[مقدمة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
في سنة أربع وثمانين ومائتين ولد بمدينة أصفهان علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، القرشي الأموي. ونشأ ببغداد وأخذ العلم عن أعلامها، وكانت بغداد إذ ذاك قرارة العلم والعلماء، ومثابة الأدب والأدباء ومهوى أفئدة الذين يرغبون في الإلمام بالثقافة، أو يودون التخصص في فروعها.
وقد أخذ علي بن الحسين نفسه بالجد في طلب العلم، وأفرغ له باله، وأخلص فكره، فنبغ وتفوّق، وكان له من توقد ذكائه، والتهاب خاطره، وسرعة حفظه، وشغفه بالمعرفة ما مكن له من ناصية التفوق وذلّل له من شماس النبوغ، وجعله ينهض بتأليف كتاب الأغاني العظيم ولما يبلغ الثلاثين من عمره، فإذا ما بلغها أو جاوزها بعام أو ببعض عام ألّف كتابه الخالد «مقاتل الطالبيين» . وليس ذلك بغريب على أديب مجدّ موهوب قد ملئ طموحا إلى المراتب العالية، وهام وجدا بالعز الرفيع.
وقد قدّر له أن يعرف شابا من لداته يهيم بالمجد مثله، ويبتغي إليه الوسيلة بالقوة في العلم والأدب، وهو الحسن بن محمد المهلبي، وتظهرهما المعرفة على ما بينهما من التمازج النفسي، والالتقاء الكثير في الإرادات والاختيارات والشهوات، فتتوثق بينهما صداقة عقلية، ومؤاخاة روحية، وتظل قوية العرى، مستحصدة العلائق على كر الغداة ومرّ العشى.
1 / 5
ويختلف الدهر، ويتبدل العسر باليسر، ويرق الزمان لفاقة المهلّبي، ويرثى لطول تحرقه، وينيله ما يرتجى، فيصير وزيرا لمعز الدولة بن بويه. ويطيع الدهر بعد عصيانه لأبي الفرج فيصبح كاتبا لركن الدولة بن بويه، قريب المنزلة منه، عظيم المكانة لديه. ولعلّ من أسباب تلك الحظوة اتفاقهما في التشيع فقد كان ركن الدولة يتعهد العلويين بالأموال الكثيرة والمنح الجزيلة «١» .
وفي سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة يستوزر ركن الدولة أبا الفضل بن العميد فيكون بينه وبين أبي الفرج ما يكون عادة من التحاسد والتباغض، والمصارعة النفسية، والاستباق إلى قلب ركن الدولة، ويستطيل ابن العميد على أبي الفرج ويتعاظم، ولا يلقاه بما ينبغي له من الإجلال والتعظيم أثناء دخوله وخروجه، فتثور نفسه، ويجيش صدره، ويخاطبه بقوله:
ما لك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتم
وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول: قدّم طرفه قدّم
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم
ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم نعظم
تكافأت أحوالنا كلها ... فصل على الإنصاف أو فاصرم
ويظل أبو الفرج في ظلال الوزير المهلبي مدة وزارته لمعز الدولة، وهي مدة طويلة أربت على ثلاث عشرة سنة، يسامره وينادمه ويؤاكله، ويصبر الوزير على مساوئ أبي الفرج فقد كان قذر المطعم والمشرب والملبس، لا ينضو عنه ثوبه إلّا إذا أبلت جدته الأيام، وصار خلقا لا يجمل بذي المروءة أن يلبسه ولو لم يكن سميرا لوزير، أو كاتبا لأمير.
