من قتل الطفل؟
المرحوم
من قتل الطفل؟
المرحوم
من قتل الطفل؟
من قتل الطفل؟
تأليف
عبد الغفار مكاوي
من قتل الطفل؟
الشخصيات
الراوية.
شاب (ابن شيخ القبيلة، طالب علم في صنعاء).
شيخ القبيلة.
المرأة الأولى (الزوجة).
أمين (عشيقها).
المرأة الثانية (ضرتها).
السياف.
صبي.
رجال ونساء.
هامش
عشت في صنعاء اليمن أربع سنوات، نعمت فيها بالحب والاحترام اللذين أوشكا على الانقراض من حياتنا. كان من الطبيعي أن أنظر في الأدب اليمني قديمه وحديثه، وتشاء المصادفات أن يكون أول كتاب أقرؤه هو: «الحكايات والأساطير اليمنية» التي جمعها ودونها الأستاذ علي محمد عبده. توقفت طويلا عند هذه الحكايات الشعبية، ومنها هذه الحكاية بعنوان «حكم الفراسة» (من صفحة 53 إلى صفحة 59 من الكتاب). وقد حافظت على هيكلها الأصلي وأحداثها وشخصياتها، وأضفت إليها الراوية وقصة الملك سليمان مع المرأتين المتنازعتين على أمومة الطفل، وهي قصة مأثورة لا يستبعد أن يلجأ إليها شيخ قبيلة يمني لاكتشاف القاتل الحقيقي. ولعل الحكاية والمسرحية أن يكونا محاولة للإشارة إلى أن العلم والتجديد لا يتعارضان مع الحفاظ على الأصالة والتقليد.
المفرج:
مكان يلتقي فيه مجلس «القات».
العدل:
هو القاضي أو شيخ الحارة.
الكذابة:
حلمة من المطاط تعطى للرضيع ليهدأ. (الراوية يتابع الأحداث ويعلق عليها من بعيد. في تعليقه سخرية مرة ودعابة مبعثها الإشفاق والحنان. يشارك أحيانا في المشاهد التي يرصدها، فيقوم بأداء دور أو أكثر. على يساره كوخ صغير، أشبه بحظيرة تتخذ لحفظ الأبقار والأحطاب والأخشاب والحشائش، وفيه نافذة صغيرة، كأنها كوة ضيقة في سجن انفرادي تطل على فناء البيت الملاصق له. يقع الكوخ بجانب مسجد قرية يمنية صغيرة. نرى جدار المسجد وبابه الذي يدخل إليه المصلون أو يخرجون منه. شاب على رأسه عمامة، ينظر من نافذة الكوخ ويحدق في الظلام.)
الراوية :
غاضب أنت ... على وجهك آثار السهر،
وعلى ثوبك وعمامتك تراب السفر.
أتحدق عيناك المتعبتان في الظلام؟
أم تغوصان في بحر النفس المضطربة بالآلام؟
هبطت السهول وصعدت على قمم الجبال،
وعبرت المستنقعات والآكام والتلال.
استرحت قليلا من وهج الشمس في الظهيرة
تحت ظل شجرة عجفاء وحيدة وفقيرة.
ومددت يديك إلى جرابك تلتقط بعض الزاد.
الجوع شديد وفمك ظمآن صاد،
ثم تقوم حزينا وتتابع سيرك.
تتلفت عينك أحيانا للخلف وتدمع.
يتلفت قلبك يذهب بالشوق ويرجع.
تخطو قدم مسرعة نحو مدينة صنعاء،
وتريد الأخرى أن ترجع للأهل بلا إبطاء.
ها أنت غريب الدار
غريب السفر غريب الفكر.
تتكلم، والكلمات تموت على شفتيك.
تسكت وتلوذ بصمتك أو بالصبر.
انفض همك، حدثني عن مشكلتك.
تعال لننزع شوكتها.
ننزع منها الناب أو الظفر.
ما زلت تحدق في الظلمة وتناجي الليل.
تبحث عن ضوء القمر الغائب، عن نجم في الأفق يطل،
وتقلب كتبك، تتحسسها في بطن جرابك،
تتلمس فيها الحكمة والنور الضائع والظل.
تضطرم الثورة في نفسك،
يصطرع الغضب مع الذل.
انفض همك، كلمني، قل!
الشاب (يكلم نفسه) :
أحضرت النور إليهم، رفضوه.
عدت إليهم ومعي العلم، فنبذوه.
الراوية :
عدت إليهم؟ من أين؟
الشاب :
من صنعاء، درست العلم هناك، عكفت عليه سنين،
وقرأت على خير قضاة الشرع، رجال الدين.
حفظت كتاب الله، ختمت القرآن،
وعرفت أصول الدين وأركان الإيمان،
وتمكنت من السنة والفقه وأحكام الإسلام،
بمجالسة الصفوة من علماء الملة والأعلام.
قلت لنفسي حين امتلأ النبع وفاض بمائه:
فلأرجع للأرض العطشى وأنديها بعطائه.
الراوية :
ماذا تقصد؟ نبع فاض وأرض عطشى؟
هلا وضحت اللغز وفسرت النقشا؟
الشاب :
لا لغز ولا نقش هناك، ولكن شوق وحنين،
ووفاء الواجب نحو الأهل، وتسديد ديون.
الراوية :
أرجعت إلى الألغاز؟
الشاب :
بل رجعت لي، وتجرعت مرارة يأسي،
غصة عجزي واشمئزازي.
الراوية :
أو لم يفرح بك أهلك، جيرانك، وأبوك وأمك؟
الشاب :
فرح الأب كثيرا، زغردت الأم،
وابتهج الناس وغنوا، والشمل التم.
الراوية :
وأقيمت الزينات، وانطلق الرصاص من البنادق والرشاشات.
الشاب :
ومدت الموائد وشربت المداعات ومضغ القات.
الراوية :
فلماذا اليأس والمرارة؟ أتؤلمك الذكريات؟
الشاب :
بعد أن انفض السمر بالأحضان والقبلات
ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وانكشفت النيات.
الراوية :
لا تقل إن القلوب كانت تضمر
للعائد بعد غياب غير ما تظهر.
هل تخلف أحد عن الحفل أو قصر؟
هل اختلف المظهر عن المخبر؟
الشاب :
انتظر واصبر،
فسرعان ما يكشف السر والمستتر.
بعد أن ودع الجميع جلست مع أبي.
ثبت عينيه علي طويلا ورحب بي.
الراوية :
أنا أحكي لك ما قال:
أهلا بك يا ولدي، يا زينة الرجال.
الشاب :
حيا الله وبارك في الصحة والعمر،
وأدام النور بعينيك ومن يدك الخير.
الراوية :
بعد غياب طال عن القرية
هل يرضيك الحال لدينا؟
أم ستحن إلى صنعا؟
الشاب :
سأظل أحن إلى أهلي
ورفاق الدرس وإخواني،
وسأذكر من نور قلبي
بالعلم وللحق هداني.
قد جئت لأبقى بينكمو،
وأرد الفضل لأصحابه.
الراوية :
حياك الله وبارك فيك.
الشاب :
من سنوات شجعتني على السفر لطلب العلم.
الراوية :
كانت هذه رغبتك فلم أقف في طريقك.
الشاب :
بل زودتني بالزاد والدعوات،
ولم تضن علي بالمال والخيرات.
وقضيت سنوات شبابي مع الكتب والعلماء،
في دور الله وبيوت الفتوى والقضاء
أطلع وأتناقش وأحقق المذاهب والآراء؛
حتى أصبحت بفضل الله وفضلك ...
الراوية :
الفضل لله يا ولدي.
الشاب :
أصبحت من رجال الشرع والإفتاء،
وجئت لأقضي بين الناس.
الراوية :
تقضي بين الناس؟
الشاب :
بما حكم الله وسن رسوله.
الراوية :
عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام.
الشاب :
ولهذا جئت أقيم ميزان الشرع،
وأرد الدين وأملأ الفراغ.
الراوية :
أي فراغ يا ولدي؟
الشاب :
حكم الشرع الطاهر سيقوم مقام السيف،
والكلمة لقضاة الدين وليست للعرف.
الراوية :
ماذا؟ لست أصدق ما أسمع! صوت ابني هذا؟
الشاب :
بل صوت الحق.
الراوية :
وفراغ تتحدث عنه،
وكلام عن حكم السيف.
أنسيت أباك وأنكرت العرف؟
الشاب :
أنت الراعي المسئول ونحن قطيع،
شيخ قبيلتنا تأمر والكل يطيع.
أنت أبي وأبونا، رأيك فينا مسموع،
لكن الشرع يحد الحد ويأمر فنطيع.
وإذا ما قال الشرع فمنه القول،
وكل الناس مجيب وسميع.
الراوية :
لسنا ضد الشرع ولا نتجاهل حكمه.
الشاب :
والحكم لأهل الشرع ومن يعلم علمه.
الراوية :
هل جئت لكي تحكم فينا؟
الشاب :
بل أنفذ حكم الله
برأي هداة الأمة،
من علماء وقضاة وأئمة.
الراوية :
والعرف القائم، وتقاليد قبيلتنا،
هل ينكرها إلا من ينكر قومه؟
الشاب :
أنا منكم وإليكم.
نبتت من هذا الطين جذوري الحرة،
وارتفعت شجرة علمي وأتيت أقدم لكم الثمرة.
الراوية :
هل جئت لترث أباك وتجحد نعمه!
وتدل عليه بعلمك وتسفه علمه؟
الشاب :
ما جئت لأرثك، لا لا، ومعاذ الله من النقمة،
والحبة في قاع الوادي، لا تجحد فضل القمة.
جئت أساعدكم.
الراوية :
نحن نساعد أنفسنا.
الشاب :
وقضاياكم؟
الراوية :
نقضي فيها بالعدل.
الشاب :
بالعرف البالي؟
الراوية :
لا زال قديم العرف جديدا لم يبل.
الشاب :
بالسيف وبالقتل؟
الراوية :
بل بالحكمة، والرأي الصائب يرضاه الكل.
الشاب :
يا أبتي، ما تدعوه العرف وما تسميه العدل،
هو إثم في حق الله وظلم نشأ عن الجهل.
الراوية :
الزم حدك يا ولدي. لا تسرف في سفه القول.
الشاب :
إني ألزم حد الله.
الراوية :
ونحن كذلك نلزمه في القول وفي الفعل.
لكن بطريقتنا.
الشاب :
وطريقتكم هي عين الجهل.
الراوية :
وتسب أباك؟
الشاب :
أنا لم أقصدك ولكن ...
الراوية :
أحمق مغرور.
الشاب :
جئت أعلم وأحدثكم بالموعظة الحسنة والخير.
الراوية :
أم بحديث الكفر؟
اسمع يا ولدي،
إما أن تبقى معنا،
وتعيش كما عاش الأجداد وعشنا،
أو ترحل عنا.
هذا قولي لك.
الشاب :
أبقى معكم، أو أرحل عنكم؟
الراوية :
ولبثت تسائل نفسك،
وتصارعها حتى الفجر.
أي الأمرين ستختار،
وأحلى الأمرين أمر!
هل تبقى مع أهلك في ظل القهر؟
أم ترجع لمدينة صنعا وتعاني الفقر؟
أي الأمرين ستختار؟
وأحلى الأمرين أمر؟
الشاب :
آثرت الفقر على القهر،
وتركت الأب والأم وأصحاب العمر.
اجتثت شجرة عمري من أصل الجذر،
ورماها القدر البائس في هذا القفر.
الراوية :
قيل لإنسان: ماذا يجبرك على المر؟
رد وقال: ما هو منه أمر.
ها أنت وحيد مسجون في قيد الأسر.
الشاب :
في هذا الكوخ المظلم،
لا كالمسجون أعيش ولا كالحر.
أرقد في هذا القفص.
الراوية :
وقفصك بين ضلوع الصدر.
هل كنت محقا؟
الشاب :
لا أدري.
الراوية :
أم كان أبوك على حق؟
الشاب :
لا أعلم شيئا، لا أدري.
ربما لا يكون الحق معي ولا مع أبي،
ولكن لا شك أنه في الكتب.
الراوية :
في الكتب؟
الشاب :
في الكتب الصامتة الحق،
منذ قديم الأزل تقول،
وتنطق بلسان الصدق.
الراوية :
هل تعرف المزارع الذي أراد
أن يغرس البذور في الصخر؟
هل سمعت عن فلاح
حرث البحر وروى الرمل؟
أو عن حوذي
علم حصانه حروف الأبجدية؟
أو عن فارس
امتشق الحسام ليطعن السحب؟
الشاب :
بدلا من أن تساعدني،
أراك تزيد حيرتي.
الراوية :
انتظر وستفهم. (يسمع صفير متقطع من جانب الكوخ.)
الشاب :
أنتظر وأفهم؟
الراوية :
أتسمع هذا الصوت؟
الشاب :
الصوت؟
الراوية :
اخفض صوتك! انظر!
الشاب :
أنظر أم أسمع؟
الراوية :
انظر واسمع.
الشاب (هامسا) :
نعم نعم. هذا رجل يلتصق بالجدار.
الراوية :
وهو الذي يصفر.
الشاب :
أراه يتسلل إلى فناء البيت.
الراوية :
يتخفى فيه ولا يظهر إلا صوته.
الشاب :
عاد الصفير المتقطع.
الراوية :
وإشارات الضوء من النافذة.
الشاب :
حقا، حقا، إشارات متقطعة مثله.
الراوية :
لا بد أنها علامة.
الشاب :
علامة على ماذا؟
الراوية :
قلت انتظر لتفهم!
الشاب :
أفهم أولا ثم أنتظر.
الراوية :
هش! راقب في صمت وتخفى!
الشاب :
أهذا هو دوري؟
الراوية :
سيأتي دورك! (يتواصل الصفير المتقطع، تبادله إشارات الضوء المتقطعة من نافذة البيت الملاصق للكوخ. الرجل يتسلل إلى فناء البيت المظلم. رأسه تراقب النافذة وتتلفت حولها بين الحين والحين. صمت وظلام.)
الراوية (متخفيا) :
ستر الليل غطاء ودثار،
للراهب واللص الهارب،
والشاعر والعازف فوق الأوتار.
ها هو رجل يتسلل جنب جدار،
يزحف كالحية، يصفر للجارة أو للجار.
هل يهتك عرضا أم يشعل نار؟
ستر الليل غطاء ودثار.
لكن لليل عيون تطلع على الأسرار.
الرجل (هامسا) :
عفاف! (يصدر صفيرا.)
المرأة (همسا، تطل من النافذة) :
أمين! (تبعث إشارة ضوء، تهبط الدرج بحذر وتسرع إليه مفتوحة الذراعين)
جئت في موعدك.
الرجل :
بل جاء الشوق على قدمي.
أكنت تشكين؟
المرأة (تعانقه ويعانقها) :
ما كنت أصدق.
الرجل (معاتبا) :
الغربة لا تقطع حبل اللهفة والشوق.
المرأة :
لكن الغربة طالت.
الرجل :
عشر سنين.
المرأة :
وثلاثة أشهر.
الرجل :
والأسبوع الثالث واليوم الرابع من هذا الشهر الرابع كاد يمر!
المرأة :
كنت أعد الأيام وأحلم.
الرجل :
وأنا كنت أعد الأنجم!
المرأة :
وحسبتك تنسى، فنساء الغربة أحلى.
الرجل :
كل نساء العالم لا تنسيني وجهك،
هل ينسى الحب الأول؟
المرأة :
الحب الآخر ينسى.
الرجل :
لا ينسى من خطبك يوما من نفسك،
لما كنا نلعب في هذا البيت.
المرأة :
لكنك غبت، ذات صبح غبت،
وما سلمت ولا ودعت.
الرجل :
أكل العيش مرير،
وحياة القرية كانت كالموت.
المرأة :
والحب؟ نسيت الحب؟
الرجل :
بل سافرت لأذكره،
وأعود وفي جيبي المهر وثمن البيت!
المرأة :
وتأخرت، فخطبت لرجل آخر وتزوجت.
الرجل :
سعدان؟
المرأة :
يرحمه الله.
الرجل :
كان قويا كالثور.
المرأة :
وأبله كالبقرة،
والعيشة معه كانت مرة.
دع أمر الخلق إلى الخالق يتولى أمره،
وليكشف كل منا سره.
قل لي بم تشعر، فيم تفكر؟
الرجل :
أشعر أني أولد بين يديك الآن،
أذكر أيامي معك بهذا البيت،
فأنفض أحزان الغربة كالأكفان.
المرأة :
حذار، حذار فللجدران
آذان تسمع، للبقرة في هذا الكوخ المظلم عينان.
الرجل :
وكأن الزمن توقف منذ زمان،
أنسيت بأنا كنا نحلم في نفس مكانك ومكاني؟
بالبيت النائم في الحلم وبالحجرات وبالأركان؟
بالطفل الأول. (يسمع صياح طفل يتردد في الليل.)
الرجل :
طفلك هذا؟
المرأة :
مجنون من ينجب طفلا.
الرجل :
ألم ترضعيه؟
المرأة :
رضع وشبع، فزادت قوته على الصياح.
الرجل (يضع ذراعه على كتفها) :
ما العمل الآن؟
المرأة :
لا تقلق، سأحاول أن أسكته. (تنفلت منه وتتجه إلى الدرج.)
الرجل :
لا تتأخري.
المرأة :
سأرضعه ليكف عن الصياح.
