فالأمم المهزومة يشاهد فيها طوائف من النساء يجهرن بمخادنة الجنود الفاتحين، ولا يكربهن أنهم قاتلو الإخوة والأزواج والآباء؛ لأن الخضوع للغلبة ألصق بطبيعة الأنوثة الفطرية أو الحيوانية من جميع هذه الأواصر والآداب.
والعبرة التي تستفاد من هذه الحقيقة أن النساء يوكلن إلى الفطرة في أخلاق الغرائز والعادات، ولكن لا يصح أن يتركن في الأخلاق الأخرى - أخلاق الإرادة والضمير - بغير إيحاء شديد، بل إكراه يتجاوز حدود الإيحاء. •••
والغريزة القاهرة تعلل محاسن المرأة كما تعلل نقائصها، فتمهد لها العذر بين يدي الطبيعة، وإن لم تمهده لها بين يدي القانون والأخلاق.
فالتضحية هي أسمى فضائل الإنسان، وهي فضيلة لا يقدم عليها المرء كل يوم، ولا يقدم عليها بغير دافع شديد من وحي الفطرة أو من وحي الضمير.
ولكنها من وحي الفطرة أعم وأنفذ من وحي الضمير؛ لأن سلطان اللحم والدم عميق القرار في بواعث النفوس.
ومن ثم كانت المرأة أقرب من الرجل إلى التضحية في وظائفها النوعية؛ لأنها تستمد تضحيتها من غرائز الأمومة، وتموت في سبيل الذرية، كما تموت بعض إناث الحيوان. ولا تسهل التضحية على الرجل هذه السهولة إلا إذا ارتقى فيه وحي الضمير إلى مرتبة الدوافع الفطرية المودعة منذ الأزل في غرائز الأحياء، وتلك مرتبة يعز بلوغها على أبناء آدم فلا تزال معدودة فيهم من فضائل الأنبياء وأشباه الأنبياء، أو كما قال ابن الرومي:
وعزيز بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
وإنما يقدم الرجل على التضحية في جملة أحوالها العامة بغريزة أخرى مغروسة في طبيعة النوع، ولكنها أحدث وأقرب إلى الإرادة: وهي غريزة القطيع التي نشأت مع الخلائق الاجتماعية، ولم تنشأ بداءة مع الولادة، كما نشأت الغرائز الأنثوية في جميع إناث الأحياء. فإذا تصدى الرجل للقتال في الجيش أو الكتيبة، تحرك بإرادة القطيع كله وتغلب بها على الخوف وحب السلامة، ولكنه قد ينفرد بالتضحية التي يدفعه إليها وحي الضمير، فيعلو على فضائل الأنواع والجماعات، ويعرج بروحه صعدا في طراز رفيع من الفضائل: هو فضائل الأفراد الأفذاذ. •••
والغرائز المختلفة التي تعلل لنا محاسن المرأة تعلل لنا نقائصها التي تعاب عليها من بعض جهاتها. وقد لخصها المتنبي، ولخص كل ما قيل في معناها حيث قال:
Bilinmeyen sayfa