[المقدمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اللَّهُ حَسْبِي وَكَفَى قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ رُحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَمُفْتِي الْمُسْلِمِينَ وَعُمْدَةُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ مُحَمَّدُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَدْرُ الدِّينِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَعَالِي عَنْ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ الْمُنَزَّهِ عَنْ وَصْفٍ يُدْرِكُ بِهِ حِسٌّ أَوْ يَخْتَلِجُ بِهِ ضَمِيرٌ.
أَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَسْبَغَ مِنْ نِعْمَتِهِ وَأَبْلَغَ مِنْ دَقِيقِ حِكْمَتِهِ. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةَ مُتَحَقِّقٍ لِعُبُودِيَّتِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ عَرُوسُ حَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعِتْرَتِهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ ضَبْطَ الْأُمُورِ الْمُنْتَشِرَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي الْقَوَانِينِ الْمُتَّحِدَةِ هُوَ أَوْعَى لِحِفْظِهَا وَأَدْعَى لِضَبْطِهَا وَهِيَ إحْدَى حِكَمُ الْعَدَدِ الَّتِي وُضِعَ لِأَجْلِهَا، وَالْحَكِيمُ
1 / 65
إذَا أَرَادَ التَّعْلِيمَ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ بَيَانَيْنِ: إجْمَالِيٍّ تَتَشَوَّفُ إلَيْهِ النَّفْسُ، وَتَفْصِيلِيٍّ تَسْكُنُ إلَيْهِ. وَلَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ الشَّيْخِ قُطْبِ الدِّينِ السَّنْبَاطِيِّ (﵀) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّظَائِرِ. وَهَذِهِ قَوَاعِدُ تَضْبِطُ لِلْفَقِيهِ أُصُولَ الْمَذْهَبِ، وَتُطْلِعُهُ مِنْ مَأْخَذِ الْفِقْهِ عَلَى نِهَايَةِ الْمَطْلَبِ وَتُنَظِّمُ عِقْدَهُ الْمَنْثُورَ فِي سِلْكٍ وَتَسْتَخْرِجُ لَهُ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مِلْكٍ. أَصْلَتِهَا لِتَكُونَ ذَخِيرَةً عِنْدَ الِاتِّفَاقِ وَفَرَّعْتُ عَلَيْهَا مِنْ الْفُرُوعِ مَا يَلِيقُ بِتَأْصِيلِهَا عَلَى الْخِلَافِ وَالْوِفَاقِ وَغَالِبُهَا بِحَمْدِ اللَّهِ مِمَّا لَا عَهْدَ لِلْأَنَامِ بِمِثْلِهَا وَلَا رَكَضَتْ جِيَادُ الْقَرَائِحِ فِي جَوَادِ سُبُلِهَا تَتَنَزَّهُ فِي رِيَاضِهَا عُيُونُ الْعُقُولِ وَيَكْرَعُ مِنْ حِيَاضِهَا لِسَانُ الْمَنْقُولِ وَيُسْتَخْرَجُ مِنْ أَبْحُرِ الْمَعَانِي دُرُّهَا الثَّمِينُ وَيَتَنَاوَلُ عِقْدَهَا
1 / 66
الْفَرِيدَ بِالْيَمِينِ.
وَرَتَّبْتُهَا عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُ طِرَازِهَا الْمُعَلِّمِ، وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ وَهُوَ خَيْرُ مَأْمُولٍ أَنْ يُلْهِمَنَا مَحَاسِنَ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَيَجْعَلُنَا مِنْ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.
[فَصْلٌ فِي مَعْنَى الْفِقْه وَأَنْوَاعه]
فَصْلٌ
قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: الْفِقْهُ افْتِتَاحُ عِلْمِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ أَوْ افْتِتَاحُ شِعْبِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ عَلَى الْإِنْسَانِ، حَكَاهُ عَنْهُ الْبَغَوِيّ فِي تَعْلِيقِهِ وَقَالَ ابْنُ سُرَاقَةَ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: حَقِيقَةُ الْفِقْهِ عِنْدِي الِاسْتِنْبَاطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: ٨٣] . وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ: هُوَ اسْتِنْبَاطُ حُكْمِ الْمُشْكِلِ مِنْ الْوَاضِحِ.