الرجل :
لا تتأخري.
المرأة :
وأنت لا تصح! أتحتاج مثله لمرضعة؟ (الرجل يضحك في خوف.)
الراوية :
يا طفلي نم
لا تكسر قلب الأم.
عاشت سنوات تحصي النجم مع النجم،
أوراق الشجر وحبات الرمل،
وأمواج اليم.
عاشت تنتظر الليلة، تنتظر اليوم،
لتبل الظمأ وتطفئ نيران الدم.
يا طفلي نم،
يا طفلي نم.
المرأة (عائدة بعد قليل) :
هل نمت؟
الرجل (يفتح عينيه كالمذعور) :
هل نام؟
المرأة (متأففة) :
أرضعته قبل الموعد،
لكنه لا يكف عن الصراخ.
أخشى أن يوقظ ضرتي.
الرجل :
ضرتك؟
المرأة :
لم أكلمك عنها. امرأة حاقدة وحسود.
الرجل :
تحسدك على الرجل أم الطفل؟
المرأة :
بالطبع على الطفل!
قبلي عقد عليها المرحوم.
لم تنجب ولدا فهي عقيم.
أخشى أن يوقظها الطفل.
فتنهض وتقوم.
سكت الطفل ولكن ...
الرجل :
كيف أسكته؟
المرأة :
ألقمته الكذابة.
الرجل (يحتضنها) :
أخشى أن يكذب عليها.
المرأة (تحتضنه) :
المهم أنني لا أكذب (لا يكادان يتعانقان ويهيئان الفراش في ركن الفناء حتى يصرخ الطفل) .
المرأة :
أف للطفل وتعذيب الطفل.
الرجل :
يصرخ ويصيح بأذن الليل،
كنذير الموت أو كالويل.
المرأة :
لا تخش شيئا. (تنهض واقفة.)
الرجل :
ماذا ستفعلين؟
المرأة :
سيسكت هذه المرة.
الرجل :
حذار.
المرأة :
إنه ابني.
الرجل :
أخشى ...
المرأة :
تخشى تخشى ... كم تغيرت!
الرجل :
لم يتغير حبي لك، لكن ...
المرأة :
سأسكته هذه المرة للأبد.
الرجل :
للأبد؟!
المرأة :
قلت لك اطمئن. إنه ابني، كما أنك حبيبي.
الرجل :
أسرعي إذا.
المرأة :
انتظر، حذار أن تفكر ...
الرجل :
لم أجئ لأفكر ...
المرأة :
أعرف، وسيخلو الجو لنا ويطيب الفكر.
الرجل (ضاحكا) :
ويطيب السمر ويحلو الشعر.
المرأة :
ما زلت تغني وتقول الشعر.
انتظر الآن.
الرجل :
حالا، أخشى أن ينكشف السر. (تنهض وتتجه نحو الدرج، يظهر الضوء في نافذة الحجرة، صوت مخنوق مكتوم كسقوط شيء ثقيل على الأرض، ترجع بعد أن ينهي الراوية أغنيته.)
الراوية :
لا زال الليل هو الليل.
لكن للفجر عيون
بدأت في الأفق تطل.
العاشق يجلس مهموم الخاطر كالظل.
يتوجس خوفا.
لو سمع دبيب النمل.
وتغيب العاشقة قليلا.
وتعود كطيف يتسلل.
ماذا فعلت؟
يا للويل! يا للويل!
أخشى أن أتكلم،
فيخون لساني القول.
الويل الويل!
الرجل :
هل بقي لدينا وقت؟
المرأة (متهللة الوجه) :
بقي الحب.
الرجل :
أرتعش كأني في قاع الجب.
المرأة :
من لهفتي إليك ارتعش القلب.
الرجل :
هيا ... هيا ... انتظري ...
المرأة (بعد أن تجلس بجانبه) :
عدت إلى الرعب؟
الرجل :
من في هذا الكوخ؟
المرأة :
البقرة ترقد فيه.
والحطب مع الخشب المترب.
هل تخشى البقرة أيضا؟
الرجل :
بل أفزعني الصوت.
المرأة :
أية صوت؟
الرجل :
صوت كحفيف الريح الخافت وسط العشب.
المرأة :
ونباح الكلب، وعواء الذئب.
أصوات القرية نألفها،
أتثير العائد؟
الرجل :
حتى الرعب!
المرأة :
الليلة تمضي .
الرجل :
وجواد الفجر على الأفق يخب.
المرأة :
والديك من النوم يهب. (يتعانقان.)
الراوية :
سكت الكلب،
وصمت الذئب،
واستسلم ديك الفجر إلى النوم،
فلا صاح ولا هب.
وأفاق جواد الفجر فألفى
خيل الليل على الدرب تخب.
والجندب؟ ماذا فعل الجندب؟
فتح العينين قليلا،
ثم استغرق في النوم،
لم يصفر أو يتقلب.
أما العاشق فارتاح على فرش الحب.
والعاشقة التف ذراعاها
حول المعشوق، وأوشك أن يلتف القلب.
ماذا يفعل صاحبنا في بطن الكوخ المترب؟
يسأل: كيف سيعرف سر الأمر أبي وبماذا يحكم؟
تزفر عيناه تئز الشرر تدمدم.
أما أنت فماذا تفعل،
يا طفلي المسكين، أتحلم؟
نم يا طفلي نم،
فالعالم وحل وظلام،
وبحور الدم.
من قتلك يا طفلي من؟
من تركك في جوف الليل تئن؟
ومن القاتل والمقتول؟ تكلم.
هل ذبحك ذبح الشاة؟
وهل حاولت ترد الطعنة والسكين
عن الرقبة والفم؟
جثم على صدرك كابوس معتم.
هل تهوي الآن بقاع الجب المظلم؟
أم يرفعك ملاك الله لتشكو؟
تشكو من؟
نم يا طفلي نم.
بعد قليل سيجيء الشيخ ويحكم،
وسيظهر سر المجرم،
ونعاين وجه الظلم.
يا طفلي نم.
يا طفلي نم. (يختفي الراوية بسرعة، يتبادل مع الشاب الذي ظهر وجهه لحظة في النافذة نظرات ذات معنى. بعد قليل ينهض العاشقان، يتبادلان الضمة الأخيرة، يتسلل الرجل كالقط الوحشي كما جاء، تودعه المرأة وهي تجدد الموعد وتؤكده، وتصعد خفيفة درجات السلم. بعد قليل ترتفع الولولة كبريق يشق عباءة الليل، تظل تتردد كوميض السيف حتى يتجمع بعض الأهالي.)
رجل :
ما هذا؟
رجل آخر :
في هذا الوقت من الليل؟
امرأة (مسرعة) :
هذا صوت امرأة ثكلى.
الويل الويل!
الصوت :
يا ولداه! يا ولداه!
المرأة (للرجلين) :
أذن المرأة لا تخطئ أبدا.
رجل ثالث (حضر منذ قليل) :
لكن قد تخطئ منها العين أو البطن أو الفم!
الرجل الثاني :
نريد أن نعرف السر.
الرجل الأول :
اسكتوا.
الرجل الثالث :
السر؟ تريد أن تعرف سر المرأة؟
المرأة (تنهره) :
تسخر والمرأة تندب!
أين الخجل؟ أليس لمثلك قلب؟
الرجل الثالث :
ها ها ... وكان لمثلي عقل أيضا.
المرأة (غاضبة) :
اذهب وابحث عنه بعيدا عنا.
الرجل الأول :
بيت سعدان؟ أليس هو بيت سعدان؟
الرجل الثاني :
يرحمه الله.
الرجل الأول :
ماذا ترك وراءه؟
الرجل الثاني :
هذا البيت وقطعة أرض لا تشبع فم!
الرجل الأول :
أقصد أهله.
الصوت :
يا مقتولاه! يا مقتولاه!
الرجل الثاني :
طفلا واحدا، وامرأتين.
الرجل الأول :
الطفل من امرأتين؟
الرجل الثاني :
يا لغبائك! اتركنا حتى نعرف ما الأمر.
الرجل الأول :
قلت امرأتين؟
الرجل الثاني :
أجل، الزوجة والضرة.
الرجل الأول :
يبدو أن المرأة تبكي الطفل.
الرجل الثاني :
وتتهم القاتل بالقتل.
الرجل الأول :
ومن القاتل إلا الضرة؟
المرأة :
الظلم حرام. قل يا الله!
الرجل الأول :
وأقول: العين بعين والسن بسن!
الرجل الثاني :
اذكروا الله.
المرأة :
اسكتوا حتى نعرف ... (الولولة ترتفع وتدمي القلب. تسرع أقدام أخرى حافية أو في المركوب الأبيض والصندل. أطفال وصبية وعجائز ورعويون وتجار ...)
الصوت :
يا ولداه! يا مقتولاه!
رجل (ينادي عليها) :
انزلي إلى هنا. من المقتول؟
المرأة :
ابني، ابني، ابني.
الرجل (بصبر) :
ومن القاتل؟ هه!
المرأة :
ومن القاتل إلا الضرة؟ (الضرة تظهر من النافذة، تزيح النوم عن عينيها، ترفع الشرشف قليلا ثم تضعه وتبكي.)
الرجل :
هيه! أنت! ماذا جرى؟
الضرة :
اسأل نفسك أو هذي المرأة ...
هل أعرف ماذا يجري؟
إني أصحو الآن من النوم؟
رجل آخر :
النوم، النوم، ومن القاتل يا قوم؟
رجل آخر :
من القاتل يا قوم؟
رجل ثالث :
نذهب للعدل.
رجل :
بل نستدعي الشيخ.
رجل ثان :
هذا فصل القول.
نستدعي الشيخ فيحكم بالعدل.
المرأة (تولول) :
وا ولداه! وا ولداه!
لم يقتله سواك.
الغيرة أكلت قلبك،
فتسللت إليه
وأنا
في عز النوم. (رجال وأصوات متداخلة: من قتل الطفل؟ من قتل الطفل؟) (يسمع صوت من داخل الكوخ، يخرج الشاب حاملا جرابا به كتبه؛ أشعث الشعر، متعب العينين، يضع عمامة على رأسه، ويفرك عينيه.)
أصوات :
من هذا؟
أصوات :
رجل في البيت.
صوت :
يخرج من باب الكوخ.
أصوات :
من أنت؟ من؟
صوت امرأة :
شحاذ مسكين.
الشاب :
وفقير كالنمل حزين.
صوت رجل :
لكنك تبدو ...
الشاب :
ما أنا إلا طالب علم،
طالب دين.
أصوات :
طالب دنيا أم طالب دين؟
الشاب :
مهموم بأمور الدنيا والدين.
ألقتني الغربة في صنعاء سنين،
وحفظت كتاب الله،
ودرست السنة والفقه،
قرأت حديث رسول الله.
أصوات :
عليه صلاة الله ليوم الدين.
أصوات :
شيخ أنت معمم؟
أم قاتل طفل وملثم؟
ما قصتك؟ تكلم!
الشاب :
ما أنا إلا شحاذ.
صوت :
مسكين وفقير كالنمل الحزين.
صوت :
دعوه ... دعوه ...
فالقاتل يعرف من صوته.
والضرة.
صوت :
والزوجة.
صوت :
الله الأعلم.
صوت :
فلنرسل للشيخ كتابا.
صوت :
بل نذهب بهما للعدل.
أصوات متداخلة :
نذهب للعدل.
نذهب للعدل.
أصوات متداخلة :
ونستدعي الشيخ ليحكم بالعدل. (يختلط بكاء الضرة وصياح المرأة.)
الراوية :
من قتل الطفل؟
من قتل الطفل؟
حتى يأتي الشيخ ويحكم.
نم يا طفلي نم.
نم يا طفلي نم.
الراوية :
بعد أذان الظهر حضر الشيخ،
يحف به مرافقوه ومساعدوه،
عبر الموكب ... إلخ.
عبر الموكب وسط القرية فهلل الناس.
أقبلوا يلثمون يديه وكتفيه وساقيه.
حيا الله، حيا الله، حيا الله.
أسرع الأطفال والصبية يصيحون ويهتفون
ورفعت النساء الشرشف الأسود،
أو الحجاب اليمني السميك للحظات،
كي ينظرن الخير الماثل في صورة إنسان.
لاحت على الوجه الصغير النحيل أنوار اليقين والأمل،
وتطلعت الأعين في عينيه لترى بريق العدل،
والعينان الضيقتان تشعان ذكاء وفراسة،
والثوب الأبيض والشال الأبيض وعمامة رأس بيضاء
يسطع منها ذوق وكياسة.
حاول عدل القرية أن يتكلم،
بدأت بعض الأفواه تهمهم، تتهم وتظلم،
قلب في الأوجه عينيه، سكت طويلا:
أنبأني بالخبر رسول القرية،
لا داعي للهفة، خير إن شاء الله.
صوت :
الضرة قاتلة.
صوت :
اصبر يا ولدي، اصبر.
صوت :
التهمة واضحة.
صوت :
اصبر يا ولدي، اصبر.
صوت :
الغيرة أعمت عينيها.
صوت :
بل يعمى القلب ولا يبصر.
خير، إن شاء الله يكون الخير.
صوت :
اسكتوا، اسكتوا، دعوا الأمر للشيخ، فليسترح أولا.
عندي الغداء يا شيخ.
صوت :
لا والله، بل عندي.
صوت :
لا والله، بل عندي.
والمقيل عندي.
ستشرفنا يا شيخ.
وكما جرت العادة وشاء العرف
نحرت الذبائح ومدت الموائد،
واخضرت الأيدي بحزم القات؛
فالقرية في عيد ، وزيارة شيخ قبيلتنا
يوم موعود. (لكن الشيخ يقلب عينيه الضيقتين، تشعان ذكاء وفراسة، وتفيض الحكمة من فمه فيقول بذوق وكياسة):
صوت :
الصبر جميل يا ولدي، صبرك بالله.
صوت :
خير، خير إن شاء الله.
الراوية :
سار الموكب حتى اتجه إلى بيت العدل.
سأل الشيخ عن الضرة والزوجة،
قالوا رهن القيد من الليل.
سأل الشيخ: وأين هما الآن؟
قالوا: حيث يكون المتهم بقتل.
غضب وقال: فكوا القيد، أزيحوا الغل.
ضعوا كلا منهما في غرفة مستقلة.
حذار أن يتصل بهما أحد أو تدخل إليهما نملة،
وجهزوا لي غرفة ثالثة للاعتكاف والخلوة،
وانصرفوا الآن إلى أن تصلكم الدعوة.
جلس الشيخ يفكر وحده،
طال الوقت ولم ينفتح الباب،
ولم يسمع أحد صوته،
وارتفع أذان العصر فصلى وحده،
ودعا الله بأن يهديه،
ويرعى مسعاه وجهده.
وانتظر الناس طويلا حتى ظهر القلق عليهم،
وازداد الهمس وزحف الملل إليهم،
الأمر جلي، فلماذا يحجب طلعته عنهم؟
أما الشحاذ فأنكر نفسه،
بل أوشك أن ينكر دمه ولحمه،
وتكتم سر التهمة،
بل أوشك أن يكتم نفسه،
وتسكع حول الأبواب،
إلى أن تنعقد الجلسة،
فيقيم الحجة بين الناس ويعلو فرسه،
ويرد أباه إلى الحق ويرفع رأسه.
قبل المغرب فتح الباب ونادى الشيخ:
ائتوني بالضرة.
فانتبه الحارس وانطلق ينفذ أمره (مسرعا).
وجاءت الضرة فمثلت بين يديه،
ممتلئة الوجه والجسم، في منتصف العمر أو بعده بقليل.
فتحت عينيها الواسعتين وتأملته في هدوء،
ثم أطرقت برأسها إلى الأرض. (يتنحى الراوية إلى جانب المسرح لنرى غرفة ضيقة ومستطيلة، يجلس الشيخ في صدرها على حشية زاهية اللون ويستند إلى حشية أخرى. يتحدث إلى المرأة بينما يدخن المداعة في هدوء.)
الشيخ :
أنت الضرة؟
الضرة :
نعم يا شيخ.
الشيخ :
لست أول من قتل ولن تكوني الأخيرة. (الضرة تبكي في صمت.)
الشيخ :
الشيطان يوسوس بالشر والجميع يتهمونك.
الضرة :
الله يعرف براءتي.
الشيخ :
الكل ضدك، والأدلة تدينك.
الضرة :
لا يهمني أن يكون الناس كلهم ضدي، ما دام الله معي.
الشيخ :
اسمعي يا ابنتي، كلنا نخطئ، إذا اعترفت سأخفف عنك الحكم.
الضرة :
أعترف؟ وما هو خطئي؟
الشيخ :
قتلت الطفل.
الضرة :
ولماذا أقتله؟ (تبكي.)
الشيخ :
الحسد، أهل القرية يقولون هذا.
الضرة :
الله يسامحهم. هل أقتل طفلا ربيته؟
الشيخ :
لست أمه، فلماذا تربينه؟
الضرة :
لأنني تمنيته وتسببت في وجوده.
الشيخ :
أستغفر الله العظيم. ماذا تقصدين؟
الضرة :
عندما عرفت أنني عقيم طلبت منه أن يتزوج بأخرى.
الشيخ :
سعدان؟
الضرة :
نعم، عليه رحمة الله. كنت كلما نظرت في عينيه لمحت الدموع فيها، فأخذت أكلمه ليل نهار: تزوج، تزوج، سأربيه لك.
