صدق الله العظيم.
فاتجه هشام إلى كبير السجن وقال: أطلقوا الرجل، ثم التفت إلى كاتبه وأمره أن يمنحه ما يكفيه في أيامه الباقية، وما كاد يخرج من السجن حتى رأى خادمه يعقوب يقبل إليه مسرعا، وقد تملكه الاضطراب والفزع، وهو يصيح: مولاي مسلمة يا أمير المؤمنين! - ما شأنه؟ - اختطفه اللصوص يا أمير المؤمنين! فبهت هشام وصرخ: اللصوص؟ أي لصوص ويلك؟ - نعم يا أمير المؤمنين، اختطفه اللصوص. - كيف ثكلتك أمك؟ - لقد خرج في الصباح كعادته على برذونه الطخاري، وصحبته إلى الغوطة، حتى إذا عزمنا على الرجوع بدا لنا من بعد رجل يضرب امرأة بسوط، لا تأخذه بها رحمة، وهي تصيح وتستغيث؛ فأشفق سيدي على المرأة، وجرى نحوها لينقذها وجريت معه، ثم نزل عن برذونه، وتقدم نحو الرجل شاهرا سيفه، وما كاد يفعل حتى خرج علينا كمين من الخلف فانقض علينا رجاله، وقبضوا على أيدينا فلم نستطع دفعا، ثم شدوا وثاقنا فلم نستطع حراكا، ثم جاءوا فربطوا على فمي وفم سيدي، وحملوه على جواد لهم، وانطلقوا به في سرعة الريح العاصفة، وبقيت مكتوفا مكموما حتى عثر بي أحد الأعراب فحل وثاقي، فأسرعت إليك يا أمير المؤمنين لتجد إلى إنقاذه سبيلا. - ويل لهم! يختطفون ابني في حاضرة ملكي وبين سمع أعواني وبصرهم! أي طريق سلكوا لا أم لك؟ - لا أدري يا أمير المؤمنين، فقد أثارت خيولهم غبارا حجب عني طريقهم. - صفهم لي. - كانوا يلبسون ثياب الأعراب، ولكنهم لم يكونوا من الأعراب، وقد دس أحدهم هذه الورقة في يدي، وهو يعقد وثاقي. - هاتها ويلك! فناوله يعقوب الورقة، فأسرع إلى قراءتها، وكان فيها: إن لم تطلق عبد الصمد بن عبد الأعلى، وابن سهيل، وابن مسلم الليلة ذبحنا ابنك كما تذبح الشاة، وقذفنا به في فناء قصرك، إننا جادون غير هازلين، وبيننا وبينك غروب الشمس، فإن أطلقتهم نام ابنك الليلة على فراشه، وإلا فقد أنذرناك.
صعق هشام بعد أن قرأ الورقة، وأخذت يداه ترتعشان، ورمى الوليد بنظرة كادت تسحقه، وصاح بكبير السجن: أطلق الكفرة الفجرة أصحاب الوليد، وسوف يكون لي ولهم شأن، فإن للعذاب ألوانا غير السجون، وسيعلم الأنذال ما ينتظرهم بعد حين.
هجرة ولقاء
ترك الوليد هشاما وهو يعجب لتصاريف القدر، ويفكر في أمر الذين جرءوا على ابن الخليفة فاختطفوه في النهار المبصر، كما تختطف السلع، أو كما تطر الجيوب، ثم طاف بخاطره أن هؤلاء القوم إنما كانوا يعملون لأجله، ويحتطبون في حبله، ويناصرونه على أعدائه، وأنهم ما أنقذوا ندماءه من براثن هشام إلا لحبهم إياه، وبغضبهم الخليفة، من يكون هؤلاء يا ترى؟ ومن الذي دفعهم إلى هذه الفعلة الجريئة؟ من هو ذاك الذي أمدهم بالمال، ورسم لهم تلك الخطة المحكمة، وذلك التدبير الحاذق؟ أسئلة لم يستطع الإجابة عنها بعد أن فكر طويلا، وأكد ذهنه طويلا، فسار إلى قصره حتى بلغه، فكان أول من قابله أبو رقية المعتوه بوجهه الأبله، وفمه المفتوح الذي لا ينقطع منه سيلان الريال، فقال الوليد: كيف حال الدنيا يا أبا رقية؟ - الدنيا بخير لأنها تجري على نمط مطرد، وإنما الناس هم الذين يتغيرون، ولو عاش الناس عيشة البهائم لرأوا أن للدنيا صورة واحدة جميلة تتكرر على مر الزمان، وإذا قلنا لهم: عيشوا عيشة البهائم، قالوا: إننا مجانين، إن الإنسان هو الذي يشقي نفسه في هذه الدنيا بمطامعه، وبعد مطالبه وضغنه على كل من يزاحمه في الحياة، أو يسبقه إلى لقيماتها، وكلما نال منها نصيبا زاد طمعه فلون الدنيا بألوان نفسه، فهو يرى فيها خوفا وحقدا، وخداعا وطمعا واغتصابا، ولو حقق لعلم أن هذه الألوان البشعة إنما هي مرائي نفسه وصورها. - مرحى أبا رقية، لقد أصبحت حكيما بصيرا بالحياة بعد أن عمي عنها العقلاء.
