فلما وصلنا إلى هناك أشار الرجل إلى مكان هذا الدير، وقال: «اعذراني إذ لا يمكنني الوصول معكما إلى هناك»، وودعنا ورجع، كل ذلك والبرد شديد والثلوج متراكمة، وقد لامنا كثيرون على قدومنا إلى هذه الأماكن في فصل الشتاء، ولكن المقدر المحتوم لا سبيل إلى التخلص منه.
بعد أن فارقنا ذلك الرجل، لقينا رجل متسربل بعباءة سوداء، يظهر عليه أنه ليس من عامة الناس، فسألنا بكل لطف عن وجهة مسيرنا، فأجبناه بأن علينا نذرا للدير الفلاني، وقد أتينا الآن لوفائه، فقال: «أتريدان أن أرافقكما إلى ذلك الدير لأني أراكما غريبي الديار؟» قلنا: «ولكم الفضل.» فلما وصلنا إلى باب الدير وقف بنا الرجل هنيهة، ثم قال: «هذا هو المكان فاقرعوا الباب يفتح لكم»، ثم ودعنا وسار فشكرنا فضله، وقرعنا باب الدير ففتح لنا ودخلنا على ما رأيتمونا.»
وبدا القلق على الرئيس، فقد يكون ذلك الرفيق جاسوسا من جواسيس الأمير بشير سمع شيئا مما قالوه، ولكن تأثره من قصة سعيد شغله عن التفكير في غيرها.
والتفت الرئيس إلى سعيد قائلا: «طب نفسا يا ولدي وقر عينا، قد حفظت كل مقالك وسيظل في صدري سرا مصونا، ونطلب إلى الله سبحانه وتعالى أن يعزي هذه المسكينة ويهبها الصبر الجميل على أحزانها، فإذا شئتما الإقامة عندنا فأهلا بكما فإنكما ستحلان على الرحب والسعة، وإلا فإني مستعد لقضاء كل ما تحتاجان إليه، ولا فرق عندي بين أن تكونا مسيحيين أو غير مسيحيين فإننا جميعا نعبد الإله الواحد القهار، وفضلا عن ذلك فإن الديانة الإسلامية هي ديانة مولانا السلطان صاحب البلاد.»
الأمير بشير
بعد أن أتم سعيد حديثه سأله الرئيس عن جميلة، فقال له: «إنها ذهبت بعد الطعام إلى غرفتها، ولا تزال هناك، والباب مغلق عليها.» فقال لسعيد: «هلم بنا لنعزيها.» فسارا حتى بلغا الغرفة، فسمعا صوت ندب وبكاء، فوقفا خارج الباب صامتين، وإذا هي تقول: «يا للمصيبة أين أنا الآن؟ وأين زوجي وحبيبي؟ وأين حشمه وخدمه؟ وأين أنت يا ولدي سليم؟ أواه أصرت طعاما للأسماك وتركت والدتك المسكينة تتقلب على جمر الغضا؟ أما كان الأولى بي أن أموت فداء لك ولأبيك وأستريح من شقاء هذا العالم؟! أما من وسيلة يا إلهي للنجاة من هذه المصائب؟ ترى هل أطلع الأمير على حقيقة أمري؟ أخشى أنه إذا علم به يزيد غضبه علي وينتقم مني، أو لعله يشفق على ضعفي ويقبل توبتي!»
ثم أخذت تخاطب نفسها قائلة: «مالك يا مسكينة ولهذا الكلام! ألقي حملك على هذا العبد الأمين، واتكلي على الله وهو يقودك إلى ما فيه خيرك.»
طرق سعيد الباب طرقا خفيفا لئلا يزعجها فسكتت، فقال سعيد: «لا تخافي يا سيدتي، فأنا عبدك سعيد.» ثم فتح الباب ودخل فرآها في حالة يرثى لها، وقد بللت ثيابها بالدموع، وحلت شعرها ومزقت ثوبها، وخنقتها العبرات حتى كاد يغشى عليها، فتقدم إليها وأخذ بيدها وأجلسها، ثم استأذن للرئيس في الدخول فأذنت فدخل، وقد تعجب من فرط جمالها، وزاد ذلك حزنه عليها، حتى لم يعد يمكنه حبس دموعه، لكنه تجلد وتقدم قائلا: «اصبري يا سيدتي ويا ابنتي فإن الأحزان تجلب الأسقام، فاتكلي على الله تعالى، وأشفقي على نفسك، وعلى هذا الطفل فإنه تعزية كبيرة لك. وفوضي الأمر لله، فهذا سعيد خادمك الأمين، قد أطلعني على حقيقة حالك، وعاهدته على أن يكون ذلك سرا بيني وبينه. واعلمي يا ابنتي أني مشارك لكما في جميع أحزانكما وسأبذل جهدي في تعزيتك ومرضاتك، فاتخذيني لك أبا أو صديقا تلقين عليه أحمالك.» وما زال الرئيس يحدثها بمثل ذلك حتى سكن روعها ومسحت دموعها. أما هو فكان في أثناء ذلك يتأمل جمالها، وما يغشاه من الأحزان، وما يتجلى في وجهها من الهيبة والكمال، فقد كانت قمحية اللون، مستديرة الوجه، سوداء العينين، واسعتهما قليلا مع حدة وذبول، رشيقة الحركة مع تعقل ووقار.
ثم استأنف الحديث قائلا: «ها أنا ذا قد علمت حقيقة الحال، وليس من الرهبان أحد هنا؛ لأنهم خرجوا جميعا للعمل في الحقول، وهم لا يعلمون شيئا من قصتنا، فماذا أقول لو سئلت عن سبب مجيئكما؟» فقال سعيد: «قل إنهما جاءا من صيدا لوفاء نذر عليهما.»
وفي أثناء ذلك سمعوا صوت نداء في الدار، فخرج الرئيس وإذا بأحد رجال الأمير بشير، قد جاء يدعو رئيس الدير لمواجهة الأمير في قصره ببيت الدين، فوقع الرعب في قلب الرئيس، ولكنه تجلد لعلمه ببراءته، فلبس جبته وقلنسوته وسار حتى بلغ القصر (السراي)، فلما أدخل قاعة المجلس، وقعت المهابة في قلبه لأنها على كثرة من فيها من الناس لا يسمع فيها صوت، بل جميعهم جلوس كأن على رءوسهم الطير. وقد كانت تلك عادة الأمير في مجلسه، فلم يكن أحد يستطيع أن يتفوه أمامه بكلمة من تلقاء نفسه لعظم هيبته. أما الرئيس فكان أجرأ من غيره، والظاهر أن الأمير بعد اعتناقه الديانة المسيحية بالغ في الإكرام لجماعة الأكليروس.
Bilinmeyen sayfa