1 / 67
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ» أَيْ غَيْرُ مُسْتَنْبِطٍ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يَحْمِلُ الرِّوَايَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ اسْتِدْلَالٌ وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْهَا قَالَ: (وَمَا أَشْبَهَ الْفَقِيهَ إلَّا بِغَوَّاصٍ فِي بَحْرِ دُرٍّ كُلَّمَا غَاصَ فِي بَحْرِ فِطْنَتِهِ اسْتَخْرَجَ دُرًّا وَغَيْرُهُ يَسْتَخْرِجُ آجُرًّا) . وَمِنْ الْمَحَاسِنِ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ (﵀) الْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْغِيَاثِيِّ: أَهَمُّ الْمُطَالَبِ فِي الْفِقْهِ التَّدَرُّبِ فِي مَآخِذِ الظُّنُونِ فِي مَجَالِ الْأَحْكَامِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى فِقْهُ النَّفْسِ وَهُوَ أَنْفَسُ صِفَاتِ عُلَمَاءِ الشَّرِيعَةِ.
1 / 68
وَاعْلَمْ أَنَّ الْفِقْهَ أَنْوَاعٌ.
(أَحَدُهَا) مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ نَصًّا وَاسْتِنْبَاطًا وَعَلَيْهِ صَنَّفَ الْأَصْحَابُ تَعَالِيقَهُمْ الْمَبْسُوطَةَ عَلَى مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ.
(وَالثَّانِي) مَعْرِفَةُ الْجَمْعِ وَالْفَرْقِ وَعَلَيْهِ جُلُّ مُنَاظَرَاتِ السَّلَفِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: (الْفِقْهُ فَرْقٌ وَجَمْعٌ) وَمِنْ أَحْسَنِ مَا صُنِّفَ فِيهِ كِتَابُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي الْخَيْرِ بْنِ جَمَاعَةَ الْمَقْدِسِيِّ وَكُلُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَسْأَلَتَيْنِ مُؤَثِّرٌ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْجَامِعَ أَظْهَرُ قَالَ الْإِمَامُ (﵀) وَلَا يُكْتَفَى بِالْخَيَالَاتِ فِي الْفُرُوقِ بَلْ إنْ كَانَ اجْتِمَاعُ مَسْأَلَتَيْنِ أَظْهَرَ فِي الظَّنِّ مِنْ افْتِرَاقِهِمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ بِاجْتِمَاعِهِمَا وَإِنْ انْقَدَحَ فَرَّقَ عَلَى بُعْدٍ. قَالَ الْإِمَامُ فَافْهَمُوا ذَلِكَ فَإِنَّهُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ.
(الثَّالِثُ) بِنَاءُ الْمَسَائِلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ لِاجْتِمَاعِهَا فِي مَأْخَذٍ وَاحِدٍ وَأَحْسَنُ شَيْءٍ فِيهِ كِتَابُ السِّلْسِلَةِ لِلْجُوَيْنِيِّ وَقَدْ اخْتَصَرَهُ الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ الْقَمَّاحِ
1 / 69
وَقَدْ يَقْوَى التَّسَلْسُلُ فِي بِنَاءِ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ وَلِهَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ وَهَذِهِ سَلْسَلَةٌ طَوَّلَهَا الشَّيْخُ، ثُمَّ الْأَكْثَرُ بِنَاءُ الْوَجْهَيْنِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَوْ عَلَى وَجْهَيْنِ إذَا كَانَ الْمَأْخَذُ فِي الْأَصْلِ أَقْوَى وَأَمَّا الْقَوْلَانِ فَيَنْبَنِيَانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ يَنْبَنِيَانِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ كَثِيرًا. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ مَأْخَذُهُمَا قَوْلَانِ فَلَمْ نَبْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا عَلَى قَوْلَيْنِ.
