Maqowamat al-Da'iyah al-Najeh fi Dhaw' al-Kitab wa al-Sunnah
مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة
Yayıncı
مطبعة سفير
Yayın Yeri
الرياض
Türler
مقومات
الداعية الناجح
في ضوء الكتاب والسنة
مفهوم، ونظر، وتطبيق
تأليف الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Bilinmeyen sayfa
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ﴾ (١).
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (٢). ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ (٣).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشرّ الأمور مُحدَثاتها، وكل مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٠٢.
(٢) سورة النساء، الآية: ١.
(٣) سورة الأحزاب، الآيتان: ٧٠ - ٧١.
1 / 3
لاشكَّ أن الداعية إلى الله تعالى لا يكون ناجحًا موفقًاَ مسددًا في دعوته إلا بإخلاص عمله كله لله، ومتابعته لرسول الله ﷺ في كل أموره، وبالتزامه بالصفات والمقوِّمات التي تجعله مستقيمًا في دعوته معتدلًا، لا إفراط ولا تفريط. ولا ريب أن معرفة الداعية للمقوِّمات التي تجعله ناجحًا في دعوته من أهم المهمّات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقوّمات، ومقوّمات الداعية الناجح متعددة وكثيرة؛ ولكني سأقتصر على ذكر أصولها، وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقوِّمات التي لابدّ لكل داعية من معرفتها، والعمل بها، وتطبيقها في حياته.
وهذا موضوع مهم جدًا ينبغي أن يُبيَّن ويُبرز من قبل العلماء المبرزين الذين بذلوا حياتهم وجهدهم في سبيل نشر هذا الدين، وإيصاله للناس بالوسائل والطرق النافعة المشروعة؛ ولكني سأذكر ما يسّر الله لي من هذه المقوّمات التي لا يستغني عنها الداعية في دعوته.
وقد قسمت البحث إلى تمهيدٍ، وتسعة فصول، وتحت كل فصل مباحث، وتحت كل مبحث مطالب في الغالب على النحو الآتي:
التمهيد: مفهوم مقومات الداعية الناجح.
الفصل الأول: العلم النافع
المبحث الأول: أهمية العلم
المبحث الثاني: أقسام العلم النافع
المبحث الثالث: العمل بالعلم
1 / 4
المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم
الفصل الثاني: الحكمة
المبحث الأول: مفهوم الحكمة.
المبحث الثاني: أهمية الحكمة
المبحث الثالث: أنواع الحكمة
المبحث الرابع: درجات الحكمة
المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة.
المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم.
الفصل الثالث: الحلم
المبحث الأول: مفهوم الحلم
المبحث الثاني: أهمية الحلم
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة.
المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم.
الفصل الرابع: الأناة والتثبت
المبحث الأول: مفهوم الأناة.
المبحث الثاني: أهمية الأناة.
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأناة في الدعوة.
المبحث الرابع: العجلة والاستعجال.
الفصل الخامس: الرفق واللين
المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين.
المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين.
1 / 5
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق واللين في الدعوة.
الفصل السادس: الصبر
المبحث الأول: مفهوم الصبر.
المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة.
المبحث الثالث: مجالات الصبر.
المبحث الرابع: حكم الصبر.
المبحث الخامس: أنواع الصبر.
المبحث السادس: صور من مواقف تطبيق الصبر والشجاعة في الدعوة.
المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر.
الفصل السابع: الإخلاص والصدق
المبحث الأول: مفهوم الإخلاص.
المبحث الثاني: أهمية الإخلاص.
المبحث الثالث: النية أساس العمل.
المبحث الرابع: خطر الرياء وأنواعه وأقسامه.
المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء.
المبحث السادس: الصدق.
الفصل الثامن: القدوة الحسنة
المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة.
المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة.
المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة.
الفصل التاسع: الخلق الحسن
1 / 6
المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن.
المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن في الدعوة.
المبحث الثالث: طرق تحصيل الخلق الحسن.
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن وتطبيقها في الدعوة.