وتجري الأيام بينهما على خير ما تجري بين صديقين أو على خير ما تجري به بين سمير ظريف، ووزير حصيف يفيض بالكرم والإنعام. ويؤتى الكرم ثماره
1 / 6
فيسخر أبو الفرج أدبه في خدمة الوزير، ويترصد مواقع هواه فيضع فيها نثره وشعره، ويؤلف له «نسب المهالبة» . و«مناجيب الخصيان» لأنه كان يهيم بخصيين مغنيين كانا له، وينظم فيه الشعر كلما دعت المناسبة، فيهنئه إذا أبلّ من مرض أو ولد له، ويمدحه في المواسم والأعياد، ويتظرف فيشكو إليه الفأر، ويصف الهر، ويستميحه البر:
رهنت ثيابي وحال القضا ... ء دون القضاء وصد القدر
وهذا الشتاء كما قد ترى ... عسوف عليّ قبيح الأثر
ينادي بصرّ من العاصفا ... ت أو دمق مثل وخز الإبر
وسكان دارك ممن أعو ... ل يلقين من برده كلّ شر
فهذي تحنّ وهذي تئنّ ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... تعللن منك بحسن النظر
ولاحظن ربعك كالممحلى ... ن شاموا البروق رجاء المطر
يؤملن عودي بما ينتظرن ... كما يرتجى آئب من سفر
فأنعم بإنجاز ما قد وعدت ... فما غيرك اليوم من ينتظر
وعش لي وبعدي فأنت الحيا ... ة والسمع من جسدي والبصر
وهو إذا ما عرض لمدحه لا يجنح إلى المبالغة الممقوتة، ولا يتعمل الثناء الأجوف ولا يتصيد المكارم تصيدا، بل يقول ما يعرفه ويصفه بما فيه:
إذا ما علاى في الصدر للنهي والأمر ... وبثهما في النفع منه وفي الضر
وأجرى ظبا أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمد من البحر
رأيت نظام الدر في نظم قوله ... ومنثوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى الكثير بلفظة ... ويأتي بما تحوى الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر أئتنف غرة الشهر ... وقابل هلال الفطر من ليلة الفطر
بأيمن أقبال وأسعد طائر ... وأفضل ما ترجوه في أفسح العمر
فليس في هذا المديح إسراف ولا إغراق في المبالغة فقد كان الوزير المهلبي كما يقول الثعالبي: «غاية في الأدب والمحبة لأهله وكان يترسل مترسلا مليحا، ويقول الشعر قولا لطيفا يضرب بحسنه المثل يغذي الرّوح ويجلب
1 / 7
الرّوح» «١» وكان محدثا حسن الحديث، بليغ العبارة رشيق اللفظ، وكان أكثر حديثه يدور حول مذاكرة الأدب ومقابسة العلوم لكثرة من يغشى مجالسه من العلماء والأدباء والندماء كالصاحب ابن عباد «٢» وأبي إسحاق الصابي «٣» والقاضي التنوخي «٤»، وابن سكّرة الهاشمي «٥»، وأبي القاسم الجهني «٦»، وأبي النجيب الجزري «٧»، وأبناء المنجم «٨»، وكان أبو الفرج يجول في هذه المجالس ويصول يقص ويروي وينقد ويتندّر وينثر من أدبه ويفيض من علمه فكان مجلس المهلبي من أسباب نباهة شأنه وشيوع ذكره، كما كان بر المهلبي من أسباب رفاهية عيشه وتفرغه للعلم والأدب، ولكنه مع ذلك لم يخل من هجوه وكان يعلم أنه يهجوه سرا فطلب إليه وقد سكرا ذات ليلة أن يهجوه جهرا في قصة نطويها كما يطوي بساط السلاف بما فيه، وقد رأى أبو الفرج منه بعض ما يكره فظن أنه رمى به من حالق، بعد أن أنعم عليه الخالق، فقذفه بهذين البيتين:
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنّني ... أملت للإحسان غير الخالق
يومىء أبو الفرج إلى ما كان من فقر الوزير أيام كان يشتهي اللحم ولا يقدر على ثمنه فيتمنى الموت ويقول:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي ... يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبرا من بعيد ... وددت لو انّني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ ... تصدق بالوفاة على أخيه
وتفعل هذه الإشارة فعلها في نفس المهلبي ولكنه يذكر إحسان الخالق إليه وأنه أصبح وزيرا رافه العيش «إذا أراد أكل شيء مما يتناول بالملعقة كالأرز
1 / 8
واللّبن وأمثالهما وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، وكان يستعمله كثيرا فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة ثم يدفعها إلى غلام آخر قام من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى حتى ينال الكفاية لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية» «١» .
يذكر المهلبي ذلك كله ويذكر صديقه أبا الفرج فيعفو عنه ويغفر له هجاءه، ويتصل حبل إخائهما حتى يقطعه موت المهلبي في سنة ٣٥٢ هـ ثم يلحق به أبو الفرج بعد أن يخلط في ذي الحجة سنة ٢٥٦ هـ على أصح الأقوال «٢» .
وقد كان أبو الفرج هجّاء خبيث اللسان يحذره الناس ويتقونه، وقد التمس ذات مرة عصا من أحد القضاة فلم يعطه إيّاها فهجاه بأبيات بلغت الغاية في الإقذاع، ويستوزر الخليفة الراضي أبا عبد الله البريدي وكانت داره ملاصقة لدار أبي الفرج فيهجوه ويؤنب الراضي بقصيدة تزيد على مائة بيت مطلعها:
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي ... قد تولى الوزارة ابن البريدي «٣»
وينحدر أبو الفرج إلى البصرة فيضيق بها ويهجوها وأهلها ويقول عنهم:
«إنهم كلاب يلبسون الفرا» .