الشيخ :
كان يحبك؟
الضرة :
يرحمه الله، ولهذا ظل يتردد ويتهرب مني، لولا حبي له ما خطبتها.
الشيخ :
أنت خطبتها له؟
الضرة :
كانت جارتنا، يتيمة الأبوين.
الشيخ :
ومليحة؟
الضرة :
ستراها بنفسك.
الشيخ :
تكلمي.
الضرة :
وقبل بعد أن هددته بترك البيت.
الشيخ :
تتركين البيت إذا لم يأتك بضرة؟
الضرة :
كنت أحبه، وأعرف ما في قلبه.
الشيخ :
وجاءت الصبية فغرت منها ...
الضرة :
وضعتها في عيني، خدمتها وعاملتها كابنتي، وكتمت سرها.
الشيخ :
سرها؟ تكلمي ولا تخفي شيئا.
الضرة :
الله ستار يا شيخ.
الشيخ :
هيه؟ وجاء الطفل ...
الضرة :
وأرضعته صدري وسهرت عليه، حبا فيهما.
الشيخ :
فيمن؟
الضرة :
فيه وفي أبيه.
الشيخ :
الله! لأنك لم تحبيها؟
الضرة :
هي مثل ابنتي على كل حال، والله علام بالقلوب.
الشيخ :
جل شأنه. ألم تكن بينك وبينها خصومة؟
الضرة :
ولماذا أخاصمها؟ الله ستار العيوب.
الشيخ :
لأنك تعرفين سرها، لهذا حقدت عليها.
الضرة :
بل أحببتها رغم كل شيء. هل أحقد على من أحبت زوجي وأهدته طفلا يحبه؟
الشيخ :
الطفل. نعم، كلميني عن الطفل.
الضرة :
تكلمت.
الشيخ :
ربيته وأرضعته من صدرك، ولكنك قتلته!
الضرة (تبكي) :
أنا أقتله؟
الشيخ :
بعد أن مات أبوه، ما الذي يجعلك تحافظين عليه؟
الضرة :
أحافظ عليه حبا فيه.
الشيخ :
ما زلت تحبينه؟
الضرة :
اسأل أهل القرية. كان بإمكاني أن أتزوج. طرق على بابي الخطاب. قلت لهم ما قلته لك.
الشيخ :
أنك لا زلت تحبينه.
الضرة :
وأحب الطفل الذي أحبه.
الشيخ :
حيا الله الوفاء. ولكن الناس تؤكد ...
الضرة :
لا يهمني رأي الناس.
الشيخ :
ولا رأيي ؟
الضرة :
إن كنت قد جئت لتردد كلامهم. الله يعرف براءتي، فافعل ما شئت.
الشيخ :
الفعل يا ابنتي لله. ولكن العرف ورأي الناس ...
الضرة :
الله بيني وبينكم.
الشيخ :
لن يفكر أحد أنك بريئة من القتل.
الضرة :
إذا فافعلوا ما تشاءون.
الشيخ :
سيقام الحد عليك. والاعتراف كما قلت يخفف عنك.
الضرة :
أعترف بما لا يخطر على رأس إنس ولا جان؟ رأسي بين يديكم يا شيخ.
الشيخ :
أنت مستعدة للحكم؟
الضرة :
الحكم لله وحده، وهو الذي يبرئني ويرحمني ... (تبكي.)
الشيخ :
هناك طريقة واحدة لإثبات براءتك.
الضرة (تجفف دموعها) :
وما هي!
الشيخ :
تقفين وسط الجميع وتنزعين ملابسك قطعة قطعة، وتقفين عارية أمامهم كما ولدتك أمك وكما ستلقين ربك، وتقولين: إنني بريئة من قتل الطفل براءتي من هذه الملابس.
الضرة (صارخة) :
معاذ الله! الله يلعنك يا شيخ. الله يلعنك.
الشيخ :
تلعنين الذي سيحكم عليك؟
الضرة :
الله هو الذي يحكم علي ... وأفضل أن ألقاه بلا رأس على أن أعمل ما تقول ...
الشيخ :
حتى إذا كانت فيه براءتك؟
الضرة :
حتى إذا كانت فيه براءتي (تبكي).
الشيخ :
لن تعترفي إذا؟
الضرة (تنشج في البكاء) :
اعتبروني مذنبة واقتلوني. اقطعوا رأسي وابصقوا عليها، لكن لا يمكن أن أفعل ما تقول. عارية أمام الجميع؟ الله بريء مني إن فعلت هذا. عارية أمامكم؟ الله يلعنكم ... يلعنكم ... يلعنكم ... (تخرج وهي تصرخ وتلعن.)
الراوية (يدخل بعد قليل) :
خرجت وهي تولول وتصب عليه اللعنات.
لبث الشيخ يفكر فيما قالت من كلمات،
وتألق في عينيه النور وتمتم بالدعوات.
حك الذقن الأشيب، رفع الصوت ونادى الحارس مرات. (كان الحارس قد أغمض عينيه ونام كنوم الأموات،
فلقد هجم الجوع عليه، تأخر عنه القات!)
الشيخ :
يا حارس! أنت!
الحارس :
نعم يا شيخ!
الشيخ :
هات الزوجة من محبسها هات! (تحضر الزوجة بعد قليل، فتاة نحيلة مليحة الوجه طويلة الشعر، في حركاتها نزق وغرور، لسانها يسبق يديها وقدميها، تدخل مولولة وصائحة.)
الزوجة :
أدركني يا شيخ! أنقذني يا شيخ!
الشيخ :
من أنت؟
الزوجة :
وضعوني في السجن وشدوا كفي ورجلي في القيد.
الشيخ :
أمرت ففكوا عنك القيد، لماذا تبكين وتصيحين؟
الزوجة :
لماذا أبكي وأصيح؟ ليتني أقتلهم جميعا.
الشيخ :
تقتلينهم وأنت متهمة بالقتل؟
الزوجة :
أقتل طفلي؟ من يقتل ابنه؟ ومتى قتلت أم طفلا؟
الشيخ :
ضرتك أنكرت التهمة، ولم أجد دليلا يثبت أنها قتلته. فاعترفي نخفف عنك الحكم.
الزوجة :
أعترف بماذا؟ ويل للظالمة من الله، أين ستخفي عنه دماه؟
الشيخ :
قلت لك، لقد اتضحت براءتها.
الزوجة :
براءتها؟ إذا برأتها فلن يبرئها الله.
الشيخ :
وما دليلك؟ تكلمي؟
الزوجة :
الحسد أعمى عينيها ومد يديها إلى رقبته.
الشيخ :
هل مات الطفل مخنوقا أم مذبوحا؟ سنرى هذا فيما بعد، ولكن لماذا تحسدك؟
الزوجة :
تسأل والأمر واضح؟ إنها بلا أولاد.
الشيخ :
تقول إنها هي التي ربته وأرضعته وسهرت عليه.
الزوجة :
ألم تقل أيضا إنها أمه؟ لماذا لا تكذب وتنكر علي أمومته أيضا!
الشيخ :
لأنك مشغولة عنه. لا أريد أن أتكلم فالله ستار العيوب.
الزوجة :
إنها تكذب كما تتنفس. امرأة كالشوك عقيم.
الشيخ :
عاملتك كابنتها.
الزوجة :
وأكلت الغيرة قلبها من يوم أن دخلت البيت.
الشيخ :
ولماذا تغار منك وهي التي خطبتك لزوجها؟
الزوجة :
الشوكة تلسع خد الوردة، والحية تلتهم صغار الطير.
الشيخ :
أنتما وحدكما في البيت، وقد كنت نائمة حين صرخت وصحت.
الزوجة :
قتلته ونامت ثم صحت لتمشي في جنازته.
الشيخ :
الناس تعرفها وتثني على سيرتها.
الزوجة :
وأين فراستك يا شيخ؟ الذئب يبدو في قناع الشاة.
الشيخ :
كفاك كلام الشعراء يا امرأة.
الزوجة :
ابني! ابني! أعوذ بالله! من يقتل ابنه يا شيخ؟
الشيخ :
لقد أثبتت براءتها. وعليك الآن أن تثبتي براءتك.
الزوجة :
براءتي ثابتة أمام الله.
الشيخ :
ولا بد أن تثبت أمامنا.
الزوجة :
أنا مستعدة لكل شيء في سبيل ابني.
الشيخ :
كل شيء؟
الزوجة (تصيح) :
طبعا يا شيخ، كل شيء.
الشيخ :
ولو كان قاسيا عليك؟
الزوجة :
ولو ألقيتم جسدي في النار.
الشيخ :
كنت أعرف هذا.
الزوجة :
والله يعرف أنني بريئة. سيقول الله: كوني بردا وسلاما يا نار.
الشيخ :
هل قلت إنك لن تخشي شيئا؟
الزوجة :
نعم يا شيخ.
الشيخ :
حتى العار .
الزوجة :
حتى العار، يصبح في عين الحق الجبار، شارة مجد وفخار.
الشيخ :
شاعرة وقاتلة؟
الزوجة :
قلت مستعدة لأي شيء. هل رأيتم أما تقتل طفلها؟
الشيخ :
ولو طلبت منك ...
الزوجة :
اطلب أي شيء، في سبيل ابني.
الشيخ :
هذا ما كنت أنتظره. ستحضرين أمام الجميع عندما أناديك، وسأطلب منك أن تنزعي ملابسك قطعة قطعة وتقفي عارية ...
الزوجة :
العري ولا العار.
الشيخ :
وتقولين إنني بريئة من دم الطفل براءتي من ملابسي.
الزوجة :
وضرتي هي القاتلة.
الشيخ :
تفعلين هذا؟
الزوجة :
وأكثر منه. العري ولا العار، والبريء لا يخشى العقاب.
الشيخ :
العقاب والثواب من الله يا ابنتي. لقد قلت لنفسي إنك لن تترددي في إثبات براءتك مهما كان الثمن في سبيل ابنك. اذهبي إلى غرفتك وسيدعوك الحارس. (مناديا الحارس)
يا حارس.
الحارس :
نعم يا شيخ.
الشيخ :
خذها إلى حجرتها حتى ندعوها. ناد على الجميع إلى المقيل.
الحارس :
هل ظهر الحق.
الشيخ :
اصبر وسيظهر.
الحارس :
صبر الناس كثيرا يا شيخ. أأزف البشرى بصدور الحكم؟
الشيخ :
الحكم سيصدره الناس.
الحارس :
هم عرفوه وقالوه منذ الأمس. الضرة قتلت ...
الشيخ :
قلت اصبر.
الحارس :
أصبر يا شيخ، وأدعو الناس؟
الشيخ :
وافتح هذا الباب وهات القات.
الحارس :
حالا. هذا ما لا صبر عليه. (مناديا): هيا ... هيا ... فتح الباب. فتح الباب.
والشيخ سيعلن حكم العدل. فهاتوا القات، هلموا يا أحباب.
الراوية :
رفرفت التهمة كالعصفور ذبيحا بين الغصنين.
سقطت في عش الضرة فنفاها القلب، نفتها العين.
أهوت في عش الأم فعضتها بالنابين.
وتعجب كل الناس وقالوا: من؟
من قتلك يا طفلي من؟
من يحمل ذنبك، من يغسل من دمك يديه؟
الطفل الذاهل أخلد للصمت، وضم الكفن على عينيه.
ينتظر الحكم العادل، أيكون له؟ أيكون عليه؟
والابن الضائع بين حدود الشرع وبين قيود العرف،
يعرف سر الليل ويتخفى عن عين أبيه كالطيف،
هل يعلن عنه أم يطويه تحت لسان وضمير عف؟
والتهمة كالعصفور المذبوح ترف،
بين الضرة والزوجة، ومن الحائط للسقف.
فلننظر ماذا يفعل،
ولنسمع ماذا سيقول الضيف.
بدأ الناس يهلون على «المفرج» في أيديهم قات،
في أعينهم أمل في العدل وفوق الفم دعوات،
فلنصفح عما فات، وما هو آت آت. (يختفي الراوية ويبدأ الرجال في إعداد المقيل. الشيخ يحك ذهنه الأشيب ويقلب عينيه في الجميع.)
الراوية :
حان أوان صدور الحكم، تجمع كل الناس،
نظروا في وجه الشيخ وعينيه وكتموا الأنفاس،
العدل أساس الملك، ولا يبنى الملك بغير أساس،
وقريبا يصدر حكم العدل، فيفصل جسد عن راس.
هيا نتتبع ما يحدث، وليهدأ حتى الحراس،
لن ينفخ أحد في الصور، ولن يسمع دق الأجراس،
سنشاهد قصة ملك فيها العبرة والإيناس،
ملك محزون وحكيم من زمن ماض،
زمن قاس.
يجلس فوق العرش ليحكم بين الناس،
بالحكمة والرأي الصائب والإحساس،
عن علم وفراسة عين ومراس،
لكن بم يقضي؟
ما نوع التهمة؟
كيف يكون الحكم؟ على أي أساس؟
أيشق طريقا وسط التيه، يضيء الظلمة نبراس؟
فلننظر ماذا يحدث ولنكتم حتى الأنفاس.
فلعل الملل يزول ويسري في النفس حماس. (الشيخ يتصدر المجلس، يقلب عينيه ورأسه الصغير بين الحاضرين، الجميع مطرقون يختلسون النظرات إليه، الانتظار يحوم فوق الرءوس كسرب من الغربان. ومع أن الأفواه تمضغ أوراق القات، إلا أن الجوع يبدو في الأعين الزائغة وعلى الوجوه الشاحبة المصفرة.)
الشيخ :
أعرف أنكم تنتظرون.
رجل :
الصبر جميل يا شيخ.
الشيخ :
حقا يا ولدي.
رجل ثان :
الذبائح تنتظر.
رجل ثالث :
والبطون تنتظر.
الشيخ :
خير إن شاء الله، بعد الحكم ...
رجل :
الحكم معروف.
الشيخ :
اصبر يا ولدي. ماذا أعرف أو تعرف؟
رجل :
الضرة قاتلة. هذا رأي الكل.
رجل آخر :
واعترفت واتضح الأمر. يبقى ...
الشيخ :
ماذا يبقى؟
الرجل :
أن تتفضل وتقر الحكم.
الشيخ (يرفع صوته ويتفرس في الجميع) :
الصبر! الصبر! قلت أسري عنكم قبل صدور الحكم. جعتم؟
رجل :
واشتد العطش.
رجل :
إلى الماء ومعرفة السر. (ضحكات، الشيخ يستمر.)
الشيخ :
سننسى العطش وننسى الجوع قليلا. اصبر يا ولدي. (يشير إلى معاونيه، يتابعهم الجميع بنظراتهم، يخرجون ويعودون حاملين كرسيا كبيرا، يضعونه بجانب الشيخ.)
الشيخ :
هذا كرسي العرش.
رجل :
وأنت إمام ترتاح عليه.
الشيخ :
بل ملك مشهور.
رجل :
ملك؟ ما شاء الله!
الشيخ :
الملك سليمان بنفسه.
رجل :
سليمان! وستأتي بلقيس إليه!
الشيخ :
بل تأتي امرأتان.
رجل :
امرأتان؟ هل بين الجمع امرأتان؟ (يتلفت ضاحكا في الرجال من حوله.)
الشيخ :
سيمثل رجلان الدورين.
رجل :
وتقوم بدور الملك الأعظم.
رجل :
من أخضع لمشيئته الجنة والناس.
رجل :
ولا تنس الهدهد.
رجل :
والعفريت الضخم.
رجل :
ولا القمقم. (يضحكون.) (الشيخ يقوم بهدوء ويجلس على الكرسي. يصمت الجميع، يقوم من بين الحاضرين رجلان يحملان حزمة ملابس في أيديهما، يلبسان ثياب امرأتين ويضعان الشعر المستعار على رأسيهما. يقفان بين يدي الشيخ، الجميع يتعجبون، وينظرون وهم يحبسون أنفاسهم.)
الشيخ :
ما الأمر؟ ما سبب شجاركما عند الباب؟ أزعجتم ملك الأرض، وأقلقتم نوم الهدهد، نوم الطير الكاتم للسر.
المرأتان (تواصلان الشجار) :
يا من يفهم لغة الحيوان الأعجم والطير،
يا ملك الأرض وملك اليابس والبحر.
الشيخ :
لكني لا أفهم لغتكما، فيم الخصام؟
المرأة 1 :
هذه الفاجرة ...
المرأة 2 :
هذه المدعية ...
الشيخ :
حذار ... حذار ...
في حضرة ملك البر وملك البحر
لا ينطق أحد باللفظ الجارح،
لا يهجس قلب بالشر.
المرأة 1 :
تلك المرأة سرقت ابني واغتصبته مني.
المرأة 2 :
بل تركته يا مولاي، تخلت عنه، فربيته.
المرأة 1 :
لكن من بالطفل أحق؟ من ولدته؟ أم من ربته؟
الشيخ :
من ولدته أم من ربته؟
المرأة 2 :
من حين تخلت عنه الأم، ربيته وتعبت من أجله.
المرأة 1 :
هذا لا يرفع عنك التهمة! سارقة أنت وبالسرقة متهمة.
الشيخ (يسكتهما) :
أية تهمة؟ ما الخبر؟ وأين الطفل؟ (أحد معاوني الشيخ يدخل صبيا صغيرا، يتقدم به أمام الشيخ والعيون تتابعه.)