والله أسأل بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن يجعل هذا العمل مباركًا، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به إخواني الدعاة، وجميع من انتهى إليه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم موافقًا لسُنّة سيد الناس أجمعين؛ فإنه سبحانه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
عصر يوم الجمعة ٥/ ٣/١٤١٥هـ
1 / 7
التمهيد: مفهوم مقوّمات الداعية الناجح
القِوامُ: نظام الأمر، وعماده، وملاكه الذي يقوم به. يُقالُ: هذا قِوام الدين، وقِوام الحق: أي الذي يقوم به. ويقال: فلان قِوام أهل بيته: عمادهم. ويقال: الدستور هو قِوام الدولة: أي الضابط لها تقوم عليه. ويقال: قوّم الشيء تقويمًا: أزال اعوجاجه وعدَّله، وقِوامُ كل شيء ما استقام به .. وقوَّمتُ الشيء فهو قويم: أي مستقيم (١).
فتبين من هذه التعريفات اللغوية أن مقوِّمات الداعية الناجح: هي المعدِّلات التي تُعدّل الداعية، وتقيم اعوجاجه فتجعله: مستقيمًا، معتدلًا، حكيمًا، منضبطًا في كل أموره، ناجحًا في دعوته وموفقًا مسددًاًًًً، ملهمًا بإذن الله تعالى.
_________
(١) انظر: لسان العرب لابن منظور، ١٢/ ٥٠٤، والقاموس المحيط، ص١٤٨٧، ومختار الصحاح، ص٢٣٣، والمعجم الوسيط، ٢/ ٧٦٨، وجمهرة اللغة لابن دريد، ٣/ ١٦٦، والهادي إلى لغة العرب للكرمي، ٣/ ٥٨١، والمنجد الأبجدي، ص٨٢١، ومحيط المحيط للمعلم بطرس، ص٧٦٤.
1 / 8
الفصل الأول: العلم النافع
المبحث الأول: أهمية العلم النافع.
المبحث الثاني: أقسام العلم النافع.
المبحث الثالث: العمل بالعلم.
المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم.
1 / 9
المبحث الأول: أهمية العلم النافع
العلم من أعظم المقوّمات للداعية الناجح، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ (١).
وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذه الآية بقوله: «باب: العلم قبل القول والعمل» (٢).
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله﴾، ثم أعقبه بالعمل في قوله:
﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾، فدلّ ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل (٣).
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول ﷺ، وقد يكون علم من غير الرسول ﷺ، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة (٤).
ولا يكون الداعية إلى الله مستقيمًا حكيمًا إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه،
_________
(١) سورة محمد، الآية: ١٩.
(٢) البخاري، كتاب العلم، باب: العلم قبل القول والعمل، قبل الحديث رقم ٦٨.
(٣) انظر: فتح الباري ١/ ١٦٠، وحاشية ثلاثة الأصول لمحمد بن عبد الوهاب، جمع عبد الرحمن بن قاسم الحنبلي، ص١٥.
(٤) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ١٣/ ١٣٦، ٦/ ٣٨٨.
1 / 11
فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين.
ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وَشُرَطه (١). وقد مدح الله ﷿ أهل العلم وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (٢)،
﴿يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (٣)، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ (٤)، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (٥)، ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا﴾ (٦)؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (٧).
وقال: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان
_________
(١) انظر: مدارج السالكين للإمام ابن القيم، ٢/ ٤٦٤.
(٢) سورة الزمر، الآية: ٩.
(٣) سورة المجادلة، الآية: ١١.
(٤) سورة فاطر، الآية: ٢٨.
(٥) سورة الأنعام، الآية: ١٢٢.
(٦) سورة الشورى، الآية: ٥٢.
(٧) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، برقم ٧١، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم ١٠٣٧.
1 / 12
منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به» (١).
وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى الله تعالى، وأنه من أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة.
فيجب أن يكون الداعية على بيّنة في دعوته؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (٢)، والعلم الصحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ؛ لأن كل علم يتلقَّى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قُبل، وإن كان مخالفًا وجب ردّه على قائله كائنًا من كان (٣).
وهذا معنى كلام الشافعي ﵀:
كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ ... إلاّ الحديث وعلم الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين (٤)
ومقصوده ﵀ بوسواس الشياطين العلوم التي تخالف الكتاب والسنة، أو التي ليس فيها نفع للمسلمين.