وقد كان أبو الفرج ذا عناية ملحوظة بالحيوانات وتربيتها: «كان له سنور أبيض يسميه يققا، وكان من عادة هذا السنور أن يخرج ويصيح إذا ما قرع باب أبي الفرج قارع إلى أن يتبعه من يفتح الباب، وقد مرض يفق بالقولنج فشغل أبو الفرج بعلاجه وتفقده أصحابه وذهب إليه منهم أبو إسحاق الصابي وأبو العلاء صاعد وأبو علي الأنباري لقضاء حقه وتعرف خبره، فطلع عليهم أبو الفرج بعد مدة مديدة ويده ملوثة بما ظنوه شيئا كان يأكله فقالوا له: عققناك بأن قطعناك عمّا كان أهم من قصدنا إيّاك، فقال لهم: لا والله يا سادتي ما كنت على ما تظنون-
1 / 9
وإنما لحق يققا قولنج فاحتجت إلى حقنه فأنا مشغول بذلك فلما سمعوا قوله ورأوا التلوث في يده نفروا منه واعتذروا إليه وانصرفوا عنه «لتناهيه في القذارة إلى ما لا غاية بعده» «١» كما قالوا وحسبوا، ولعلّه قد غاب عنهم أن أبا الفرج كان بصيرا بعلم «الجوارح والبيطرة والطب» وأنه لا تثريب عليه إذا ما زاول علاج سنوره بيده وطبق العلم على العمل كما يقال. ومن يدري فلعلّ أبا الفرج لو لم يحقن يققا لضاع على مؤرخي الحضارة العربية شاهد عظيم يثبت معرفة العرب لحقن الحيوان وسبقهم إلى ذلك منذ منتصف القرن الرابع الهجري.
وقد فجع أبو الفرج في ديك له رشيق تكاملت فيه جمل الجمال بأسرها، وكسى كالطاوس ريشا لا معا متلألأ ذا رونق وبريق:
من حمرة في صفرة في خضرة ... تخيلها يغني عن التحقيق
وكأن سالفتيه تبر سائل ... وعلى المفارق منه تاج عقيق
فرثاه بقصيدة طويلة تعد من عيون الشعر العربي في رثاء الحيوان، وصار يبكيه كلما أبصر ربعه موحشا أو سمع صياح ديك:
أبكي إذا أبصرت ربعك موحشا ... بتحنن وتأسف وشهيق
ويزيدني جزعا لفقدك صادح ... في منزل دان إليّ لصيق
قرع الفؤاد وقد زقا فكأنّه ... نادى ببين أو نعيّ شقيق
فتأسفي أبدا عليك مواصل ... بسواد ليل أو بياض شروق
وإذا أفاق ذوو المصائب سلوة ... وتصبّروا أمسيت غير مفيق
وكان أبو الفرج في ربيع العمر وريعان الشباب يطلق عقال النفس، ويقيد مراشف الكأس، ويرتاد منازه الحسن، ويطوف بمسارح الجمال لينزه مقلته، ويرشف من رحيقه ما ينقع غلته، ثم يوقع أنغام نفسه وألحان حسه على قيثارة شعره، ويشدو بما يفصح عن إسماح الجميل بعد ليانه، وإطاعة الدهر بعد عصيانه.
1 / 10
كما كان يغشى سوق الوراقين ويجلس على دكاكينهم يقرأ ما يلحظ وينقد ما يسمع «١»، ويأخذ بأطراف الأحاديث التي يتجاذبها بينهم رواد السوق من العلماء والأدباء، ثم يؤوب إلى داره بعد أن يصطفى ما يرتئي من الأسفار والمصادر التي يعتمد عليها في تأليف كتبه.
ولأبي الفرج مؤلفات كثيرة منها:
(١) الأغاني الكبير.
(٢) أخبار القيان.
(٣) أخبار الطفيليين.
(٤) أخبار جحظة البرمكي.
(٥) أيام العرب: ألف وسبعمائة يوم.
(٦) الإماء الشواعر.
(٧) أدب الغرباء.
(٨) أدب السماع.
(٩) الأخبار والنوادر.
(١٠) الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار.
(١١) المماليك الشعراء.
(١٢) الغلمان المغنين.
(١٣) الحانات.
(١٤) التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها، وهو كتاب جمهرة أنساب العرب.
(١٥) تفضيل ذي الحجة.
(١٦) تحف الوسائد في أخبار الولائد.
(١٧) الخمارين والخمارات.
(١٨) دعوة التجار.
1 / 11
(١٩) دعوة الأطباء.
(٢٠) الديارات.
(٢١) رسالة في الأغاني.
(٢٢) مجرد الأغاني.
(٢٣) مقاتل الطالبيين.
(٢٤) مجموع الأخبار والآثار.
(٢٥) مناجيب الخصيان.
(٢٦) كتاب النغم.
(٢٧) نسب المهالبة.
(٢٨) نسب بني عبد شمس.
(٢٩) نسب بني شيبان.
(٣٠) نسب بني كلاب.
(٣١) نسب بني تغلب.
وقد عنى بديوان أبي تمام فجمعه ورتبه على الأنواع.
كما جمع ديوان أبي نواس وجمع ديوان البحتري ورتبه على الأنواع كذلك.
