علم النفس، وصف الظواهر الذهنية من حيث تضامنها وتنوعها
إن علم النفس هو دراسة الظواهر الذهنية، وهو يتناولها في «تيار الشعور» الذي تندمج فيه، وفي ذلك التيار ترتبط هذه الظواهر بعضها ببعض، بحيث يكون «السياق» الذي تندمج فيه كل منها هو مجموع الظواهر الأخرى، وبحيث يضفي عليها هذا المجموع دلالتها ولونها الخاص؛ فالإيمان الديني عند العالم غيره عند الجاهل، وهو عند الرزين غيره عند المتحمس. وفضلا عن ذلك، فإن الحالة الشعورية الخاصة ترتبط «بالقصد » الذي يوجه التيار بأسره؛ فالفكرة الواحدة، والكلام الواحد، قد يكون هازلا أو جادا وقد يفيد الاستفهام أو الشك أو التأكيد. وأخيرا فإن الحالة الشعورية تتباين في الشدة، تبعا للمستوى الذي تحتله في ذلك التيار؛ فتكون مثلا شاردة أو منتبهة. (1) اختلاف أحوال الحكم والاستدلال
من الأحكام ما لا يعدو أن يكون استجابة انفعالية: كالتشجيع، أو السباب، أو مجرد التعجب؛ بل إنه قد تنحصر في مجرد حركة؛ فالمبارز الذي يدفع بحسامه إلى جزء تركه دفاع خصمه مكشوفا، يعمل وفقا لنوع من الحكم غير الكلامي يتحقق عن طريق العضلات. وفي مستوى آخر، يصبح الحكم تقديرا تعبر عنه كلمات جادة: كالنصيحة أو الأمر أو الحكمة، ومن هذا يتضح لنا أن الحكم فعل ذهني، يرتبط بالشخص بأكمله، ويستطيع أن يعبر عنه تعبيرا يتفاوت عمقا ووفقا لمقاصد متباينة.
والاستدلال تختلف مقاصده؛ فقد يكون مغالطة تعمل عمدا على خداع من توجه إليه، وقد يكون هدفه هو دعم اعتقاد سابق في نظر نفس الشخص الذي يصوغ هذا الاستدلال، وقد يكون القصد منه بث اعتقاد معين في نفوس الآخرين؛ بل إنه في هذه الحالة الأخيرة قد يختلف اختلافا بينا إن كان القصد منه هو «الإقناع»، عنه إذا كان هدفه هو «الحض»: فالإقناع معناه منع كل استنتاج مغاير لذلك الذي ينتهي إليه الاستدلال، بينما يعني الحض توجيه الآخر كلية في اتجاه نعتقد أنه هو أصدق الاتجاهات أو أنفعها.
وبالإجمال، فأهم الخصائص المميزة لعلم النفس هي أنه يكشف عما في الأحوال والأفعال النفسية من تضامن وتباين.
وجهة النظر المنطقية انتقائية وتقديرية
أما المنطلق، فإنه ينظر إلى المحتوى النفسي نظرة انتقائية وتقديرية، أما أنه ينظر إلى ذلك المحتوى نظرة انتقائية، فذلك لأنه لا يستبقي من الفعل الذهني إلا ما يسمو منه إلى أعلى مستويات العقل، وما كان القصد منه بلوغ الحقيقة وهكذا كان المنطق لا يتخذ له موضوعا إلا من الأحكام الجادة الواعية، التي تهدف إلى مطابقة الواقع. والاستدلال ينبغي أن يخلو من كل نية للخداع، وألا يكون له هدف سوى الإقناع ؛ فالحض ذاته عملية لا تخلو من الشوائب، إذ تهدف كما يقول باسكال إلى «الاستبداد» بشخص الآخرين.
وأما أنه ينظر إليه نظرة تقديرية؛ فذلك لأنه يضفي على الفعل الذهني «قدرا» أو «قيمة» كما يقولون، وبينما يكتفي علم النفس بالوصف والربط، فإن المنطق يقوم ويميز الحكم أو الاستدلال الصحيح أو الصائب من الباطل أو المخطئ.
تجربة الخطأ هي أصل المنطق
في مبدأ الحياة النفسية يكون الحكم تلقائيا على غرار الحياة نفسها، فالحياة إنما هي عملية تأكيد، إذ هي أن يقوم المرء باستجابة تحفظ له كيانه وتنميه، وكل استجابة تعادل الحكم: فمد الذراع نحو شيء، يعني تأكيد حقيقة ذلك الشيء، والجزم بشيء عن خصائصه وعن شكله وبعده، ومن جهة أخرى يقحم المجتمع نفسه في الوجود الذهني للفرد؛ فهو إذ يلقن الفرد اللغة، «والخلال الطيبة»، والعادات المستحبة، والدين، والفنون العملية، يملي عليه أحكاما جاهزة، ليس على الفرد إلا أن يرددها، ثم يتفهمها رويدا رويدا، ويحيلها إلى أحكام صادرة عنه، وهكذا يكون للفرد عالم ذهني كامل هو الانعكاس النفسي لحياته الحيوانية ولحياته الاجتماعية، وهو يرتضي هذا العالم في البداية دون اعتراض.
Bilinmeyen sayfa