(الرَّابِعُ) الْمُطَارَحَاتُ: وَهِيَ مَسَائِلُ عَوِيصَةٌ يُقْصَدُ بِهَا تَنْقِيحُ الْأَذْهَانِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ ﵁ لِلزَّعْفَرَانِيِّ (﵀): تَعَلَّمَ
1 / 70
دَقِيقَ الْعِلْمِ كَيْ لَا يَضِيعَ.
(الْخَامِسُ) الْمُغَالَطَاتُ.
(السَّادِسُ) الْمُمْتَحِنَاتُ.
(السَّابِعُ) الْأَلْغَازُ.
(الثَّامِنُ) الْحِيَلُ، وَقَدْ صَنَّفَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ سُرَاقَةَ وَأَبُو حَاتِمٍ الْقَزْوِينِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
(التَّاسِعُ) مَعْرِفَةُ الْأَفْرَادِ وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَصْحَابِ مِنْ الْأَوْجُهِ الْقَرِيبَةِ وَهَذَا يُعْرَفُ مِنْ طَبَقَاتِ الْعَبَّادِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ صَنَّفَ الطَّبَقَاتِ.
(الْعَاشِرُ) مَعْرِفَةُ الضَّوَابِطِ الَّتِي تَجْمَعُ جُمُوعًا وَالْقَوَاعِدُ الَّتِي تَرُدُّ إلَيْهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا وَهَذَا أَنْفَعُهَا وَأَعَمُّهَا وَأَكْمَلُهَا وَأَتَمُّهَا وَبِهِ يَرْتَقِي الْفَقِيهُ إلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمَرَاتِبِ الْجِهَادِ وَهُوَ أُصُولُ الْفِقْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
1 / 71
[فَائِدَةٌ فِيمَا نضج مِنْ الْعُلُوم وَمَا احترق أولم ينضج وَلَمْ يحترق]
(فَائِدَةٌ) كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ وَالنَّحْوِ وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ.
وَكَانَ الشَّيْخُ صَدْرُ الدِّينِ بْنُ الْمُرَحَّلِ (﵀) يَقُولُ: يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِقْهِ قَيِّمًا وَفِي الْأُصُولِ رَاجِحًا وَفِي بَقِيَّةِ الْعُلُومِ مُشَارِكًا. وَقَالَ صَاحِبُ الْأَحْوَذِيِّ: وَلَا يَنْبَغِي لِحَصِيفٍ يَتَصَدَّى إلَى تَصْنِيفٍ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ غَرَضَيْنِ إمَّا أَنْ يَخْتَرِعَ مَعْنًى وَإِمَّا أَنْ يَبْتَدِعَ وَضْعًا وَمَبْنًى وَمَا سِوَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَهُوَ تَسْوِيدُ الْوَرَقِ وَالتَّحَلِّي بِحِلْيَةِ السَّرَقِ.
1 / 72
[حَرْفُ الْأَلِفِ] [الْإِبَاحَةُ]
الْإِبَاحَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا مَبَاحِثُ: (الْأَوَّلُ) فِي حَقِيقَتِهَا: وَهِيَ تَسْلِيطٌ مِنْ الْمَالِكِ عَلَى اسْتِهْلَاكِ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ وَلَا تَمْلِيكَ فِيهَا وَلِهَذَا لَوْ مَلَكَ شَيْئًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ فَأَبَاحَهُ صَحَّ بِخِلَافِ مَا لَوْ وُهِبَهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ وَفِي فَتَاوَى بَعْضِ أَهْلِ الْيَمَنِ إذَا قَالَ أَبَحْت لَك كَذَا فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُتْلَفُ فَهَلْ تَصِحُّ الْإِبَاحَةُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتْلَفُ صَحَّتْ الْإِبَاحَةُ وَجْهًا وَاحِدًا وَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا لَمْ يُتْلِفْهُ الْمُبَاحُ لَهُ وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ إذَا أَخَذَ صَيْدًا مَلَكَهُ وَإِذَا أَرْسَلَهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ فَإِذَا قَالَ أَبَحْته لِكُلِّ مَنْ أَخَذَهُ حَلَّ لِمَنْ أَخَذَهُ أَكَلَهُ. قَالَ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْآخِذِ بَيْعُهُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَمْ يَزُلْ بِالْإِبَاحَةِ كَالضَّيْفِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَلَا يَبِيعَهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ أَقْسَامِهَا الضِّيَافَةُ عِنْدَ الْقَفَّالِ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بَلْ تَنَاوُلُهُمْ إتْلَافٌ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ بَلْ تُمْلَكُ لِأَنَّهَا بِالتَّقْدِيمِ أُلْحِقَتْ بِالْمُبَاحَاتِ وَالْمُبَاحَاتُ تُمْلَكُ
1 / 73
بِالِاسْتِيلَاءِ وَمِنْهَا الْكُتُبُ الَّتِي يَكْتُبُهَا النَّاسُ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى مِلْكِ الْكَاتِبِ وَلِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ الْهِبَةِ عَنْ الْمُتَوَلِّي وَوَجَّهَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي بَابِ الْوَلِيمَةِ مِنْ تَعْلِيقِهِ بِأَنَّ الْكِتَابَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَا فِيهِ فَهُوَ كَطَبَقِ الْهَدِيَّةِ.