وكان لأبي الفرج في منزله عمل آخر غير تأليف الكتب والرسائل وقرض الشعر وجمع الدواوين، فقد كان يجلس لتلاميذه وروّاد أدبه يقرئهم من كتبه ما يريد أو ما يريدون على نحو ما كان يفعله أستاذه أبو جعفر الطبري، وفي طليعة تلك الكتب التي قرئت عليه من أولها إلى آخرها كتاب الأغاني الكبير الذي «جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيّامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في مائة الصوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري أنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال- ولا يعدل به في ذلك كتاب فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأتى له بها» «١» .
1 / 12
ومن كتبه التي قرئت عليه كذلك كتاب «مقاتل الطالبيين» .
وقد عنيت بنشره لقيمة موضوعه وجلال مؤلفه في نفسي وعظم مكانتها في الأدب العربي والتاريخ الإسلامي منذ كانا إلى يوم الناس هذا.
ولا يعرف التاريخ أسرة كأسرة أبي طالب بلغت الغاية من شرف الأرومة وطيب النجار، ضل عنها حقها وجاهدت في سبيل حق الجهاد على مرّ الأعصار ثم لم تظفر من جهادها المرير إلّا بالحسرات ولم تعقب من جهادها إلّا العبرات على ما فقدت من أبطال أسالوا نفوسهم في ساحة الوغى راضية قلوبهم مطمئنة ضمائرهم وصافحوا الموت في بسالة فائقة وتلقوه في صبر جميل يثير النفس أفانين الإعجاب والإكبار، ويشيّع فيها ألوان التقدير والإعظام.
وقد أسرف خصوم هذه الأسرة الطاهرة في محاربتها وأذاقوها ضروب النكال وصبّوا عليها صنوف العذاب ولم يرقبوا فيها إلّا ولاذمة ولم يرعوا لها حقا ولا حرمة، وأفرغوا بأسهم الشديد على النساء والأطفال والرجال جميعا في عنف لا يشوبه لين وقسوة لا تمازجها رحمة حتى غدت مصائب أهل البيت مضرب الأمثال في فظاعة النكال. وقد فجّرت هذه النسوة البالغة ينابيع الرحمة والمودة في قلوب الناس، وأشاعت الأسف الممض في ضمائرهم وملأت عليهم أقطار نفوسهم شجنا، وصارت مصارع هؤلاء الشهداء حديثا يروى وخبرا يتناقل وقصصا يقص يجد فيه الناس إرضاء عواطفهم وإرواء مشاعرهم فتطلّبوه وحرصوا عليه.
وقد استجاب الرواة والمؤلفون لنداء هذه الرغبة العارمة أو لطلب المثالة بين الناس فشرعوا يؤلفون أخبارهم ويسطرون فضائلهم ويدبجون سيرهم ويؤرخون مقاتلهم، ومن هؤلاء العلماء أبو مخنف المتوفى قبل سنة ١٧٠ هـ فقد ألّف مقتل علي «١» و«مقتل الحسين» «٢» وألّف نصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة ٢١٢ هـ «مقتل الحسين» «٣» .
1 / 13
وألّف الهيثم بن عدي المتوفى سنة ٢٠٧ هـ- «أخبار الحسن ووفاته» «١» وألّف الواقدي «مقتل الحسن» و«مقتل الحسين» «٢» .
وألّف ابن النطاح «مقتل زيد بن علي» «٣» .
وألف الغلابي «مقتل علي» و«مقتل الحسين» «٤» .
وألف الأشناني «مقتل الحسن» و«مقتل زيد بن علي» «٥» .
وألف عمر بن شبه «مقتل محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن» «٦» .
وألّف المدائني المتوفى سنة ٢٢٥ هـ كتاب «أسماء من قتل من الطالبيين» «٧» .
ثم جاء أبو الفرج الأصفهاني المتوفى سنة ٣٥٦ هـ فألف «مقاتل الطالبيين» أو «مقاتل آل أبي طالب» كما يسميه ابن النديم «٨» .
ترجم أبو الفرج فيه للشهداء من ذرية أبي طالب منذ عصر رسول الله (ص) إلى الوقت الذي شرع يؤلف فيه كتابه، وهو جمادي الأولى سنة ثلاثة عشر وثلثمائة سواء أكان المترجم له قتيل الحرب أو صريع السم في السلم، وسواء أكان مهلكه في السجن أم في مهر به أثناء تواريه من السلطان.
وقد رتّب مقاتلهم على السياق الزمني ولم يرتبها على حسب أقدارهم في الفضل ومنازلهم في المجد. واقتصر على من كان نقي السيرة قويم المذهب، وأعرض عن ذكر من عدل عن سنن آبائه وحاد عن مذاهب أسلافه وكان مصرعه
1 / 14
في سبيل أطماعه وجزاء ما اجترحت يداه من عيث وإفساد.
