وعند حسبان الزيادة الراجحة في عدد النساء بالنسبة للرجال، لا يجدي أن يكون الحد اثنتين وحسب؛ إذ إن الرجال لا يتساوون في القدرة على أعباء الزواج كيفما كان عدد الزوجات؛ فمنهم من يعييه أن يعول زوجة واحدة، ومنهم من لا يعييه أن يعول كثيرات، وليست أقسام الرجال على حسب هذه القدرة معلومة لولاة الأمر المشرفين على صيانة الحدود، فلا مناص من حسبان من يستطيع تكاليف الزوجات الثلاث والأربع إلى جانب الذي يعييه تكاليف الزوجة والزوجتين، وهذه موازنة ينتهي عندها الحد المعقول، متى كان من الواجب أن تنتهي إلى حد معقول. •••
وحسب الشريعة أن تقيم الحدود وتوضح الخطة المثلى بين الاختيار والاضطرار، وأما ما عدا ذلك من التصرف بين الناس، فشأنه شأن جميع المباحات التي يحسن الناس وضعها في مواضعها، أو يسيئون العمل والفهم فيها على حسب أحوال الأمم والمجتمعات من الارتقاء والهبوط، ومن المعرفة والجهل، ومن الصلاح والفساد، ومن الرخاء والشدة، ومن وسائل المعيشة على التعميم.
فالمباحات الاجتماعية والفردية كثيرة تأذن بها الشريعة، ولكنها لا تأخذ بأيدي الناس ليحسنوا تناولها والتصرف فيها، فليس أكثر من الطعام المباح، وليس أكثر من أضرار الطعام بمن يستبيحونه على غير وجهه، وبالزيادة أو النقص في مقداره، وبالخلط بين ما يصلح منه للسليم وما يصلح للمريض، وما يطيب منه في موعد ولا يطيب في موعد سواه، وإنه لمن الشطط على الشرائع - وعلى الناس - أن ننتظر من الشارع حكما قاطعا في كل حالة من هذه الحالات؛ لأن الضرر من فرضها على من يتولاها بغير بصيرة أوخم وأعظم من تركها للتجربة والاختبار.
إن الممنوع من تعدد الزوجات لا حيلة فيه للمجتمع إلا بنقض بناء الزواج، وإهدار حرماته، جهرة أو في الخفاء.
أما المباح من تعدد الزوجات فالمجتمعات موفورة الحيلة في إصلاح عيوبه على حسب أحوالها الكثيرة من أدبية ومادية، ومن اعتدال أو اختلال في تكوين أسرها وعائلاتها وسائر طبقاتها.
فالتربية المهذبة كفيلة بالعلاقة الصالحة بين الزوج والزوجة، فلا يحمد الزوج نفسه علاقة بينه وبين امرأته لا تقوم على العطف المتبادل، والمودة الصريحة، والمعاونة الثابتة في تدبير الأسرة، ولا يتهيأ له جو البيت على المثال الذي يرتضيه مع زوجتين تدعوه إلى الجمع بينهما داعية من دواعي الأثرة والانقياد للنزوات.
وقد ينشأ المانع لتعدد الزوجات في حالتي الغنى والفقر على السواء؛ فالغني يستطيع أن ينفق على بيوت كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يجد غنيا مثله يعطيه بنته، ليجمع بينها وبين ضرة تنازعها، ولو اعتزلتها في معيشة أخرى، وقد يشق عليه أن ينفق على الزوجات الغنيات بما تتطلبه هذه النفقة من السعة والإسراف، وإذا وجد النساء الفقيرات فلعلها حالة لا تحسب إذ ذاك من أحوال الاضطرار بالنسبة لمن يقبلن عليها من الزوجات.
والفقير قد يحتاج إلى كثرة النساء والأبناء لمعاونته على العمل - ولا سيما العمل الزراعي - ولكنه يهاب العالة ويحجم عما يجهده من تحصيل النفقة والمأوى.
والمجتمع يحق له أن يشترط الكفاية في الزوج لتربية أبنائه، ويتوخى لذلك دستورا يحافظ على حرية الرجال والنساء، ولا يخل بحقوقهم في التراضي على الزواج متى اتفقت رغبتهم عليه، وليس من العسير تسويغ ذلك الدستور من جانب المجتمع، لأن الأزواج المقصرين يجنون عليه، ويحملونه تبعات كل كفالة للأبناء، يعجز عنها الآباء والأمهات. •••
ومن حسنات السماح بتعدد الزوجات عند الضرورة، أن يكون ذريعة من ذرائع المجتمع لدفع غوائل العيلة والفاقة عند اختلال النسبة العددية بين الجنسين، فإذا كان هذا العارض من العوارض التي يخطر لرجل في علم «ليبون» أنه يستلزم سن القوانين لتداركه، فليس افتراضه في الشريعة باطلا يقضى عليه بالعبث في جميع الظروف، ويحق للمجتمع أن يرجع إليه في تقدير تلك الظروف، فلا تصطدم عقائد الدين ودواعي المصلحة بين جيل وجيل.
Bilinmeyen sayfa