الشيخ :
تعال تعال. اجلس يا ولدي جنبي. (يرفعه ويقبله ويجلسه بجانبه.)
الشيخ :
هيا ... قولا ... ماذا حدث؟ وما هذا اللغز؟
المرأة 1 :
سرقت ولدي يا مولاي! اغتصبته مني!
المرأة 2 :
سارقة؟
من أنقذ ابنك يوم المحنة؟
من أرضعه؟ من رباه؟
من هام بأرض الله،
طرق الأبواب، وشحذ اللقمة شحذ الجرعة ورعاه؟
المرأة 1 :
لكنه ابني، ولدته من بطني.
المرأة 2 :
لا أنكر هذا، لكن من سهر عليه ورباه؟
الشيخ :
عدنا لخصامكما المر،
لشجار لا ينفع معه الصبر،
لسؤال أشبه باللغز أو السر،
لا يعرف فيه الخير من الشر.
من أم الطفل؟
من ولدته بعد شعور تسع؟ أم من ربته؟
المرأة 2 :
وتحملت المر.
المرأة 1 :
انظر مولاي إلى الطفل. انظر للوردة.
المرأة 2 :
تركت وردتها يا مولاي وفرت منها.
المرأة 1 (للجميع) :
أسمعتم عن شجرة ورد تترك وردتها وتفر؟
المرأة 2 :
يوم المحنة والأعداء على الأبواب،
تركت وردتها تسقط في الوحل وبين المخلب والناب،
وتهاوى الملك وسقط تراب فوق تراب،
ففزعت، جريت إلى الطفل البائس ولجأت إلى السرداب.
وهربت به من وجه الخطر، صعدت جبالا واجتزت هضاب،
وشحذت على الأبواب، شحذت على الأبواب.
أما الأم فماذا فعلت؟
الشيخ :
حقا، ماذا فعلت؟
المرأة 1 :
كان الخطر شديدا، والأعداء على الأبواب.
زوجي ذبحوه، اغتنموا الأسرى والأسلاب؛
فنجوت بنفسي.
المرأة 2 :
بنفسك، أم بكنوزك وهداياك؟
بحقائب ملأى بالأثواب؟
المرأة 1 :
هو طفلي.
المرأة 2 :
من ينكر هذا؟
من بطنك سقط بإحدى غرف القصر قبيل سنين.
المرأة 1 :
كنت المرضعة وحسب،
فصرت اللصة والحية والتنين.
المرأة 2 :
سامحك الله، هل أرضعت وليدك لبن التنين،
أم بحنان يقطر من مهجة قلبي وحنين؟
المرأة 1 :
هل تسمع هذا يا مولاي؟ أرضعت الطفل صغيرا، وأنا الأم.
المرأة 2 :
أنا أرضعت الطفل وربيت، فأنا الأم.
الشيخ :
كفا ... كفا ... أوشكت الآن على الفهم.
المرأة 1 :
ولك الرأي النافذ.
المرأة 2 :
منك يكون الحكم.
الشيخ :
فهمت ... فهمت. (يحك ذقنه الأشيب بكفه ويقلب عينيه بين الصبي والأم والمرضعة والوجوه المتطلعة إليه.)
الشيخ :
الحكم ... الحكم.
رجل :
سليمان ينطق بالحكم.
رجل :
والشيخ حكيم كسليمان.
رجل :
وعين الشيخ كعين النسر.
رجل :
ترنو من فوق القمم وتفهم.
الشيخ :
هيا يا ولدي ... (ينزله من على الكرسي، يوقفه أمامه.)
المرأة 1 (تجري نحوه) :
ولدي ... (تحاول أن تحتضنه فيبعدها عنه.)
المرأة 2 (تفتح له ذراعيها فيجري نحوها) :
دمعة عيني ... كبدي.
الشيخ :
ابتعدا عنه. يا سياف ...
المرأتان :
سياف؟!
الشيخ (في إصرار) :
يا سياف ... تعال ... تعال (يسرع إليه أحد معاونيه مشهرا سيفا أو خنجرا نزعه من جنبيته) .
المرأة 1 :
مولاي ... ابني ... ولدي ...
المرأة 2 (تحتضن الطفل بشدة) :
اضربني يا سياف. مره يا مولاي ... لكن لا تتركه يقرب ولدي.
الشيخ :
هذا هو نص الحكم، أتلوه للمرضعة وللأم ...
أحد معاونيه :
سليمان يتلو الحكم.
فلتنتبهوا يا قوم.
فلتستمعوا يا قوم.
الشيخ :
لا ينكر أحد فضل الأم،
حملته شهورا تسعا،
سقت النطفة والعلقة والمضغة بالدم.
المرأة 1 :
ما أعظم عدلك! بورك في هذا الحكم.
أسمعتم؟ الأم سقته الدم.
سقته الدم.
الشيخ :
انتظري، حتى يكتمل الحكم.
أما المرضعة فربته،
سقته حنان القلب،
سقته دمع العين،
رحيق الفم،
لما تركته الأم.
المرأة 1 :
لكني الأم!
وهي المرضعة بقصري،
وأنا الأم!
أنا الأم!
الشيخ :
والآن ... من الأم؟
يا سياف تقدم.
اشطر هذا الطفل إلى نصفين،
واضرب بالحق ولا تظلم.
للأم النصف الأعلى،
للمرضعة النصف الأسفل،
من تحت البطن إلى القدمين.
هيا يا سياف تقدم.
السياف (يتقدم) :
سمعا يا مولاي.
منك الأمر،
ولك الحكم.
المرأة 2 (تجري نحو الطفل وتحتضنه) :
لا ... لا ... لا ...
ابني أتركه للأم.
حاذر يا سياف الشؤم،
هذا ولدي فخذيه ...
خذيه معافى وسليما،
وليحي طويلا وليسلم.
المرأة 1 :
يا قوم،
أرأيتم هذا وسمعتم؟
فلينظر من يملك عينا،
وليسمع من يملك أذنا.
ها هي ذي المرضعة تسلم
أني الأم،
أني الأم (تهلل فرحة).
المرأة 2 :
هل قلت بأنك لست الأم؟ (تبكي.)
الشيخ :
صدر الحكم.
صدر الحكم.
هذي المرأة (يشير إلى المرأة الثانية)
كانت بالطفل البائس أرحم.
لم تأخذ نصف الجسم،
وتركته ليسلم.
ضحت من أجل الطفل،
وأعطت ...
تعب اليوم وسهر الليل،
أعطت ما لا يعدله الدم،
ولهذا أنطق بالحكم،
وينطق عني الحكمة والفهم،
الطفل لمن ربته
وتعبت ورعته،
لا من ولدته
وتخلت عنه.
الطفل لمرضعة الطفل.
السياف (مرددا) :
الطفل لمرضعة الطفل.
الشيخ :
فهي به أرحم.
السياف :
فهي به أرحم.
الشيخ :
وأحن وأعلم.
السياف :
وأحن وأعلم. (ينظر الجميع مذهولين متسائلين. ينزع التابعان ملابسهما النسائية، ويحملان الكرسي الذي نزل عنه الشيخ ليجلس على الحشية، ويأخذان الطفل معهما وينسحبان. بعد قليل يفيق الجميع من الذهول، ويبدأ الهمس.)
رجل :
حكم عادل.
رجل :
أنصفت الحكم.
رجل :
ومحقت الظلم.
رجل :
لسليمان الحكمة والحكم.
رجل :
بل للشيخ.
رجل :
الحكمة والفهم.
رجل :
ما أعدل هذا الحكم !
ما أعدل هذا الحكم!
رجل :
لكن يا شيخ ...
الشيخ :
تكلم.
رجل :
ما شأن الضرة والزوجة
بخصام بين امرأتين؟
رجل :
أسأل أيضا؟
الشيخ :
وسؤالك فوق الرأس وفوق العين.
الرجل :
ما شأن الملك سليمان
بشيخ قبيلتنا خولان؟
والسياف وشطر الطفل إلى نصفين
بين الأم وبين المرضعة وبين ...
رجل :
بل بينهما فقط، ولا يبقى بين ... (يضحك البعض، يمسح البعض الآخر على وجهه وكأنه يفيق من نوم.)
الرجل :
ماذا تنفع تلك القصة؟
رجل :
أو هذا الحكم؟
الرجل :
هل تكشف عن سر القاتل؟
رجل آخر :
ما زلنا ننتظر الحكم.
رجل :
ما زلنا نتعجب نسأل ...
ونحاول عبثا أن نفهم ...
الشيخ :
الحكم، الحكم.
صبرا يا ولدي.
رجل :
الصبر الصبر!
الصبر تبرم،
والجوع تحكم.
رجل :
والعطش بحلقي
كالعلقم.
رجل :
فانطق بالحكم.
أصوات :
الحكم ... الحكم ... الحكم.
الشيخ :
الحكم ... الحكم. (مناديا)
ناد على الضرة يا ولدي.
الحارس :
سمعا يا شيخي.
الشيخ :
الآن ترون.
ومن ينظر يفهم. (تدخل الضرة، رزينة ثابتة، ترفع النقاب الأسود فوق رأسها فتظهر عيناها الواسعتان، فيهما إصرار لا يخفى على أحد.)
الشيخ :
حيا الله! تفضلي بالجلوس. (يفسح بعض الحاضرين مكانا لها فترفض.)
الضرة :
سأظل واقفة.
الشيخ :
لا زلت عند رأيك؟
الضرة :
نعم. قتلت الطفل.
رجل :
ألم نقل لك يا شيخ؟
رجل :
الجريمة واضحة.
رجل :
والقاتل معترف.
الشيخ (مشيرا بيده) :
صبرا يا أولاد، صبرا. (للضرة)
هل فكرت في الأمر؟
الضرة :
نعم، فكرت.
الشيخ :
ربما غيرت رأيك.
الضرة :
لو استطعت أن تغير جلدي وعظمي ...
الشيخ :
وإذا؟
الضرة :
أنا التي قتلت الطفل ...
الشيخ :
ألا تحبين أن تثبتي براءتك؟
الضرة (صارخة) :
هذا لا يكون أبدا، لا يكون أبدا.
الشيخ :
أيها الحارس ... (مشيرا للحارس.)
الضرة :
نعم، سأرجع لغرفتي وأنتظر الحكم.
الشيخ :
الحكم لله يا ابنتي.
الضرة :
الله يعرف براءتي. سأنتظر الحكم، سأنتظر الحكم. (تسرع غاضبة ثابتة الخطى والجميع يتابعونها حائرين متسائلين.)
الشيخ (لأحد أتباعه) :
قل للحارس يحضر الزوجة.
رجل :
عجيب! قاتلة وبريئة!
رجل آخر :
تعترف بالجريمة، وتشهد الله على براءتها!
رجل ثالث :
لو كان السياف هنا ...
الرجل الآخر :
لشطرها نصفين وأراحنا.
الرجل الأول :
يا سياف! يا سياف! (ينظر لرجل يجلس في الركن ويقطف أعواد القات ...)
الرجل الآخر :
باع السيف بحزمة قات!
الرجل الثالث :
يحتاج السياف الآن إلى سياف! (يضحكون.) (تدخل الزوجة صائحة مولولة: «وا ولداه! وا مقتولاه! قتلته الحاسدة الخائنة.» يشير إليها الشيخ فتسكت. تتفرس العيون في وجهها الذي لا يكاد الشرشف الشفاف يستر ملاحته. تقف بقوامها الطري النحيل وشعرها المنسدل على ظهره كأنها تعرض جمالها قبل براءتها.)
الشيخ :
هيه ... لا زلت عند رأيك؟
الزوجة :
ومستعدة لما قلت.
الشيخ :
وفكرت في غرفتك المنفردة؟
الزوجة (صائحة وملتفتة للجميع) :
هل يحتاج الأمر لتفكير؟
أنا مستعدة لكل شيء في سبيل ابني، في سبيل إثبات براءتي. الحاسدة قتلته، عين الغول حسدته وخنقته. آه يا ولداه! وا ابناه! وا مقتولاه!
الشيخ (مشيرا بيده نحوها) :
يكفي هذا. ابدئي. (تنظر للجميع في تحد وإصرار، وتشرع في فتح أزرار قميصها وسترتها السوداء والوقوف عارية وسط الحشد الذي يتفرس في حركاتها مبهوتا مذهولا ...)
الشيخ (مشيرا إليها وناهضا من مجلسه) :
يكفي هذا أيضا.
يكفي ... (مناديا على الحارس)
يا حارس، خذها إلى غرفتها. (صمت يخيم على الحاضرين. يلتفتون إلى الشيخ وإلى بعضهم. يبدأ الهمس. ترتفع بعض أصوات خافتة.)
رجل :
تقف عارية وسط الرجال!
رجل آخر :
أعوذ بالله! أعوذ بالله!
رجل ثالث (يضرب كفا بكف) :
أنا لا أفهم شيئا!
رجل :
ما معنى هذا؟
رجل آخر :
من فهم السر؟
رجل ثالث :
أين الحكم؟
الرجل (للشيخ) :
يا شيخ، تكلم.
الشيخ :
صبرا يا أولاد.
الرجل :
الصبر ... الصبر ... الصبر.
الشيخ (في صوت رهيب) :
الأم هي القاتلة.
الرجل :
الأم؟
الشيخ :
نعم، قتلته ونسبته إلى ضرتها.
الرجل :
لكن الضرة معترفة.
الشيخ (في صوت رهيب) :
الأم هي القاتلة ولا أحد سواها.
شاب (يقف بين الجميع يهتف ويقول) :
حقا ما قلت، وبالعدل حكمت.
الشيخ (ينظر إليه) :
من هذا؟
أصوات :
من؟ من؟
رجل :
شحاذ مسكين.
رجل آخر (ضاحكا) :
وفقير كالنمل حزين.
رجل ثالث :
ووجدناه بكوخ البيت الملعون.
الرجل :
رد علينا حين سألناه وقال: طالب علم مسكين ...
الشاب :
مهموم بأمور الدنيا والدين.
الشيخ :
هذا صوت ليس غريبا عني. قل يا ولدي ...
الشاب :
حقا ما قلت، وبالعدل حكمت.
الشيخ :
وكيف عرفت؟
الشاب :
بعيني شاهدت، وأذني سمعت.
الشيخ :
سمعت وشاهدت؟
الشاب :
أجل يا شيخي وأبي. (يرفع ذقنه المستعارة ويخلع ملابسه التي تنكر فيها.)
الشيخ :
ابني أحمد؟
صوت :
ابن الشيخ؟ ابن الشيخ؟ في هذا الثوب؟
صوت :
بردة شحاذ مسكين.
صوت :
طالب دنيا أو دين؟ (الشاب يهرع إلى أبيه الذي يحتضنه طويلا وسط ذهول الحاضرين. الابن يلثم يده ظهرا لبطن ويقبل كتفيه وساقيه.)
الشيخ :
حيا الله ... حيا الله.
الشاب :
بعد خلافي معك وتركي البيت،
سافرت وحيدا وصعدت جبالا وهبطت سهولا وتعبت.
الشيخ :
وبكت أمك طول الليل.
الشاب :
يرعاها الله.
الشيخ :
حين اكتشفت أنك غادرت البيت،
لم تحمل زاد السفر ولا سلمت.
الشاب :
وحرمت دعاء الأب والأم.
لما جن علي الليل وحط التعب كظل الموت،
آويت لهذا المسجد صليت دعوت،
وذهبت إلى الكوخ ونمت.
الشيخ :
كيف سمعت وشاهدت؟
الشاب :
شاهدت بعيني وسمعت،
أنا والليل عرفنا السر،
لكن الله يحب الستر.
الشيخ :
حقا يا ولدي!
صوت :
ماذا شاهدت؟! تكلم!
الشاب :
رأيت العاشق ...
أصوات :
عاشق! لا بد هو القاتل.
الشاب :
انتظروا ... العاشق يتسلل جنب الجدران،
والزوجة تلقى عاشقها العائد بعد الغربة بالأحضان.
صوت :
العائد بعد الغربة! من؟
صوت :
أليس «أمين»؟
صوت آخر :
لكن لا يؤتمن على الحرمات.
صوت :
يلعنه الله بكل كتاب.
الشاب :
الله يحب الستر وبعض الظن ...
صوت :
لا بد من القبض عليه.
صوت :
إن كان هو القاتل ...
الشاب :
صبرا يا إخوان. ليس هو القاتل، الزوجة قتلت ...
صوت :
ولماذا قتلت هذا الطفل المسكين؟
صوت :
ومتى قتلت أم ابنا؟
الشاب :
صرخ الطفل فأفسد ما بينهما؛
ذهبت تسكته لينام.
عادت تستقبلها الأحضان.
ما كاد الصدر يميل على الصدر الولهان،
حتى صرخ الطفل فقامت كي ترضعه لينام.
عادت للأحضان،
صرخ الطفل وما نام.
قالت للعاشق: الآن سيسكت للأبد الآن.
ذهبت للطفل فسكت ونام.
هذا ما كان.
صوت :
رجع العشاق إلى الأحضان!
الشيخ :
انتظروا ... هذا ما كان؟
الشاب :
هذا ما كان.
الشيخ :
فكر يا ولدي؛
فلعل الذاكرة تخونك،
وتخونك أذن ولسان.
الشاب :
الله يحاسب عيني،
يحاسب أذني،
ويقطع إن كنت كذبت لساني.
صوت :
تسلم يا ولدي.
