وليس شك أن الديانة المسيحية هي ديانة الشعب الثائر على معاني الاستبداد والاستعمار والنهب والاستغلال، التي قاساها اليهود أيام الحكم الروماني، ومع الأسف لا تزال هذه المعاني قائمة في الاستعمار الأجنبي كما هي قائمة أيضا في الاستبداد الداخلي، بل حتى مع الاستقلال، كما كان الشأن في روسيا أيام القيصر.
والالتجاء إلى المسيحية في كل من دستوفسكي وتولستوي هو صوفية عاطفية تقوم مقام التدبير العقلي للإصلاح، ولكن هذا التدبير كان بعيدا عن اعتقاد هذين الكاتبين وهما يعيشان في وسط استبدادي مؤيد راسخ لا يمكن أن يزعزع.
وعلى الدوام لا تغشو الصوفية الدينية إلا عند العجز عن التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، أما حيث يمكن هذا التغيير، بثورة أو بتطور، فإن التفكير الصوفي يتقهقر؛ لأنه يسخف.
وهذا هو ما نجد في جوركي، فإنه يعزف عن الصوفية الدينية وينشد التغيير بالثورة، وكانت الظروف الجديدة تواتيه على هذا الاتجاه، فإن ثورة 1905 التي كان يراد بها قلب نظام الحكم في روسيا كانت قد فشلت، وعندئذ في 1908، ألف جوركي قصته «الأم»؛ كي يبعث في النفوس الآمال الميتة، ويثير من جديد عواطف الثورة المهزومة، وهذه القصة هي برنامج علمي للثورة على المستبدين، تحس الأمل الحي وهو هنا الأم، فإننا نحس أن آلافا من الأمهات الأخريات سينهجن نهجا في تغذية الثورة، بل إن حياة هذه «الأم» تعد طرازا ساميا للارتقاء الإنساني، وكيف تتغير حياة المرأة من الغيبوبة والاستكانة إلى يقظة الوعي والثورة.
وحين أفاضل بين هؤلاء الكتاب الثلاثة أراني أحب تولستوي ودستوفسكي الحب الغامر العميق، ولكن إعجابي الأعظم يذهب إلى جوركي؛ لأني أجد هنا أملا وثورة وكفاحا، أجد دعوة إلى التغيير.
مكسيم جوركي هو أديب الثورة، قبل الثورة، لا يعزى النفوس المظلومة، ولا يثيرها وينخسها ويهيب بها إلى النهوض ومحاربة الظلام بحمل السلاح، وهو يؤمن بالإنسان، أي: يؤمن بقوة عقله على التدبير والتغيير، وهذا هو الفرق بين القصة الروسية قبل الثورة، والقصة الروسية بعد الثورة، ولكن هناك ما هو أوضح من هذا الاستنتاج.
فإن كثيرا من أشخاص القصة قبل الثورة كانوا كما قلت يستسلمون للقدر، أو ما نسميه القدر من مظالم قاسية. أما بعد الثورة فإن أبطال القصة يتميزون بإحساس جديد، هو تربية جديدة وهدف جديد.
اعتبر مثلا إليكزاي تولستوي (وهو غير ليو تولستوي العظيم الذي مات في 1910)، فقد عاش هذا الأديب قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة وبعدها، وهو يصف لنا في أشخاص قصصه الحياة قبل الثورة، وهي حياة بلا قصد، يحيا أفرادها من الطبقة العالية في استهتار وفسق وفساد، حتى إذا جاءت الثورة شرعوا يتنبهون إلى شرف الحياة العاملة التي يحيونها عن قصد للتعمير والبناء.
وهو، أى: إليكزاي تولستوي، يمثل لنا حياة روسيا قبل الثورة وبعدها، كما عالجها عامة الأدباء من الروس.
إنسانية العلم
Bilinmeyen sayfa