_________
(١) البخاري، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلّم، برقم ٧٩، ومسلم، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي ﷺ من الهدى والعلم، برقم ٢٢٨٣.
(٢) سورة يوسف، الآية: ١٠٨.
(٣) انظر: زاد الداعية إلى الله للعلامة ابن عثيمين، ص٦.
(٤) انظر: ديوان الشافعي، ص١٢٤، والبداية والنهاية لابن كثير، ١٠/ ١٢٤.
1 / 13
المبحث الثاني: أقسام العلم
وقد قسّم الإمام ابن تيمية ﵀ العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال ﵀: «والعلم الممدوح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورّثه الأنبياء» كما قال النبي ﷺ: «إن الأنبياء لم يورّثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ» (١).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد
_________
(١) سنن أبي داود، كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، برقم ٣٦٤١، والترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، برقم ٢٦٨٢، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، برقم ٢٢٣، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، ١/ ٤٣.
1 / 14
الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وُجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرة p فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين.
وقد أشار الإمام ابن القيم إلى هذه الأقسام بقوله:
العلم أقسام ثلاثة ما لها ... من رابع والحقّ ذو تبيان
عِلمٌ بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أُوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي ﷺ: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجّة، ريحها طيبّ، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ» (١).
فقد يكون الرجل حافظًا لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمنًا، بل يكون منافقًا، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن
_________
(١) البخاري، كتاب الأطعمة، باب ذكر الطعام، برقم ٥١١١، ومسلم في صلاة المسافرين، باب فضيلة حافظ القرآن، برقم ٥١١١.
1 / 15
كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمنٌ حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته (١).
_________
(١) انظر: فتاوى ابن تيمية ١١/ ٣٩٦، ٣٩٧ بتصرف، والفتاوى أيضًا ٧/ ٢١ - ٢٥، وقال ابن تيمية ﵀: «العلوم خمسة: فعلم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو غذاء الدين، وهو علم التذكر بمعاني القرآن والحديث، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفتوى إذا نزل بالعبد نازلة احتاج إلى من يشفيه منها كما قال ابن مسعود، وعلم هو داء الدين، وهو الكلام المحدث، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم السحر ونحوه». انظر: فتاوى ابن تيمية، ١٠/ ١٤٥.
1 / 16
المبحث الثالث: العمل بالعلم
والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيرًا كثيرًا - هو ما كان مقرونًا بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلًا منه وإحسانًا، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾ (١).
وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله ﷿ لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ﴾ (٢).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول ﷺ وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل الله من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد
_________
(١) سورة الصف، الآيتان: ٢ - ٣.
(٢) سورة البقرة، الآية: ١٥٩.
1 / 17
أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجُوزيَ من جنس عمله (١).
وقد بين النبي ﷺ أن «من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار» (٢).
فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان (٣) في العمل بالعلم والحرص عليه: «أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله» (٤).
وقال ﵀: «يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر» (٥).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود ﵁: «تعلّموا، تعلّموا،
_________
(١) انظر: تفسير عبد الرحمن بن ناصر السعدي،١/ ١٨٦،وتفسير البغوي،١/ ١٣٤،وابن كثير، ١/ ٢٠٠.
(٢) الترمذي، في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم، برقم ٢٦٤٩، وأبو داود في العلم، باب كراهية منع العلم، برقم ٣٦٥٨، وابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه، برقم ٢٦٦، وأحمد، ٢/ ٢٦٣، ٣٠٥، وانظر: صحيح ابن ماجه للألباني، ١/ ٤٩، وصحيح الترمذي، ٢/ ٣٣٦.
(٣) سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير شيخ الإسلام، ولد سنة ١٠٧هـ، في النصف من شعبان، وعاش (٩١) سنة. انظر: سير أعلام النبلاء، ٨/ ٤٥٤ - ٤٧٤.
(٤) أخرجه الدارمي في سننه، في المقدمة، باب فضل العلم والعالم، ١/ ٨١.
(٥) المصدر السابق، ١/ ٨١.
1 / 18
فإذا علمتم فاعملوا» (١).
وقال ﵁: «إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه» (٢).
