قال الباشا: «وأين كنت بعد رجوعنا من حرب المورة، فإني منذ نزولنا إلى مصر، لم أعد أشاهدك قط، فظننت أنك أصبت بسوء؟!»
قال سالم: «يا سيدي إنني لم أصب بسوء قط، وإنما ذهبت إلى عكا أفتش عن ضائع لي وأقمت بها.»
قال الباشا: «يا للعجب كيف يكون لك ضائع هنا، وقد جئت معنا من بلاد اليونان وأنت من أهل تلك البلاد، فكيف تقول إن لك ضائعا في هذه الجهات ؟»
فتنهد الأغا وقال: «هذا هو الواقع يا سيدي، وقد جئت الآن في صحبة سيدي الأمير طالبا العفو عن زلتي.»
فقال الأمير بشير: «اعلم يا سيادة الوزير أن هذا الرجل قد صنع فينا معروفا وأنقذ غريبا من الموت، وقص القصة عليه ثم همس في أذنه: إن بقاء الرجل معه يفيده كثيرا لأنه يستطلع منه أخبار العدو.» فقال الباشا: «لا بأس قد عفونا عنك، ولكن عليك قبل كل شيء أن تخبرني عن حالة عكا ومن فيها من الجنود، وعن مقاصد عبد الله باشا.»
فوقف سالم أغا على قدميه، ثم جثا أمام الباشا قائلا: «ليعفني سيدي من ذلك فإنني عاجز عنه؛ إذ يكفي أني خرجت من المدينة سرا، وأخرجت معي أسيرا كان يجب أن أبقي عليه في السجن، وخالفت بذلك أوامر رئيسي، وأما إطلاع سيادة الباشا على أسرار المدينة فإن الأمانة والإخلاص في الخدمة يمنعاني من ذلك.» فعجب الأمير بشير لتلك الشهامة، أما إبراهيم باشا فلم يدهش لأنه كثيرا ما شاهد منه مثلها في حروبه بأرض المورة، لكنه قال له: «أنت في الأصل من جندنا وأنت بذلك تخدم مصلحتك القديمة.» فقال: «العفو يا سيدي إني لا أحب حرفة الجواسيس ولا يمكنني أن أمارسها قط، فلا يسعني أن أخبرك بشيء عن حال المدينة مهما كلفني ذلك، والأمر لسيادتك.»
فتبسم إبراهيم باشا وقال: «لا بأس يا سالم فقد عودتني مثل هذه الشهامة مذ كنت معي في حرب المورة.» ثم نادى أركان حربه وأمره أن يجعل سالما في عداد الضباط، وأن يعيد اسمه إلى الجيش، فقبل سالم يد الباشا، وخرج إلى المعسكر.
فقال الأمير بشير لإبراهيم باشا: «حقيقة إني لم أشاهد مثل هذه الشهامة قط!» فتبسم الباشا قائلا: «إن هذه ليست المرة الأولى التي أعرف فيها ذلك الرجل، فقد عرفته منذ خمس سنوات تقريبا في نافرين بالمورة من بلاد اليونان.
ولا يخفى على سيادتكم أني توجهت بحملة بحرية بأمر الباب العالي لمحاربة أهل المورة حين أشعلوا ثورة اليونان على الدولة، ففي سنة 1826 بينما كانت سفننا راسية في ميناء نافرين، ونحن بين هجوم على تلك المدينة ودفاع عنها، جاءنا هذا الرجل في قارب رافعا علما أبيض، ولما وصل إلينا سألناه عن غرضه، فقال إنه من جنود اليونان، وقد جاء مسلما، وإن تسليمه ليس نتيجة خوف أو خيانة، ولكنه يود البقاء معنا ريثما نعود إلى مصر، ولما رأيته يتكلم العربية تعجبت من حاله، وسألته عن حكايته فاعتذر بأنه لا يستطيع إطلاعي عليها، فأردت الاستفهام منه عن قوة اليونانيين ومقاصدهم، فكان جوابه أنه لا يستطيع إفشاء ما اؤتمن عليه من الأسرار، وإن لم يكن يوناني النزعة، غير أنه قال إن الشهامة تقضي عليه بكتمان ما يعلمه، فهددناه بطرق مختلفة فلم يفه بكلمة، فتعجبت من شهامته ووافقته على طلبه فبقي معنا حتى قضت الأحوال بعودتنا إلى الديار المصرية فرجع معنا، وبعد وصولنا إلى الإسكندرية بقليل لم أعد أراه. وكنت دائما أفكر فيه، وأود بقاءه بين جنودي حتى رأيته الآن على ما شاهدتم منه.» فأوصى الأمير بشير إبراهيم باشا وصية خاصة بمساعدته إلى أن قال: «إنك إذا فعلت ذلك معه، فكأنما تكون قد فعلته معي.»
غرائب الاتفاق
Bilinmeyen sayfa