قال: فلم نزل نتذكر مكاشرة الجيران، ونصافح بين الذفاري ونمارق الكيران، ونسترق رقاب المخاشن، ونشق جواشن الجواشن، إلى أن وردنا مناخ شاخ، وقد شاب شعر اصطباري وشاخ فدخلتها متفردًا عن الأخلاط، متجردًا من نصاح المصاحبة والعلاط، فحين حمدت هدية ذلك المنهاج، وسررت بسنا سراج السلامة الوهاج، أقبلت أتأمل أريحيًا يمنح مما كفاه، أو حاتميًا تملأ كف تكفكفي كفاه، عساه أن يزيل عنه لباس الأدناس، أو ينيط على جسد المجالسة سرابيل الإيناس، فبينا أنا أقوم على قدم الاندمال، وأحوم حول حواء الاحتمال، ألفيت أبا نصر المصري مشتملًا بشمال الانحسار، مكتحلًا بإثمد مرود مرارة الانكسار، مرقعًا بطاقة الاختلاق، متبرقعًا ببراقع الأملاق، متمعددًا بظهارة الأخلاق، مترددًا بين الإقامة والانطلاق، فشددت إليه شد الشملة الملساء متمثلًا ببيت من سينية الخنساء، فما برحت ترشق سهام الدموع الخدود، حتى ملأت من دف ودقها لأخدود، فلما انقطع شؤبوب الشهيق، وطلع نبت بيت سؤاله عن ذلك الطريق، أخبرته بسبب طلوع ذلك الويل، وغروب سهيل ذيالك الأهيل، فجعلت أمواج رناته تغول، وأفواج أناته تعول، فحين قر موج قراقر العويل، وسألني عن وصلة عاتق التعويل، انطلق بي إلى وكر أضيق، من خرت خياطه، وأقذر من ينابيع مخاطه، كأنما أسسه الزاهد أوطان أوطان حيطانه الهداهد، ثم أحضر بساطًا كاد يتقلقل من القمل، وسفرة يحملها الحولى من ولد النمل، لا يعرف لخفتها طعم الأين مشحونة ببيضة وكمئن، مع مرقة لا يعرق بحمام حميها ناب، ولا يغرق بقعر مددها ذباب، فقلت لروعي: إنا لله من خسة هذه السفرة والحلول بحرج هذه الحفرة، قال: فكأنه حدث بما حدث خلدي، وضعفت لجلله جحافل جلدي، فأخذ بيدي، وخاطبني بطيب لفظه الندي، وقال لي: يا بن جريال دع ماء الملامة ونهله، واحذر الزمن وجهله، وخد من وكف كف القدر سهله، واعلم أن الله يبغض البيت اللحم وأهله، ثم قال لي: دعنا ندع دعوة الملق، ونضع عصي هذا اللمق ونزع بقية الرمق، بمراقة هذه المرق، فأثنيت على مفاخره، وأتيت على أوله وآخره، ولما حان وقت المساء، وابتهجت لعدم الجمع بين المائدة والنساء، وصبرت على أذى ربعه المعيب، ورتعت في حمى حكمه إلى المغيب، ألفيته يسكت لأبكار افتراعه، وينكت بيراعه على ذراعه، ثم قال لي: أتعلم لم ملت عن مسامرتك، وعدلت عن مذاكرتك، فقلت له: أظنك تفكر في انهدام دار يساري، وإقدام أقدام عساكر إعساري، فقال لي: تالله لقد أصاب سهم سهمك، وما وهم وهم وهمك، وفي غد يرافقك الهناء، ويواصلك الغنى والغناء، وحين ولت ألوية الظلم السود، وكرت كتائب الشفق المعندم البنود، ناولني رقعة سنم مطي وطيها، وأحكم إلصاق غطي طيها، وقال لي: اذهب بها إلى باب رب هذه الولاية، المحسود على غوامض الولاية، واتنى بجواب أبياتها، لتحمد حلاوة آياتها، فتناولتها ومضيت، وسللت حسام اهتمامي وانتضيت، ولما شارفت وصيد داره، وسفت عبير إدرار مدراره، خفت أن يكون قد أودعها لمحنتي آفة، أو اخترعها لمخادعتي خرافة، فحللت حبك نطاقها، ومسحت جرمى ختمها وطاقها، فإذا هي: البسيط:
قل للأمير الذي أضحت مكارمه ... تطبق الناس خبرا والدنا خبرا
والمنعم الكامل الفذ الأريب ومن ... يقابل الليل ذكرا أو الوغي ذكرا
ومن له خضعت أسد العرين سطا ... يجزع القلب صبرًا والعدى صبرا
ومن له منطق ذاك وذو شطب ... يصير البيض حمرًا والحجى حمرا
ومن حبا وحوى مسعاه سأو سنًا ... يجدد الجود عمرًا والندى عمرا
ومن سما ونما فضلًا ومعدلة ... يزور الضد غمرًا والورى غمرا
ومن همى وطمى طولًا ومطيبة ... يغادر الحر جبرًا كيف ما جبرا
ومن غلا وعلا قدرًا ومقدرة ... يروي الأرض نصرًا والعلى نصرا
ومن حلا وجلا عن صدره وجل ... يجلل المدح قطرًا حيثما قطرا
ومن قلا وقلا قلبًا تقلبه ... أنامل البغض خطرًا كلما خطرا
ومن فلا وفلا بالسيف مفتخرًا ... يصر الصف هدرًا كلما هدرا
1 / 26