وقد صنّف أبو الفرج أخبارهم، ونظّم سيرهم، ورصف مقاتلهم، وجلّى قصصهم بأسلوبه الساحر، وبيانه الآسر وطريقته الفذة في حسن العرض، ومهارته الفائقة في سبك القصة، وحبك نسجها، وائتلاف أصباغها وألوانها، وتسلسل فكرتها، ووحدة ديباجتها، وتسوق نصاعتها، على اختلاف رواتها وتعدد روايتها وتباين طرقها، حتى لتبدو وكأنها بنات فكر واحد وهذا هو سر الصنعة في أدب أبي الفرج الأصفهاني.
ولئن كان أبو الفرج قد بلغ غاية التصوير والتعبير في كتاب الأغاني لأن موضوعه يلتئم ومزاجه الفني ويتفق ومسلكه في الحياة ويقع من عقله وفكره وذوقه وعاطفته موقع الرضا والقبول، فإنه كذلك قد بلغ غاية التصوير والتعبير في مقاتل الطالبيين لأن موضوعه حبيب إلى نفسه، عظيم المكانة من قلبه لأنه وإن كان أموي النسب فإنه شيعي الهوى وليس ذلك بمستغرب ولا مستنكر فإن التشيّع الحقيقي ينجم عن حب الرسول ويصدر عن مودة قرباه وآل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، والحب الصادق لا يقيم وزنا لفارق النسب ولا لغيره من الفوارق التي يحقّرها ويحطم مغاليقها وأسوارها وإن تواضع الناس على احترامها.
نعم كان أبو الفرج أمويّا شيعيّا، وشيعيّا أمويّا يعطف على الدولة الأموية بالأندلس ويكرم وفادة رسلها إليه، ويختصها بثمار قريحته ونتائج فطنته، ويؤلف الكتب ثم يرسل بها إليهم فتظهر عندهم قبل ظهورها في المشرق بل لا يكاد المشرق يعرف عن أكثرها إلّا اسمه وقد عدّ الخطيب البغدادي من هذه الكتب أحد عشر كتابا «١» .
كان موضوع مقاتل الطالبيين إذا محببا إلى نفس أبي الفرج فحشد له همته،
1 / 15
وجند روايته، وصنعه على عينيه فجاء جامعا لأشتات محاسنهم، وصار عمدة لكل من أتى بعده وقصد قصده.
وقد كان أبو الفرج غزير العلم والأدب جيد الرواية لهما والبصر بفقههما، قال معاصره القاضي التنوخي: «ومن الرواة المتسعين الذين شاهدناهم أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني فإنه كان يحفظ من الشعر، والأغاني، والأخبار والآثار، والحديث المسند، والنسب ما لم أر قط من يحفظ مثله، وكان شديد الاختصاص بهذه الأشياء ويحفظ دون ما يحفظ منها علوما أخر منها اللغة، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا مثل علم الجوارح، والبيطرة، ونتف من الطب، والنجوم، والأشربة وغير ذلك» «١» .
وقد ثقف أبو الفرج معارفه وعلومه الجمّة عن الأعلام في عصره والأسفار القيّمة التي كانت موجودة إذ ذاك، بيد أنه استباح لنفسه أن يروي منها على أنه حدث بها ومن أجل ذلك اتهم بالاختلاق، والذي يقرأ الأغاني ومقاتل الطالبيين تهوله تلك الكثرة الهائلة، ويتعاظمه ذلك الجم الغفير من الرواة ويتخالجه الشك إذا ذكر ما يقوله ابن النديم من أن أبا الفرج كانت له رواية يسيرة، وأكثر تعويله في تصنيفه كان على الكتب المنسوبة الخطوط أو غيرها من الأصول الجياد «٢» .
ومن الرواة الذين روى عنهم أبو الفرج يحيى بن علي المنجم المتوفي سنة ٣٠٠ هـ ومحمد بن جعفر القتات المتوفي سنة ٣٠٠ هـ والفضل بن الحباب المتوفي سنة ٣٠٥ هـ وعلي بن العباس المقانعي المتوفي سنة ٣١٣ هـ، والأخفش المتوفي سنة ٣١٥ هـ، وجعفر بن قدامة المتوفي سنة ٣١٩ هـ، وابن دريد المتوفي سنة ٣٢١ هـ، ونفطويه المتوفي سنة ٣٢٣ هـ، وجحظه المتوفي سنة ٣٢٦ هـ وابن الأنباري المتوفي سنة ٣٢٨ هـ كما روى عن عمّه الحسن بن محمد وعم أبيه
1 / 16
عبد العزيز بن أحمد بن الهيثم «١»، ومحمد بن خلف بن المرزبان، ولعلّ أهم أستاذ لأبي الفرج في الناحية التاريخية التي نحن بصددها هو محمد بن جرير الطبري وقد قرأ عليه تاريخ الأمم والملوك وكتاب المغازي. وكان أبو الفرج يبتغي الوسائل إلى قلبه ويسارع في مرضاته.