وَمِنْ أَقْسَامِهَا الْعَارِيَّةُ عِنْدَ الْمَرَاوِزَةِ فَهِيَ إبَاحَةٌ لَا مِلْكَ فِيهَا وَالْمُسْتَبِيحُ لَا يَمْلِكُ نَقْلَ الْمِلْكِ بِالْإِبَاحَةِ إلَى غَيْرِهِ وَتَابَعَهُمْ الرَّافِعِيُّ (﵀) فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ. وَمِنْ ثَمَّ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِهَا فَلَوْ قَالَ أَبَحْت لَك دَرَّ هَذِهِ الشَّاةِ وَنَسْلُهَا كَانَتْ عَارِيَّةً صَحِيحَةً قَالَهُ فِي التَّتِمَّةِ وَعَلَى هَذَا فَقَدْ تَكُونُ الْعَارِيَّةُ لِاسْتِفَادَةِ عَيْنٍ كَالْإِجَارَةِ فِي الرَّضَاعِ وَالْبِئْرِ وَمِمَّا يَفْتَرِقَانِ فِيهِ أَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ لَفْظٍ إمَّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنْ الْآخَرِ وَالْإِبَاحَةُ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيهَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي
1 / 74
فَتَاوَى الْقَاضِي الْحُسَيْنِ (﵀) جَمَاعَةٌ تَيَمَّمُوا لِعَدَمِ الْمَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ أَبَحْت لَكُمْ هَذَا الْمَاءَ وَهُوَ يَكْفِي لِوَاحِدٍ بَطَلَ تَيَمُّمُهُمْ جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَتَعَيَّنُ لِوَاحِدٍ وَإِنْ قَالَ وَهَبْت لَكُمْ فَقَبِلُوا إنْ قُلْنَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ بَطَلَ وَإِلَّا فَلَا.
(الثَّانِي): الْإِبَاحَةُ قَدْ تَكُونُ جَائِزَةَ الرُّجُوعِ وَقَدْ تَكُونُ لَازِمَةً كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِالْمَنَافِعِ مُدَّةَ حَيَاتِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا عَلَى جِهَةِ الْإِبَاحَةِ اللَّازِمَةِ لَا التَّمْلِيكِ حَتَّى أَنَّهُ إذَا مَاتَ لَا تُورَثُ، عَنْهُ وَفِي جَوَازِ الْإِعَارَةِ لَهُ وَجْهَانِ وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَسَالِيبِ (فِي الْكَلَامِ عَلَى الضِّيَافَةِ) لَيْسَ فِي الشَّرْعِ إبَاحَةٌ تُفْضِي إلَى اللُّزُومِ إلَّا فِي النِّكَاحِ، إذَا قُلْنَا إنَّهُ إبَاحَةٌ لَا مِلْكَ فِيهِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا.