فضحك أبو رقية ضحكة أشبه بصراخ الأطفال وقال: وأين العقلاء أيها الأمير؟ إني أخشى أن تعدني منهم، أليس عجيبا أن العقل الذي يعرف الأشياء يعجز عن أن يعرف نفسه، وأن الناس يحصرون المجانين فيمن يرجمهم الصبيان بالأحجار، ولو علموا لرأوا أن الظالم والقاتل، والمدمن والمبذر، والشحيح والمزهو بنفسه، وكثيرا من أنواع الناس لا يعدون في صفوف العقلاء . - هل تكره الظلم يا أبا رقية؟ - أكرهه وأدفع شره بنفسي وبغيري، ثم رفع عينيه الذاهلتين إلى الوليد وقال: هل زرت الخليفة اليوم؟ - نعم، هل ذكرته حينما ذكرت الظلم والشر؟ - لا. ولكن نبئني: أوصلت إليه رسالة من أحد؟
فدهش الوليد، وقبض بشدة على ذراعي أبي رقية الرخويتين، وقال: من أنبأك بهذا أيها الأحمق؟ فابتسم أبو رقية ابتسامة الاطمئنان واليقين، وقال: الحمد لله لقد أفلح التدبير، وماذا فعل هشام؟ - أطلق سراح المسجونين، ومن أين لك علم كل هذا؟ - كان ذلك يسيرا علي، فإن الخليفة حينما أرسل أعوانه إلى القصر، فقبضوا على أصدقائك، وقذفوا بهم في السجن، علمت أن كل ذلك للنكاية بك والإساءة إليك، فذهبت باكيا إلى أمك فنفضت إليها الخبر، فقالت: وماذا أصنع في الخليفة؟ فقلت: تعطينني مائتي دينار، فابتسمت في حزن وأسى، وقالت: ترشو بهما الخليفة؟ فقلت: لا، بل أعطيهما «خارجة القيسي» شيخ لصوص الشام، فقالت: وما شأنك باللصوص؟ قلت: إذا قسا الحاكم تحكم اللصوص؛ فتنهدت طويلا، ثم قذفت إلي بثمانية أكياس، فأسرعت إلى خارجة، ورسمت له طريق العمل، ودعوت له بالتوفيق. - لقد أجاب الله دعاءك يا أخا «هبنقة»، ثم صاح: أين أشعب؟ فجاء إليه يحجل في مشيته كما يحجل القرد راعته عصا صاحبه، ثم رفع صوته محاكيا صوت الديك، ووضع رأسه على الأرض، ورجليه إلى الأعلى، ثم انقلب فعاد كما كان، وقال: هل يريد مولاي الأمير أن يعطيني شيئا؟ - أعطيك هذا، ثم قنعه بسوط كان في يده، فأخذ يحاكي صوت الكلب حينما يقذف بحجر، فرمى إليه الوليد دينارا فتلقفه بفمه في مهارة بارعة، ثم قال: الآن نستطيع أن نتحدث، ماذا تريد مولاي؟ - أتعرف ما كان من أمر ابن سهيل، وعياض، وعبد الصمد، فقد اعتقلهم الخليفة، وعذبهم عذابا شديدا، ثم أجبر مكرها على فك عقالهم، وهم الآن في دورهم، فاذهب إليهم أحضرهم إلي الساعة. - أتريد أن أحل محلهم في سجن الظلام؟ إن كل واحد منهم الآن محاط بجواسيس الخليفة، فهل تظنني أبا رقية حتى تقذف بي في هذه المهالك؟ - أتريد أن تعيش في قصري منعما مترفا دون أن تتعرض لمخوف؟ إن الغنم بالغرم يا ابن جبير. - لقد لقنتني أمي ألا أحمل غرما، وألا أتعفف عن غنم.
فأخرج الوليد من كمه كيسا، وهزه فسمعت وسوسة الدنانير، وقال: وما تقول في هذا؟ - الآن أذهب، ولعن الله أمي، ثم أخذ يمط وجهه، ويطوله حتى بلغ وسط صدره، وأصبح لا يعرفه من كان يعرفه، ثم وثب فاختطف الكيس من يد الوليد، وانطلق كما ينطلق السهم عن القوس.
وبعد قليل أقبل ندماء الوليد ضعفي يتوكئون حتى كأنهم خرجوا من معركة أثخنتهم جراحها، وما كاد يراهم الوليد حتى انقض عليهم معانقا مقبلا، ثم صاح: علي بالمغنين، علي بعمر الوادي وأصحابه، هذه ليلة الليالي، وواحدة الدهر؟ وسننسى الآلام، وسننسى هشاما؛ فأسرع المغنون إلى البهو، ودخل بعدهم نحو الأربعين من الجواري والقيان، بين روميات، وفارسيات، وتركيات في الملابس الزاهية، والحلي الباهر، وكان عمر الوادي قد لقنهن أبياتا للوليد في سلمى، فأخذن ينشدن معا بصوت ساحر بين رنين العيدان ونقر الدفوف:
خبروني أن سلمى
Bilinmeyen sayfa