وقد روى عن أبي الفرج عدد كبير منهم محمد بن أحمد المغربي رواية أبي الطيب المتنبي وكان له معه أخبار كما يقول ياقوت. ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن دينار «٣٢٣ هـ- ٤٠٩ هـ» وقد حدث عنه ابن بشران النحوي أنه قال: قرأت على أبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني جميع كتاب الأغاني.
ومنهم الدارقطني «٣٠٦ هـ- ٣٨٥ هـ» وعبد الله بن الحسين الفارسي، وأبو إسحاق الطبري «٣٢٤ هـ- ٣٩٣ هـ»، وهما اللذان رويا عنه مقاتل الطالبيين، وقد سلم نص روايتهما له من عوادي الزمن، وعنه كانت الطبعة الأولى للكتاب في طهران سنة ١٣٠٧ هـ، وهي طبعة حجرية سقيمة يشيع فيها التحريف والتصحيف. ثم أعيد طبعها في النجف سنة ١٣٥٣ هـ، وهي طبعة لا تفضل أصلها إلّا بكثرة الأخطاء الغليظة التي يستغلق معها الفهم، وينبهم المعنى ويعتاص، ومن نماذج هذه الأخطاء ما يلي:
١- «حدثنا الوليد بن هشام بن محذم قال: حدثني شهر بشر، قال سمعت شفاة تقول: «ليت هذا المهدي قد خرج» .
والصواب ص ٢٠٥: «... بن هشام بن محمد قال: حدثني سهل بن بشر قال:
٢- ومن ذلك «حدثني الحسن بن جعفر قال: كنت- بالكوفة نقل عيسى بن موسى قد دخل الكوفة نهارا» .
والصواب ص ٣٥٣ «... بالكوفة فرأيت فلّ عيسى بن موسى ...» .
1 / 17
٣- ومن ذلك:
قول مستبسل يرى الموت ... في الله رباحا ذا بال غاب عقير
قد تلبثت بالمقادير عنهم ... تبث في الرياح عن ذي البكور
والصواب ص ٣٨٦ «... تلبثت للمقادير عنهم لبث الرائحين عن ...» ٤- ومن ذلك:
ولو أديم البئر بئر سويقة ... فطين بها والحاضر المتجاور
والصواب ص ٣٩٧ «وإذا لا يريم البئر ... قطين» .
٥- ومن ذلك «وفصل بين الصفين مهر لحازم بن خزيمة على أخيه يدعى عبدويه» .
والصواب «... الصفين صهر لحازم ... على أخته ...» .
٦- ومن ذلك:
مخضبكم يضحي وإني بعدها ... لأعنق فيما ساءكم وأهملج
والصواب «محضتكم نصحي ...» .
٧- ومن ذلك «كانت الراحم وأهل النسك لا يعدلون بزيد بن علي أحدا» .
والصواب «كانت المرجئة ...» وكلتا الطبعتين مترعة بأمثال هذه التصحيفات والتحريفات مما حفزني إلى تحقيق الكتاب ودفعني إلى نشره.
وقد رجعت في تحقيقه إلى نسخة خطية محفوظة «بدار الكتب المصرية» فرغ ناسخها من نسخها في شهر صفر سنة ١٠٧٤ هـ وكانت من كتب الإمام يحيى إمام اليمن السابق ثم أهداها إلى شيخ العروبة المغفور له «أحمد زكي باشا» وكتب عليه بخطه «هذا الكتاب الفخم قدّمناه لحضرة السيد أحمد زكي باشا عافاه الله» كما كتب عليه أحمد زكي باشا بخطه «هذه النسخة عليها تعليقات وحواش بخط أمير المؤمنين يحيى حميد الدين المتوكل على الله» وكنت
1 / 18
أبغي مراجعة النسخة الخطية المحفوظة بالمتحف البريطاني بلندن ولكن الصورة الفوتوغرافية التي طلبتها لم تصل إليّ إلّا أثناء طبع الفهارس. وهي منسوخة في سنة ١٠٥٣ هـ.
وقد راجعت نصوص الكتاب على الكتب التي نقل منها أبو الفرج، أو التي نقلت عنه، وأثبت ما بينها من فروق، وفي طليعة هذه الكتب، تاريخ الطبري، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، والإرشاد للشيخ المفيد المتوفى سنة ٤١٣ هـ ولكتاب الإرشاد هذا أهمية خاصة لأنه ينقل عن نسخة أبي الفرج نفسه، وقد نص على ذلك بقوله في صفحة ٢٥٣ «ووجدت بخط أبي الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصفهاني في أصل كتابه المعروف بمقاتل الطالبيين» .