(الثَّالِثُ): هَلْ يُشْتَرَطُ فِي الْإِبَاحَةِ الْعِلْمُ بِالْقَدْرِ الْمُبَاحِ؟ قَالَ الْعَبَّادِيُّ (﵀) فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ قَالَ: أَنْتِ فِي حِلٍّ مِمَّا تَأْخُذُ مِنْ مَالِي أَوْ تُعْطِي أَوْ تَأْكُلُ فَأَكَلَ فَهُوَ حَلَالٌ وَإِنْ أَخَذَ أَوْ أَعْطَى لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْأَكْلَ إبَاحَةٌ وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ مَجْهُولَةً وَلَا تَصِحُّ الْهِبَةُ
1 / 75
مَجْهُولَةً. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّيْخِ (إبْرَاهِيمَ الْمَرْوَزِيِّ) (﵀) فِي تَعْلِيقِهِ لَوْ قَالَ لِصَاحِبِهِ أَبَحْت لَك حِلَابَ شَاتِي فَهُوَ إبَاحَةُ الْمَجْهُولِ كَمَا لَوْ قَالَ أَبَحْت لَك مَا تَأْكُلُهُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَتَجُوزُ مُسَامَحَتُهُ، وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيِّ (﵀) إذَا قَالَ أَبَحْت لَك مَا فِي بَيْتِي أَوْ اسْتِعْمَالُ مَا فِي دَارِي مِنْ الْمَتَاعِ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْإِبَاحَةُ حَتَّى يُبَيِّنَ، وَإِنْ قَالَ أَبَحْت لَك مَا فِي دَارِي مِنْ الطَّعَامِ أَوْ مَا فِي كَرْمِي مِنْ الْعِنَبِ جَازَ لَهُ أَكْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَوْ يَبِيعَهُ أَوْ يُطْعِمَ غَيْرَهُ وَهَذَا يُسَاعِدُ مَا فِي زَوَائِدِ الرَّوْضَةِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ حَيَوَانٌ لَبُونٌ أَوْ شَجَرَةٌ مُثْمِرَةٌ لَمْ تَجُزْ الْقِسْمَةُ بِالْمُهَايَأَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَطَرِيقُهُمَا أَنْ يُبِيحَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ مُدَّةً، وَفِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ (﵀) رَجُلٌ وَكَّلَ آخَرَ وَكَالَةً مُطْلَقَةً لِيَتَصَرَّفَ فِي مَالِهِ كَيْفَ شَاءَ وَأَذِنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ وَمَا أَرَادَ عَلَى طَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَإِذَا أَخَذَ
1 / 76
مِنْ مَالِهِ مَثَلًا مِائَةَ دِرْهَمٍ هَلْ تُحْمَلُ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ؟ أَجَابَ إذَا كَانَ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ شَامِلًا لِذَلِكَ أَخْذًا وَقَدْرًا وَلِمَا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِهَا جَازَ ذَلِكَ وَفِي الْقَوَاعِدِ لِلشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ (﵀) لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مَعْلُومًا لِلْمُبِيحِ وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ الْمَجْهُولِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ.
(الرَّابِعُ): هَلْ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا قَالَ الرُّويَانِيُّ (﵀) فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ الْبَحْرِ لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَبَحْت لَك فِيهِ وَجْهَانِ قُلْت: وَيُشْبِهُ تَرْجِيحُ الْجَوَازِ إذْ لَا تَمْلِيكَ فِيهَا.