صوت :
سلمك الله بكل مكان وزمان.
صوت :
وليسلم للدين وللشرع لسان وجنان.
الشاب :
لكن الحيرة تأكل قلبي.
الشيخ :
لم يا ولدي؟
الشاب :
كيف عرفت؟ ولم تر شيئا مما أبصرت ولم تسمع!
كيف حكمت؟
الشيخ (مبتسما) :
للحكم عيون يا ولدي، والحكم فراسة.
الشاب :
بالله تكلم.
أصوات :
يا شيخ أجبه. كيف عرفت؟
الشيخ :
بعض الناس يحكم فهمه،
أو يسأل علمه،
يستفتي الكتب ليصدر حكمه،
أو يستفتي سيفه.
الشاب :
هذا ما كنا نختلف عليه.
الشيخ :
أنا يا ولدي ما حكمت السيف.
الشاب :
هل حكمت العرف؟
الشيخ :
للعرف جذور يا ولدي تمتد بأرض الناس،
للحكم الصائب ميزان، والعدل له مقياس،
للعرف عيون وفراسة ...
الشاب :
ولعقلك ذوق وكياسة.
الشيخ (للجميع) :
إنكم لا تعرفون ما حدث. دعوني أحك لكم.
أصوات :
صبرا ... صبرا. استمعوا للشيخ.
الشيخ :
لما أنبأني رسول القرية بما حدث، فكرت في الطريق وقلبت الأمر. وحين حضرت لقيت الزوجة والضرة، وتحدثت لكل منهما على انفراد، وأمرت بأن تترك كل منهما في غرفة منفردة.
أصوات :
سمعنا هذا وأطعنا.
أصوات :
لكنا لم نفهم شيئا.
الشيخ :
طلبت من كل منهما أن تثبت براءتها بطريقة واحدة، أن تخلع ملابسها وتقف عارية أمام الجميع.
أصوات :
أعوذ بالله!
الشيخ :
رفضت الضرة واستنكرت، قالت إنها مستعدة لإلقاء نفسها في النار أو قطع رقبتها.
أصوات :
هذا عين العقل.
أصوات :
يقضي الشرف بهذا.
أصوات :
يقضي العرف.
الشيخ :
وقبلت الزوجة ورحبت.
أصوات :
ورأيناها تخلع قميصها!
أصوات :
ولم نفهم شيئا مما يجري!
الشيخ :
هل تذكرون المرأتين أمام الملك سليمان؟
أصوات :
نذكر نذكر.
الشيخ :
صبرا ... صبرا. الآن ستجنون ثمار الصبر.
أصوات :
قل يا شيخ!
الشيخ :
المرأة التي تقبل أن يشطر ابنها نصفين لا تصلح أن تكون أم الطفل، والمرأة التي تقبل أن تظهر عارية أمام الناس لا تتورع عن قتل ابنها.
أصوات :
بالحق نطقت.
الشاب :
وبالعدل حكمت.
أصوات :
صدر الحكم.
صدر الحكم.
أصوات :
ظهر العدل .
ظهر العدل.
هيا هيا للمأدبة، فقد زاد الظمأ بنا واشتد الجوع.
نطق الشيخ بحكم العدل، وحين يقول الشيخ نطيع.
الشاب :
أمرك فينا مسموع،
تأمر والكل يطيع.
الشيخ :
أتعود معي يا ولدي؟
الشاب :
بالطبع أعود، فأنت القاضي، أنت الراعي المسئول،
ومعي كتب الشرع وحكم الشرع جليل،
لكن الآن عرفت وصح لدي دليل،
للشرع الحكم وللعرف وللتقليد الحكمة،
وإذا قال العالم نسمع، ونضيف:
وأقوال الشيخ مهمة.
الراوية :
وإذا قال الراوية فمن يسمع قوله؟
هذا يا ولدي قولي،
إن كنت سترفض أكثره،
فاذكر منه أقله.
الآن سنرجع للقرية ونعيد الكرة،
هل تذهب معنا نتلمس جذر الشجرة؟
ونوفق ما بين العلم وبين الخبرة،
ويتم زواج بين الواقع والفكرة؟
إن كان العلم هو الصياد،
فإن العرف هو الدرة.
فانزل معنا في قاع البحر لنسبر غوره،
ونحصل منه الخير ونتجنب شره.
هل تذكر حين غضبت وذقت من الحزن أمره؟
كانت كتبك فوق السحب وغامت في الأفق الفكرة.
والأرض؟ نسيت الأرض، نسيت التربة، ونسيت البذرة.
إن كان العلم هو السيد فسنسمع أمره،
لكن لا تنس الأرض،
لأن الأرض ستبقى حرة،
والحر إذا طلب عروسا زوجه الحرة.
الشيخ :
عد يا ولدي.
الشاب :
ها أنا عدت.
صوت :
وتصالحت القدرة والفكرة.
صوت :
والتأم الشمل وفتح العش ذراعيه ليستقبل نسره.
صوت :
والآن نزوج حرا من حرة.
صوت :
فأقيموا الفرح.
صوت :
أقيموا الرقص.
صوت :
ودقوا الطبل.
صوت :
وهاتوا العود نداعب وتره!
المرحوم
الشخصيات
الأرملة.
الخادمة.
الفيلسوف (ممدد في تابوته).
الحارس.
حارس آخر.
تقديم
تقوم هذه المسرحية على حكاية صغيرة وردت في الفصل الثالث من رواية «ساتيريكون» للكاتب الروماني بترونيوس (أجبره نيرون على الانتحار سنة 66 ميلادية). وكنت قد قرأتها لأول مرة في كتاب يضم مجموعة من الحكايات والقصص اليونانية والرومانية القديمة، التي اختارها الأستاذ هورست جاسه (سلسلة كتب ديتريش، ليبزج 1969)، ووضعت لها تخطيطا مسرحيا بقي مع غيره من المشروعات التي قضي عليها أن تكفن في الصدر والأدراج. ثم أتيح لي الاطلاع على مسرحية «أكثر من عنقاء» للشاعر المسرحي الإنجليزي «كريستوفر فراي»، التي تتناول الموضوع نفسه تناولا حسيا مرحا شديد العذوبة والصفاء، فذكرتني بالمشروع القديم، وربما تسربت إليه منها بعض الصور والمشاعر، على الرغم من الاختلاف الكبير بين الصياغتين.
أما «الأليزيوم» و«هاديس»، فترمز بهما الأساطير اليونانية القديمة إلى نعيم المخلدين من الأبطال والأتقياء العادلين، وإلى ملك العالم السفلي أو عالم الظلال السفلي نفسه. وأما خارون فهو الملاح الذي ينقل في قاربه أرواح الموتى إلى النعيم أو الجحيم.
المشهد الأول (ضريح بالقرب من مدينة أفيسوس، تبدو من فتحة بابه ونافذته أرملة جميلة منحنية على جثمان زوجها، وشعرها الأسود الطويل منسدل على التابوت. الضريح مبني في شبه نفق سفلي على اليمين، أمام بابه سلالم درج يفضي إلى أعلى في مستوى سطح الأرض، حيث نرى إلى اليسار مساحة نصبت فيها ستة صلبان علقت عليها جثث رجال ستة، ويظهر بين الحين والحين حارس يقطع الساحة جيئة وذهابا. من الضريح تنسرب أشعة ضوء خافت يرسله مصباح زيتي مثبت على جداره من الداخل. أما الساحة فشبه معتمة إلا من انعكاسات النجوم البعيدة في سماء يوم من أيام الصيف الحار. نرى الخادمة واقفة أمام الدرج، تطل برأسها حينا من حافة السور الواطئ المحيط بالضريح، وحينا آخر من فتحة الباب على الأرملة التي غلبها النوم. تتنهد بصوت عال، ويبدو على حركاتها الحيرة والقنوط.)
الخادمة :
لا، لا. يجب أن أبكي! لا بد أن أبكي! أيتها الدموع الملعونة! لماذا تهربين حين أطلبك، وتفاجئينني دون أن أدعوك؟ لماذا تمتنعين وكل شيء يدعو إلى البكاء؟ هل جئت هنا إلا لأبكي معها؟ ألم أقسم لسيدتي أن أموت معها؟ فكيف أراها تغرق في بحر دموعها بينما أقف أنا على الشاطئ؟ لأفكر قليلا، لماذا يجب أن أبكي؟ هل هذا شيء يحتاج لتفكير؟ لا، لا، اذهب أيها الفكر. لا تكن سدا يوقف نهر دموعي، أبكي بالطبع على سيدي، الرجل الفاضل الذي تركنا منذ ثلاثة أيام، أبكي الفضيلة نفسها. صمته ووحدته وإشاراته الطيبة لي، مجده وشهرته على كل لسان في المدينة. (تحاول أن تبكي)
تبا لي، ولكن الدموع لا تريد أن تأتي. إذن فلأبك سيدتي حبيبة أفروديت الجميلة التي تقتل جمالها بيديها، عروس البحر الفاتنة التي تذوي على الرمال وتنعي حظها، ها هي آلهة النوم تضعها على صدرها بعد أن مزقت خدودها، وجرحت عينيها من البكاء. ومع ذلك فلم تسقطي أيتها الدموع الجاحدة، وأنا أعزيها وأحاول أن أصبرها، لم تسقط قطرة واحدة منك حين كان ينبغي أن تنهمري كالمطر في ليلة عاصفة. وا خجلي منك! وا خيبة أملي فيك! كيف يسمح لي خارون بركوب قاربه بعيون لم تندها الدموع؟ كيف يكون نهر الموت إن لم يكن من دموعنا؟ إذن فلأجرب أن أبكي على زوجي. نعم، نعم، أنا أيضا كان لي زوج، وكم أشتاق إلى الوغد! ولكنه خانني وغدر بي. لا، لا، إنه لا يستحق دمعة واحدة. آه بل إن ذكراه تكاد تضحكني، لا بد أن أبكي لأنني لا أستطيع أن أبكي، حتى عندما رأيتهم يبكون لم تسقط قطرة على خدي، لم أحس ملمسها على يدي. انصرفوا وهم يبكون، رجال المدينة ونساؤها الطيبون. بكوا عليك يا سيدي وقطعوا أوتار القلوب، ولكنني صرفتهم ووقفت أودعهم كأنني تمثال من الحجر. آه يا سيدتي الجميلة! يا سيدتي الحزينة! (تطل عليها فتجدها لا تزال مستسلمة للنوم)
ثلاثة أيام وثلاث ليال لا تأكلين ولا تشربين، نذرت الصوم والعطش وفشلت كل محاولاتي معك. ربما لو أكلت وشربت كأسا واحدة ... ربما أبكي عندئذ كما أريد وأكثر مما أريد. ربما ربما. ولكن من أين وقد حرمت علي أن أحضر معي الزاد والماء؟ ثم إنني أقسمت أن أشاركها كل شيء. فكيف يا عيني لا تشاركان عينيها؟ ها هي ذي تحرك رأسها الجميل، وشعلة المصباح تحرك رأسها النحيل أيضا، تريد أن تنطفئ كما تنطفئ حياتها وحياتي. فلأدخل إليها سريعا وأسقيها قطرات من الزيت. حتى المصباح لا يمكنه الصمود للعطش والجوع. (تفتح الباب وتدخل، تتحرك سيدتها قليلا ثم تسكن. الخادمة تضع الزيت في المصباح وتتأملها.)
آه يا سيدتي! عندما أتصور جسدك ممددا بجانبه كالوردة الجميلة الذابلة، وأنا أيضا بجانبك كشجرة البلوط اليابسة ، والظلام من حولنا بعد أن ينطفئ المصباح. لا، لا، سيضيء مصباح جسدك هذا الضريح، سترف حوله فراشات الطهر والوفاء، وترقص حوله وتدور كالباخيات في سكرة الحب والنشوة. وأنت يا سيدي المسكين (تقترب منه وتتأمله) ، دائما صامت ووحيد، سترقبنا كما كنت تفعل في حياتك وتوصد عليك أبواب حكمتك. هل يرضيك أن تموت من أجلك؟ هل يسرك أن أموت أنا أيضا؟ أرأيتها وهي تشق صدرها وتدمي وجهها وتنثر التراب على شعرها؟ آه! لماذا أكلمك وأنت كما كنت دائما صامت ووحيد؟ (تتحرك الأرملة ثم تهتف.)
الأرملة :
دعني ... دعني.
الخادمة (تسرع إليها) :
سيدتي، هل صحوت؟
الأرملة :
قلت لك دعني ... دعني.
الخادمة :
أنا بجانبك يا سيدتي. أنا ...
الأرملة :
من؟ (تفتح عينيها.)
الخادمة :
لم تنادي علي. لقد ناديت عليه، ناديت رجلا.
الأرملة :
رجل؟ أية رجل؟ كيف يدخل رجل إلى هنا!
الخادمة :
رجل يدخل إلى هنا؟
الأرملة :
ألم أحرم عليك هذا؟ ألم أحذرك من أفروديت؟
الخادمة :
وما شأنها بنا؟ نحن هنا في ضريح يا سيدتي.
الأرملة :
نعم، نعم. سوى نتأهب للموت. ودعنا الحياة والنور والأمل ... ودعنا الرجال وكل ما يذكرنا بهم.
الخادمة :
ولكنك ناديته. ناديت رجلا.
الأرملة :
لا، لا. لم يكن رجلا.
الخادمة :
وماذا كان؟ تذكري يا سيدتي.
الأرملة :
كان نسرا ...
الخادمة :
كان نسرا، وأنت الحمامة. فهمت.
الأرملة :
لم تفهمي شيئا، هل رأيت حلمي؟ هل كنت معي؟
الخادمة :
كنت معك طول الوقت، ولكني لم أر حلمك، دعيني الآن أراه.
الأرملة :
لماذا تذكرينني به؟ الحمد لزيوس أنه كان حلما.
الخادمة :
ومن يدري؟ ربما كان زيوس نفسه!
الأرملة :
رب الأرباب! ولماذا يهبط من عليائه ويحملني معه؟
الخادمة :
هذا ما يفعله دائما. أرملة جميلة مثلك، هل يمكن أن يغفل عن هذا الصيد؟
الأرملة :
النسور لا تصيد الجثث. إنني أنتظر من يدفنني بجانبه. آه يا زوجي!
الخادمة (ضاحكة) :
الزوج نام إلى الأبد. والأرملة الجميلة ...
الأرملة :
قلت لك لست أرملة، ولست جميلة. ثم كيف تضحكين في هذا المكان؟
الخادمة :
معذرة يا سيدتي. كان يجب أن أبكي. (تشهق وتحاول أن تبكي فلا تسقط دمعة. الأرملة تبتسم رغما عنها)
إنه الحلم يا سيدتي.
الأرملة :
لا بأس، كان حلما عجيبا!
الخادمة :
هل اختطفك يا سيدتي؟
الأرملة (تغالب الضحك) :
حاول فلم يستطع. انقض علي.
كنت بسفح الجبل وحولي الغربان والبوم، تتشممني وتقفز على جسدي، وإذا به ينقض علي فجأة. لم أفق إلا على عينيه الكبيرتين الواسعتين تحدقان في، وجناحيه الهائلين يرفرفان فوقي كالظل المخيف. وقبل أن أصرخ حملني وطار إلى أعلى. صرخت غاضبة: «لا أريد أن أحلق إلى أعلى. دعني هنا في السفح، هنا مكاني مع زوجي، مع البوم والديدان والغربان. لم أعد أصلح للسماء ولا للقمم والنور. دعني، دعني، دعني.»
الخادمة :
وسمعت صراخك يا سيدتي.
الأرملة :
سمعتني؟
الخادمة :
نعم.
الأرملة :
هل يمكن أن يكون هو زيوس؟
الخادمة :
أو إله غيره، رآك فأشفق عليك واختطفك.
الأرملة :
ولكنه كان حلما، وأنا الآن بجانب زوجي.
الخادمة :
سيدي المسكين لا يزال كما هو. لم يتحرك لينتشلك.
الأرملة :
ماذا تقولين؟ كيف يتحرك وهو ميت؟ ألم أجئ إلى هنا لأموت معه؟
الخادمة :
وأنا أيضا لأموت معك.
الأرملة :
لم أطلب منك هذا، أنت التي صممت ...
الخادمة :
وأقسمت ألا أتركك.
الأرملة :
يمكنك أن تذهبي، إني آمرك، اذهبي.
الخادمة :
إلى أين؟ ليس لي أحد غيرك. أقسمت أن أعيش معك أو أموت معك.
الأرملة :
ولماذا أحمل ذنبك على رأسي؟ لماذا أحمله معي إلى قبري؟ إني أموت من أجل زوجي.
الخادمة :
وأنا من أجلك ومن أجل زوجك.
الأرملة :
ولا أحد سوانا؟
الخادمة (ضاحكة) :
معذرة، ولكنه لا يستحق. عاش وغدا ومات كالأوغاد ... لن يصدق أحد أنني دفنت نفسي حزنا عليه. أما أنت، فالمدينة كلها تعرفك وتفتخر بك.
الأرملة :
وماذا يقولون عني؟
الخادمة :
يقولون؟ إنهم يبكون يا سيدتي. ليتك رأيتهم وهم يئنون ويتأوهون حزنا عليك. ليتك سمعتهم وهم يرددون اسمك كما يرددون الصلاة في المعبد. هذه الأرملة الطاهرة، تمثال الوفاء ومثال العفاف. لقد سمعت النسوة وهي تطلب من أعضاء مجلس المدينة أن يقيموا لك تمثالا في وسط المدينة، حتى يمر عليه أزواجهم الجاحدون فيتعلموا. أتعرفين ماذا خطر ببالي ؟ تذكرت زوجي وقلت لنفسي: ليتك كنت حيا لتتعلم!