وقال علي بن أبي طالب ﵁: «يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقًا فيباهي بعضهم بعضًا، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله ﷿» (٣).
وقال أبو الدرداء ﵁: «لا تكون تقيًّا حتى تكون عالمًا، ولا تكون بالعلم جميلًا حتى تكون به عاملًا» (٤).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً ... عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه
فإن كنت قد أُوتيت علمًا فإنما ... يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه (٥)
وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل.
_________
(١) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، ١/ ١٩٥.
(٢) المرجع السابق، ٢/ ٦.
(٣) جامع بيان العلم وفضله، ٢/ ٧.
(٤) المرجع السابق، ٢/ ٧.
(٥) جامع بيان العلم وفضله، ٢/ ٧.
1 / 19
وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي ﷺ مقرونًا بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها» (١).
وقد دعا النبي ﷺ لعبد الله بن عباس ﵄ بالحكمة، والفقه في الدين، فقال ﷺ: «اللهم علمه الحكمة»، وفي لفظ: «اللهم علمه الكتاب»، وفي لفظ: «اللهم فقهه في الدين» (٢).
فكان ﵄ حَبْرًا للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي ﷺ.
_________
(١) البخاري، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، برقم ١٣٤٣، ومسلم، في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم ٨١٦.
(٢) البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر ابن عباس ﵄، برقم ٣٥٤٦، ٦٨٤٢، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل ابن عباس ﵄، برقم ٢٤٧٧.
1 / 20
المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم
والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها:
١ - أن يسألَ العبد ربّه العلمَ النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه ﷺ بسؤاله أن يزيده علمًا إلى علمه (١)، فقال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (٢)، وقد كان النبي ﷺ يقول: «اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علمًا» (٣).
٢ - الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه، والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة (٤).
وقد جاء رجل إلى أبي هريرة ﵁ فقال: إني أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة ﵁: «كفى بتركك له تضييعًا» (٥).
ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما تعلّمت] (٦).
_________
(١) انظر: تفسير الإمام البغوي، ٣/ ٢٣٣، وتفسير العلامة السعدي، ٥/ ١٩٤.
(٢) سورة طه، الآية: ١١٤.
(٣) الترمذي، في الدعوات، باب في العفو والعافية، برقم ٣٥٩٩، وابن ماجه في العلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم ٣٨٣٣، وانظر: صحيح ابن ماجه، ١/ ٤٧.
(٤) انظر: تفسير السعدي، ٥/ ١٩٤.
(٥) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ١/ ١٠٤.
(٦) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ١/ ١٠٢، ١٠٣.
1 / 21
ولهذا قال الإمام الشافعي ﵀:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ ... سأنبئك عن تفصيلها ببيان
ذكاءٌ، وحرصٌ، واجتهادٌ، وبُلغةٌ ... وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان (١)
٣ - اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (٢)، وقال تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا﴾ (٣).
وهذا واضح بيِّن أنَّ من اتقى الله جعل له علمًا يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل (٤)؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود ﵁: «إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله» (٥).
وقال عمر بن عبد العزيز ﵀: «خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة (٦) كانت فيه وصمةً (٧) أن يكون: فهمًا، حليمًا، عفيفًا، صليبًا (٨)، عالمًا سؤولًا عن العلم» (٩).
_________
(١) ديوان الشافعي، ص١١٦.
(٢) سورة البقرة، الآية: ٢٨٢.
(٣) سورة الأنفال، الآية: ٢٩.
(٤) انظر: تفسير ابن كثير، ١/ ٣٣٨، وتفسير السعدي، ١/ ٣٤٩.
(٥) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، ١/ ١٩٦.
(٦) خطة: أي خصلة. انظر: فتح الباري، ١٣/ ١٤٦.
(٧) وصمة: عيبًا. انظر: فتح الباري، ١٣/ ١٤٦.
(٨) قويًا شديدًا، يقف عند الحق ولا يميل مع الهوى. انظر: فتح الباري، ١٣/ ١٤٦.
(٩) البخاري مع الفتح، كتاب الأحكام، باب متى يستوجب الرجل القضاء، ١٣/ ١٤٦.
1 / 22