(الْخَامِسُ): هَلْ تَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قَالَ الْإِمَامُ (﵀) فِي بَابِ الْوَكَالَةِ لَا أَعْلَمُ خِلَافًا
1 / 77
فِي أَنَّ مَنْ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ طَعَامًا فَقَالَ الْمُبَاحُ لَهُ رَدَدْت الْإِبَاحَةَ وَكَانَ الْمُبِيحُ مُسْتَمِرًّا عَلَى إبَاحَتِهِ فَلِلْمُبَاحِ لَهُ الِاسْتِبَاحَةُ وَلَا أَثَرَ لِقَوْلِهِ رَدَدْت الْإِبَاحَةَ ثُمَّ قَالَ وَفِي النَّفْسِ مِنْ رَدِّ الْإِبَاحَةِ شَيْءٌ عَلَى بُعْدٍ وَذَكَرَ ابْنُ الرِّفْعَةِ (﵀) أَنَّ كَلَامَ الْمُهَذَّبِ (يَعْنِي فِي الْعَارِيَّةِ) يَقْتَضِي الرَّدَّ. (قُلْت) وَبِهِ صَرَّحَ فِي الذَّخَائِرِ فَقَالَ لِلْمُبَاحِ لَهُ أَنْ يَرُدَّ، وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ (﵀) فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّ الضَّيْفَ لَوْ قَالَ عَزَلْت نَفْسِي كَانَ لَهُ الْأَكْلُ بَعْدَهُ.
(السَّادِسُ): قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ (﵀) فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْحَاوِي الِاسْتِبَاحَةُ إذَا صَادَفَتْ إبَاحَةً لَمْ يَعْلَمْهَا الْمُسْتَبِيحُ جَرَى عَلَيْهَا حُكْمُ الْإِبَاحَةِ دُونَ الْحَظْرِ كَمَنْ اسْتَبَاحَ مَالًا قَدْ أَبَاحَهُ لَهُ مَالِكُهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِإِبَاحَتِهِ لَهُ جَرَى عَلَى الْمَالِ الْمُسْتَبَاحِ حُكْمُ الْإِبَاحَةِ اعْتِبَارًا بِالْمُبِيحِ وَلَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ اعْتِبَارًا بِالْمُسْتَبِيحِ (قُلْت) وَلَوْ
1 / 78
أَبَاحَهُ ثِمَارَ بُسْتَانِهِ ثُمَّ رَجَعَ قَالَ الْغَزَالِيُّ (﵀) (فَمَا يَتَنَاوَلُهُ) قَبْلَ بُلُوغِ الْخَبَرِ فَلَا ضَمَانَ. وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ بِالْغُرْمِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ بِجَهْلِهِ قَالَ الرَّافِعِيُّ (﵀): وَإِلَيْهِ مَيْلُ الْإِمَامِ.
وَاَلَّذِي فِي النِّهَايَةِ لَا غُرْمَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْرَى فِيهِ قَوْلَيْ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَرَجَّحَ الْجُمْهُورُ وُجُوبَ الْأُجْرَةِ فِيمَا لَوْ رَجَعَ الْمُعِيرُ وَاسْتَعْمَلَهَا الْمُسْتَعِيرُ جَاهِلًا.
(السَّابِعُ): مَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَمَا لَا يُبَاحُ وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يَجُوزُ قَطْعًا وَهُوَ الْأَمْوَالُ بِالِانْتِفَاعِ.
الثَّانِي: مَا يَمْتَنِعُ قَطْعًا فَمِنْهَا إتْلَافُ الْمَالِ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ
1 / 79
فِي بَابِ الْغَصْبِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهَا الْأَبْضَاعُ وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ فِي الزِّنَى وَطَاوَعَتْ لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَفِي تَعْلِيقِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَوْ أَبَاحَ وَطْءَ أَمَتِهِ لِإِنْسَانٍ فَوَطِئَهَا لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ لِلْإِذْنِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَسْلَمَ لَهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُسْتَبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ فَعِوَضُهُ لَا يَسْقُطُ بِالْإِبَاحَةِ وَيَحْتَمِلُ قَوْلَيْنِ كَمَا فِي إذْنِ الرَّاهِنِ لِلْمُرْتَهِنِ هَلْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ؟ قَوْلَانِ لَكِنَّهُمَا فِي جَاهِلِ التَّحْرِيمِ فَإِنْ عَلِمَ فَهُوَ زِنًى، وَالزِّنَى لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ إلَّا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ فِي الْأَمَةِ عَلَى الصَّحِيحِ (وَمِنْهَا) الْقَتْلُ إذَا قَالَ اُقْتُلْنِي لَا يُبَاحُ بِالْإِذْنِ قَطْعًا كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْوَدِيعَةِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمَا لَا يَجِبَانِ فَإِنْ قُلْت: هَلَّا ضَمِنَ فِي الْقَتْلِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَوْ حَلَقَ أَجْنَبِيٌّ شَعْرَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ (أَيْ الْمُحْرِمُ) لِأَنَّ الشَّعْرَ فِي يَدِهِ عَارِيَّةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ وَالنَّفْسُ أَوْلَى بِذَلِكَ. (قُلْت): هُمَا سَوَاءٌ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ عَلَى مُبِيحِ نَفْسِهِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى كَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ هُنَاكَ وَإِنْ سَقَطَ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ حَقٌّ آدَمِيٌّ وَقَدْ أَسْقَطَهُ (وَمِنْهَا) إبَاحَةُ الْعَرْضِ كَذَلِكَ لَوْ قَالَ اقْذِفْنِي فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي الْأَصَحِّ وَقِيلَ يَجِبُ وَنَقْلَ الْإِمَامُ إجْمَاعَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُ الْعَشِيرَةَ فَلَا يُؤَثِّرُ الْإِذْنُ فِي حَقِّهِمْ.