الأرملة :
هل كنت تأتين معي لو كان حيا؟
الخادمة :
بالطبع يا سيدتي، كنت سأجد سببا كافيا لأدفن نفسي حية.
الأرملة :
من شدة غيرتك عليه، أما الآن فمن شدة شوقك إليه.
الخادمة :
أنت تسيئين الظن بي يا سيدتي.
الأرملة :
ألا تشتاقين للقائه هناك؟
الخادمة :
وهل يمكن أن ألقاه هناك؟ إن روح سيدي ترفرف الآن فوق أشجار الأليزيوم. أما الوغد فلا بد أن روحه الشقية تهوي في قاع هاديس.
الأرملة :
سنعرف قريبا أين هو. لا، لا. سأعرف أنا وحدي.
الخادمة :
اطمئني. إنني أعرف من الآن، لا حاجة بي للبحث عنه هناك.
الأرملة :
هكذا رجعت لعقلك، كانت صراحتك دائما تعجبني. إنني أموت من أجل زوجي وحبيبي، أما أنت فلا شيء؟
الخادمة :
لأجلك ولأجله أيضا يا سيدتي. هل تتصورين أن أتركك وحدك؟ إلى أين أذهب بعدك؟
الأرملة :
وما ذنبك أنت؟
الخادمة :
ذنبي أنني أحبك أيضا. قلت لك لن أتركك وحدك.
الأرملة :
آه!
الخادمة :
سيدتي!
الأرملة :
آه آه!
الخادمة :
ماذا بك؟
الأرملة :
بدأت الرحلة يا عزيزتي، سألقاه هناك. إنه يشير إلي.
الخادمة (تنهض وتنظر للميت) :
إنه لم يتحرك يا سيدتي، لا زال كما هو، لا يتحرك ولا يتكلم.
الأرملة :
بل يدعوني إليه. انظري ابتسامته!
الخادمة :
لم أرها أبدا يا سيدتي، وجهه صارم كما كان، جبهته عابسة كما هي.
الأرملة :
إنها الحكمة يا ساذجة، ألا ترين كيف يتزاحمون حوله؟
الخادمة :
من يا سيدتي؟
الأرملة :
الأرواح، الأشباح والظلال تتسابق نحوه.
الخادمة :
أنا لا أرى إلا ظلال المصباح يا سيدتي، تتثاءب حوله كما كانت تفعل. سيدتي ...
الأرملة :
أحس أن قدمي لا تحملاني. الزحام شديد.
الخادمة :
إنه الضعف يا سيدتي، الصوم والعطش هما السبب، لا بد أن تأكلي شيئا.
الأرملة :
ماذا قلت؟ آكل؟
الخادمة :
إذا فاشربي يا سيدتي، إنك لم تعاهديه على العطش أيضا.
الأرملة :
وتقولين هذا يا خائنة؟ هل أخفيت الطعام والشراب من ورائي؟
الخادمة :
أنا يا سيدتي؟ إنني أموت مثلك من الجوع والعطش. عليك أن تأكلي شيئا يقويك على الرحلة.
الأرملة :
وتكررينها يا خائنة؟
الخادمة :
جرعة ماء واحدة! لا يمكن أن أتركك على هذه الحال. لا أستطيع أن أواصل الرحلة معك.
الأرملة :
وماذا يقول الناس عني؟ ماذا تقول المدينة؟ الطاهرة تراجعت بعد أول خطوة؟ عجزت عن تقديم أول تضحية؟
الخادمة :
لن يقول أحد شيئا، لن يرانا إنسان. إنهم يتصورون أننا متنا وانتهى الأمر.
الأرملة :
بينما نبحث عن الطعام والماء ...
الخادمة :
لن تبحثي عن شيء. سأذهب أنا وأعود.
الأرملة :
بل تذهبين، ولا تعودي أبدا (تئن) .
الخادمة :
بل سأعود. قل لها يا سيدي ... لا تتخل عنها.
الأرملة :
تعلمين أنه سكت إلى الأبد!
الخادمة :
ما دمت تعلمين هذا، فلماذا تدفنين نفسك حية؟
الأرملة (تبكي) :
وتسألين لماذا؟
الخادمة :
لو كان حيا لدعاك للحياة.
الأرملة (تبكي) :
وعدته أن أذهب معه.
الخادمة :
وتضحين بحياتك قبل اليوم المحتوم؟ ستذهبين يوما ما ... سنذهب جميعا.
الأرملة :
قلت لك اذهبي، دعيني لدموعي.
الخادمة :
لن أذهب ولن أدعك. إلى متى أقول لك هذا؟ معذرة يا سيدتي (تركع عند قدميها وتضع يديها على ركبتيها)
أتظنين أن دموعك تهم تراب القبر؟ هل تهم روح المرحوم؟
الأرملة :
ولكنه يراني، ينتظرني هناك ويشير إلي.
الخادمة :
ويبتسم أيضا. يبتسم كما لم يفعل طول حياته؛ لأنك لا زلت تحت الشمس، لأنك تستطيعين أن تستمتعي بالنور وتخرجي للحياة.
الأرملة :
أخرج؟ بعد أن دخلت بقدمي إلى عالم الظلال؟
الخادمة :
لم تدخليه بعد. قدمك لا تقوى على حملك، قدمي أيضا لا تقوى على حملي ...
الأرملة :
ولكنها ستقوى على أن تخرجك من هنا. هيا اذهبي واتركيني. (يسمع صوت بالخارج.)
الخادمة :
ما هذا؟
الأرملة :
قلت لك اذهبي واتركيني.
الخادمة :
سأذهب، ولكن لن أتركك. سمعت؟
الأرملة :
لم أسمع شيئا.
الخادمة :
إنه صوت أقدام! لا بد أن أحدا ...
الأرملة :
لا أحد هناك. لا أحد سوى الموت القادم.
الخادمة :
أذني لا تكذبني، أكاد أراها وأشمها أيضا. إنها أقدام رجل!
الأرملة :
لا مكان هنا إلا لرجل واحد. اخرجي إذا شئت ولا تعودي ... (يسمع صوت أقدام تسرع صاعدة على الدرج.)
الخادمة :
قلت لك أقدام رجل.
الأرملة :
وأنا قلت لك اخرجي.
الخادمة :
حالا، حالا. سأخرج وأعود. لا بد أن نعود! (تفتح الباب وتخرج مسرعة.)
المشهد الثاني (الخادمة تصعد الدرج مسرعة. الحارس واقف أمام الجثث المصلوبة، يقوم بنوبته ولا يلتفت إليها، تتقدم إليها، تتقدم منه غاضبة.)
الخادمة :
أنت! أنت!
الحارس :
ما هذا؟ من أنت؟
الخادمة :
سمعت خطواتك على الدرج، لا تنكر، أنا التي تسألك.
الحارس :
بل علي أن أسألك أنت: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
الخادمة :
لا تحاول أن تهزأ بي. ألم تتلصص علينا الآن؟ كان ظني في محله.
الحارس :
وماذا ظننت؟
الخادمة :
قلت لسيدتي أقدام رجل، وها هو يقف أمامي ويدعي الجهل والخبل، كأنه لم يرنا ولم يسمعنا!
الحارس :
رأيت، نعم، ولكن ليس بما فيه الكفاية، وسمعت الأنين الذي جذب قلبي ...
الخادمة :
أم جذب قدميك؟ ألا يمكن أن تتركوا الناس تموت في هدوء؟
الحارس :
أهذا ما تفعلانه هنا؟
الخادمة :
لا شأن لك بما نفعل، ماذا تفعل أنت؟
الحارس :
كما ترين، أحرس هذه الجثث من اللصوص.
الخادمة :
لصا يحرس لصوصا، ثم لا يكفيه هذا، بل يتلصص أيضا على الغرباء المساكين.
الحارس :
إنني حارس ولست لصا، ألا ترين هذه الجثث؟
الخادمة :
وهل تحتاج إلى حراسة، إنها لن تهرب على كل حال، من يسرق جثة عفنة؟
الحارس :
اللصوص. الكل هنا لصوص يسرقون لصوصا، ولهذا عينوني لحراستها.
الخادمة :
شاب مثلك يحرس الموتى؟ ألم يجدوا سواك؟ ألم تجد عملا آخر؟
الحارس :
إنها قصة طويلة. لا أظن أنك جئت في هذا الوقت من الليل لأحكيها لك.
قصة طويلة يا عزيزتي.
الخادمة :
ومتكررة أيضا! لا بد أنك غدرت بهم؟
الحارس :
ألا زلت تتصورين أنني لص؟
الخادمة :
لا تكتفي بسرقة الجثث وتسرق أسرار الناس!
الحارس :
قلت لك إنني حارس. ثم إن هؤلاء ...
الخادمة :
لصوص بالطبع!
الحارس :
لا، ليسوا لصوصا. انظري إليهم، إنهم إخوتي ورفاقي ... إخوتي ورفاقي (يخفي رأسه بين يديه) .
الخادمة :
لقد صدق ظني، والآن تبكي لأنك خنتهم.
الحارس :
كيف ستفهمين هذا؟ هو الذي خاننا.
الخادمة :
هو؟ من؟
الحارس :
ومن غيره؟ الطاغية بالطبع. المستبد الذي داس على جنة المدينة ... وأنا الذي ثرت عليه مع رفاقي أصبح حارسا على جثثهم ... (يبكي.)
الخادمة :
لا تبك يا رجل. دعهم فلن يهربوا.
الحارس :
لو هرب واحد منهم فسيعلقونني مكانه.
الخادمة :
قلت لك لن يهرب أحد، إنهم ساكنون كالتماثيل في قاع البحر، أليس كذلك أيها الطيبون؟
الحارس :
قلت لك إنها قصة طويلة. لو عرفتهم قبل أن يقتلوا لأحببتهم.
الخادمة :
يظهر أن السماء لا تمطر في هذه الليلة إلا جثث الموتى والقتلة.
الحارس :
قلت لك المقتولين. إنما يسمونها جريمة سياسية.
الخادمة :
لا أحب الجريمة ولا السياسة. أعطهم ظهرك وانظر للسماء، ألا تستحق النجوم أن تنظر إليها في ليلة كهذه؟
الحارس :
النجوم؟ إنها هي الأخرى جثث محترقة. انظري إليها، إنها تحرسهم وتحرسني.
الخادمة :
إذن لا تنظر إليها. دع كل الجثث واسمعني.
الحارس :
لا أستطيع. قلت لك سأعلق مكانها. إن عقابه صارم وقاس. (يشرب من زجاجة في يده.)
الخادمة :
ودعك منها أيضا.
الحارس :
الحر شديد يكاد يخنقني. هل لك في جرعة؟
الخادمة :
ليتني أستطيع.
الحارس :
ولماذا لا تستطيعين؟
الخادمة :
أقسمت ألا أبلل فمي بقطرة واحدة. ثم إن سيدتي أقسمت أيضا.
الحارس :
أهي التي في الضريح؟
الخادمة :
نعم هي. أقسمت أن تموت جوعا وعطشا.
الحارس :
كيف تتركينها لتثرثري؟ لماذا لم تقولي من البداية؟
الخادمة :
لقد قلت إنها أقسمت تصوم عن الأكل والشرب. حتى النوم، أرادت أن تصوم عنه لولا أن غلبها في النهاية فاستسلمت له. إنني أقسمت معها أيضا.
الحارس (يشرب) :
ولماذا؟ لماذا تفعلان هذا؟
الخادمة :
بعد أن مات زوجها لم تجد معنى للحياة بعده.
الحارس :
زوجها؟
الخادمة :
نعم. المدينة كلها تتحدث عنه وعنها، مات من ثلاثة أيام، ألم تسمع عنه؟
الحارس :
أنا هنا لا أسمع ولا أرى. ومن يكون زوجها؟
الخادمة :
من يكون؟ من يكون؟
الحارس :
ماذا كان يفعل؟
الخادمة :
لم يكن يفعل شيئا. كان يفكر ... بالنهار والليل يفكر ... أحيانا يرفع صوته ويطلب كتبا أو أوراقا. لا أعرف إلا أنه كان يفكر ... تذكرت ... كانوا يسمونه الفيلسوف.
الحارس :
الرواقي؟ تذكرت ...
الخادمة :
لا أعرف . كل ما أعرفه أن سيدي مات منذ ثلاثة أيام.
الحارس :
أخيرا! هذا الأخرس الأبكم ...
الخادمة :
لا تقل هذا عنه. سيدي لم يفعل شيئا يستحق هذا.
الحارس :
حقا، لم يفعل شيئا، وهذه أرملته؟
الخادمة :
أرملته الوحيدة المسكينة، تركها كالقطة الصغيرة تموء وسط القبور.
الحارس :
وتموت جوعا وعطشا! هيا أيتها الجاحدة ...
الخادمة :
إلى أين؟ لو رأت ظل رجل لتحولت إلى قطة متوحشة.
الحارس :
هذه التي تحتضر من الجوع والعطش؟ إن كانت قطة فأنت نمرة مفترسة ...
الخادمة :
أنا؟ وماذا أفعل؟
الحارس :
نذهب إليها الآن.
الخادمة :
وتراني مع رجل؟ لن تغفر لي هذا أبدا.
الحارس :
المهم أن ننتشلها من الغرق.
الخادمة :
ليتك تفعل هذا. قل لها أنت خارون نفسه، جئت تصحبها إلى هناك، جئت ومعك القارب.
الحارس :
فهمت فهمت، ومعي طعام وشراب كاف. هيا ... هيا ... (يهبطان الدرج سريعا، يقفان على باب الضريح.)
الخادمة :
انتظر.
الحارس :
هل بقي وقت للانتظار؟
الخادمة :
المسكينة عادت للنوم!
الحارس :
أو سقطت فيه بلا وعي.
الخادمة :
ننتظر قليلا حتى تفيق ... أنا أيضا أسقط على الأرض ... (تجلس.)
الحارس :
خذي هذه الجرعة، لا وقت نضيعه.
الخادمة :
لا أستطيع.
الحارس :
قلت لك اشربي، إنه الجوع والظمأ، ألا ترين كيف غابت عن كل شيء؟!
الخادمة :
لا أستطيع أن أشرب قبل سيدتي.
الحارس :
هي أيضا شاحبة الوجه، أراه على ضوء المصباح كنجم ينطفئ على البعد. سيدتي الرائعة، سيدة الحزن الجميل والألم المعبود. وجهك هذا أم وردة الفجر المحتضرة؟ جسدك أم شلال ضياء ينثر بلوره في الظلام؟ هل يمكن أن تذبلي ومعي ندى الخمر؟ هل أترك نهرك تطويه الرمال ومعي القارب والماء؟ أفيقي يا عروس البحر! أمواج الحياة تناديك وتتشهى لمسة جسدك. أفيقي واضربي الأرض بخطاك وارقصي مع الجدي المرح. نعم، إنني أستطيع أن أرقص وأضحك وأغني على الرغم من الجثث المعلقة. قومي يا شمسي الصغيرة لتراك الشمس في الصباح. لم تخلق الأرض لتكون قبرا لك، بل لترقصي عليها كالشعلة الضاحكة. أفيقي! أفيقي! جاء خارون ومعه قارب النجاة. (يهم بالدخول فتوقفه الخادمة.)
الخادمة :
مهلا مهلا! أليس لي مكان في القارب؟
الحارس :
ولك جرعة من الزجاجة. (يقدم لها الزجاجة.)
الخادمة :
لن أشرب قبلها.
الحارس :
جرعة في صحتها.
الخادمة :
هي أولا. ليتها تقبل منك.
الحارس :
ستقبل وتشرب. هل تراهنين؟
الخادمة :
وستلعنني وتطردني.
الحارس :
هل تراهنين؟
الخادمة :
ليس عندي ما أقدمه.
الحارس :
أما أنا فأقدم الأمل والمصير، أقدم الحياة، ألا تشربين نخب الحياة؟
الخادمة :
قلت لك لن أذوق جرعة قبلها.
الحارس :
صوتك يقول إن فمك كالصحراء. دعيني أسقيه.
الخادمة :
كالصحراء أو كالجحيم. هيا لا تضع الوقت.
الحارس :
أما أنا فأسقي النهر المتدفق للصحراء أو الجحيم ... (يشرب.)
الخادمة :
هيا ... هيا ...
الحارس :
هيا ... (يدخلان.)
المشهد الثالث (في داخل الضريح، الحارس والخادمة والأرملة، تتقدم الخادمة على أطراف قدميها يتبعها الحارس مبهوتا.)
الخادمة (تنادي) :
سيدتي! سيدتي!
الحارس :
دعيها نائمة، يمكننا أن ننتظر (يتلفت حوله) .
الخادمة :
ننتظر حتى تغرق؟ ألست خارون؟
الحارس :
ماذا؟ نعم، نعم. (يتجه نحو التابوت ويطل على الميت.)
الخادمة (همسا) :
ألم تره قبل هذا؟ نفس الصمت والسكون. كوكب يسبح في فلكه، بعيد ومكتف بذاته.
الحارس :
حقا حقا، بعيد ومكتف بذاته.
