وهذا الحياء الذي تمليه الآداب تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها، فإذا اجتمع النساء معا بعيدا عن أعين الرجال، نسينه ولم يكترثن له، ولم يبالين شيئا مما يبالينه، وهن بأعين الرجل في المحضر والمغيب.
فالمرأة لا تتوارى عن المرأة في الحمام، ولا يعنيها أن تستر عضوا من أعضائها، إلا أن تستره مداراة لعيب وخوفا من منافسة النظائر والأتراب، ولم يعهد في الحرائر الخفرات أنهن في الأمم التي استخدمت الخصيان كن يحجمن عن مس الرجل لهن واطلاعه على أعضائهن وهن عاريات، ويسوغ للنساء أن يذهبن معا إلى ضروراتهن، ولا يسوغ ذلك في عرف الرجال، إلا من تكرههم عليه الطوارئ في غير المعيشة المعتادة. •••
وألصق من الحياء بالمرأة حنانها المشهور، ولا سيما الحنان للأطفال من أبنائها وغير أبنائها. وهذه صفة من صفات الغرائز، توجد في إناث الأحياء، ولا تمتاز فيها أنثى الإنسان إلا على قدر امتياز العاقل على غير العاقل في كل ما يشتركان فيه، فليس الحنان الطبيعي بصالح لتقدير خلق الرحمة في المرأة حين يتصل بإملاء الوجدان الأدبي وسلطان الضمير، وإنما يصلح لتقدير هذا الخلق فيها أن نقارن بين عطف الرجال وعطف النساء على الأطفال من أبناء الآخرين، فربما شوهد الرجل وهو يعطف على أبناء زوجته من غيره كما يعطف على أبنائه ويسوي بينهم في البر والمعاملة، ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور، وتسلك المرأة غير هذا السلوك في معاملة أبناء الزوج من غيرها، فلا ينجو هؤلاء الأبناء أحيانا من التعذيب والتشفي وتعمد الإذلال والإيذاء، ولا يطمع الكثيرون منهم في السلامة أو في التظاهر بالمساواة بينهم وبين إخوانهم في البيت، بل يحدث كثيرا أن يقع التفضيل والإيثار عمدا وجهرة للإمعان في الإساءة والانتقام من الأم المجهولة الغائبة، وقد تكون في عداد الأموات. وهذا كله كان حريا أن ينعكس بين الرجال والنساء؛ حيث يتصل على الخصوص بتكاليف الإنفاق والحماية؛ لأن الرجل هو الذي ينفق من ماله ويتكلف من وقته وجهده، ولعله حيث يرجع الأمر إلى خلة الأنانية، أولى أن يطمع في الاستئثار بالمرأة لنفسه، غير مشارك فيها ولا مستريح إلى ما يذكره بتلك المشاركة من قبل. وهو في الحق لا يبرأ من الأنانية ولا يقل في هذه الخلة عن المرأة، ولكن الفارق بينهما فيها أنها في الرجل خلة يروضها وازع الأخلاق، وهي في المرأة خلة تتحكم فيها الغريزة، ولا يقوى عليها وازع الفكر والضمير.
أما النظافة فليست هي من خصائص الأنوثة إلا لاتصالها بالزينة، وحب الحظوة في أعين الجنس الآخر. ولكن عمل الغريزة فيها أنها أصعب على المرأة وأيسر على الرجل؛ لأن المرأة تتكلف في سبيل النظافة ما ليس من الضرورات المتكلفة عند الرجال، لما يعرض لها في وظائف الحمل، وعادات الجسم المتكررة، وأخلاط الولادة، ولوازم الحضانة وما إليها، فلو لم تكن النظافة «قيمة خلقية» مفروضة عليها بإشراف الرجل على حياتها العامة وحياتها الخاصة، لكان استقلالها بنفسها وشيكا أن يضعها موضع الإهمال والاستثقال. ويرجع إلى هذه الحالة في المرأة أنها أصبر من الرجل على التمريض؛ لأنها أصبر على الحضانة، وأصبر على أخلاط الجسد، كما يرجع إليها أن إحساسها بالعطف على المصابين مخالف في طبيعته لإحساس الرجال. •••
وليس في أخلاق المرأة المحمودة خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من هذه الخلائق الثلاث: وهي الحياء والحنان والنظافة، ومعولها فيها - كما رأينا - على وحي الطبع أو وحي الرجل. وأحرى أن يكون ذلك ديدنها في جملة الصفات التي يشترك فيها الجنسان مع اختلاف حظهما منها، ولو كانت من الصفات التي تولاها الرجال منذ القدم، ويتولونها إلى اليوم، كشجاعة القتال في ميادين الحروب، فقد يوجد من النساء من هن مثل في الشجاعة، ويوجد في الرجال من هم مثل في الجبن، ولا ينفي ذلك أصل القوامة في نشأة الأخلاق وتعميمها، فإذا نشأ الخلق وعم في العرف، لم يمتنع أن يتخلق به آحاد الجنسين على تفاوت في نصيب الرجال والنساء.
ومما له مغزاه في تقسيم الأخلاق بين الجنسين أن أساطير الخيال ووقائع التاريخ تتفقان بالبداهة والمشاهدة على هذا التقسيم . فقد جاء في أساطير اليونان الأقدمين خبر جيل من الأمم ينعزل فيه النساء، ويتدربن على القتال من طفولتهن، ولا يقبلن بينهن أزواجا يعيشون معهن، بل يأسرن الأزواج ثم ينفصلن عنهم، ويستحيين البنات من الذرية، ويقتلن البنين أو يرددنهم إلى آبائهم المعروفين، واسم هذا الجيل (الخرافي) جيل الأمزونات ومعناها «بغير أثداء»؛ لأن الأمزونات مشتقة من أصل إغريقي هو الكلمة اليونانية
Amazones
والخرافة تقول: إن هذا الجيل من النساء يحرق ثدييه أو يحرق الثدي الأيمن للتمكن من تثبيت القوس في موضعه. وفحوى ذلك - بمغزاه من بداهة الخيال - أن المرأة لا تتصف بهذه الصفة وهي باقية على طبيعتها، ولكنها تخرج من هذه الطبيعة لكي تتشبه بالرجال وتخالف أطوار النساء.
وبغير حاجة إلى متابعة النتائج التي تئول إليها الآراء في المستقبل، نجزم بالصواب فيما نعلمه من دلالة الطبع ودلالة العقل، فنفهم صواب الحكمة القرآنية التي أثبتت للرجل حق القوامة على المرأة في الأسرة، وفي الحياة الاجتماعية، فما كان للمجتمع أن يصطلح على عرف متبع فيه بغير هذه القوامة، وهي دستور الأخلاق والآداب التي لا غنى عنها ولا طاقة للمرأة بولايتها، وإن تسلمت مقاليد الحضانة منذ تكوين الجنين. •••
وقد عالجنا مسألة الأخلاق الأنثوية في فصول متعددة من كتبنا السابقة، ألحقها بهذا الفصل لما فيها من إيضاحات وشواهد متممة أو موافقة لشرح الكلام عن قضية المرأة في القرآن الكريم، ومنها فصل بعنوان أخلاق المرأة من كتاب «هذه الشجرة» نقتبس منه ما يلي:
Bilinmeyen sayfa