1 / 80
[الْإِبْرَاءُ]
يَتَعَلَّقُ بِهِ مَبَاحِثُ:
(الْأَوَّلُ): هَلْ هُوَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالْإِعْتَاقِ أَوْ تَمْلِيكٌ لِلْمَدْيُونِ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا مَلَكَهُ سَقَطَ؟ فِيهِ اخْتِلَافُ تَرْجِيحٍ وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ (﵀) فِي مَوْضِعٍ لَا يُطْلَقُ التَّرْجِيحُ بَلْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الصُّوَرِ أَيْ فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ وَأَبْطَلُوهُ مِنْ الْمَجْهُولِ وَمَنَعُوا إبْهَامَ الْمَحَلِّ فِيمَا لَوْ كَانَ لَهُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا دَيْنٌ فَقَالَ أَبْرَأْتُ أَحَدَكُمَا وَلَوْ كَانَ إسْقَاطًا لَصَحَّ ذَلِكَ كُلُّهُ وَرَجَّحُوا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عِلْمُ الْمَدْيُونِ بِهِ وَلَا قَبُولُهُ وَأَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لِشَرْطِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِهَذَا تَوَسَّطَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فَقَالَ إنَّهُ تَمْلِيكٌ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ إسْقَاطٌ فِي حَقِّ الْمَدْيُونِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إنَّمَا
1 / 81
يَكُونُ تَمْلِيكًا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ مَالًا فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ فَإِنَّ أَحْكَامَ الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّهِ.
(الثَّانِي): أَنَّهُ بَاطِلٌ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَّا فِي صُورَتَيْنِ: (إحْدَاهُمَا) إبِلُ الدِّيَةِ (وَالثَّانِيَةُ) مَا إذَا ذَكَرَ غَايَةً يَتَحَقَّقُ أَنَّ حَقَّهُ دُونَهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيِّ فَيَقُولُ مَثَلًا أَبْرَأَتْك مِنْ دِرْهَمٍ إلَى أَلْفٍ إذَا عَلِمَ أَنَّ مَالَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَلْفٍ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ حِينَئِذٍ عَنْ مَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ جَهِلَ قَدْرَهُ. وَلَوْ قَالَ أَبْرَأْتُك مِنْ الدَّرَاهِمِ فَهَلْ يَصِحُّ وَيُحْمَلُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَجْهَانِ فِي بَابِ الضَّمَانِ مِنْ الرَّافِعِيِّ وَأَصَحُّهُمَا عَدَمُ الصِّحَّةِ وَهُوَ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْبَرَاءَةِ مِنْ أَدْنَى الْمَرَاتِبِ وَكَلَامُهُ فِي الصَّدَاقِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ أَبْطَلَ الْإِبْرَاءَ فِي غَيْرِ الْمُتَيَقَّنِ وَجَعَلَ الْمُتَيَقَّنَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
تَنْبِيهٌ: فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ مَا لَوْ قَالَ أَبْرِئْنِي مِنْ مِائَةٍ فَأَبْرَأَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ
1 / 82
عَلَيْهِ شَيْئًا ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةً وَفِي بَرَاءَتِهِ وَجْهَانِ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ مِنْ الرَّافِعِيِّ، وَفِي فَتَاوَى النَّوَوِيِّ (﵀) لَوْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ مِنْ غَرِيمِهِ وَكَانَ الْوَفَاءُ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَابِضُ أَنَّهُ حَرَامٌ ثُمَّ أَبْرَأَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ إنْ أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ اسْتِيفَاءٍ لَمْ يَصِحَّ وَيَبْقَى الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ بَرَاءَةَ إسْقَاطٍ سَقَطَ وَسَكَتَ عَمَّا إذَا أَطْلَقَ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى بَرَاءَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْرَأُ.