الخادمة :
سيدتي هي التي تقول هذا.
الحارس (يتأمل النائمة) :
بالطبع، لا يمكن أن نقول غير هذا.
الخادمة :
وتقول أيضا: الربة أثينا أعطته الحكمة، والرب أبوللو أعطاه العقل.
الحارس :
ووجهه؟ من أعطاه وجه البومة.
الخادمة :
تبا لك! لو كان حيا لما جرؤت على هذا.
الحارس :
لو كان حيا ...
الخادمة :
لوقفت أمامه كالعابد أمام تمثال الإله.
الحارس :
وكسرت التمثال نفسه (الأرملة تحرك رأسها وتئن) .
الخادمة :
ما هذا الهراء؟ تثرثر وسيدتي تحتضر. سيدتي! سيدتي!
الأرملة :
من ... من يدعوني؟
الخادمة :
جاء يا سيدتي ... جاء ومعه القارب والمجذاف.
الأرملة (مفزوعة) :
النسر؟
الخادمة :
لا تخافي. لن يحلق إلى أعلى، سيسبح فوق النهر.
الأرملة (تفتح عينيها) :
من هذا؟ ماذا أرى؟
الخادمة :
إنه هو يا سيدتي، خارون بنفسه.
الأرملة (تتأمله) :
كاذبة. ألم أقل لك اذهبي؟
الخادمة :
وقلت لك لن أذهب، لن أتركك وحدك، سأعود إليك.
الأرملة :
تعودين ومعك رجل؟
الخادمة :
هذا؟ ليس رجلا، إنه خارون.
الحارس (الذي ظل يتأملها كالعابد) :
ومعي الطعام والماء، لا بد منها قبل الرحلة.
الأرملة :
ويريدني أن آكل وأشرب؟ ألا يكفي أنه رجل وأنه تسلل إلى مخدع امرأة تريد أن تكون وحيدة مع زوجها. اذهب أيها الغريب، لا مكان لك هنا، ألا ترى بنفسك؟ ألا تراه؟
الحارس :
وأراك يا سيدتي، لم أتحمل أن تكوني وحدك.
الأرملة :
لست وحدي. لا أريد حارسا علي.
الحارس :
كلانا يقوم بالحراسة؛ أنت تحرسين جثة واحدة، وأنا ...
الخادمة :
يحرس ستة يا سيدتي.
الأرملة :
زوجي ليس جثة، إنه حي، أكثر حياة منك. (للخادمة) : أتكذبين علي؟
الخادمة :
لم أكذب يا سيدتي، لقد رأيتها بنفسي، لصوص مساكين معلقون من أقدامهم في الليل والبرد.
الأرملة :
خارون، ويحرس الجثث؟
الحارس :
أوامر الآلهة يا سيدتي، وقد أمرته من الليلة أن يحرس الأرواح أيضا، وها هو أمامك لينقل روحك الجميلة جمال جسدك.
الخادمة :
إنه قوي وشاب يا سيدتي، ثقي به وسوف يحملك إلى هناك.
الأرملة :
يظهر أنك مغرور بقوتك وشبابك. وجثثك المعلقة في الليل والبرد والريح، هل تتركها لتذهب معي؟
الحارس :
أتركها! لا أستطيع ... لا أستطيع.
الخادمة :
اطمئن، لن تستطيع أن تهرب.
الحارس :
تعرفين الجزاء الذي ينتظرني لو سرقها أحد.
الأرملة (ضاحكة) :
يسرقون جثة؟
الحارس :
ويعلقونني مكانها. لا بد أن أطمئن إليها (يتجه فزعا نحو الباب) .
الأرملة :
الآن عرفت كم أنت قوي وشاب. (للخادمة):
اذهبي أنت ... انظري وطمئنيه.
الخادمة :
والرحلة يا سيدتي؟ رحلتك إلى العالم السفلي، ألا تأخذانني معكما؟!
الحارس :
انتظري. سأذهب بنفسي.
الخادمة :
بل ابق أيها الشاب، أريد أن أقول يا خارون. لست بحاجة للذهاب معكما، إذا رأيتما كلبة الجحيم المسعورة فاعرفا أنه هو.
الحارس :
من؟
الأرملة (ضاحكة) :
زوجها بالطبع.
الخادمة (وهي تنصرف) :
خانني في الدنيا، ولا بد أنه يخونني في الآخرة. المصلوبون أولى منه.
الحارس :
افتحي عينيك جيدا، حذار أن تغمضيهما.
الخادمة :
أعرف أعرف، حتى لا تجد نفسك مكانهم. لا تنس أن تسلم على الكلبة المسعورة. (تنصرف. يتضاحكان ثم تخيم الكآبة فجأة على وجه الأرملة. تنظر إلى الحارس المدله بإعجاب خفي.)
الأرملة :
هل استعد خارون؟
الحارس (منتبها) :
بالطبع يا سيدتي، وهل جئت إلا لهذا؟ (يتجه مرتبكا ناحية الزوج الراقد في التابوت وكأنه يريد أن يحمله على ظهره.)
الأرملة :
ماذا تفعل؟ أتريد أن تحمله على ظهرك؟
الحارس :
ولم لا، ما دمت تريدين هذا؟
الأرملة :
أنا أريد هذا؟ الآن فهمت ...
الحارس :
ماذا فهمت؟
الأرملة :
إنك خارون مبتدئ. هل نسيت أنه ينقل الأرواح؟
الحارس :
ألم تنتقل روحه بالفعل إلى هناك؟
الأرملة :
وتسألني أنا؟
الحارس :
بالطبع، بالطبع إنه هناك ... في هاديس.
الأرملة :
بل مع الخالدين المنعمين.
الحارس :
هاديس أو الأليزيوم ... لا يهم، المهم أنه هناك ... هيا نذهب إليه ... أيها الحكيم! ... أيها الحكيم ... (يمد ذراعه نحوها، تمد يدها مترددة ... يقبض عليها بشدة.)
الحارس :
أولا، لا بد أن تهبطي القارب. هيا ... لا تخافي. (الأرملة ترتعش يدها في يده، تترنح وتكاد تسقط. يضمها إليه بشدة.)
الحارس :
أمسكي ذراعي بقوة، لا بد أنها الريح.
الأرملة :
دعني أستريح. (تستسلم له.)
الحارس :
نعم نعم. نسيت أنك منهوكة من الصوم والعطش. (يبحث عن حزمة الطعام والزجاجة ويقدمهما مرتبكا.)
الأرملة :
ونسيت أنني أقسمت على الصوم حتى الموت؟
الحارس (مرتبكا) :
هذا ما قالته الخادمة. ولكن لا يمكنك أن تقطعي هذه الرحلة الطويلة.
الأرملة :
بل لا بد أن أقطعها.
الحارس :
أتوسل إليك.
الأرملة :
لقد عاهدته، ولن أتراجع عن عهدي.
الحارس (يشرب) :
تذكري وعورة الطريق، الأرواح الشرسة والوحوش الكاسرة ... جرعة واحدة.
الأرملة :
لقد مت وانتهى الأمر، لن ترد الحياة إلي.
الحارس :
ولن تردك للحياة. لا تخافي، جرعة واحدة.
الأرملة :
واحدة فقط.
الحارس :
نعم، نعم. كما يقولون: جرعة للطريق ... (يناولها تشرب.)
الأرملة :
والطريق وعرة.
الحارس :
هات يدك. (تناوله يدها، يلفها حول خصره فلا تمانع)
أفسحي مكانا أيتها الأرواح اللزجة! ابتعدي أيتها الأشباح المتطفلة! يا لهذا الزحام! أين نراه؟ من يدلنا عليه؟
الأرملة (كأنها ترافقه وتبحث عنه) :
لا بد أن نجده. سنجده حتما، إنه أشهر من أن يضيع في الزحام.
الحارس :
نعم نعم. الحكيم الصامت الوحيد، لا بد أنه وحيد هناك.
الأرملة :
ناد عليه. ناد.
الحارس :
يا سكان هاديس ...
الأرملة :
قلت لك الأليزيوم .
الحارس :
أيها الخالدون، من رأى منكم حكيم الرومان العظيم؟ من يعرف الرواقي المشهور؟ أيتها الأرواح، أيتها الظلال والأشباح، حكيم على رأسه تاج المجد والفخار، على جبينه إكليل الغار، الإكليل الذي وضعه عليه الطاغية بنفسه.
الأرملة :
ليس هذا صحيحا، زوجي رفض هذا الإكليل من يده.
الحارس :
حقا؟ إذا فهي إشاعة كاذبة.
الأرملة :
بالطبع كاذبة. لا زلت أتذكر ما قاله بالحرف الواحد للرسول الذي جاءه من القيصر.
الحارس :
ماذا قال؟
الأرملة :
قل لسيدك لن أسمح له أن يصنع من دمي وردة يزين بها صدره.
الحارس :
ولم يفعل شيئا؟
الأرملة :
من؟ لا أفهم ماذا تعني. زوجي كان يميل إلى الصمت.
الحارس :
هذه هي المصيبة.
الأرملة :
إنه مفكر، عمله أن يفكر.
الحارس :
مصيبة أخرى، يفكر ولا يعمل، يتأمل ويملأ الكتب كلاما.
الأرملة :
يملؤها حكمة؛ حكمة لا يفهمها حارس جثث مثلك.
الحارس :
تقصدين خارون.
الأرملة :
خارون الفاشل، يقطع الرحلة قبل أن يبدأها.
الحارس :
بل لا بد أن نستمر فيها، لا بد من البحث عن الحارس الآخر.
الأرملة :
من تقصد؟
الحارس :
ألم يكن يحرس الجثث أيضا؟ (ينادي فجأة) : ابتعدي أيتها الأرواح اللعينة! يا هاديس! ساعدنا يا زوج برسيفونة المخيفة! أنت يا أقسى القضاة وأعدلهم! يا من تجلس وسط النيران على عرشك وفي يدك الصولجان! يا من تحاكم أرواح الموتى، هل حاكمته؟ يا ملك الموت وملك الحياة، ساعدنا في العثور عليه! هل هو ميت في مملكة الموت كما كان ميتا في مملكة الحياة؟
الأرملة :
جاوزت الحد. توقف.
الحارس :
لا بد أن نستمر، لا بد أن نعثر عليه. انظري، ها هو ذا، صامت ووحيد، يقف بعيدا عن كل الأرواح، تماما كما هو الآن في تابوت حكمته. أنت أيها الشيخ! تكلم! تكلم!
الأرملة :
اصمت أنت ولا تتكلم.
الحارس :
لا بد أن يتكلم، لا بد أن يقدم الحساب.
الأرملة :
هل تحاكمه أيضا!
الحارس :
ويحاكمه الموتى الأحياء، تحاكمه المدينة الميتة. انظري! (يشير بذراعيه إلى المدينة في الخلفية)
ألا ترين! هنا أيضا أشباح وظلال، ملايين الموتى يمص دماءهم الذئاب، ملايين الفقراء تطاردهم الكلاب، كلاب تغش وتخادع وتحتال، تنشد أغنية الولاء لحذاء القيصر، والضفادع والصراصير والهوام، كلها تدوس على جثة المدينة. انظري، هناك أيضا يجلس الحكيم، ينكس أعلام الفكر المشلول، يتأمل ولا يحرك ساكنا، يتفرج ويبحث عن الحقيقة.
الأرملة :
أجل! كان يبحث عن الحقيقة.
الحارس :
قلتها بنفسك! يبحث عنها. الحقيقة تصنع أيتها الجميلة! (يشدها إليه.)
الأرملة :
ما هذا؟ دعني.
الحارس :
وهذه الحقيقة؟ هل أحسست بها؟ (يحاول أن يضمها إليه)
هل شعرت بدفئها وحنانها وجمالها؟ أيها الميت على الأرض وفي هاديس ...
الأرملة :
لقد أخطأت الطريق. قلت لك الأليزيوم.
الحارس (مستمرا) :
أنت أيتها البومة الخرساء، عشت الموت ومت الحياة.
الأرملة :
اسكت! اسكت! لقد عاشها أكثر منك، أكثر وأعمق من أي إنسان، اسكت يا حارس الجثث.
الحارس :
ألم أقل إننا شبيهان؟ أنا أحرس الموتى مثله، ولكنني أحرس موتى لم أقتلهم، إنما قتلهم الطاغية، أما أنت فتحرسين جثة رجل قتلك.
الأرملة :
أنت لا تفهم، لقد كان يحبني، طالما أطرى جمالي.
الحارس :
أطراه؟ نعم، بالكلمات، لا شيء إلا الكلمات. تركك تطفين عليها كما يطفو الغريق على الأخشاب الباقية من سفينة غارقة. أما هذا النهر الملتهب فلم يعرفه، لم يحبه. (يضمها بشدة.)
الأرملة :
أنت تكذب، تكذب. لقد أحبني كما أحببته.
الحارس :
وترك العطر نائما في هذه الوردة. (يحاول أن يقبلها فتبتعد عنه صارخة)
وها هي تذبل، تذبل.
الأرملة (وهي تبكي على التابوت) :
ليتني ما سمحت لك بالدخول.
الحارس (مرتبكا) :
معذرة يا سيدتي، معذرة.
الأرملة :
الذنب ذنبي.
الحارس :
جاوزت الحد كما قلت.
الأرملة :
وظلمته أيضا. إنك لا تعرف شيئا عنه ولا عني، لقد عرفت السعادة بجانبه.
الحارس (ذاهلا) :
السعادة؟
الأرملة :
انظر إليه. الفضيلة نفسها لا يمكن أن تكون أجمل من هذا، الاستقامة والترفع فوق هذا العالم، الكبرياء في صورة إنسان.
الحارس :
هل قلت إنسان!
الأرملة :
إنسان وحكيم. كنت أدور في فلكه ولا أقترب منه، أرف في نوره ولا أحترق.
الحارس :
نعم، ولا تحترقين.
الأرملة :
لا زلت أسمع رنين كلماته حتى الآن.
الحارس :
كلماته، نعم نعم.
الأرملة :
يا زوجتي الصغيرة، السعادة أن تعيشي في وفاق مع الطبيعة. أنت جزء من الكل الواحد الحي، أنت جزء من ال...
الحارس :
اللوجوس، هكذا يسمونه.
الأرملة :
أجل! أجل! نسيت هذا. يظهر أنك تفهم هذه الأمور.
الحارس :
لقد قرأتهم جميعا.
الأرملة (تترك التابوت وتتجه نحوه) :
قرأتهم جميعا؟!
الحارس :
وألقيتهم في النار.
الأرملة :
أحرقت كتبهم؟
الحارس :
وذهبت إلى الغابة.
الأرملة :
شاب مثلك يترك المدينة ودور العلم ويذهب للغابة؟
الحارس :
نعم، لكي أعيش، أنا ورفاقي الستة قررنا أن نعيش.
الأرملة (تقترب منه) :
رفاقك الستة؟ تقصد الذين تحرس جثثهم. (الحارس يصمت.)
الحارس :
كل شيء قد انتهى كما ترين.
الأرملة (تقترب منه وتمد يدها وتجفف خديه. يمد ذراعيه ويهم بضمها إليه، ثم يتردد ويسقطان بجانبه) :
قل لي، من أنت؟
الحارس :
ومن أنت؟
الأرملة :
ألم تقل إننا شبيهان؟
الحارس :
الآن، نعم. ولكنني كنت شيئا آخر. عندما رأيتك أيقنت أنني سأكون شيئا آخر.
الأرملة :
حدثني أولا عما كنته.
الحارس :
آه! وهل تصدقين؟
الأرملة :
إن لم تعد للكذب. ماذا كنت؟
الحارس :
كنت ولا زلت، ثائر فاشل وشاعر فاشل وعاشق.
الأرملة :
شديد الفشل. صدقت في هذا. ثم ماذا؟
الحارس :
الباقي تعرفينه، إنهم معلقون هناك.
الأرملة :
في البرد والريح، ولكنني لم أرهم.
الحارس :
وأنا كدت أنساهم، لا بد أن أذهب.
الأرملة :
قبل أن تحدثني عنهم.
الحارس :
لا بد أن أطمئن أولا عليهم.
الأرملة :
نعم نعم، وأطمئن عليك.
الحارس :
أخشى أن تكون الخادمة، ولكنني لا أتصور هذا. لا بد أن أذهب.
الأرملة :
أسرع أسرع.
الحارس :
وأعود؟
الأرملة :
نعم، نعم. عد ... يا حبيبي. (تودعه إلى الباب، يقفز السلالم بسرعة.)
المشهد الرابع (الخادمة تندفع مذعورة نحو الضريح. في الخلفية يتخبط الحارس في الساحة مشرعا سيفه، تبدو ظلال الجثث وقد نقص عددها واحدة.)
الخادمة :
النجدة يا سيدتي! النجدة!
الأرملة (التي كانت تتجمل وتتزين) :
ما هذا؟ ماذا بك؟
الخادمة :
الوحش الكاسر ... أنقذيني منه.
الأرملة (تواصل زينتها) :
وحش؟ أين رأيته؟
الخادمة :
الحارس يا سيدتي.
الأرملة :
خارون الفاشل؟ ماذا فعل أيضا؟
الخادمة (تركع عند قدميها) :
أرجوك يا سيدتي، كاد أن يقتلني.
الأرملة :
يقتلك؟ هل ينقل الأرواح أم يقتلها؟
الخادمة :
بحق زيوس، أسرعي وإلا حدثت جريمة. إن لم يقتلني فسوف يقتل نفسه، إنه يقطع الساحة كالمجنون وسيفه في يده.