كما حرصت على أن أثبت في أول كل ترجمة كل ما أعرف من مراجع عرضت للمترجم له بأي لون من ألوان الذكر حتى أضع بين يدي القارئ مفتاحا للترجمة جليل النفع، وأقيم له منارا يهديه سواء السبيل إذا ما أراد أن يضرب في شعاب الكتب ويمشي في مناكب الأسفار ابتغاء الدرس والبحث، والتأليف.
وقد صنعت للكتاب فهارس مفصلة للرواة، والأعلام، والجماعات، والفرق، والأماكن، والأيام، والشعر، والمصادر، والتراجم.
ومما يجدر ذكره أن هناك خلافا ملحوظا بين النسخة المخطوطة وبين المطبوعة، أشّرت إليه، ولم أستطع الفصل فيه.
وقد انفردت المطبوعة بذكر ترجمة للحسين بن زيد بن علي لم يرد لها ذكر في المخطوطة كما قلت في صفحة ٣٨٧ وقد رجعت إلى نسخة لندن المصوّرة فألفيتها خالية من ذكر هذه الترجمة، ولا شك عندي في أن هذه الترجمة قد نسبت إلى أبي الفرج زورا وبهتانا لأن الحسين بن زيد هذا لم يمت قتيلا، وقد شرط أبو الفرج على نفسه ألّا يورد في كتابه إلّا من كان قتيلا، كما قال في مقدمته، وكما يتضح
1 / 19
من منهجه في الكتاب، استمع إليه إذ يقول في صفحة ٣٩٨ «ولما ولي المهدي أطلق الحسن بن زيد. وله خبر طويل قد وضعناه في موضعه من كتابنا الكبير، إذ كان هذا ليس مما يجري مجرى من قتل في معركة أو غيرها فيذكر خبره هنا» ويشير أبو الفرج إلى خروج جماعة من الطالبيين في ثنايا ترجمة ثم يعقب على إشارته بقوله في صفحة ٦١٦ «ولهؤلاء أخبار قد ذكرناها في الكتاب الكبير، لم يحمل هذا الكتاب إعادتها لطولها ولأنا شرطنا ذكر خبر من قتل دون من خرج فلم يقتل» .
كما انفردت المخطوطة بترجمة موجزة لمحمد بن القاسم بن علي أثبتها في هامش صفحة ٥٧٧ وقد رجعت إلى النسخة المصورة فوجدتها قد اقتصرت عليها.
وقد خلت المخطوطة من تلك السلاسل الطويلة لأمهات المترجم لهم، كما خلت منها المصورة، ولكن بعض هذه السلاسل ثابت في النسخة التي نقل عنها ابن أبي الحديد.
من أجل ذلك كله لم أستطع الفصل- كما قلت- في هذه الاختلافات حتى يسفر البحث عن أصول معتمدة موثوق بصحتها.
وأمر آخر لا مناص من الإشارة إليه وهو أن المواضع التي أشار إليها أبو الفرج في هذا الكتاب، وأحال فيها على كتاب الأغاني لم أجد لها أثرا في أية طبعة من طبعات الأغاني، وتفسير ذلك عندي سهل يسير، فإن كتاب الأغاني مع الأسف البالغ لم يطبع إلى الآن طبعة كاملة تضم كل نصوصه وأخباره حتى طبعة دار الكتب نفسها، ولست أعني النقص في بعض الأخبار، أو الأشعار، وإنما أعني نقص التراجم الكاملة كترجمة مسلم بن الوليد صريع الغواني التي نقلها ناشر ديوانه عن إحدى مخطوطات الأغاني، وهي ترجمة طويلة تقع في ٣٤ صفحة «١» .
1 / 20
ولو قد استحضرت دار الكتب مخطوطات الأغاني لما خرج الكتاب ناقصا ولاستمتعنا بأخبار هؤلاء الطالبيين الذين لم يذكرهم أبو الفرج في مقاتل الطالبيين.
وقد أتى أبو الفرج بروايات مدخولة، وأحاديث موضوعة لم يعقب عليها ولكنه أمر نقده على بعضها، كما فعل حين روى عن الضحاك قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب لمحمد بن جعفر بن أبي طالب فإنه قال في التعقيب عليها صفحة ٢٢:
«وهذه رواية الضحاك بن عثمان، وما أعلم أحدا من أهل السيرة ذكر أن محمد ابن جعفر قتيل عبيد الله بن عمر، ولا سمعت لمحمد في كتاب أحد منهم ذكر مقتل» .
وكنت إذا ما رأيت أبا الفرج ينزع نزعة مسرحية نقلت من أقوال ثقاة المؤرخين ما يرجع الحق إلى نصابه، ويرد التاريخ إلى محرابه، كما صنعت في ترجمة عبد الله الأشتر صفحة ٣١٠- ٣١٣.
