانها، والملك في قوة اكتماله، فليس لنا مثل مسلم بن عقبة، وليس لنا مثل الحجاج بن يوسف، وليس لنا مثل قرة بن شريك، فإذا وقعت الواقعة، وحلت الفادحة، وتركت الدولة في أيد خائرة لم تجد بين الدافعين عنها إلا بنانا مخضبا، ومعصما أدماه السوار، وويل لدولة تحميها النساء!
فأسرع الزهري يقول: لقد حاول يزيد بن عبد الملك أن يخلع هشاما من ولاية العهد، وأن يقدم ابنه عليه لولا أن أدركه الموت من حيث لم يكن يتوقع، ولو أنه فعل لكان للمسلمين اليوم حال غير تلك الحال. وهنا اتجه يزيد بن عنبسة إلى السلمي وقال: مالك لا تنازعنا الحديث أبا مساحق؟ إن أكبر الظن أن كلامنا يثقل عليك، فلقد رأيت سحابة غيظ تركد على وجهك منذ دخولنا، ولعلك لم تكن تتوقع أن يزور صاحبك اليوم قوم غلاظ شداد يصارحونه القول، ويدعونه في عنف إلى تقوى الله، ومخالفة نفسه. فقال الزهري: إن السلمي كان معلم الوليد ونصيحه، وكان الأجدر به، وقد قضى في الإشراف على تهذيبه سنوات، أن يقوم قناته، وأن يصرف عنه شياطين الفتنة، فإنه لو فعل لأغنانا اليوم عن لقاء هذا الفتى، وجبهه بما يكره، ووالله لولا أن ألح علي الحقيقة، وألحف في وجوب القيام بنصحه، ما نقلت إلى داره قدما.
Bilinmeyen sayfa