والمكان، الذي هو رمز ومقياس لكل المقادير «صورة أولية»، وليس معنى ذلك أنه يعرف عن طريق الحدس الفطري؛ بل معناه أنه يبنى بوساطة نشاط العمليات العقلية المستقلة، فينشأ أولا في الإدراك الحسي، ومن بعده في الرسم وغيره من الأساليب العملية.
والعدد أيضا ينتج عن نشاط عمليات عقلية، تضع الوحدات، وتحصيها.
موضوع الرياضيات، من حيث هي علوم قائمة بذاتها، هو الترتيب والقياس
يمكن القول، بمعنى ما، إن العلوم الرياضية هي العلوم على الحقيقة؛ ولقد قال ديكارت أنه يعجب بها «لما لبراهينها من يقين وبداهة.»
1
ومعنى ذلك بعبارة أخرى، أن البراهين التي تأتي بها تستتبع يقينا مطلقا، ولها في الوقت ذاته وضوح كامل. لهذا كان المثل الأعلى عند ديكارت هو أن يرد إليها كل العلوم: «إن هذه السلاسل الطويلة من الأدلة، التي تتميز بالبساطة والسهولة التامة، والتي اعتاد علماء الهندسة أن يستخدموها للوصول إلى أصعب براهينهم، قد دفعتني إلى أن أتصور أن جميع العلوم التي يمكن أن تدخل في نطاق معرفة الإنسان، تتوالى على هذا النحو ذاته، وأننا لو امتنعنا عن التسليم بصحة أية معرفة لا تكون صحيحة بالفعل، وحرصنا دائما على الترتيب اللازم من أجل استنباط بعضها من بعض، فلن يستعصي علينا في نهاية الأمر بلوغ واحدة منها، مهما بعدت، أو كشفها، مهما غمضت.»
2
وسوف نرى أن علم الطبيعة الحديث هو بالفعل علم طبيعة رياضي.
ومع ذلك، فللمرء أن يقول، بمعنى آخر، إن الرياضيات ليست علوما، لأنها هي اللغة العامة والصيغة المشتركة لكل العلوم، ثم لأنها لا يمكن أن تكون منصبة على حقيقة محددة تتميز بها عن سائر العلوم الأخرى. ولقد لاحظ «أوجست كونت» في ختام الدرس الثاني من «دروس في الفلسفة الوضعية» أن تصنيفه للعلوم يتضمن «ثغرة هائلة وأساسية» «تركها عامدا»؛ فليس للعلم الرياضي في ذلك التصنيف مكان. «والدافع إلى هذا الإغفال المتعمد هو الشعور بأهمية هذا العلم، العظيم الاتساع، الكبير الأهمية ... ففي المرحلة الحالية من تطور معارفنا الوضعية، يجدر بنا - في رأيي - أن نكف عن النظر إلى العلم الرياضي على أنه جزء مكمل للفلسفة الطبيعية بمعناها الصحيح، وأن نؤكد أنه قد أصبح، منذ ديكارت ونيوتن، الأساس الحقيقي الضروري لهذه الفلسفة، وإن كان يجمع، في حقيقة الأمر، بين الصفتين معا.»
3
Bilinmeyen sayfa