وبعد فإن مقاتل الطالبيين كنز من كنوز الأدب والتاريخ ترجم فيه أبو الفرج لنيف ومائتين من شهداء الطالبين، فأحسن الترجمة وصوّر بطولتهم تصويرا أخاذا يختلب الألباب، ويمتلك المشاعر وذكر فيه من خطبهم ورسائلهم وأشعارهم، ومحاوراتهم، وما قيل فيهم وبسببهم من روائع الشعر والنثر، ما لا تجده مجموعا في كتاب سواه، إلّا أن يكون منقولا عنه، أو ملخصا منه، فهو خير كتاب أخرج للناس في تاريخ الطالبيين وأدبهم، يجد فيه العلماء طلبتهم، والأدباء ضالتهم، ويجد فيه القاصون منهم مادة خصيبة لإنتاجهم الفني.
وهو من أنفس الكتب التي تغذو العقول والقلوب والأرواح جميعا.
1 / 21
وأوجز ما يقال في وصف مقاتل الطالبيين: إنه دائرة معارف لتاريخ الطالبيين وأدبهم في القرون الثلاثة الأولى.
وإني أحمد الله سبحانه أن وفقني لإخراجه على هذا النحو فإن كنت أصبت فالخير أردت، وإن تكن الأخرى فحسبي أنني بذلت وسعي حسبما اتسع له وقتي ويسرته للقارئ وجنّبته مصاعب كان يتشعب فيها فكره ويتبدد وقته، وأتحت للناقد أن يهجم على ما قد يكون فيه بفكر جميع وعقل نشيط فيستطيع أن يؤدي واجبه في يسر وسهولة.
ولن يبلغ نشر الكتب القديمة مبلغه من الصحة والدقة المثلى إلّا بالتعاون الوثيق بين الناشرين والناقدين، ولطالما رددت هذا المعنى فيما كتبته من مقالات في النقد الأدبي.
ومما قلته في نقد كتاب «الشعر والشعراء» الذي نشره القاضي الفاضل الشيخ «أحمد محمد شاكر» .
«وإني أعتقد أنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون الناشر وينشر ما يرتئيه من أخطاء وما يعن له من ملاحظاته، فبمثل هذا التعاون العلمي المنشود تخلّص الكتب العربية من شوائب التحريف والتصحيف الذي منيت به على أيدي الناسخين قديما والطابعين حديثا» «١» .
والله أسأل- كما سأله أبو الفرج- حسن التوفيق والمعونة على ما أرضاه من قول وأزلف لديه من عمد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
السيد أحمد صقر
1 / 22
[خطبة الكتاب]
بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا السيد الشريف أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني ﵁ وأرضاه قرأته عليه قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري «١»، وعبد الله بن الحسين بن محمد الفارسي «٢» قراءة عليهما قالا:
أخبرنا أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد الأصبهاني قال «٣»:
بحمد الله والثناء عليه يفتتح كل كلام، ويبتدأ كل مقال كفاء لآلائه «٤»، وشكرا لجميل بلائه.
ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة من آمن بربوبيته، واعترف بوحدانيته، وأن محمدا عبده ورسوله المبعوث برسالته، والداعي إلى طاعته، والموضح الحق ببرهانه، والمبين أعلام الهدى ببيانه، عليه وعلى آله
1 / 23
وأطايب أرومته «١»، والمصطفين من عترته «٢» أفضل سلام الله وتحيته، وبركاته ورحمته.
وبالله نستعين على ما أردناه، وقصدنا إليه ونحوناه، من أمر الدنيا والآخرة، والعاجلة والآجلة.
وبه عزّ وتعالى نعوذ من كل عمل لا يرتضيه، فيردى «٣»، وسعي لا يشكره فيكدى «٤»، إذعانا بالتقصير والعجز، وتبرءوا من الحول والطول «٥» إلّا بقدرته ومشيئته، وتوفيقه وهدايته. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.
وصلى الله على نبيه محمد صلى الله عليه سيد الأولين والآخرين، وخاتم النبيين والمرسلين أولا وآخرا، وبادئا وتاليا، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وسلّم كثيرا.
ونحن ذاكرون في كتابنا هذا إن شاء الله وأيّد منه بعون وإرشاد جملا من أخبار من قتل من ولد أبي طالب منذ عهد رسول الله (ص) إلى الوقت الذي ابتدأنا فيه هذا الكتاب، وهو في جمادي الأولى سنة ثلاث عشرة وثلثمائة للهجرة ومن احتيل في قتله منهم بسمّ سقيه وكان سبب وفاته، ومن خاف السلطان وهرب منه فمات في تواريه، ومن ظفر به فحبس حتى هلك في محبسه، على السياقة لتواريخ «٦» مقاتل من قتل منهم، ووفاة من توفي بهذه الأحوال، لا على قدر مراتبهم في الفضل والتقدم. ومقتصرون في ذكر أخبارهم على من كان
1 / 24