تَنْبِيهٌ آخَرَ: الْمُرَادُ بِالْمَجْهُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُبْرِئِ، وَأَمَّا الْمُبْرَأُ وَهُوَ الْمَدْيُونُ فَهَلْ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ قَالَ فِي الرَّوْضَةِ إنْ قُلْنَا إسْقَاطٌ لَمْ يُشْتَرَطْ وَإِنْ قُلْنَا تَمْلِيكُ اشْتِرَاطٍ كَالْمُتَّهَبِ.
قُلْت: وَهَذَا فِيمَا لَا مُعَاوَضَةَ فِيهِ فَأَمَّا فِي الْخُلْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ الزَّوْجِ بِمِقْدَارِ مَا أَبْرَأَتْهُ مِنْهُ قَطْعًا لِأَنَّهُ يُؤَوَّلُ إلَى الْمُعَاوَضَةِ وَقَدْ غَلِطَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ جَمَاعَةٌ وَأَجْرُوا كَلَامَ الْأَصْحَابِ عَلَى إطْلَاقِهِ.
(الثَّالِثُ): تَعْلِيقُ الْإِبْرَاءِ بِشَرْطٍ لَا يَجُوزُ كَقَوْلِهِ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَبْرَأْتُك، وَسَوَاءٌ
1 / 83
قُلْنَا الْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ كَمَا قَالَهُ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ. وَلَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا إنْ طَلَّقْتنِي فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ صَدَاقِي أَوْ فَقَدْ أَبْرَأْتُك مِنْهُ فَطَلَّقَ لَمْ يَبْرَأْ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْإِبْرَاءِ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهَا مَهْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ مَجَّانًا كَذَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ (﵀) فِي الصَّدَاقِ وَكَلَامُ الْمُتَوَلِّي قُبَيْلَ الصُّلْحِ يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْبَرَاءَةِ وَقَوَّاهُ بَعْضُهُمْ. أَمَّا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ أَبْرَأْتنِي مِنْ صَدَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبْرَأَتْهُ فِي مَجْلِسِ التَّوَاجُبِ وَقَعَ بَائِنًا فِي الْأَصَحِّ، وَلَوْ قَالَ إنْ أَبْرَأْت فُلَانًا عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَك عَلَيْهِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ رَجْعِيًّا وَكَأَنَّ الْفَرْقَ أَنَّهُ فِي الثَّانِيَةِ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ وَفِي الْأُولَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ آخِرَ الطَّلَاقِ عَنْ فَتَاوَى الْقَفَّالِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَعْلِيقِ الْإِبْرَاءِ صُوَرٌ أُخَرُ:
(إحْدَاهَا): لَوْ قَالَ إنْ رَدَدْت عَبْدِي فَقَدْ أَبْرَأْتُك عَنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْك صَحَّ وَإِذَا رَدَّ يَبْرَأُ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا الْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ فَهُوَ إسْقَاطٌ يَجُوزُ بَذْلُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ مَنَافِعَ بَدَنِهِ قَالَهُ الْمُتَوَلِّي فِي بَابِ الصُّلْحِ.
1 / 84