الأرملة (تترك زينتها) :
وهل أفهم السبب؟ لا بد أنك السبب.
الخادمة (تبكي) :
نعم أنا، لا لا، بل هو ... أقصد هي.
الأرملة :
تكلمي أيتها العنزة الغبية.
الخادمة :
صدقت، عنزة غبية، وهي المسئولة عن كل ما جرى.
الأرملة :
قلت تكلمي، هو أم هي؟
الخادمة :
الكلبة المفترسة يا سيدتي، جرت ورائي وكادت تغرز أنيابها في لحمي ... وأفقت من النوم.
الأرملة :
إذن فقد نمت. ألم أحذرك أن تغمضي عينيك؟
الخادمة :
هو المسئول، ألح علي بالشرب، جرعة واحدة وحق زيوس، لكنها أثقلت جفوني.
الأرملة :
وجرت الكلبة المفترسة وراءك.
الخادمة :
بل جرد سيفه وهجم علي، أخذ يلطم وجهه ويشد شعره ويبكي ويستغيث، ثم هجم علي بسيف يلمع كزيوس نفسه، فجريت إليك.
الأرملة :
ألم أحذرك؟ لا بد أن اللصوص سرقوا الجثث.
الخادمة :
واحدة فقط يا سيدتي، لا بد أنهم غافلوني وسرقوها. وهو الآن يصرخ ويتوعد من أجل جثة واحدة.
الأرملة :
لأنهم سيعلقونه مكانها.
الخادمة :
هذا ما يقوله، إن لم تدركيه قتلني أو قتل نفسه.
الأرملة :
يقتل نفسه؟!
الخادمة :
الذنب ذنبي، لو كنت اختفيت كما أمرتني ما حدث شيء يا سيدتي.
الأرملة (عند الباب) :
كفى ثرثرة، ابتعدي عن الباب.
الخادمة :
دعيه يقتلني، دعيه يعلقني في مكانها، إنني على استعداد يا سيدتي، سأتمدد هنا بجانب سيدي وأنتظر طعنته.
الأرملة (وهي تفتح الباب وتقفز الدرج) :
ليتك تصلحين لشيء.
الخادمة (وهي تطل عليها من الباب ثم تندفع وراءها) :
لا أصلح لشيء؟ كان دائما يقول لي هذا، ومع ذلك اشتقت إليه، وحين رآني حاول أن يعضني فجريت. أيها الوغد! أيتها الكلبة المفترسة! ألم تكتف بما فعلته في الدنيا؟ وماذا تفعل الآن؟ ماذا تفعل الآن؟
الأرملة (ترى الحارس واقفا كالتمثال أمام المصلوبين الخمسة، سيفه مشرع في يده، وعلى وجهه أمارات اليأس والجنون) :
خارون!
الحارس :
لا تقتربي مني.
الأرملة (تتقدم نحوه) :
هات هذا السيف، هل أصبح حارس الأرواح قاتلا؟
الحارس :
قاتل ومقتول، لا مفر من قتل نفسي.
الأرملة :
وجبان أيضا؟
الحارس :
شجاعتي الآن في قتل نفسي.
الأرملة :
هات السيف.
الحارس :
قلت لك لا مفر، سترينه الآن ينغرز في صدري، أم تفضلين أن تريني معلقا بجانبهم؟
الأرملة :
لن أسمح بهذا، قلت لك هات السيف.
الحارس :
سيعلقونني مكانها، أنت لا تعرفين عقابهم، أفضل أن أقتل نفسي بيدي.
الأرملة :
وتقتلني معك؟
الحارس :
ليتني أموت بيدك، هذا هو السيف، ادفعيه بكل قوتك في صدري، خذي، ضربة واحدة تريحني (يسلمها السيف) .
الخادمة (تظهر من وراء سيدتها) :
سلمت يداك يا سيدتي.
الحارس :
أيتها الملعونة. (يجري وراءها.)
الخادمة (تجري) :
سيدتي، سيدتي، اقتليني إذا كان هذا يريحه.
الحارس :
لن يريحني أن تبتلعك كلاب هاديس بأجمعها.
الخادمة :
كلبة واحدة يا سيدتي، الذنب ذنبها، ليتها ابتلعتني ولم أصح من النوم.
الأرملة :
لو كنت اختفيت من البداية.
الخادمة :
سأختفي حالا يا سيدتي. دعي السيف يحل المشكلة.
الأرملة :
وهل يحلها يا غبية؟
الخادمة :
بالطبع يا سيدتي، يمكن أن أعلق في المكان الخالي.
الأرملة (ضاحكة) :
ما رأيك في هذا الحل؟
الحارس :
امرأة مكان رجل؟ هل تظنين أن هذا يرحمني من العقاب؟ اختفي أيتها الملعونة.
الأرملة :
نعم اختفي الآن من وجهه. (لنفسها) : تعلق في مكانه؟ حقا حقا.
الخادمة :
ماذا قلت يا سيدتي؟
الأرملة :
قلت اذهبي الآن، اذهبي بلا عودة.
الخادمة :
أذهب؟ قبل أن تقتليني يا سيدتي!
الأرملة :
قلت اذهبي، لن أقتلك ولن أحتاج إليك.
الخادمة :
إذن فعلقيني حية، افعلي بي ما شئت.
الأرملة :
قلت اذهبي بعيدا عني.
الحارس (يجري وراءها) :
ألا تريدين أن تختفي؟
الخادمة (وهي تنصرف مذعورة) :
لا أحد يريدني، حتى الموت لا يريدني، سأذهب سأذهب. (الحارس والأرملة يضحكان ثم يسكتان فجأة، الأرملة تتأمل الجثث المعلقة لحظات ثم تخاطب الحارس.)
الأرملة :
إنهم صامتون، والليل من حولهم صامت، حتى النجوم الساهرة فوقهم لا تريد أن تتكلم، من ينظر إليهم لا يحسبهم لصوصا، بل حكماء يفكرون في الحياة والموت.
الحارس :
إنهم ليسوا لصوصا.
الأرملة :
أكنت تعرفهم؟
الحارس :
قلت لك هم رفاقي، عشنا سنين في الغابة والجبل، دبرنا الثورة وفشلنا، وها أنا أصبح حارسا على جثثهم؟ أليس من المحزن أن يفشل الإنسان إلى هذا الحد؟
الأرملة (تجلس على مقعد حجري باسترخاء) :
لم تفشل في كل شيء، تعال حدثني عنهم.
الحارس :
عن أي شيء أحدثك؟ عن صلبهم أمام عيني؟ عن فرحة الطاغية وشماتته؟ عن حظي الذي أوقعني في يده ليجعلني حارسا عليهم؟ بعد قليل سترينني معلقا بجانبهم.
الأرملة :
قلت لن أسمح بهذا، لن يسرقوا مني حبيبين في يوم واحد.
الحارس :
وماذا يمكنك أن تفعلي؟ هل ستسرقين جثتي كما فعل أقارب رفيقي ليواروه التراب؟
الأرملة :
بل سأسرقك حيا لا ميتا.
الحارس :
فات الوقت، بعد لحظات يأتي حارس آخر ليتسلم نوبته، إن لم تسرعي بطعن هذا السيف في صدري فسيتولى هو ذلك. هاتي السيف.
الأرملة :
خذه بشرط واحد، أن تقتلني أولا.
الحارس :
وما ذنبك أنت؟
الأرملة :
ألم تعرفه بعد؟
الحارس :
أعرف أنني لا بد أن أعاقب نفسي.
الأرملة :
ولماذا تعاقبها؟
الحارس :
لأنها أحبت أكثر مما ينبغي، لأنها ركبت معك في قارب يغرق.
الأرملة :
أنا التي كنت أغرق، وقد جئت لتنقذني.
الحارس :
وها هي الموجة التي سبحت عليها تغرقني. لا، لا، لا أريد أن تغرقي معي، يجب أن تبقي عروس البحر.
الأرملة :
لتغرق وحدها؟
الحارس :
لتسبح على موجة أخرى، إن بوزيدون القاسي يريد أن أموت وحيدا على الشاطئ.
الأرملة :
وتتركني يا خارون؟
الحارس :
أتركك للحياة، لنور الشمس. لقد عبرت بك البحر المعتم، وعلي الآن أن أغرق نفسي قبل أن يغرقني الطاغية.
الأرملة :
ألم تفكر في؟
الحارس :
أكثر مما أستحق، أكثر مما يجب، وها هي الآلهة تعاقبني وتصدر حكمها علي. يا خارون الفاشل، دع القارب والمجذاف، أبحرت أبعد مما ينبغي، حلمت بالشواطئ التي لن تزورها، خدعت عروس البحر، فدعها لربان أقدر منك.
الأرملة :
عروس البحر لا زالت بجانبك.
الحارس :
بعد قليل تراني معلقا هناك.
الأرملة :
قلت لك لن أسمح بهذا.
الحارس :
أتسمعين الأجراس؟
الأرملة :
لتدق كما تشاء، لن يأخذوك مني.
الحارس :
لحظات ويأتي الحارس الآخر.
الأرملة :
لن يأخذك مني ، لن تموت وأنا حية.
الحارس :
أسرعي وسددي الطعنة، يكفيني أن أموت على صدرك.
الأرملة :
بل ستعيش وأدفئك بصدري.
الحارس :
إذا فأعطيني السيف.
الأرملة :
أعطيك شيئا آخر. (تمد شفتيها إليه، فيبعد وجهه.)
الحارس :
اطبعيها على جبين رجل آخر.
الأرملة :
ترفضها؟
الحارس :
لا أستحقها، هاتي السيف!
الأرملة :
هل تقبل شيئا آخر؟
الحارس :
لا شيء الآن سوى السيف، لا شيء سواه.
الأرملة :
بل شيء آخر.
الحارس :
إذن فهاته، لا تضيعي الوقت.
الأرملة :
لا أستطيع وحدي، لا بد أن تحمله معي.
الحارس :
لغز هذا أم حل؟
الأرملة :
اقترب مني.
الحارس :
قلت لك لا أستحق.
الأرملة :
طلبت أذنك! (يمد أذنه لها، تهمس فيها فيصيح مستنكرا.)
الحارس :
المرحوم!
الأرملة :
هو نفسه!
الحارس :
مستحيل، لا يمكن أن تكون هذه فكرتك، لا يمكن أن أتصورها منك.
الأرملة :
إنها من الخادمة.
الحارس :
هذه الملعونة؟
الأرملة :
انتظر، ألا تتذكر أنها عرضت عليك أن تعلقها هناك، سمعتها فأضاءت الفكرة في عقلي كالبرق.
الحارس :
أتفعلين هذا وأنت تحبينه؟
الأرملة :
أفعله لأني أحبه.
الحارس :
وترضين أن يعلق مع اللصوص؟
الأرملة :
لأنني أحبك. ثم إنهم ثوار لا لصوص، لقد أحببته وأحبني في حياته، وهو في موته يثبت أنه لا يزال يحبني.
الحارس :
وسمعتك في المدينة؟
الأرملة :
سنترك المدينة.
الحارس :
وتذهبين معي إلى الغابة.
الأرملة :
وتجعلني كوخك وحطبك.
الحارس :
بل ناري التي أستدفئ بها.
الأرملة :
حبيبي.
الحارس :
حبيبتي. (يتعانقان لحظة، تنتزع نفسها منه وتقف وهي تقول):
الأرملة :
أجراس الليل تدق، هيا يا خارون العجوز!
الحارس :
هيا يا عروسي.
الأرملة :
ماذا تفعل؟
الحارس :
أعد القارب.
الأرملة :
أخشى أن يغرق من ثقل الحمل.
الحارس :
سأحمله على ظهري.
الأرملة :
سنحمله معا. هيا ... هيا.
المشهد الخامس (نفس المنظر، الساحة على ضوء النجوم البعيدة، ظلال المصلوبين الستة تمتد على الأرض، الخادمة تدخل على أطراف قدميها وهي تتلفت يمنة ويسرة.)
الخادمة :
أمراني أن أذهب، لعناني وطرداني كأني كلبة من هاديس. لتغفر لكما الآلهة، لتبارككما الآلهة. لكني أرجع مرة أخرى، وإلى أين أذهب؟ بحقك يا رب الأرباب، إلى أين أذهب؟ هل لي أحد غيرك يا سيدتي؟ هل لي أحد غيرك يا سيدي؟ وماذا أفعل في المدينة؟ لا أحد يعرفني، لا أحد يسأل عني. ولو رأتني جارة أو جار عجوز فسوف يهتفون: هذه هي خادمة الطاهرة العفيفة، أقسمت على نفسها أن تموت معها حزنا على السيد، ما بالها تمشي في المدينة؟ هل هي شبح هرب من هاديس؟ لا لا. لهذا لم أذهب للمدينة، لم أر وجهي العجوز لأحد، ولهذا لن أذهب إلى هناك، لن يرى أحد وجهي. سيدتي ... سيدتي ... لا أحد يجيب، والمصباح الزيتي قد انطفأ في الضريح، أين ذهب الحارس؟ أيها الحارس! أيها الحارس! أيمكن أن يكون قد اختفى؟ أيمكن أن يلقى عقابه بهذه السرعة؟ وهؤلاء اللصوص المساكين، لقد زادوا واحدا، أيمكن أن يكون قد صلب نفسه مكان اللص الذي سرقوه؟ ويلك يا زوجي الوغد! أكان من الضروري أن تزورني في الحلم؟ لن أسامحك أبدا، سترى كيف أشدك من أذنيك وأجلد ظهرك عندما أراك. لا تتعجل! سنلتقي حتما. وإلى أين أذهب؟ إلى أين أذهب؟ (تتجه نحو الجثث المعلقة وتعدها)
ستة، لا بد أنهم زادوا عما تركتهم، أيها الحارس المسكين، لا بد أنك قد فعلتها قبل أن يحاكموك، لا بد أنك سددت السيف إلى صدرك. يا للشباب المتهور! أتكون سيدتي قد علقتك مكانه؟ وأين ذهبت هي الأخرى؟ (تقترب من المصلوبين وتتأملهم واحدا واحدا)
مساكين، مساكين. صامتون كما تركتهم، وعندما تطلع الشمس ستفزع نومهم الصقور والجوارح والكلاب والذئاب. ويلي! من هذا؟ من هذا؟ سيدي المرحوم؟ سيدي المسكين؟ نعم نعم، هو نفسه، جسده ووجهه وشعره ... هذا أنفه الطويل أيضا، وعيناه الصابرتان الراضيتان، سيدي نفسه، سيدي المسكين نفسه، معلق من قدميه، لا ليس هذا رداءه الذي دفن فيه، وقميصه الأبيض الناصع، أين ذهب؟ من أين له بهذه الخرق؟ رحمتك يا رب الأرباب؟ كيف ترضى بهذا؟ أيمكن أن تمرغ رأس النسر في التراب بعد أن سكنت القمم؟ ويلي! ويلي! ماذا فعلوا بك يا سيدي؟ ماذا فعلوا بك يا سيدي؟ (تبكي، يظهر حارس في الجانب الآخر من الساحة ، يتجه إليها.)
الحارس :
ما هذا؟ من أنت؟
الخادمة :
من أنا؟
الحارس :
ماذا تفعلين هنا؟
الخادمة :
وأنت؟ من أنت؟ لماذا تسألني؟
الحارس :
عجوز مخرفة. أنا الحارس بالطبع.
الخادمة :
احرس كما تشاء، ودعني لحالي. وهل هؤلاء يحتاجون إلى حراسة؟
الحارس :
ولماذا ترينني هنا إذا؟ بالطبع يحتاجون لحراس، والحراس إلى حراس، هل أنت قريبة أحد منهم؟
الخادمة :
هؤلاء اللصوص؟
الحارس :
من يدري؟ ربما كنت تفكرين في سرقة واحد منهم.
الخادمة :
أنا؟ لآكله، أم أستند عليه في شيخوختي؟
الحارس :
سنعرف الآن، ربما كنت عابرة سبيل. يا زميل! أنت!
الخادمة :
ناديت فلم يجب أحد.
الحارس :
ناديت أم فعلت شيئا آخر؟
الخادمة :
وماذا تفعل عجوز مثلي؟
الحارس :
من يدري ما يفعله الناس في هذه الأيام. انتظري حتى أبحث عنه، قفي هنا ولا تتحركي.
الخادمة :
وأين أذهب يا ولدي؟
الحارس :
يا حارس؟ أنت! أنت!
الخادمة :
لن يرد أحد، تسلم أمواتك ولا تتعب نفسك.
الحارس :
ما شأنك بهذا؟ قفي حتى نتحقق منك (ينادي وينصرف) .
الخادمة :
ها أنا أجلس أيضا، وإلى أين أذهب؟ (تقترب من جثة سيدها)
سيدي، سيدي، هل ذهبوا جميعا وتركوك؟ والموت في كل مكان، والمدينة البعيدة ميتة. ماذا خبأ القدر لك؟ ماذا يخبئ لنا؟ يا سيدي الطيب المسكين، ماذا فعلوا بك؟ ماذا فعلوا بك؟
الحارس (يسمع صوته من بعيد) :
يا حارس ... يا حارس.
الخادمة :
سيدي ... سيدي. (تبكي. يشتد بكاؤها قبل أن تنزل الستار.)
Bilinmeyen sayfa